تشير كلمة (المنهج) إلى الطريقة التي يتوجّب على الباحث أن يسير عليها على وفق خطوات معيّنة؛ حتى يتّضح له الغامض، وينفتح المغلق، ويتحوّل الشّكّ إلى يقين، فالمنهج مسارٌ إجرائيٌّ يسلكه الباحث بوصفه طريقة للتحليل، بعد أن يضع تصميمًا جيّدًا للعمل، فالمنهج بهذا المعنى مجموعة من الطرائق العمليّة يسعى الباحث من خلالها للوصول إلى نتائج في مجال من مجالات التفكير والتأمل والبحث عن الحقيقة([1]) والمنهج في أبسط تعريفاته وأشملها “طريقة يصل بها إنسان إلى حقيقة”([2])، وهو “خطة منظمة لعدّة عمليّات ذهنيّة أو حسيّة بغية الوصول إلى كشف حقيقة أو البرهنة عليها”([3]).

وللمنهج مكانة مهمة جدًا في الحضارة الغربيّة حتى أُطلق عليها حضارة المنهج. وهذا لا ينفي معرفة الحضارة الشرقيّة بالمنهج، فلا يمكن وصفها بأنّها حضارة بدون منهج، إلّا أنّ الاستمرار في توظيف المناهج التراثيّة قد لا يلبي متطلّبات البحوث الجديدة، ولا يُجيب عن تساؤلات الباحثين المعاصرين، فالغربيون عرفوا بداية العصور الحديثة قلقًا منهجيًّا نتج من القطيعة مع الماضي، وهذا النوع من القطيعة لم تعرفه الحضارة العربيّة الإسلاميّة([4]).

ويرى محمد مندور أنّ حاجة الشرقيين إلى مناهج البحث العمليّة أشدّ من حاجة الغربيّين إليها، ويُرجع ذلك إلى عدّة أسباب منها: المزاج القوميّ الذي يسيطر على الشرقيّين، ونُظم التعليم السائدة عندهم، “فالشرقيّون عاطفيّون، كثيرًا ما تنشر مشاعر الجذب والنفور على تفكيرهم ضبابًا قد يُعمي معالم الحق، وفي كثير، إن لم يكن في كافة البلاد العربيّة، لم تستقم بعدُ نُظم التعليم بحيث تسفر عن عقلٍ مُكوّنٍ يحتاط في التأكيد، ويحرص على ملابسة الواقع، كما أنّ التحصيل لا يزال طاغيًا فيها على الفهم”([5]).

ولا يقتصر دور المنهج على ضبط المعارف والأفكار وتنظيمها، بل إنّه قبل ذلك يضبط الأخلاق والقيم، فالمناهج تقود الفكر والأخلاق معًا، “فكما يُخشى على الفرد الذي يزاول الحياة العمليّة من الانحراف عن مبادئ الشرف، كذلك يُخشى من الخطر نفسه على من يزاول أعمال الفكر، بل ربّما كان الخطر أعظم هنا”([6]). وإذا كان المنهج يتولى قيادة الفكر والأخلاق، فإنّ الباحث يتولى زمام قيادة المنهج وتوجيه دفته، فليس المنهج وحده مقياسًا للموضوعيّة، بل لا بدّ للباحث من الدّقة في التطبيق، والاحترام للقواعد.

ويبدو أنّ مؤرّخي الأدب العربيّ كانوا على وعيٍّ بقضيّة المنهج، إذ خصّص أغلبهم صفحات تقلّ أو تكثر لعرض الطريقة التي اتّبعوها، والمنهج الذي انتهجوه في مؤلّفاتهم، ولا شكّ في أنّهم كانوا على وعيٍ بصعوبة العمل الذي خاضوا غماره، وهذا الوعي بصعوبة التأليف كان من شأنه أن يثير مسألة المنهج بين المؤرّخين، ويلفت عنايتهم إلى خطورته، ويفتح أبواب الجدال بينهم في المفاضلة بين المناهج، ويمكن ردّ الأسباب التي أسهمت في إدراك المؤرّخين لأهميّة المنهج إلى ثلاثة أسباب جوهريّة: أولها كون هذا الضرب من التأليف مأخوذًا من الغرب، فسار مؤرّخون على نهجهم، بينما سعى آخرون إلى مخالفتهم، وثانيها الصعوبة التي اصطدم بها المؤرّخون وهم يخوضون غمار التأريخ لأدبٍ له كلّ هذا الامتداد المكانيّ والزّمانيّ، وآخرها تعدّد المشارب الثقافيّة التي نهل منها مؤرّخو الأدب العربيّ.

إشكاليّة الدراسة وتساؤلاتها البحثية: كثرت مؤلّفات تاريخ الأدب العربيّ منذ مطلع القرن العشرين ولا تزال في تزايدٍ مستمر، فهذا الضرب من التأليف لا يعرف التوقّف، وينبغي أن يتجدد من جيل إلى جيل؛ إلّا أنّ هذا التجديد لا يمكن تحقيقه إلّا بمراجعة المؤلّفات السابقة ليتحقّق التجديد في المؤلّفات اللاحقة. ولا شكّ في أنّ مناهج التأريخ للأدب تحتاج إلى دراسة نقديّة تقف على نقاط قوتها فتعزّزها وعلى نقاط ضعفها فتحاول التخفيف من حدّتها.

وعند وقوفنا على المناهج التي اتّبعها مؤرّخو الأدب العربيّ استوقفتنا مناهج التقسيم الزمني فتضافرت في ذهننا عدّة أسئلة مثّلت في جوهرها إشكاليّة دراستنا: فما أنواع مناهج التقسيم الزمني التي سلكها مؤرّخو الأدب العربيّ؟ وما الأسس النظريّة والمنطلقات الفلسفيّة التي اعتمدت عليها؟ وكم نمطًا من أنماط التقسيم الزمني اشتملت عليها تلك المناهج؟ وما الإشكاليّات التي اعترت كل نمطٍ من أنماط التقسيم؟ وكيف يمكن للمؤرّخ تجاوز تلك الإشكاليّات؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة اخترنا للدراسة أن تسلك مسلك نقد النقد على وفق المنهج الوصفي التحليلي، وستعنى بمناهج التقسيم الزمني في التأريخ الأدبيّ ودراسة إشكاليّاتها وتسعى إلى الكشف عن الإشكاليّات المتعلّقة بأنماطٍ ثلاثة: أولها التحقيب الثلاثي (قديم ـ وسيط ـ حديث)، وثانيها التحقيب السياسيّ، وآخرها التحقيب الثقافيّ.

أولًا: التقسيم الزمني وأهميّته في التأريخ الأدبيّ

الزمن التاريخيّ خطيٌّ تراكميّ، يستند بناؤه على الماضي، وهذا المسار الخطيّ الطويل يقف عقبة أمام المؤرّخين، إلّا أنّ للحدث دورًا فاعلًا في تكوين منظومة زمنيّة تقوم على أساس نقطة بدء، تكون فاصلًا بين السابق واللاحق، وهذا يؤدي إلى تكوين مفهوم الحقبة التي تقسّم ذلك المسار الخطيّ الطويل للزمن وفق ما ترسمه الأحداث، فاستعانة المؤرّخ بمفهوم الحقبة يساعده على التبويب والترتيب التعاقبيّ للأحداث والظواهر التي يؤرّخها.

ونحن أمام زمنين في التاريخ المكتوب: “زمن الحكاية” و”زمن سرد الحكاية”، “زمن الحدث” و”زمن رواية الحدث”. ولا شكّ في أنّ هناك فرقًا بين “زمن التاريخ” و”زمن الخطاب”، فالأول متعدّد الأبعاد، بينما الآخر خطي تراكميّ، ففي التاريخ قد تحدث حوادث كثيرة في وقت واحد ولكن يتعيّن على الخطاب أن يضعها متتابعة واحدة تلو الأخرى([7]).

ويرى عبدالله العروي أنّ علم التاريخ بدأ في صورة تحقيب، وأنّ التاريخ المكتوب هو من الأصل تقويم وتحقيب، أمّا التجزئة الفلكيّة (حسب السنين والعقود والقرون) فإنّها تمّت في مرحلة لاحقة، فقد “كان الاتّجاه الفعليّ للتأليف التاريخيّ من التجزئة بالحقب إلى التقسيم حسب السنوات. أي أنّ الحِقبيّات سبقت الحوليّات”([8]). كما يؤكّد العروي “أنّ المؤلّفين اختاروا في القرون المتأخرة التأريخ على السنين أو على العقود (التجزئة الفلكيّة) تهرّبًا واحترازًا ممّا تحمله الحقبة من فكرة مبطّنة حول المصير”([9])، فكلّ حقبة زمنيّة مهما طال أمدها لا بدّ أنّ تصل إلى النهاية لتبدأ حقبةٌ جديدةٌ من الحقب التاريخيّة.

ويميّز العروي بين نوعين من التحقيب هما: “التحقيب العام” و”التحقيب الجزئي”، فالأول ينتج من عمليّة توفيقيّة بين تخصّصاتٍ مختلفة وبين تواريخ محليّة متعارضة، ويحمل في ذاته آثار تحقيبات جزئيّة (فنيّة، سياسيّة، حربيّة، دينيّة، …) فقد يكون الحدث الفاصل يبن حقبتين دينيًّا، كظهور اليهوديّة أو النصرانيّة أو الإسلام، وقد يكون حربيًّا كفتح مكة أو الحملات الصليبيّة، أو حملة نابليون على مصر؛ وقد يكون اقتصاديًّا كالثورة الصناعيّة، وقد يكون فنيًّا كالرومنسيّة، والواقعيّة. وهكذا يظهر جليًّا أنّ التحقيب في التاريخ العام غير متجانس، ولهذا “فلا عجب إذا وجدنا صعوبة كلّما أردنا أن نُدخل فيه تحقيب الفنّ أو الاقتصاد أو العقيدة. إنّه لا يوافق تمام الموافقة إلّا التخصّص الذي انبنى عليه من الأصل”([10]). ولا شكّ في أنّ صعوبة التوفيق تزداد كلّما انتقلنا بهذا التحقيب من حضارة إلى أخرى، أو من إقليم إلى آخر.

إنّ قضيّة التحقيب تثير عدّة تساؤلات أهمّها: ما العلاقة بين التواريخ الخاصة والتاريخ العام؟ أهي علاقة الجزء بالكلّ فلا يجوز الفصل بينهما؟ أم أنّ الفصل بينهما ضرورة لا بدّ منها لإبراز خصوصيّة تلك التواريخ؟ ومن ثَمّ أيصلح التحقيب العام لدراسة كلّ أنواع التواريخ، أم يحتاج كلّ نوع إلى تحقيب خاص به على وفق ما تتطلّبه تلك الخصوصيّة؟ أتصلح حقب تأريخ السياسة مثلًا لتأريخ الاقتصاد والأدب والفكر والفن، أم يتوجّب على المؤرّخين إيجاد تحقيبات تناسب كلّ مجالٍ من هذه المجالات؟

يرى لانسون أنّ تاريخ الأدب جزء من تاريخ الحضارة، فالأدب مظهر للحياة القوميّة، إذ يشتمل سجلّه الفنيّ الطويل على كلّ التيارات الفكريّة، وعلى المشاعر التي امتدّت إلى الأحداث السياسيّة والاجتماعيّة، أو تركّزت في النُّظم، كما نلتمس في الأدب تلك الحياة النفسيّة الدّفينة حتى وإن لم تتحقّق عمليّا، فهو ليس بمعزل عن التاريخ العام إذ إنّ “التاريخ الأدبيّ يحاول أن يصل إلى الوقائع العامة، وأن يُميّز الوقائع الدالة، ثم يوضّح العلاقة بين الوقائع العامة، والوقائع الدّالة”([11]).

لا شكّ في أنّ تأريخ الأدب يتطلّب تحقيبًا زمنيًّا حتى يتمكّن من ملامسة الزمن والاقتراب من الأحداث الإنسانيّة المهمة التي تمس مصير الإنسان، “ولذلك لا بدّ من خلق علاقات مباشرة أكثر بين التاريخ والأدب، لملامسة وتقدير زمن الإبداع الإنسانيّ في حالة تشكّله وتحرّكه في سيرورة الزمن الدائب”([12]). فالتحقيب في الاصطلاح النقديّ أداة أو وسيلة إجرائيّة الغاية منها إقامة تصوّر للأعمال الأدبيّة المنجزة في الماضي حتى تعالج موضوع تاريخ الأدب، والحقبة الأدبيّة جزء من التاريخ العام، تتداخل مع التأثيرات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، ويكون الأدب فيها نسقًا فرعيًّا من نسق مجتمعيّ عام([13]).

فالتحقيب عمليّة وصفيّة معياريّة، تتجلّى بالنظر إليها من جهتي التزامن والتعاقب، إذ إنّ ترتيب المادة الأدبيّة تزامنيًّا يتطلّب رصد خواص التشابه والاختلاف التي تتّصل بالتعاقب، ولا بدّ من مراعاة التشابه عند بناء الحقب الأدبيّة، وكلّما كانت أوجه التشابه أكثر كانت مسوّغات بناء الحقب أقوى، فتصبح أكثر دقّةً ورسوخًا. فتاريخ الأدب شأنه  كالميادين التاريخيّة الأخرى، إذ لا بدّ له من تأطير منهجيّ، وهذا ما يمنحه إياه التحقيب. فهو كالصقالة لا يقوم البناء بدونها، وربّما تفقد دورها الإجرائيّ بعد إتمام البناء، ولكنّها تبقى أداة لا بدّ منها في مرحلة التشييد والبناء، فبها يتحدّد شكل البناء، وبها تظهر معالمه، فكلّما تطوّرت الصقالة تطور معها البناء الناتج منها، وكذلك الشأن في التحقيب، فكلّما تطورت هذه الأداة الإجرائيّة؛ تطوّر معها تاريخ الأدب شكلًا ومضمونًا.

إنّ لجوء مؤرّخ الأدب إلى التحقيب “إنّما هو من أجل إقامة تصوّر للأعمال الأدبيّة المنجزة في الماضي”([14]) ويؤكّد أحمد بو حسن أنّ أهميّة التحقيب تكمن في قوّته التشييديّة لبناء تاريخ الأدب، ويفترض في الحقبة أنّها تساعد على إقامة التاريخ الأدبيّ وتحديد موضوعه، وتمنحه إمكانيّة أكثر للإفصاح عن أهمّ الممتلكات والممكنات التي يعرفها أو يضمها. ويرى بو حسن أنّ هذه الإمكانات التي يتيحها التحقيب لا يمكن تحقيقها إذا لم نعالج التاريخ الأدبيّ بمفهوم الحقبة، فالوسائل الإجرائيّة الأخرى قد تحرم تاريخ الأدب من تلك الإمكانات، إلّا أنّنا في تعاملنا بالحقبة يجب أن “نعتبرها إجراءً معقّدًا وليس إجراءً بسيطًا”([15]). ولهذا فلا بدّ من الحذر لأنّ الأمر متداخل متشابك متعدّد الأوجه والأفعال.

ويضطلع التحقيب بعمليّة تنظيم الوقائع الأدبيّة، وترتيبها زمنيًّا على وفق ما يحدث فيها من صعود أو دثور، ولا بدّ من مراعاة أنّ لكلّ أدب خصوصيّته، إلّا أنّ المتمعّن لا يلمس تلك الخصوصيّة الحتميّة، بل يلاحظ أنّ تواريخ الأدب “تنهض جميعها على زمنيّة مثاليّة، تتبنّى ثلاث مراحل أساسيّة للتطوّر الإنسانيّ أو الطبيعيّ، نشأة، نضج، شيخوخة، أصل، أوج، انحطاط، بداية، وسط، نهاية، تلك هي الخطاطة التي يعاد استنساخها”([16]).

ويتفرّع كلّ واحد من الأقسام الثلاثة الكبرى إلى ثلاث مراحل: (بداية الأوج، الأوج، نهاية الأوج) فالتحقيب يقطّع التاريخ إلى أقسام ينبغي أن تتشابك فيما بينها مع بقائها في الوقت نفسه مستقلّة عن بعضها الآخر، وهذا التعارض – في نظر كليمان موازان _ “يرغم المؤرّخين على كلّ هذه التمثيلات التنظيميّة الماكرة”([17]). فتلك التقسيمات مصطنعة، وذلك التقطيع لا ضرورة له لأنّه غالبًا ما يكون في غير محلّه، كما هو الشأن في تواريخ الأدب المدرسيّة إذ تصطنع تحقيبًا يراعي التسلسل الزمنيّ ويغفل الجانب الأدبيّ، فهي أقرب إلى التاريخ منها إلى الأدب. فتلك التقطيعات الزمنيّة غير ضروريّة في نظر دانييل روش إذ يرى “أنّ تاريخ الكتب المدرسيّة الأدبيّة تاريخ تاريخيّ، يسعى إلى مغامرة بائسة للدمج التسلسليّ الزمنيّ المفروض، إنّ حصيلته هي منح قيمة كافية في غير محلّها للتقسيمات التقليديّة، في مجال تُظهر أبسط التأمّلات أنّها غير ضروريّة”([18]).

ويبدو أنّ تحديد بدايات الحقب الأدبيّة ونهاياتها لا يكون اعتباطًا، بل له بعد نقديّ، إذ لا يمكن للمؤرّخ الانتقال من حقبة إلى أخرى إلّا بظهور مسوّغات أدبيّة تبرّر ذلك الانتقال. فمن دون تلك المسوّغات يصبح التحقيب مجرّد تقطيع للزمن التاريخيّ، إلّا أنّ طبيعة حقل “تاريخ الأدب” من أبرز الصعوبات التي تواجه عمليّة التحقيب، إذ إنّ المؤرّخ يتعامل مع حقل تولّد من حقلين معرفيين هما: التاريخ، والأدب. ولا شكّ في أنّ التأريخ للمعارف والأفكار والفنون وغيرها من المعارف الإنسانية يستلزم ارتباطًا حتميًّا بالتاريخ، فتصبح  تلك المعارف مضافة للتاريخ، فهي تابعة له، ومستقلّة عنه في آن، فكيف نتعامل مع الحقل الجديد (تاريخ الأدب) الناتج من التداخل بين حقليّ التاريخ، والأدب؟ إنّنا أمام ثلاثة حقول معرفيّة: “تاريخ”، و”أدب”، و”تاريخ أدب”، وهذا الأخير مركّب من الحقلين الأوليّين، ولنا أن نتساءل: أنفكّ التركيب في تعاملنا مع هذا الحقل أم نبقي عليه كما هو مركّبًا؟

إنّ المتمعّن في مؤلفات تاريخ أدبنا العربيّ يلاحظ أنّ المؤرّخين قد تعاملوا مع تاريخ الأدب من منظور التحليل الجزئيّ، إذ يفصلون بين التاريخ والأدب، وينظرون إلى كلّ واحدٍ منهما على حدة، وبعد هذه النظرة الجزئيّة يحاولون الجمع بين الطرفين بالتماس نقاط التماس والالتقاء بينهما، ولهذا يبرز واحدٌ من العنصرين: (الأدب، التاريخ) على حساب الآخر، وغالبًا ما يبرز التاريخ في مؤلّفاتنا العربيّة على حساب الأدب، لأنّ الفصل بين عنصرَي “تاريخ الأدب” يكون حاضرًا بقوّة منذ بداية مشروع التأريخ للأب العربيّ، ولهذا يغلب العنصر التاريخيّ على العنصر الأدبيّ في بناء حقب تاريخ الأدب العربيّ.

للتقسيم الزّمنيّ عدة أنماط منها: التحقيب الثنائي، (قديم – حديث)، (أصيل – دخيل)  والتحقيب الثلاثي (قديم – وسيط – حديث)، والتحقيب الرباعيّ (قديم – وسيط – حديث – معاصر)، والتحقيب الخماسيّ الماركسيّ (بدائيّة، عبوديّة، اقطاعيّة، رأسماليّة، اشتراكيّة) والتحقيب السياسيّ، والتحقيب الثقافيّ، والتحقيب بالقرون، والتحقيب بالأجيال وغيرها، إلّا أنّنا لا نجد حضورًا يُذكر للنمطين الأخيرين في تأريخ أدبنا العربيّ، وإن كان للتحقيب بالقرون شيء من الحضور فهو حضور خافت، ليس له ذلك البريق الذي حظي به غيره من أنماط التحقيب، فعند وقوفنا على مؤلّفات تاريخ الأدب العربي وجدنا ثلاثة أنماط من أنماط التقسيم الزمنيّ في تلك المؤلّفات وهي: التحقيب الثلاثي، والتحقيب السياسيّ، والتحقيب الثقافيّ، وقد لا يبدو النمط الأخير زمنيًّا إلّا أنّ التطبيقات التي وقفنا عليها تؤكّد أن الذين اتخذوه منهجًا أخضعوه للخطيّة الزمنيّة، ومن هذا المنطلق صنّفناه من أنماط التقسيم الزمنيّ.

ثانيًا: التحقيب الثلاثي (قديم ـ وسيط ـ حديث)

ظهر التحقيب الثلاثيّ في القرن السابع عشر الميلاديّ، وهو ثمرة من ثمار الجهود العلميّة التي قام بها روّاد النهضة الحديثة في أوروبا، إذ يندرج في إطار المدرسة الليبراليّة التي احتضنت وأطّرت العلوم الاجتماعيّة، وجعلتها من واجهات الصراع ضدّ العصور الوسطى. وقد ابتكر سيلاريوس هذا التحقيب إذ قسّم التاريخ الأوروبيّ إلى عصور ثلاثة: (قديم، ووسيط، وحديث) تفصل بينها فواصل زمنيّة تعبّر عن أحداث سياسيّة تتعلّق بأوروبّا، وعلى الرغم من أنّ هذا التحقيب يطابق تاريخ القارة الأوروبيّة وبخاصة الجزء الغربيّ منها فإنّه لا يلاقي القبول لدى جميع الأوروبيّين بل هو موضع تساؤل وتشكيك([19]).

وإذا كان هذا التحقيب الثلاثيّ موضع تساؤل وتشكيك عند الأوروبيّين أنفسهم، فلا شكّ في أنّ إسقاطه على التاريخ العربيّ يثير الكثير من التساؤلات والتشكيك في صلاحيّته وجدواه، ولكن لا بدّ من معرفة ما تحمله الحقب الثلاث من دلالات فكريّة واقتصادية وسياسيّة واجتماعيّة في التاريخ الأوروبيّ، حتى تتسنّى لنا مقارنة مدلول كلّ حقبة من حقب التاريخ الأوروبيّ بما يقابلها في التاريخ العربيّ.

إنّ حقبة العصر القديم في التحقيب الثلاثيّ تدلّ على العصر الذهبيّ لحضارة أوروبّا، أي الحضارة الإغريقيّة والرومانيّة، والأوج الذي وصلت إليه في مختلف الميادين. أمّا حقبة العصر الوسيط فتمثّل “العصور المظلمة” التي تبدأ بسقوط روما أمام الغزو الجرمانيّ سنة (476م) وتنتهي بسقوط القسطنطينيّة في يد المسلمين سنة (1453م)، أو باكتشاف أمريكا سنة (1492م)، وأمّا الحقبة الأخيرة فتمثّل العصر الحديث، وتدلّ في التاريخ الأوروبيّ على الخروج من العصور المظلمة والدخول في عصر النهضة.

وإذا بحثنا في التاريخ العربي ما يقابل كلّ حقبة من الحقب الثلاث في التاريخ الأوروبي؛ فإنّنا نجد العصر القديم (الذهبيّ) الذي كانت فيه أوروبّا عامرة بحضارتي الإغريق والرومان كان العرب سياسيًّا إمّا قبائل متناحرة في حروب داحس والغبراء، والبسوس، وإمّا دولًا قليلة الشأن تابعة للقوى العظمى التي تحيط بها من فرس وروم وأحباش، أمّا التقدّم العلميّ والإداريّ والقانونيّ الذي امتازت به أوروبّا فليس للعرب حظٌ منه في هذه الحقبة.

وإذا كان العصر الوسيط في التاريخ الأوروبيّ يحمل دلالات التخلّف والانحطاط، ويمثّل أفول نجم أوروبّا وغرقها في ظلام العزلة والجهل والفوضى، فإنّ العرب كانوا في تلك الحقبة يتهيأون للخروج من التبعيّة إلى السيادة والاستقلال، فعندما كانت الوحدة السياسيّة تتمزّق في الإمبراطوريّتين الساسانيّة والبيزنطيّة؛ كان العرب في ذلك الوقت يبنون وحدتهم السياسيّة، ويرفعون قواعد حضارتهم المقبلة، التي نشرت سيادتها على أطراف القارات الثلاث في أقل من قرن.

وإذا كان “العصر الحديث” في التاريخ الأوروبيّ يرمز إلى الخروج من عصور الظلام والدخول في عصر النهضة والأنوار فإنّ عكس ذلك حدث في هذه الحقبة من التاريخ العربيّ، فربّما يكون وضع العرب أسوأ ممّا كانت عليه أوروبّا في عصرها الوسيط، إذ حافظت أغلب دول أوروبّا على استقلال ترابها، بينما أصبح تراب الدول العربيّة مستعمرًا من الأوروبيّين، وأصبح العرب في هذه الحقبة تابعين بعدما كانوا متبوعين، يحاولون اقتباس الأنوار من الحضارة الغربيّة ليخرجوا من ظلامهم.

إنّ مقارنة تحقيب التاريخ الأوروبيّ بمقابله الزمنيّ في التاريخ العربيّ يكشف أنّ هذا التحقيب الثلاثيّ يختلف في أغلب جوانبه عن مسيرة تاريخنا العربيّ، وأنّ تطبيق هذا التحقيب على تاريخ الأمّة العربيّة ما هو إلّا ضربٌ من التكلّف، فلا مفرّ لمن يطبقه من أحد أمرين: – إن لم يكن كلاهما – إمّا أن يُحمّل التحقيب، أو يُحمّل التاريخ العربيّ ما لا يحتمل. ويؤكّد محمد حواش “أنّ التحقيب الثلاثيّ في صيغته الأوروبيّة الليبراليّة، لا ينطبق في كثيرٍ من جوانبه والمسيرة التاريخيّة التي قطعها المجتمع العربيّ ودوله، وأنّ إسقاطها على تاريخنا تترتّب عليه نتائج غير محمودة العواقب”([20]). ولا شكّ في أنّ لكلّ أمّة خصوصيّتها، ولا بدّ من مراعاة هذه الخصوصيّة عند وضع تحقيب لتاريخها، فإنّ إسقاط تحقيب تاريخ أمّة من الأمم على تواريخ الأمم الأخرى يؤدّي إلى جرّ مسيرة التاريخ في اتجاه يخالف اتجاهها الفعليّ.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ التراث العربيّ عرف تحقيبًا ثنائيًّا، إن صحّ التعبير، إذ يقسّم الدارسون الشعراء تقسيمًا ثنائيًّا، فيجعلون منهم (المتقدّم والمتأخر) و(القديم والمحدث) و(السابق واللاحق) و(العربيّ والمولّد) و(الأصيل والدّخيل) وهناك (شعراء الطبع، وشعراء الدربة) وعرف التراث العربيّ تقسيمًا ثلاثيًّا فهناك الجاهليّ والمخضرم والإسلاميّ، وعرفوا تحقيبًا رباعيّا إذ قسّموا الشعراء إلى جاهليّ، ومخضرم، ومولّد، ومُحدث، وظلّت هذه التقسيمات التراثيّة حاضرةً في مؤلّفات تاريخ الأدب العربيّ، واستمرّ المؤرّخون في استعمال تلك المصطلحات التراثيّة.

ولقد وجد التحقيب الثلاثيّ طريقه إلى تاريخ أدبنا العربيّ، فهناك مؤرّخون قسّموا أدبنا العربيّ إلى ثلاث حقب، فمنهم من حافظ على ألفاظ مصطلحات التحقيب الأوروبيّ الثلاثيّ (قديم، وسيط، حديث) ومنهم من غيّر في الألفاظ وأبقى على المضمون. فقد قسّم عمر فرّوخ الأدب العربيّ إلى ثلاث حقب (الأدب القديم، الأدب المُحدث، الأدب الحديث) وتبدأ الحقبة الأولى من أقدم عصور الجاهليّة إلى آخر العصر الأمويّ، فتمتدّ نحو ثلاثمئة سنة، أمّا الحقبة الثانية فتبدأ من قيام الدولة العبّاسيّة (سنة 132، 750) إلى مطلع القرن التاسع عشر الميلاديّ، والحقبة الأخيرة تبدأ من مطلع القرن التاسع عشر وما زالت مستمرة إلى اليوم([21]). وما التحقيب الثلاثيّ الذي انتهجه فرّوخ إلّا إطار كبير تندرج تحته تقسيمات صغرى تخضع – غالبًا – للعامل السياسيّ، وقد تخضع أحيانًا للعامل الجغرافيّ.

ويتحدّث حنّا الفاخوري في كتابه تاريخ الأدب العربيّ عن ثلاثة أطوار مرّ بها الأدب العربيّ نتيجة للعامل الثقافيّ، و”كان التطوّر عادةً وليد احتكاك العرب بعضهم ببعض، أو احتكاكهم بغيرهم من الشعوب والحضارات والثقافات؛ فكان الاحتكاك يولّد عادةً نهضةً أدبيّةً ذات نزعة خاصة”([22]). فظهرت – حسب الفاخوريّ – ثلاث نهضات: الأولى “النهضة الجاهليّة والأمويّة”؛ والثانية “النهضة العباسيّة”؛ والأخيرة “النهضة الحديثة”. وهذا التقسيم الثلاثيّ للأدب العربيّ حسب التحوّلات الثقافيّة، أو ما يطلق عليه “النهضات الثلاث” لا يحيد عن التحقيب الثلاثي (قديم، مُحدث، حديث) وإن اختلفت المسمّيات. ويقول الفاخوري بعد أن عرض تحقيبه الثلاثيّ القائم على النهضات الثلاث: “وعلى هذه الصورة يمكننا تقسيم الأدب العربي”([23]) فإذا به يقسّمه إلى خمسة عهود: العهد الجاهليّ، والعهد الراشديّ والأمويّ، والعهد العبّاسيّ، والعهد التركيّ، وعهد النهضة، وعلى هذا فإنّ التحقيب الثلاثيّ الذي تحدّث عنه الفاخوري قد ذاب واختفت معالمه في التحقيب الخماسيّ.

وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ الفاخوري اعتمد التحقيب الثنائيّ (قديم، حديث) في كتابه “الجامع” إذ جعله في جزأين، وعنوَن الجزء الأول بـ الجامع في تاريخ الأدب العربيّ القديم، والثاني بـ الجامع في تاريخ الأدب العربيّ الحديث، إلّا أنّ الجزء الأول من الثنائيّة (القديم) يتفرّع إلى ثلاثة فروع رئيسة: أولها “الأدب القديم”، وثانيها “الأدب المولّد” وآخرها “الأدب المنهار” أو “أدب الانحطاط”، أما في الجزء الثاني من الثنائيّة (الحديث) فقد قسّم تاريخ الشعر الحديث إلى ثلاث مراحل: أولاها “مرحلة الرطانة الفكريّة والتعبريّة”؛ وثانيتها “مرحلة التقليد الواعي”؛ وآخرها “مرحلة ما بين التقليد والتجديد”. ولم يجعل للنثر مراحل كالتي جعلها للشعر، بل تناوله على الإجمال، ويبدو أنّ تحقيب الفاخوري في الجامع أقرب إلى التحقيب الرباعيّ (قديم ، مولّد ، منهار “منحط”، حديث) منه إلى التحقيب الثنائيّ (قديم، حديث) إلّا أنّه يبقى تحت مظلّة التحقيب السياسيّ الذي كان حاضرًا في كل حقبة من تلك الحقب الأدبيّة[24].

وليس عسيرًا إدراك العلاقة بين التحقيب الأوروبّي والتحقيب الذي انتهجه الفاخوري، وإن كان الأول ثلاثيًّا والآخر رباعيّاً، فلا شكّ في أنّ حقبة “الأدب المُنهار أو أدب الانحطاط” كما يطلق عليها الفاخوري تقابل حقبة “العصر الوسيط” الذي يحمل دلالة التخلّف وعصور الظلام في التحقيب الأوروبيّ، فحقبة “أدب الانحطاط” عند الفاخوري تحمل الدلالة نفسها إذ يقول: “كان هذا العصر بمجمله وبالًا على الأدب”([25]) كما يؤكّد أنّه “لمّا جاء العهد العثمانيّ انحطّ الأدب العربيّ إلى أسفل الدّركات”([26]).

إنّ المؤلّفات التي انتهج أصحابُها التحقيب الأوروبيّ في تأريخ أدبنا العربيّ تكشف عن الكثير من الإشكاليّات التي اعترتها نتيجة تمثّل ذلك التحقيب الثلاثيّ، فهو تحقيب يلائم المسيرة الفعليّة للتاريخ الأوروبيّ، وهذه المسيرة التاريخيّة الأوروبيّة تختلف في أغلب جوانبها عن مسيرة تاريخنا العربيّ، وهذا ما كشفته المقابلة الزمنيّة بين الحقب في التاريخين العربيّ والأوروبيّ، ففي حقبة قوتهم وازدهار حضارتهم، كنا في حقبة  تشرذمنا وتناحرنا وضعفنا، وفي حقبة ضعفهم وتخلّفهم؛ كنا في حقبة قوّتنا وازدهار حضارتنا، وفي حقبة نهضتهم؛ كنا في حقبة انهزامنا واحتلال ديارنا، فهذا التحقيب الثلاثيّ لا ينسجم زمنيًّا مع واقع مسيرة تاريخنا العربيّ.

ولا شكّ في أنّ هناك من يحتفظ بمصطلحات التحقيب الأوروبيّ ويبدّل الامتدادات الزمانيّة لكلّ حقبة بما يناسب – في نظره – مسيرة التاريخ العربيّ، إلّا أنّ عمله هذا أشبه ما يكون بمن يحاول تعديل ثوب فُصّل على مقاس غيره ولبسه حتى أبلاه، فمهما حاول تعديله يبقى ذلك الثوب مرقّعًا، فالدلالات الرمزيّة لمصطلحات التحقيب الثلاثيّ: (قديم، وسيط، حديث) في التصوّر الجمعيّ العربيّ لن تكون نفسها في التصوّر الجمعيّ الأوروبيّ.

ومن إشكاليّات توظيف التحقيب الثلاثيّ في تأريخ الأدب العربيّ أنّ المؤرّخ يسقط حقبًا أوروبيّةً محدّدةً تحديدًا زمنيًّا دقيقًا على تاريخ لم تُحدّد أزمنة الحقب فيه حتى الآن، فالحقب الثلاث في التاريخ الأوروبيّ واحدة عند كلّ المؤرّخين، لا يختلف عليها اثنان، وليس هذا شأن الحقب في التاريخ العربيّ، إذ لا يكاد يجتمع اثنان على الحدود الزمانيّة لتلك الحقب الثلاث.

إنّ محاولات التأريخ لأدبنا على وفق الحقب الأوروبيّة لم تستطع إقصاء التحقيب السياسيّ فقد ظل الانتقال بين الحقب رهين الأسر الحاكمة، فالتحقيب الأوروبيّ سواء اتخذ الشكل الثنائي (قديم، حديث) أو الثلاثيّ (قديم، محدث حديث) أو الرباعيّ (قديم مولّد، محدث، حديث) ظلّ حضوره في مؤلّفات تاريخ الأدب العربيّ حضورًا صوريًّا، أمّا الحضور البارز فكان بلا شكّ للتحقيب السياسيّ، ولم تستطع تلك المحاولات إلغاء خصوصيّة مسيرة تاريخ الأدب العربيّ عن مسيرة تاريخ الأدب الأوروبيّ، إلّا أنّها لجأت إلى تحميل الأدب العربيّ ما لا يحتمل. بيد أنّ إشكاليّات التحقيب الثلاثي التي أشرنا إليها لا تنفي صلاحيّة هذا التحقيب إذا ما وجد الوعي النقدي القادر على وضع فواصل دقيقة تحدد التحولات الأدبيّة بين حقبة وأخرى، فعدم دقة هذه الفواصل جعل محاولات التحقيب الثلاثي حبيسة التأطير النظريّ؛ إذ لم تجد هذه المحاولات متنفسًا للتطبيق في وطننا العربيّ في ظل تصميم مناهج مدرسيّة وأكاديميّة قائمة على الحقب السياسيّة أو على الأجناس أو المذاهب الأدبية.

ثالثًا: التحقيب السياسيّ

التحقيب السياسيّ هو الأكثر انتشارًا بين مؤرّخي الأدب العربيّ سواء أكانوا عربًا أم مستشرقين، فهذا النمط صار سائدًا في تاريخ الآداب الأوروبيّة في القرن التاسع عشر، “فمنذ أن وضع أندري دوشين (Andre Duschesne) كتابه (تاريخ فرنسا الأدبيّ) سنة 1733 منتحيًا هذا المنهج، ومعظم المؤرّخين يأخذون بطريقة التقسيم الزمنيّ في أعمالهم الواحد تلو الآخر”([27]). ولم يقتصر الأخذ بهذا المنهج على تأريخ الآداب الأوروبيّة، بل أخذ به أغلب مؤرّخي الأدب العربيّ، فجاء تأريخهم للأدب مقسّمًا حسب العصور السياسيّة، ويظهر أنّ انتقال هذا النمط التحقيبيّ من الغرب إلى الشرق كان نتيجة طبيعيّة للتلاقح الفكريّ والتبادل المعرفيّ، وبخاصة أنّ العرب قد انفتحوا في تلك المرحلة التاريخيّة على الثقافة الغربيّة، فتأثروا بها، واقتبسوا من منهاجها، فانتقال هذا النمط التحقيبيّ إلى العرب يبدو حتميًّا؛ لأنّ بدايات التأريخ للأدب العربيّ كانت على يد المستشرقين.

وهكذا ظهرت تباعًا محاولات تأريخ الأدب العربيّ على يد المستشرقين، فكان أول كتاب ظهر عام (1850) على يد المستشرق النمسويّ هامر يورجستال، ثم توالت بعده كتب تاريخ الأدب العربيّ بالظهور على يد المستشرقين والعرب وبلغت من الكثرة إلى درجة أنّ بروكلمان يقول عندما ذكر نماذج منها: “لا نستطيع أن نسمي هنا إلّا بعض هذه الكتب”([28]). وقد كانت للمستشرقين إسهامات كبيرة في وضع تصوّرات جديدة لتأريخ الأدب العربيّ؛ إذ صدر عام (1898) كتاب “تاريخ الأدب العربيّ” للمستشرق الألمانيّ كارل بروكلمان ويُعدّ هذا الكتاب الأكثر تأثيرًا فقد كان له الدور الأبرز في توجيه مؤلّفات تاريخ الأدب العربيّ التي جاءت بعده، وعن طريقه انتقل التحقيب السياسيّ إلى المؤلّفات العربيّة.

ولا شكّ في أنّ سهولة بناء الحقب الأدبيّة على وفق التقلّبات السياسيّة من العوامل التي جذبت المؤرّخين لانتهاج هذا النمط التحقيبيّ، وكانت الأهداف التعليميّة التي تضمنتها مؤلّفات تاريخ الأدب من العوامل الأساسيّة التي أسهمت في انتشار هذا النمط، فهو أقرب مأخذًا للتلاميذ من ناحية التنظيم والترتيب، والتسلسل الزمنيّ، إلّا أنّ سهولة تحديد الحقب في هذا النمط، وملاءمته للمناهج الدراسيّة، وسعة انتشاره في مؤلّفاتنا العربيّة، لا يعني بأيّ حال من الأحوال أنّه التحقيب الأنسب لتأريخ أدبنا العربيّ، إذ تعتريه إشكاليّات كثيرة تكشف عنها القراءة الواعية السابرة للمؤلّفات التي اتّخذته منهجًا.

إنّ بناء تحقيب تاريخيّ عام يختلف عن بناء تحقيب خاص، إذ لا بدّ من مراعاة خصوصيّة المجال الذي يُؤرّخ له عند بناء التحقيب، فينبغي أن تكون الفواصل بين الحقب منبثقة من طبيعة المجال الذي يؤرّخ له، وعلى هذا تختلف الفواصل بين الحقب السياسيّة، عن الحقب الأدبيّة، فالتحقيب الخاص لا بدّ أن يكون متجانسًا ليوافق التخصّص الذي انبنى عليه، على خلاف التحقيب العام فإنّه غير متجانس ولهذا “لا عجب إذا وجدنا صعوبة كلّما أردنا أن نُدخل فيه تحقيب الفنّ أو الاقتصاد أو العقيدة، إنّه لا يوافق تمام الموافقة إلّا التخصّص الذي انبنى عليه من الأصل”([29]). فحتّى تكون حقب التاريخ الخاص متجانسة لا بدّ أن تحدّد بداياتها ونهاياتها من قبل مختصّين في المجال الذي يُراد التأريخ له، فكما أنّ الحقب السياسيّة تنبني على يد السياسيّين، ينبغي كذلك أن تنبني الحقب الأدبيّة على يد الأدباء والنّقاد.

ويبدو أنّ إعفاء مؤرّخ الأدب نفسه من مهمّة التحقيب، واتّكائه على تحقيب بناه غيره يعطي مؤشّرًا واضحًا على صعوبة تحقيب الفنّ عامّة والأدب بخاصّة. إلّا أنّ هذه الصعوبة لا تسوّغ بأيّ حال من الأحوال إخضاع التحقيب الأدبيّ لمعايير غير أدبيّة كما هو الشأن في اتّباع التحقيب السياسيّ، وقد نجمت عن تطبيق الحقب السياسيّة على تاريخ الأدب العربيّ إشكاليّات كثيرة منها: اختلاف عدد الحقب بين المؤرّخين، وتفاوت امتدادها الزمنيّ، وتنوّع مسمياتها.

ومن إشكاليّات تطبيق التحقيب السياسيّ اضطرار مؤرخ الأدب للخروج عن المنهج؛ إذ يجد نفسه مضطرًّا إلى الخروج عن التحقيب السياسيّ الذي انتهجه؛ ليتمكّن من تأريخ أدب الأقاليم التي لا تشملها تلك الحقب السياسيّة، كما هو شأن الأدب الأندلسيّ، إذ لا يجد مؤرّخ الأدب مدخلًا لضمّه إلى العصر العبّاسيّ بحكم خروج إقليم الأندلس عن سيادة الدولة العباسيّة، وخضوعه للحكم الأمويّ الذي انتهى عصره حسب التحقيب السياسيّ، فالامتداد الزمنيّ يحتّم ضمه إلى أدب “العصر العباسيّ”، والانتماء السياسيّ يأبى عليه ذلك، ولهذا يَخرج مؤرّخ الأدب عن منهجه التحقيبيّ ليؤرّخ الأدب الأندلسيّ إقليميًّا، فيفصله عن أدب الأمة العربيّة التي ينتمي إليها.

ومن إشكاليّات تطبيق التحقيب السياسيّ أنّه أوجد ثنائيّة المركز والهامش أو ما يمكن أن نطلق عليه ثنائيّة المركز والأطراف فصبَّ المؤرخون اهتمامهم على القلب الذي يمثل المركز السياسيّ وأهملوا التأريخ لأدب الأطراف، فكان التغييب نصيب أدب الغرب الإسلاميّ والخليج العربيّ. فالأخذ بالعامل السياسيّ في تقسيم الأدب لا يمكن اعتماده في كل الأقطار العربيّة، إذ إنّ الأقطار العربيّة لم تخضع كلها لزعامة سياسيّة واحدة.

ومن إشكاليّات تطبيق التحقيب السياسيّ تداخل الخصائص الفنيّة بين الحقب الأدبيّة،  فإسقاط الحقب السياسيّة على تاريخ الأدب العربيّ يجعلنا أمام حقب أدبيّة مستقلّة عمّا قبلها وما بعدها، إلّا أنّ الواقع الأدبيّ لتلك الحقب خلاف ذلك، فالمتمعّن في خصائص الأدب في العصر الجاهليّ والنبويّ والراشديّ والأمويّ يدرك أنّه ليس هناك عُرفٌ أدبيٌّ جديدٌ ظهر ليفصل بين تلك العصور الأربعة، إلّا أنّهم يتكلّفًون في اصطناع خصائص فنيّة لكلّ عصر من تلك العصور على حدة، فإسقاط ذلك التحقيب على تاريخ الأدب يؤدّي إلى تقطيع الحقب على وفق العامل السياسيّ، دون وجود أيّ مبرّرٍ أدبيٍّ يستوجب ذلك التقطيع، فيُقسّم الأدب إلى حقب لا صلة تربطها بالمعايير الأدبيّة والخصائص الفنّيّة.

ويُمثّل تصنيف الأدباء في الحقب الأدبيّة إشكاليّة تعتري تطبيق التحقيب السياسيّ؛ إذ إنّ الانتقال من حقبة أدبيّة إلى أخرى مرهونٌ بالتقلّبات السياسيّة؛ ولهذا لا بدّ من وجود أدباء عاشوا في نهاية حقبة وبداية أخرى، فأدركوا حقبتين فصار تصنيفهم مستعصيًا على مؤرخي الأدب، فإما أن يضعوهم في واحدة من الحقبتين أو يطلقوا عليهم مصطلح المخضرمين.

ومن إشكاليّات التصنيف ما كان بسبب البعد الإقليمي الذي يغفله التحقيب السياسيّ، فنسبة الأدب إلى بني العبّاس جعلت المؤرّخين يصطدمون عند التصنيف بوجود أدباء لا ينتمون سياسيًّا إلى دولة بني العبّاس كما هو شأن أدباء الأندلس، فلم يكن مقبولًا تصنيف أدباء الأندلس ضمن الأدباء العباسيّين، فالتصنيف السياسي لهم أمويّ، والعصر الأدبيّ المؤرّخ له عباسيّ، ولهذا لم يجد المؤرخون سبيلًا لتصنيف أدباء الأندلس ضمن العصر العبّاسيّ فكان الحلّ بتناول الأدب الأندلسيّ مستقلًّا عن باقي أدب الأمّة العربيّة.

رابعًا: التحقيب الثقافيّ

إنّ المطّلع على المنجز العربيّ في التأريخ الأدبي لا يعثر على مؤرّخ تبنّى تطبيق النظريّة الثقافيّة تطبيقًا كاملًا في تأريخه للأدب العربيّ، فحضور النظريّة الثقافيّة في مؤلّفات المؤرّخين العرب لا يتجاوز إشارات عابرة عن آثار الثقافات الأخرى في الأدب العربيّ. ومن دون شكّ فإنّ تلك الإشارات المحدودة في مؤلّفاتهم لا تعني بأيّ حال من الأحوال أنّهم تمثّلوا هذه النظريّة في تأريخهم لأدبنا العربيّ؛ إلّا أنّنا لا نعدم ذلك في ما كتبه المستشرقون من أمثال ر. بلاشير في كتابه تاريخ الأدب العربيّ، وأندريه ميكال في كتابه الأدب العربيّ، و س. موريه في كتابه الشعر العربيّ الحديث (1800ـ 1970) تطوّر أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربيّ.

ولا يمكن إخضاع التحقيب الثقافيّ للخطيّة الزمنيّة التي تخضع لها أنماط التحقيب الأخرى، فهناك شعراء أقرب فكريًّا إلى العصر الحديث على الرغم من أنّهم ينتمون زمنيًّا إلى عصور غابرة، وشعراء بعيدون عن العصر الحديث فكريًّا على الرغم من أنّهم ينتمون زمنيًّا إلى عصرنا، وهذا ما أشار إليه  أدونيس بقوله: “أعتبر طرفة بن العبد، وعروة بن الورد، وامرأ القيس، وذا الرمة، وأبا تمام، وأبا نواس، والمتنبي، والشريف الرضي، والنفري، وكثيرين غيرهم بطرائق تعبيرهم في كثير من قصائدهم في عالمنا الشعري الحاضر، الذي نسميه حديثا وأرى أنّهم أقرب إلينا من شعراء كثيرين يعاصروننا ويعيشون معنا في مدينة واحدة. ذلك أنّ نتاجهم يكتنز بهاجس البحث عن عالم جديد، عن واقعٍ آخر فيما وراء الواقع”([30]).

ويبدو جليًّا أن أدونيس ينفي إمكان إخضاع الإنتاج الأدبيّ العربيّ إلى الخطية الزمنيّة عند التصنيف إلى عصورٍ ثقافيّة، ولا شكّ في أنّ التصنيف الثقافيّ للإنتاج الأدبيّ ووضع الأدباء في عصور ثقافيّة حسب طبيعة إنتاجهم ليس أمرًا سهلًا، إذ لا توجد قوالب جاهزة للتصنيف، ولا حدود زمنيّة ثابتة للتحقيب كما هو الشأن في الأنماط التحقيبيّة الأخرى.

وقد اتّخذ بلاشير العامل الثقافيّ أساسًا لتحقيب الأدب العربيّ، فأولى اهتمامًا كبيرًا بالمراكز العقليّة، والتيّارات الفكريّة التي أسهمت في تطوير الأدب شكلًا ومضمونًا وهذا ما يؤكّده في مقدمته إذ يقول: “عنينا بتطوّر المجتمع الإسلامي أكثر منه بالحوادث السياسيّة، كما عنينا بإشعاعات المراكز العقليّة وظهور التيّارات الفكريّة التي أوجدت أشكالًا أدبيّة جديدة، أو فرضت تجديدًا على الصيغ القديمة”([31]).

ومن المؤرّخين الذين اتّبعوا التحقيب الثقافيّ للأدب العربيّ المستشرق الفرنسيّ أندريه ميكال إذ يؤكّد في مقدّمة كتابه أنّ الأدب العربيّ لا يمكن حصره في إنتاج العرب وحدهم لأنّ اللغة العربيّة أصبحت لغة عالميّة منفتحة على الأعراق الأخرى، كما لا يمكن حصر هذا الأدب في المسلمين وحدهم لأنّ اللغة العربيّة أصبحت منفتحة على الديانات الأخرى، وانفتاح اللغة العربيّة على أعراقٍ غير العرب وعلى أديانٍ غير الإسلام يدل على أنّ الأدب المكتوب باللغة العربيّة أدب منفتحٌ على ثقافاتٍ متنوّعةٍ، ولهذا لا يُقصد تحديد عرق الكاتب عند وصف هذا الأدب بأنّه عربيٌّ لأنّ في هذا التحديد حسب نظر ميكال “مجازفة؛ فنصيب ذلك من الصحة يكون أضعف لا سيّما أنّ اللغة العربيّة هي ناقلة دين ينزع إلى العالميّة أي الإسلام وهو تجمّع أممٍ مختلفةٍ، وجدت نفسها تُوهب إلى جانب عقيدةٍ مشتركةٍ لغةٍ اعتبرت مثاليّة إذ هي عماد الوحي”([32]). 

وإذا كان بلاشير وميكال قد تتبّعا كلّ الحقب الثقافيّة في مسيرة الأدب العربيّ من النشأة إلى العصر الحديث فإنّ س. موريه قد اقتصر في كتابه الشعر العربيّ الحديث (1800ـ 1970) على تطوّر أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربيّ على حقبة ثقافيّة واحدة هي حقبة العصر الحديث، وعلى فنٍ واحد هو الشعر، إلّا أنه يشترك مع سابقيه في الأساس الثقافيّ الذي ينطلق منه في تأريخ تلك الحقبة، وحسب رأيه “أدى تأثير الغرب إلى إحداث تغيير كبير في الوطن العربيّ تجاوز مداه الجوانب التكنولوجيّة والعسكريّة إلى المجالات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأدبيّة، بيد أنّ آخر مجال ظهر فيه النفوذ الغربيّ كان مجال الأدب، كما كان آخر فنون الأدب تأثرًا بنفوذ الغرب هو فنّ الشعر”([33]).

إنّ اعتماد التحقيب الثقافيّ في تأريخ الأدب العربيّ قد يحلّ إشكاليّات اعترت التحقيبين الثلاثيّ والسياسيّ إلّا أنّه لا يستطيع تجاوز كلّ الإشكاليّات، فهناك إشكاليّات مشتركة بين الأنماط التحقيبيّة الثلاثة لم يستطع التحقيب الثقافيّ تجاوزها شأنه في ذلك شأن التحقيبين السابقين، إضافة إلى إشكاليّات خاصة بهذا النمط التحقيبيّ، ولا شكّ في أنّ كثرةَ تمثّل مؤرّخي الأدب للتحقيب السياسيّ في مؤلّفاتهم جعلت إشكاليّات هذا النمط أكثر بروزًا ووضوحًا، إذ يستطيع الدارسون الرجوع إلى مؤلّفات تاريخ الأدب التي تسير على وفق التحقيب السياسيّ فيجدون تلك الإشكاليّات ماثلةً أمامهم، وكذلك الشأن في التحقيب الثلاثيّ وإن كان أقلّ حضورًا من التحقيب السياسيّ، أمّا البحث عن إشكاليّات التحقيب الثقافيّ فشأنه مختلفٌ تمامًا؛ لندرة المؤلّفات التي تتمثّل هذا النمط التحقيبيّ، وعلى الرغم من هذه الندرة فمن الممكن الوقوف على أبرز إشكاليّات هذا النمط التحقيبيّ.

فمن أبرز الإشكاليّات التي تعتري هذا النمط إشكاليّة بناء الحقب الثقافيّة؛ إذ إنّها ليست قوالب جاهزة كما هو الشأن في النمطين السابقين، وهذا يعني أنّ تحديد بدايات الحقب ونهاياتها ليس أمرًا سهلًا، بل هو في غاية التعقيد، فإذا استطاع المؤرخون تحديد البداية الزمنيّة لاختلاط العرب بكلّ من الفرس، واليونان، والترك، والأوروبيّين؛ فليس من السهولة تحديد بداية دقيقة لتأثر العرب بثقافات تلك الأمم، إذ إنّ بداية الاتصال لا تعني بأيّة حال بداية التأثّر. ويبدو الأمر أكثر تعقيدًا عند محاولة تحديد البداية الفعليّة لظهور أثر تلك الثقافات في الإنتاج الفكريّ لأبناء الأمّة العربيّة، ولا شكّ في أنّ تأثّر الأمّة بثقافات الأمم الأخرى أمرٌ مسلّم به، إلّا أنّ الإشكاليّة تكمن في التحديد الدقيق لبداية ذلك الأثر الثقافيّ ونهايته، حتى يمكن إطلاق مصطلح “حقبة ثقافيّة” على الامتداد الزمنيّ الواقع بين بداية ظهور الأثر الثقافيّ ونهايته، ثمّ ظهور أثرٍ ثقافيّ جديد يدلّ على بداية حقبة ثقافيّة جديدة.

واختلف المؤرخون في عدد الحقب الثقافيّة التي مرّت بها الأمّة العربيّة، فهي عند الفاخوري ثلاث حقب، وعند أندريه ميكال أربع حقب، وعند بلاشير خمس حقب، وقد أكّد الفاخوريّ أن الأدب العربيّ “تطوّر متقلّبًا مع التاريخ من حالٍ إلى حال؛ وكان التطوّر عادةً وليد احتكاك العرب بعضهم ببعض، أو احتكاكهم بغيرهم من الشعوب والحضارات والثقافات؛ فكان الاحتكاك يولّد عادةً نهضةً أدبيّةً ذات نزعة خاصة”([34]). أمّا بلاشير فقد قسّم الأدب العربيّ حسب العوامل الثقافيّة إلى خمس عصور: الأول عصر الدعوة؛ والثاني العصر الذهبيّ؛ والثالث يبدأ مع نهاية الربع الأول من القرن الرابع الهجريّ، إنّه عصر المتنبي وأبي فراس؛ والرابع يشمل بدايات اليقظة في منتصف القرن الثامن عشر؛ والعصر الخامس تقع بدايته بين عامي (1860 – 1881) إنه عصر الخروج من العزلة وشيوع الصحافة، وميلاد أجناس أدبيّة جديدة([35]).

وتبدو الحقب الثقافيّة أكثر وضوحًا عند أندريه ميكال إذ قسّم الأدب العربيّ إلى أربعة عصورٍ ثقافيّة: أولها أدب الفاتح، ويبدأ بظهور الإسلام إلى قيام الدولة العباسية؛ وثانيها أدب الالتقاءات، وهو عصر الدولة العباسيّة؛ وثالثها أدب الذكرى”، ويبدأ من سقوط بغداد، وينتهي بعصر النهضة؛ وآخرها أدب النهضة، “وهو بالنسبة إلى البلاد العربيّة عهد الاصطدام مع غرب الإمبرياليّة وأنّ العرب بتأثير ذلك سيكتشفون عالمًا لم يكونوا يفكرون فيه”([36]).

وكما أنّ لكلّ حقبة سياسيّة مركزًا سياسيًّا فكذلك لكلّ حقبة ثقافيّة مركز ثقافيّ؛ إذ يصبّ المؤرّخون اهتمامهم على المركز الثقافيّ كما صبّوا اهتمامهم على المركز السياسيّ وإذا كان المؤرّخون قد انجذبوا إلى العواصم السياسيّة دون غيرها من الأقاليم؛ فكذلك انجذبوا إلى العواصم الثقافيّة دون غيرها من الأقاليم، فلا شكّ في أنّ إشكاليّة المركز والأطراف من الإشكاليّات التي اعترت التحقيب الثقافيّ

ومن إشكاليّات هذا النمط التحقيبيّ إهمال الجوانب الأدبيّة والفنيّة؛ فقد جعل التحقيب الثقافيّ الأدب وثيقة لتأريخ الفكر والفلسفة “إذ إنّ تاريخ الأدب يتمشّى مع التاريخ الفكريّ ويعكسه، وكثيرًا ما تبيّن الأقوال الصريحة أو الإيماءات ولاء الشاعر لفلسفة بعينها، أو تثبت معرفته المباشرة لفلسفات كانت شائعة، أو إدراكه لفروضها العامة”([37]) إلّا أنّ ربط تاريخ الأدب بتاريخ الثقافة والفكر، يجعل التاريخ الأدبيّ غارقًا في تتبّع الأفكار والفلسفات، على حساب تتبّع التطوّر الفنيّ للمسيرة الأدبيّة، فتتبّع التحوّلات الثقافية والفلسفيّة في الإنتاج الأدبيّ لا يعكس بالضرورة التطوّر الفنيّ.

وتصنيف الأدباء من الإشكاليّات التي اعترت التحقيب الثقافيّ؛ إذ إنّه لا يخضع للخطيّة الزمنيّة التي يسير عليها التحقيب السياسيّ، ولا شكّ في أنّ تصنيف الأدباء على وفق هذا النمط التحقيبيّ لا يمكن إخضاعه للخطيّة الزمنيّة التي يخضع لها تصنيف الأدباء في التحقيب السياسيّ، فقد ينتمي الأديب زمنيًّا إلى عصر بينما ينتمي إبداعه الأدبيّ إلى عصر ثقافيّ آخر، ولهذا فإنّ التصنيف من الإشكاليّات المعقّدة التي تعتري التحقيب الثقافيّ.

خاتمة

تكشّفت لنا من خلال تتبعنا لمناهج التقسيم الزمني في التأريخ للأدب العربيّ جملةٌ من النتائج أهمها:

– إنّ أغلب مؤرّخي الأدب العربيّ قد اتّبعوا ثلاثة أنماط من التقسيم الزمنيّ هي: التحقيب الثلاثيّ، والتحقيب السياسيّ، التحقيب الثقافيّ.

– إنّ اعتماد التحقيب الثلاثيّ: (قديم، وسيط، حديث) في تقسيم الأدب العربيّ أدّى إلى إسقاط حقبٍ أوروبيّةٍ محدّدةٍ تحديدًا زمنيًّا دقيقًا على التاريخ العربيّ الذي لم تُحدّد أزمنة الحقب فيه حتى الآن.

– إنّ الدلالات الرمزيّة لمصطلحات التحقيب الثلاثيّ: (قديم، وسيط، حديث) تختلف في التصوّر الجمعيّ العربيّ عنها في التصوّر الجمعيّ الأوروبيّ.

– إنّ حضور التحقيب الأوروبيّ في مؤلّفات تاريخ الأدب العربيّ ظلّ حضورًا صوريًّا، إذ ظل الانتقال بين تلك الحقب رهين تعاقب الأسر الحاكمة.

– إنّ أصحاب التحقيب السياسيّ خرجوا عن منطلقاتهم النظريّة، ولهذا لم يتّفقوا على عدد العصور الأدبيّة، ولا على عدد المراحل في العصر الأدبيّ الواحد، وتركوا المراحل الانتقاليّة بين العصور الأدبيّة مراحل فراغ غامض، إذ إنّ الانتقال من عصرٍ إلى آخر أشبه ما يكون بالقفزات المفاجئة، ولهذا لم يتمكّنوا من تمييز العصور بعضها من بعض.

– إنّ اعتماد النظريّة الثقافيّة في تحديد حقب الأدب العربيّ لا يخلو من المجازفة في إطلاق الأحكام العامة على كلّ حقبة ثقافيّة، فدخول الثقافة اليونانيّة أو الفارسيّة أو التركيّة إلى الحضارة الإسلاميّة لم يتأثر به أدباء جميع الأقاليم العربيّة.

– إنّ التحقيب الثقافيّ لم ينل حظًا وافرًا من التطبيق عند مؤرّخي الأدب العربيّ، وأنّ الذين حاولوا تمثّل هذا التحقيب لم يحدّدوا ثقافة بعينها لكلّ حقبة، بل تحدّثوا عن مزيجٍ من الثقافات، وظل الانتقال من حقبة إلى أخرى بقفزاتٍ مفاجئةٍ وفق ما تقتضيه الخطيّة الزمنيّة.

– إنّ اعتماد التحقيب الثقافيّ في تأريخ الأدب العربيّ لا يخلو من مجازفة في إطلاق أحكام عامة على أدباء كلّ حقبة، فدخول ثقافة ما إلى الحضارة الإسلاميّة لا يعني تأثّر الأقاليم كافّة بتلك الثقافة، فالتأثير له حدوده من جغرافيّة الحضارة الإسلاميّة الممتدّة من الخليج إلى المحيط.