إعداد وتحرير: بهجت قرني

مراجعة: أحمد بعلبكي(**)

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

سنة النشر: 2014

عدد الصفحات: 576 ص

 

على امتداد ربع قرن نجحت التقارير الدولية والإقليمية والوطنية الصادرة منذ مطلع التسعينيات عن المنظمات الدولية، وخاصة برنامج الأمم المتحدة الإنساني، في ترسيخ منظومة مفاهيم ومقاربات، وفي بلورة مؤشرات حول ما تُسمّيه بالمعوقات والإمكانات المتشابهة للتنمية البشرية في مناطق العالم ومنها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) العربية.

وقد ترسّخ انتشار هذه التقارير والدراسات حتى باتت تشكّل مراجع لا غنى عنها للجامعيين والإعلاميين والباحثين على تفاوت نقدية قراءاتهم لها. ولهذا بدت الكتابة سهلة في أدبيات ما يُسمّى بالتنمية العربية على نهج الكثير من الخبراء الحكوميين والدوليين ممن يميلون إلى تجاوز حدود وخصوصيات ظروف كل بلد من البلدان العربية. وهي كيانات سياسية مضى ما ينوف على قرن من تشكّلاتها الديمغرافية والسياسية، وعلى تفارقات خياراتها في بناء الدولة والاقتصاد والنظام السياسي.

أولاً: في المقاربات القومية السياسية والإرادوية لمعوّق التنمية في الأقطار العربية

لقد توطّنت في التشكيلات السياسية للأقطار العربية لدى عوامها وأغلبية نخبها المتوسطة – بوعي أحياناً كثيرة وبغير وعي أحياناً أخرى – هويات الولاء والانتماء القطرية التي اقترنت بإحباطات تجارب بناء الدولة والاقتصاد المستقلين ما سوّغ لأقلية من تلك النخب أن تُحمّل حكوماتها وزر ابتعادها عن وحدانية الهوية القومية الأكبر باعتبار أّنها تحصِّن سيادةَ الأمة وتضمن التكامل بين ثرواتها وأسواقها.

شكلت هذه التطلعات الأيديولوجية أحياناً والكثيرة المضمون خطابات نخب وأحزاب قومية معارضة في كل من أقطارها. غير أن حكومات الاستقلال السياسي – وخاصة في بلدان المشرق – وجدت في نكبة اغتصاب حقوق الفلسطينيين في وطنهم وتشريدهم إلى المخيمات في هذه البلدان ما يجب اعتباره – وفق زعمها – موضوع مواجهتها القومية الأول في التعبئة والإنفاق على التسليح وبناء البيروقراطيات العسكرية والحكومية؛ مواجهة حرصت الحكومات القطرية، المتعثرة بفعل تبعيتها، على إزاحة وعي العوام ونخبها المتوسطة عن آليات استبدادها وهدرها للثروات القطرية، وعلى إشغال هؤلاء العوام بإجراءات تجديد شرعيتها بذريعة أولوية المخاطر المحدقة بالأمن القومي على مسألة التنمية القطرية.

وفي موازاة ذلك جهدت تلك الحكومات على امتداد ثلثي قرن في ترسيخ هويات مجتمعية قطرية متنافرة متحصّنة بولاءات خارجية. وجاءت المنظمات الدولية المعزَّزة بالخبرات التكنوقراطية العالية لمساعدتها في بناء مؤسسات الدولة القطرية وتنظيم وظائفها بما يمكِّنها من استيعاب أزماتها وإعادة إنتاج أنظمتها.

وجدير بالذكر أنّ هذه الخبرات الدولية كانت وما زالت، منذ مطلع التسعينيات تنظر إلى ما تسميه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) – أي إلى إجمالي البلدان العربية – كأقطار متجاورة تشخص أوضاعها ومستويات نموها فتصدر عنها الدراسات والتقارير الدورية وتعرض لما هو مشترك بينها من عجوزات ومن فرص استثمار لمواردها دونما تطرّق لا إلى الشروط السياسية التي يتطلّبها تحقيق هذه الفرص على صعيد القطر الواحد ولا إلى الشروط السياسية التي تتطلّبها عملية تحقيق فرص التكامل التنموي بين الأقطار العربية.

ويذهب الخبراء الدوليون في ما يقترحونه على الحكومات القطرية من تثميرات مفترضة لقدرات مجتمعاتها الأهلية إلى الاقتباس من منجزات تنموية في بلدان آسيوية أو أمريكية لاتينية غير آبهين باختلاف الظروف الجيوسياسية والدولية التي توافرت لتلك البلدان.

في مثل هذه المقاربات الإقليمية يتوافق نهج الخبراء الدوليين مع ظواهر ميول الحكومات القطرية التي تشجّع الدراسات عن المشكلات العربية المشتركة ما يسوِّغ النأيَ بمسؤولياتها عن سياساتها التي راكمت أسباب أزماتها القطرية المزمنة ويُسهل عليها التملّص من تحمل أعباء مواجهتها متذرعةً بالاستعصاء السياسي الموضوعي للتوافق بين جميع الحكومات العربية.

وعلى الرغم من تظاهراتها السياسية التكنوقراطية بالاهتمام المشترك بعجوزاتها المتشابهة في مجالات الأمن القومي والغذائي والمائي والمواصلات وبالرغم مما تظاهرت بالتوافق على تأسيسه من أطر مشتركة للتعاون على مستويات الوزراء المختصين لوضع الحلول المشتركة التي شغلت الخبراء خلال ما يزيد على ثلاثة عقود(*)، فهي تحاول إيجاد حلول تقنية على المستوى القومي لمسائل تسبّبت بها سياساتها القطرية. وبهذا تعمد إلى إزاحة مسؤولياتها القطرية إلى نطاق قومي مفترض تهيم فيه المسؤوليات وتتواصل العجوزات.

ومن تلك الحلول نذكر على سبيل المثال المشروع القومي الذي أقرّته القمة العربية لتوفير الأمن الغذائي لجميع البلدان العربية عن طريق تمويل استزراع منطقة الجزيرة في السودان التي تبلغ مساحتها نحو 25 ألف كلم مربع. وقد تعثّر تنفيذ هذا المشروع لأسباب عديدة كان من بينها صعوبة استدامة توافق الحكومات العربية على تنسيق تعهداتها لتنفيذ مشروعات بمثل هذه الأبعاد القومية من جهة وعجز البيروقراطية السودانية لا سيما في إدارتها الزراعية عن توفير أطر التخطيط ومتابعة تنفيذ البرامج من جهة أخرى.

بالرغم من ذلك يواصل الخبراء الدوليون اعتماد المقاربات الإقليمية لمعوقات ما يُسمّى بالتنمية العربية وإمكاناتها متجاوزين الحدود السياسية لخيارات الأنظمة القطرية ولمسؤولياتها في التسبب بإفشال برامج التعاون والتنسيق العربية التي سبقت الإشارة إليها، ويُبرزون في تقاريرهم الدولية من المؤشرات الكمية أبلغها تعبيراً في التنبيه إلى خطورة المفارقات بالنسبة إلى المجتمعات العربية مجتمعة نائين بأنفسهم عن الإشارة إلى مساءلة خيارات أي حكومة قطرية بمفردها.

ثانياً: المقاربة القومية التكنوقراطية في مقدمتي تقرير التنمية الإنسانية العربية (ص 69 – 71)

يتوقف الدكتور بهجت قرني في المقدمة العامة للتقرير الذي أعده أمام «اللغـــــــــز العربي» مستثيراً في القرّاء «التساؤل والاستغراب»، مشيراً إلى مفارقة أن «قيمة صادرات النفط للبلدان العربية في السنوات العشرين (1990 – 2010) بلغت أكثر من 6 آلاف مليار دولار أمريكي، ولكن استُخدم أكثر من 20 بالمئة منها في الإنفاق العسكري…».

وفي سياق التساؤل والاستغراب نفسه استعان قرني بما انتهت إليه «الكتب السنوية» لمركز دراسات الوحدة العربية، على حد اختصاره لمضامينها بعناوينها المثيرة مشيراً إلى تفاقم الأزمة في عنوان «تحدي البقاء والتغيير» (2008)، وإلى العجز في مواجهة هذا التحدي في عنوان «الأمة في خطر» (2009) حيث يقتصر الاخـــــــــتيار علــــى: «إما النهضة وإما السقوط» (2010)، وقد ذهب في تعبيره عن هاجسه القومي التكنوقراطي إلى استثارة القارئ مستعيراً من علم اقتصاد الوحدة أو المنشأة مفهوم «تكلفة الفرصة البديلة» (Cost opportunity)، وهو مفهوم يستعصي اعتماده لقياس مدى ما تخسره الأمة العربية من «نتائج مرجوة أو متوقعة جرّاء عدم استثمار مواردها في مجالات منتجة».

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن المقاربة القومية – التكنوقراطية المعتمدة في التقريـر، موضوع قراءتنا، وهي مقاربة تقتصر على وصف المعوقات والإمكانات المتشابهة بين الأقطار العربية، يكثر اعتمادها لدى الخبراء الدوليين مع تفاوتات تعمّقهم في التأشير إليها والربط بينها. ولكنها تستند بمجملها إلى ما يُسمّى بالنهج الفينومينولوجي القائم على الدراسة الوصفية للتجارب المُعاشة والمتداولة في المحيط المدروس ولا تقوم على تنميط – تجريدي للتجارب (Idéal-type) كما هو الحال في المقاربة التنظيرية لماكس فـيبر.

إن مثل هذا النهج الظاهراتي التكنوقراطي يقوم أيضاً على تجاوز حدود وحدة الحقل الاجتماعي لظواهر «تعوّق التنمية في كل من البلدان العربية، وهو حقل مجتمعي تتعرّف مزايا الأطراف الفاعلة فيه بطبيعة المواقع التي تشغلها داخل العلاقات الموضوعية التي يفرضها ميزان القوى السياسية والاقتصادية والثقافية بين الأفراد والجماعات والمؤسسات على حدّ تعريف بيار بورديو (Pierre Bourdieu)‏(1).

وبناءً على هذا التعريف لحقل البحث الاجتماعي لمعوقات التنمية وإمكاناتها، وهو تعريف ينطبق على وحدة الحقل القطري الموجود في الواقع لا على الوحدة المفترضة للحقل القومي للفروقات والتشابهات بين الأقطار فإن هذه الوحدة تغدو ضرورتها موضوعية في اعتقادنا عندما تصبح مصالح الأطراف الفاعلة في موازين القوى القطرية الاقتصادية والسياسية مرتبطة بالانتقال إلى حقل التكامل الإقليمي أو القومي؛ أي إلى موازين قوى أكثر ترابطاً وأقدر على المواجهة والمنافسة على صعيد الأسواق الخارجية. وهذا ما يعني باختصار أن تكامل الأسواق وتوّحد الأقطار العربية هما عمليتان يمكن أن تندرج إليهما تنمية المجتمعات العربية ولا يمكن أن تنطلق منهما.

إن تجاوز الخبراء الحكوميين والدوليين للمنطق التاريخي والسياسي لسيرورة التنمية في البلدان العربية يعود بالضرورة، كما سبق وأشرنا، إلى تمويه المسؤوليات الحكومية القطرية من خلال إبراز آمال افتراضية على ما يسمونه «التكامل الإقليمي والتعاون الدولي من أجل التنمية»(2)، وفي تقريرٍ عن مسار الأهداف الإنمائية حول هذا التكامل يبرز الخطاب القومي – التكنوقراطي المحوِّم فوق آليات التعويق القطرية مُفصِّلاً ضرورات تحقيق الهدف الثامن، وذلك من خلال وحدة إعلان الأمم المتحدة للألفية:

1 – إلى «الترويج لنظام تجاري ومالي أكثر إنصافاً على المستوى الدولي».

2 – وإلى «تعزيز الالتزام الإقليمي (في تقرير المراجعة العشرية للأهداف الإنمائية للألفية في العـــــــــام 2010) والتكامل بين البلدان العربية المختلفة الموارد وتحديد التزامات كمية وزمنية بالنسبة إلى التمويل الإقليمي للتنمية في البلاد العربية، وضرورة إصلاح إدارة الاقتصاد العالمي لا سيما المؤسسات المالية العالمية ومراجعة المذاهب والخيارات الاقتصادية العالمية خلال العقود الأخيرة…».

أجل إنّ الردّ على تجاوز المنطق التاريخي والسياسي لـ «تعوّق التنمية في البلدان العربية جاء في طروحات الانتفاضات العربية حول الحرية والكرامة والعدالة المؤكدة. وقد أكّدت هذه الطروحات أن حلّ مسألة الفقر والبطالة وما تولدانه من إذلال لا يمكن حلهما إلّا بالتغيير السياسي الذي هو في خلفية الحراك كما ورد في التقرير عن الأهداف الإنمائية المُشار إليها (ص 3).

وقد لجأ الدكتور قرني في مقاربته القومية التكنوقراطية، إلى تبنّي المنهج العضوي الوظائفي (Functionalism) المستند إلى نظامية الكيانات البيولوجية في تفسير الظواهر الاجتماعية وتحولات المجتمعات العربية ففسّر عجوزات الأنظمة الاستبدادية العربية وانهياراتها بسبب «شيخوختها المعرفية والإدراكية» في مواجهة «شبابية المجتمع» (ص 27)، حاصراً بذلك الصراع الاجتماعي بين الأجيال ورابطاً بين تغيير المجتمعات العربية وبين «قرار سياسي نابع من قمة هرم السلطة» التي يقارن بين موقعها ودورها في النظام البيولوجي بموقع ودور «جهاز التحكم العصبي» في جسم المجتمع الذي يتخيّله. ورابطاً بين عملية «التنمية العادلة والمستدامة (في الوطن العربي طبعاً)» بضرورة «إعادة هيكلة لفكر قمة السلطة ومركز القرار لتمتد بعد ذلك إلى المستويات الأدنى في هرم السلطة ضامناً بمثل هذا التغيير المتخيّل «في جهاز التحكّم العصبي» للسلطة انفتاحَ عملية التمكين لتوسيع «خيارات المجتمع العربي (الموحد في تخيّله) ومواطنيه».

ولا يستغربن أحد اطمئنان د. بهجت قرني لانطلاق هذه العملية البنيوية وهو يتخـيّل فــــــــــــي مــا يُســـــــــــميه «المنطقة العربية» و«المجتمع العربي» أحياناً هرمَ سلطة واحد موحّد يتمتع بموارد بشرية ضخمة وموارد مالية مذهلة، وقد هاله أن تصل الفجوة بين متوسط دخل الإنسان في دولة قطر من جهة 50 ضعفاً من متوسط ما يحصل عليه الإنسان اليمني في العام 2011، فعرّف إشكالية التنمية العربية باعتبارها تشكّل «اللغز العربي»؛ أي الفجوة بين الموارد والإنجازات الناتجة من سوء استغلالها في هذه العملية أو عدمه (وقد سبق أن ألمح الباحث إلى قصورات الأنظمة الإدراكية والمعرفية).

ولكن السؤال «من أين البداية؟»، في هذه العملية، لا يستعصي على د. قرني لأنّه اكتشف سر معالجة «تعوّق» التنمية القومية «مستهلماً التفكير الطبي حول دور جهاز التحكم العصبي» في رأس السلطة العربية(!). ولم يكتف باستلهام النظامية الوظائفية في علم الفيزيولوجيا فذهب إلى اختصار ما سمّاه مقولة الكتاب «الرئيسية التحليلية» القائمة على «محورية التغيير من أجل التمكين»، وهو برأيه تغيير يجب أن يبدأ من القمة ليسري في المجتمع متنكراً في هذا الوجوب لمنظور علم الاجتماع السياسي مرجّحاً عليه منظوره كمختصّ بعلم السياسة يختزل علمه إلى مجرّد وصف وتركيب لأشكال السلطة المعتمدة في الدول.

إن استهوان الباحث للمراوحة بين المقاربات الفينومينولوجية والوظائفية الفيزيولوجية والكليانية في فهم معوقات التنمية ومقاربتها الإرادوية السياسية في فهم عمليات التغيير والتمكين قاده إلى التعامل مع ما يشغله مما يُسميه «أزمة التنمية العربية»، وإلى «تعامل الطبيب الذي يركز على التشخيص ويحاول الإجابة عما هو العمل (البحث عن العلاج/المخرج المطلوب) لتمكين المواطن العربي» (ص 31).

وقد تراءى له أن هذا التمكين الذي يبدأ من قمة هرم السلطة متيسر لمجرد أن يتوافر له القرار السياسي النابع منها. وبما أن قمة السلطة السياسية هي التي تقرّر وهي التي تملك سلطة التشريع فإنّ التغيير يصبح ممكناً، بحسب رأيه، بفعل وجود الإعلام الحرّ وجودة التعليم الأساسي. وفي مثل هذا الفهم لتشخيص معوقات التنمية ولقدرة السلطات العربية على تجاوزها يكون قد غاب عن ذهن الباحث قرني أن «تعوّق التنمية هو نتيجة سياسات ومؤسسات ومواقع في السوق الدولية ولا يمكن أن يُعالج بقرارات من رؤوس السلطات». هذه السلطات التي كثيراً ما اضطلعت ببرامج دولية نيوليبرالية تعمل على تخفيف الفقر بدلَ العمل على تفكيك آلياته بعد إذعانها منذ مطلع التسعينيات لسياسات التحرير الهيكلي و«توافق واشنطن» ما زاد في نسب الفئات المعرضة، خارج البلدان الناشئة الجاذبة للاستثمارات الخارجية، لتجاوز متواصل لخطي الفقر المدقع والوطني. وقد أصاب هذا التدهور المعيشي(3) ما نسبته 46 بالمئة من سكان 19 بلداً في أمريكا اللاتينية وطاولت البطالة ما يزيد على 19.6 بالمئة من القوى العاملة.

وفي الوقت الذي تُظهر التقارير الدولية تراجعاً في تحقيق أساسيات الأهداف الإنمائية للألفية «حيث يبدو أن جميع الدراسات تلتقي على اتساع الفوارق في الدخل في العالم»(4).

وفي نأيه عن تصنيف ونقد النقاشات الدائرة بين المثقفين العرب حول حدود الداخل والخارج في تشكّل أزمة التنمية العربية يميل قرني إلى مقاربة كليانية (Totalisante) تربط بين مصادر الأزمة ربطاً دائرياً عضوياً وتُعفي الباحث من مسؤولية التنظير لجهة تثقيل أو تحديد أهمية كل مصدر منها.

وعلى الرغم من مخاطر اعتماده للمنظور القومي – التكنوقراطي القائم على تشابه آليات التعويق السياسي والاقتصادي للتنمية بين الأقطار، ملكية كانت أم جمهورية، وميله إلى استلهام التفكير الطبي الذي لا يفرّق كثيراً بين مسؤوليات ومواقع رؤساء السلطات القطرية المتشابهة في سمة أساسية تتمثّل بتعلقها «بالنظام الإرثي كالإقطاعية خاصة والإدارة الزبائنية» عاد وانتبه في مقدمته إلى تلك المخاطر (ص 32) في تقديمه لخلاصة القسم الأول تحت عنوان «دراسات التنمية مع بداية العقد الثاني: إطار تحليلي» (ص 32) عندما أشار إلى أنه «بسبب اعتقاد العديد من الباحثين العرب بأنهم جزء من أمه واحدة عربية أو (إسلامية) تأخر الاهتمام بعض الشيء بتحليل ما يُسمى الدولة القطرية وتنظير أصولها ومكوّناتها وعلاقتها بالمسار التنموي…»، وأن أساس نجاح هذا المسار هو قدرة الدولة لا على تصميم رؤية لهذا المسار التنموي فحسب، بل على وضعه موضع النهوض أو البناء المرتبط أشدّ الارتباط بنوعية سلطة الدولة ومؤسساتها، والأساس الذي تقوم عليه أو تستمد منه شرعيتها.

لا يميل الخبير قرني إلى «الخوض في النظريات المتعددة» طالما أنه «ومهما كانت الاختلافات في أنماط الاقتصاد وشكل الحكم وهيكل المجتمع» فإن معظم البلدان العربية تتشارك في ســـــــــــــيطرة «النظام السلطوي» وتتشارك في مقتضيات التغيير التي يجب أن تنزل، بحسب رأيه، من قمة هرم السلطة إلى قاعدته. وهي مقتضيات تقوم على ترشيد نمط الحكم فيها لكي لا يقوم على التحكم بل على تغيير نمط القوة السائدة (؟)، بحيث يتسم بمشاركة الجميع – مجموعات وأفراداً – الذين يتم تمكينهم ابتداءً من القمة لإعطاء القدوة (طبعاً)، فيتم «تحويل قانون الدولة إلى دولة القانون» وإحياء قضاء كفء ونزيه مستقلٍّ عن السلطة التي تعيّنه وإبعاد الإعلام عن خدمة الحاكم تعزيزاً للشفافية والمساءلة، وطالما أنّها «في تقديري»، قادرة على اعتماد منهج «التعليم التمكيني كجوهر للعملية التنموية» الهادفة إلى «إنتاج إنسان فاعل ذي عقل قادر على الإبداع وإنتاج المعرفة وتطويرها». وقد أجاد الخبير قرني في إعطاء الأهمية لإصلاح التعليم الديني الذي «ظل بعيداً عن دائرة الإصلاح والتطوير» مع العلم أن الدين «يؤثر في حياة الفرد عبر قنوات حياتية متعددة تعليمية وتثقيفية وقضائية متعلقة بقوانين الأحوال الشخصية». ومن هنا تأتي في نظره أهمية «إعادة النظر في مناهج التربية الدينية، وخصوصاً طرق تدريسها والربط بين لغة العلوم الشرعية واللغة المتجددة للعلوم الاجتماعية» (ص 46).

ويبدو أن الخبير، من خلال تقديمه لأقسام البحث ومنها القسم الخامس خاصة، متيقن من خريطة الطريق التي يقترحها من أجل التحول الديمقراطي في المجتمعات العربية من خلال مقاربة علم سياسة ورومانسية في آن معاً «تبدأ بعملية سياسية تحتكم إلى الدستور… وتقنين معايير الديمقراطية…» (ص 50)، إلّا أن الخبير المتيقن من صلاحية تلك الخريطة ما لبث أن خرج عن تساؤله «ما الآتي؟» إلى تيقنه المُشار إليه في الإكثار من التوقعات حول تحولات مجتمعات الانتفاضات العربية ومراوحاتها بين رومانسية الدمقرطة الليبرالية التي يمكن أن تندرج إليها البلدان الغنية في الخليج وبين تشاؤمية العودة إلى العصبيات الطائفية والقبلية التي يمكن أن تعود البلدان غير النفطية إلى التخبط فيها. وعلى الرغم من تكرار هذه المراوحات يعود الخبير مراراً لينطلق من تشابه بعض ظواهر «تعوّق التنمية في المجتمعات العربية» ليستهون مطالبتها بإدارة حسنة للصراعات والنزاعات بينها وداخلها وكذلك بالتعاون الإقليمي على إدارة الموارد المشتركة وعلى إدارة استباقية لهذه النزاعات.