يتلاقى أغلب المحللين السياسيين في العالم عند التوقع القائل إن الوضع الدولي، والنظام العالمي، وموازين القوى العالمية السائدة اليوم لن تكون هي نفسها بعد الحرب الروسية – الأطلسية في أوكرانيا. ولهذا بدأت دول كثيرة تفكر في موقعها ودورها في العالم المقبل الآخذ في التكوّن، أو الذي سيتكوّن عقب انتهاء تلك الحرب.

وقد رأى البعض أن مجموعة اللقاءات التي تمت مؤخراً على الأرض العربية، ولا سيّما في التحضير لمؤتمر القمة العربية المقبل، هي تحركات تستهدف الترتيبات المسبقة التي يمكن أن تواجه المنطقة، مع التغيرات المتوقعة للوضع الدولي المقبل. ولكن توزعت تقديرات الموقف حول أهداف كل منها ومدى فاعليتها، وكيفية قراءتها وتقويمها.

افتقرت الدول العربية المجزأة 22 قطراً، منذ عقدين، في الأقل، إلى الحد الأدنى من التضامن والتواصل في ما بينها، كمجموعة عربية واحدة. وكان من علامات ذلك ما حلّ بالجامعة العربية من شلل، ولافاعلية، بل ما قام، ويقوم، من تناقضات حادة هنا وهناك، أو من تفاقم لظاهرة سعي كل دولة للتحرك المنفرد لحماية نفسها، ومراعاة مصالحها، أو حتى “تدبير رأسها” تجاه البعض؛ وكان أخطرها وأشدها سلبية قرار حرمان سورية احتلال مقعدها الثابت في الجامعة العربية.

لذلك عُقدت عدة لقاءات ثنائية وثلاثية، وسداسية، لم يُحدَّد رابط في ما بينها، وكان من بينها ثلاثي مصري- إماراتي- صهيوني على مستوى القمة، في شرم الشيخ، ثم لقاء مصري- أردني، ولقاء أردني- فلسطيني في رام الله، ثم كان من بينها القمة التي عقدت في جُدَّة بحضور الرئيس الأمريكي جو بايدن وبمشاركة مصر ودول الخليج ، وقد خرجت بقرارات أفشلت ما طالبت به الولايات المتحدة في حينه، فعاد الرئيس الأمريكي منها خالي الوفاض.

كل ذلك يسمح بالاستنتاج أن هذه اللقاءات تمت بصورة محدودة ولم تعبِّر عن لقاء عربي عام وبعضها اشترك فيه الكيان الصهيوني. ومع ذلك يجب التفريق بين هذه الأبعاد السلبية، وما تثيره من غضب نفسي فلسطيني وعربي وإسلامي ولدى أحرار العالم، ولا سيّما ما عبّر عن ظاهرة التطبيع الراهنة، التي مثّلت عنواناً للانهيار العربي الرسمي الشامل، وأراد البعض عدّها ظاهرة المستقبل، في تقرير مصير العلاقات العربية مع الكيان الصهيوني، أو مصير القضية الفلسطينية.

إن اتجاهات التطبيع تتناقض مع ما راح يسود من تغيير في موازين القوى، حيث أصبحت السيطرة العالمية لأمريكا والغرب، كما تدل الحرب في أوكرانيا، والصراع الأمريكي – الصيني، مهدّدة بالضعف والتراجع أكثر فأكثر، أو كما تأكد من فقدان الكيان الصهيوني القدرة على كسب الحروب. والدليل هزيمته في حرب عام 2006 ضد لبنان، أو حروب أعوام 2008/2009 و2012 و2014 و2021 ضد قطاع غزة، أو عجزه عن شنّ الحرب ضد المقاومة في لبنان، أو ضد إيران، كما كان يفعل في الماضي، كعدوان عام 1982 في لبنان مثلًا، أو تدميره المفاعل النووي في العراق عام 1981. ناهيك بحرب عام 1967، وما نجم عنها من توسّع واحتلالات.

وبهذا تهاوت حجّة الذين لجأوا إلى التطبيع بحجة الاحتماء بالكيان الصهيوني، وإذا بالكيان الصهيوني يتخذهم درعاً ضد إيران، ووسيلة للضغط من خلالهم على الإدارة الأمريكية لعدم توقيع الاتفاق النووي مع إيران، فكانت تجارة التطبيع «خاسرة دنيا ودين»، كما يقول المثل.

يُستنتج مما تقدم أن هذه اللقاءات ليست الطريق، ولا حتى بدايته، لمواجهة الدول العربية التحديّات الناجمة عما يشهده العالم من متغيّرات، سواء في أثناء الحرب في أوكرانيا، أم مع تطورات أزمة العلاقات الأمريكية – الصينية. ومن ثم فإن النظام العربي الرسمي مهدّد بأن يزداد ضعفاً وضياعاً، أكثر مما كان عليه طوال العقدين الأخيرين، وذلك ما دام غارقًا في ما هو عليه من تمزُّق وصراعات وشتات، وما تعبّر عنه دوله من سياسات، الأمر الذي يوجب التوقف لإعادة النظر في ما هو عليه وفيه، بحثاً عن مخرج آخر، أو اتخاذ أولى الخطوات في هذا المخرج.

إن بديهية البدء في أي تفكير، أو أي مشروع عربي، لإعادة ترتيب الوضع العربي لمواجهة التحديّات القائمة والمقبلة، تفترض البدء باستعادة التضامن العربي المجرّب الذي عرفته مرحلة ما بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، والذي أمّن فعلاً توقف التدهور، وحقق الحدّ الأدنى المطلوب من الصمود، ومحاولة الوقوف على القدمين عقب هزيمة عسكرية خطيرة. فقد أثبتت الوقائع منذ قمة السودان عام 1967، و«اللاءات الثلاث» التي صدرت منها، أن التضامن العربي هو الشرط الضروري، والممكن، بالنسبة إلى الوضع العربي الرسمي لمواجهة التحديّات.

لهذا فإن كل سياسة تبحث عن التطبيع مع الكيان الصهيوني، وإشراكه في مواجهة التحديّات، لن تحقق التضامن العربي، لأن مثل هذه السياسة لن تحظى بموافقة عربية شاملة، في الحدّ الأدنى، ليقوم تضامن عربي؛ ناهيك بإمكان تفاهمها وتوحيد سياساتها. فالدول العربية لا يمكن أن تصل إلى تضامن بينيّ ما لم يُقصى الكيان الصهيوني، ويُمنَع من الاقتراب من أي جهد عربي. بل إن مواجهته كانت وما تزال شرطًا لاتفاق الدول العربية وتضامنها، كما تدل على ذلك كل الحالات التي تحقق فيها التضامن العربي في العقود الأخيرة، كالاتفاق على اللاءات الثلاث في قمة الخرطوم 1967 مثلًا، أو كحرب تشرين الأول/ أكتوبر، واستخدام سلاح النفط العربي عام 1973.

لهذا، لن يخرج الوضع العربي من حالته المزرية الراهنة، ولن يستطيع مواجهة التحديّات المقبلة، مع ما سيشهده العالم من تغيّرات في ضوء مسار الحرب في أوكرانيا، والمواجهة الأمريكية - الصينية، ما لم يُحقق تضامناً عربياً، لمواجهة الكيان الصهيوني من جهة، وللوقوف على القدمين، من جهة أخرى، بعد طول عجز وضعف وانقسام، ولتأدية دور مستقبلي في العالم المقبل.

إن المداولات الخارجية التي تقوم بها الجزائر وعدد من الدول العربية، لإنجاح القمة العربية المقبلة في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، في الجزائر العاصمة، توفِّر فرصة سانحة لبدء استعادة النظام العربي بعض تضامنه، وقوته، وفاعليته. وذلك بضرورة عودة سورية لاحتلال موقعها فيه، وبإعادة العمل لتخفيف حدّة الخلافات العربية – العربية، والوقوف إلى جانب المقاومة الفلسطينية في دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، واستعادة القضية الفلسطينية مكانتها بوصفها القضية المركزية للأمة العربية، كما بالإسهام الضروري والمصيري في تشكُّل النظام العالمي المقبل.

بكلمة، إذا كانت ثمة حاجة ماسّة أخذت تشعر بها الدول العربية، أو أغلبيتها، إلى إيجاد المعادلة التي يمكن هذه الدول من خلالها أن تجد، مجتمعة ومنفردة، مكانة لها في النظام العالمي المقبل، فإن الطريق إلى ذلك يجب أن يبدأ من خلال الإعداد الجيد للقمة العربية المقبلة في الجزائر، بتغيير النهج السابق في هذه القمة، وإطلاق نهج جديد يحقق ولو الحد الأدنى من التضامن العربي، لأن شرط الفاعلية العربية في العالم، سياسياً أو اقتصادياً أو معنوياً، لا يكون إلاّ بالتضامن العربي. وحتى لو تعذَّر بلوغ هذا التضامن العربي الجامع بسبب التناقضات العربية- العربية، والاكتفاء بالعمل من خلال مجموعات، فإن شرط نجاح العمل على هذا المستوى هو استبعاد أي علاقة تطبيعية مع الكيان الصهيوني وعدم إشراك الكيان الإسرائيلي في أي لقاء أو تجمُّع عربي.

 

قد يهمكم أيضاً  المشروع النهضوي العربي: نداء المستقبل

اقرؤوا أيضاً البحث عن هوية عربية جامعة

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العرب #التضامن_العربي #التحولات_الدولية #التحولات_العالمية #التطبيع #مناهضة_التطبيع #اللقاءات_العربية #القمة_العربية #قمة_الجزائر