في التاريخ الحديث للثورات الوطنية الديمقراطية، وتحديدًا في مرحلتها الأولى (مرحلة التحرر الوطني)، الهادفة إلى إقامة كيانية سيادية سياسية متحررة من الاستعمار، تتأسس وتتبلور فيها الهوية الوطنية-التمثيلية ويتعاظم الفعل الجمعي التراكمي لمخزونها الجماهيري عبر مسيرتها الكفاحية، في روافعها الكفاحية وإنجازاتها الوطنية والتي تستند إلى خيار ومكوّن رئيسي لديمومة فعلها التحرري وإنجازاته: المقاومة بكل أشكالها بهدف التحرر والاستقلال، حيث تنصهر في بوتقتها كل الإمكانات الوطنية والأدوات الكفاحية لتحقيق هدفها المنشود.

والحالة الفلسطينية، ليست استثناءً عن مجموع حركات التحرر العالمية، حيث ينمو ويتجذر في سياق فعلها التحرري ذاته، ما يسمى “المُكوّن البيروقراطي” النفعي والمساوم، الذي يسعى بكل جهده لاستثمار إنجازات الفعل التحرري وتجييره لصالح خياراته وتكتيكاته وتحالفاته المرتبطة بمصالحه وامتيازاته. وهذا “المُكوّن البيروقراطي” ينمو باضطراد وتتعاظم مؤسساته السلطوية، بفعل مأسستها وامتداد خيوطها بالتوازي مع إنجازات الفعل التحرري، مستغلاً سلطته في توجيه وإدارة المشروع الوطني – (بفعل تراكم تعقيداته الداخلية من جهة، وسعيه لربطها مع قوى خارجية من نسيج تحالفاته من جهة أخرى) – ليعزز مكانته ودوره في توجيه دفة الفعل التحرري بما ينسجم مع خياراته السياسية وامتيازاته السلطوية، مستغلًا نموَّه المضطرد ومأسسة تموضعه الذي قد يتجاوز أحيانًا إنجازات الفعل التحرري ذاته، وبدلاً من أن يعمل على تطوير الفعل المقاوم وتعظيم آثاره ومكتسباته على الأرض، يتحول إلى عقبة تعوق تقدمه وتفرط بإنجازاته.

فلسطينياً، تجاور المكوّنان (المقاومة والبيروقراطية) في معظم مؤسسات منظمة التحرير حتى ما قبل أوسلو، ولكن بقي مكوّن المقاومة هو الأساس في تكوين المنظمة وشرعيتها التمثيلية. وبعد قيام السلطة الفلسطينية عام 1994 نتيجة اتفاق أوسلو، على جزء من أرض فلسطين الجغرافية والتاريخية، تعقدت إمكانات تحول الهوية الوطنية الفلسطينية إلى كيانية وطنية ذات سيادة، بسبب طبيعة اتفاق أوسلو ونصوصه واستحقاقاته الذي قامت على أساسه السلطة الفلسطينية، وهكذا تبخرت كل الأوهام والآمال بالمراهنة على انتقال هذه السلطة إلى كيانية فلسطينية سيادية حقيقية.

إن تغوّل “البيروقراطية الفلسطينية” تحت مسمى سلطة فلسطينية “لكيانية فلسطينية”، لم يعد في واقع الحال الإمكان في استئصال امتداداتها العنكبوتية داخل المجتمع الفلسطيني وفي هرم قيادته السياسية، أو “حلحلتها” من قيودها بفعل التزاماتها السياسية والأمنية وشبكة تحالفاتها الخارجية، وخيارات تكتيكاتها ومناوراتها السياسية المكبلة بحمل أثقالها في العدمية والمماطلة والتسويف، ورهاناتها التكتيكية العقيمة سياسياً وسيادياً بفعل انسداد أفقها السياسي وتغوُّل سياسات الاحتلال الاستيطاني وحليفته أمريكا.

إن ما أنتجه أوسلو هو عملياً “سلطة بيروقراطية فلسطينية” مُكبلة بنيوياً باتفاقيات والتزامات أمنية، مجردة من أي مشروع سيادي-سياسي يُشير إلى تحولها – ولو بالتدريج – إلى “كيانية فلسطينية” سيادية مُتحررة من الاحتلال.

أولًا: أسس إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية

 

1- خارطة طريق جديدة

ثمة حاجة ماسة إلى نسق سياسي جديد (خارطة طريق جديدة)، تحدد مساره قيادة سياسية جديدة تمثّل جميع الفلسطينيين ولا تقتصر “إدارتها” السياسية والتمثيلية والخدماتية على جزء من الجغرافية الفلسطينية، بعد إحالة منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها على التقاعد السياسي وبإرادة سياسية من جانب النظام الرسمي الفلسطيني. ذلك يتطلب إعادة التفكير بالرؤية السياسية والاستراتيجية الوطنية الفلسطينيتين، ليتسنى للفلسطينيين جميعًا، أن يتحوّلوا إلى لاعبين سياسيين مُنظمين وأكفاء، يتصدرون المقاومة الوطنية والمجتمعية والمدنية ضد المشروع الكولونيالي الاستيطاني الإسرائيلي.

ورغم الإقرار الشعبي الفلسطيني ومثقفيه بضعف منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها الوطنية والتمثيلية، إلا أنهم لا يزالون يعتبرونها كيانًا حيويًا ووطنيًا (شرعيًا وتمثيليًا)، والمفتاح الرئيسي لإحياء المشروع الوطني الفلسطيني وتجديد روافعه وأدواته، وبخاصة في ما هو نقابي واجتماعي ومدني داخل المجتمع الفلسطيني في كل أماكن حضوره. حيث إن تشتت الشعب الفلسطيني جغرافيًا وتنوع برامجه الوطنية والاجتماعية المحلية ، كفيل بتحقيق هذا التمثيل الديمقراطي من خلال التوافق المحلي في الآراء أو الانتخابات، أو اعتماد النموذج الأمثل للفلسطينيين وهو الديمقراطية الشعبية أو (الشعبوية) التي تمثلها منظمات المجتمع المدني، ما يعزز قدرة الفلسطينيين على التعبئة السياسية والوطنية على امتداد المساحة الجغرافية لوجوده، وتكوين روابط وطنية واجتماعية تجمعهم، لما يمثل هذا النموذج الساحة الحقيقية لإبداء الرأي والتفاعل المجتمعي الفلسطيني-الفلسطيني، وذلك على نقيض النماذج الوطنية الراهنة والقائمة على نهج الأحزاب السياسية التقليدية ونهج السلطة الفلسطينية، والتي هي عرضة لقمع الاحتلال الاسرائيلي والانقسام والشخصنة والفساد السياسي.

2- الشباب الفلسطيني وفاعليته الوطنية

إن تغيير وضع الحالة الفلسطينية الراهن، يحتاج إلى بناء قوة وطنية ضاغطة، يمثل الشباب نواتها المركزية، وما الحراكات الشعبية المطلبية، والمبادرات الاجتماعية والمدنية، والفعاليات الشبابية التي شهدتها الساحة الفلسطينية خلال السنوات الماضية، إلا بداية المنطلق الوطني والخطوة الريادية في بلورة مرتكزات القوة الضاغطة الجماهيرية في الفعل التحرري الفلسطيني، ما يستوجب البحث في ضرورة ربطها بتصور شامل وحراك شعبي عام، قادر على إنتاج هيئاته الوطنية (المحلية والموقعية والتمثيلية السياسية) المعبرة عن طموحاته واستراتيجيته الوطنية في التحرر والاستقلال.

إن الهوية الوطنية والسياسية والثقافية الفلسطينية ما زالت أصداؤها تتردد بقوة، غير أن الشعب الفلسطيني والذي يعاني التشتت السياسي والجغرافي، والاغتراب السياسي عن حالته الوطنية، وتكلُّس الفكر السياسي لمرجعيته، الأمر الذي يزيد الجهود الرامية إلى التجديد المؤسسي (مركزيًا) تعقيدًا. في المقابل، نلحظ هنا وهناك نشاطاً سياسياً واجتماعيا شبابياَ نابضاً بالحياة، الأمر الذي خلق الروابط بين الفئات الشبابية والاجتماعية في مواقعها المختلفة (جغرافيًا)، وأتاح فرصة المشاركة للقيادات الشبابية والمدنية التي كانت تتعرّض للإقصاء من جانب المرجعية الفلسطينية ومؤسساتها في رسم أولويات المواجهة مع المشروع الأمريكي – الإسرائيلي، في الوقت الذي كانت فيه المقاربات الوطنية البديلة التي يجري تبنّيها، (حملة مقاطعة “إسرائيل”، إبداعات المقاومة الشعبية والمدنية السلمية… إلخ)، تنبثق من المجتمع المدني الفلسطيني الناشط وليس من مراكز القوى التقليدية الفلسطينية. بل إن أكثر الفلسطينيين يتوقعون أن يكون المجتمع المدني ومفاعيله، هو المِهاد والتربة الخصبة لزراعة ونمو جيل من القياديين الفلسطينيين الراديكاليين وطنيًا ومبدئيًا في المستقبل القريب.

أ- المسألة التنظيمية

إن أي مشروع تحرري (وطني وسياسي) لا بد له من أن يرتكز على ثلاثة محاور أساسية: (1) المسألة التنظيمية والتمثيلية للجمهور المقاوم وهيكلة إنجازاته ومكتسباته الوطنية؛ (2) قضية الإنتاج المعرفي التحرري في تحديد معالم وأهداف الرؤية السياسية والاستراتيجية الوطنية في المدى القريب والبعيد؛ (3) تحديد أساليب وأدوات الفعل التحرري وروافع استنهاضه.

في الحالة الفلسطينية، لا بد أن تكون المسألة التنظيمية التمثيلية لامركزية في شرعية هيئاتها التمثيلية (النقابية والجماهيرية والوطنية)، ومركزيةً في مبادئها وثوابتها ورؤيتها الوطنية، والوسيلة الوحيدة لهذا الإجراء التنظيمي هي الانتخابات الديمقراطية بالتمثيل النسبي ونظام الدوائر لإتاحة الفرصة المناسبة لأوسع تمثيل شبابي ومستقلين، أو بالإجماع التوافقي الوطني حيث تتعذر الانتخابات في بعض المواقع الجغرافية للوجود الفلسطيني. ويمثل المجلس الوطني الفلسطيني بتجديد عضويته ليشمل كل الشعب الفلسطيني بقواه الفاعلة وأطره الاجتماعية وبخاصة فئة الشباب، وانتظام أعماله في المراجعة والمحاسبة والتشريع، الأساس في تفعيل المنظمة وإعادة بناء هيئاتها ودوائرها ومؤسساتها.

ب- المسألة السياسية

أما المحور الثاني، فيتمثل باعتماد رؤية سياسية واستراتيجية وطنية تقوم على وحدة الشعب الفلسطيني وتلازم حقوقه الثابتة، ووحدة خياراته في المقاومة لإنهاء الاحتلال بكل تجلياته الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والتركيز على مهمات التنمية لكل كيانات الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، وتعزيز صموده على أرضه من خلال توفير مقومات هذا الصمود في مواجهة كل سياسات الاحتلال الاستيطاني. وينبغي أن ترتكز الرؤية السياسية على الفصل بين السلطات: السياسية والإدارية، التمثيلية والخدماتية، بحيث يتم نقل كل الصلاحيات والسلطات السياسية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، واقتصار دور السلطة الفلسطينية على المجال الإداري الخدماتي في مناطق سيطرتها في الضفة والقطاع.

إن إعادة بناء منظمة التحرير وتفعيل مؤسساتها يستوجب بالضرورة إعادة صوغ التوجه الاستراتيجي الفلسطيني الذي يرتكز تحقيقه على شرطين أساسيين: إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني من خلال الفهم الدقيق لطبيعة المرحلة الراهنة وسماتها، وتحديد أدوات شروط المواجهة التكتيكية (السياسية والبرنامجية) ومرتكزات شروط المواجهة الاستراتيجية للمشروع الوطني الفلسطيني، لذلك في هذا السياق، فإن المسار الأكثر جدوى يجب أن يتضمن حوارًا وطنيًا حقيقيًا، بين الكل الفلسطيني دون استثناء، من موقع الشراكة الحقيقية في صنع القرار الفلسطيني المستقل لاستحقاق الهدف الوطني الأساس وهو إنهاء الاحتلال.

ج- الاتحادات والمنظمات الجماهيرية

ترتكز أهمية إعادة بناء الاتحادات والمنظمات الجماهيرية على أسس ديمقراطية نزيهة تمثل الكل الفلسطيني، وتهتم بتعزيز أسس العمل النقابي واستقلاليته من خلال طرح قوانين عمل للتنظيم النقابي، وتفعيل المجلس المركزي للاتحادات الشعبية والجماهيرية، ليرتقي بدوره السياسي والتمثيلي إلى جانب دوره النقابي المؤسساتي. ومن نافل القول، التشديد على إلغاء “الكوتة” والمحاصصة الفصائلية والحزبية في الاتحادات والنقابات، وعدم تدخل السلطة والأحزاب في عملها وتأليف هيئاتها، وتمثيل الفلسطينيين في أماكن وجودهم كافة.

إن الشباب الفلسطيني بمختلف شرائحه الاجتماعية، وما يعانيه من تهميش وإقصاء جراء الانقسام الفلسطيني وسياسات القيادة الفلسطينية، وما نجم عنهما من آثار وانتكاسات وطنية، الأمر الذي يدعو إلى أهمية دعم ومساندة الشباب الفلسطيني للحصول على كامل حقه في جميع الأطر والمؤسسات، وتعزيز دوره في الحياة السياسية والمجتمعية ومواقع اتخاذ القرار، وذلك من خلال تطوير البنى والهياكل التمثيلية للشباب، بما يضمن تفعيل الحركة الطلابية والشبابية عبر إعادة بناء وتفعيل الاتحاد العام لطلبة فلسطين والمنظمات الشبابية الفلسطينية، وضمان العمل على تعزيز التشبيك بين الأطر الشبابية وتنسيق العمل فيما بينها في كل التجمعات الفلسطينية، من خلال بناء جسم تنسيقي مشترك يسهم في تفعيل الأداء في الشأن الوطني والمجتمعي، أي بلورة حراك شبابي يمارس عملية ضغط “شبابي وشعبي” من أجل مواصلة مسيرة النضال في مواجهة الاحتلال، وتعزيز روح الكفاح والمقاومة بأشكالها كافة وبخاصة الشعبية منها، وهكذا نفسح في الطريق مجدداً، أمام جيل الشباب ليُحدِثَ طفرة نوعية في العملية الوطنية، بينما ظل لفترة طويلة جدًا مبعدًا قسرياً عن أداء فاعليته الوطنية وعن المشاركة، في مؤسسات السلطة السياسية المركَّزة في يد شخصيات محدودة في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، حيث ثمة كادر شبابي ومهني فلسطيني ذو قدرة وكفاءة عالية، وتوجهات ورؤى سياسية وطنية جذرية، ولكنهم مشتتون بحكم الجغرافيا والإرادة السياسية الإقصائية. لذلك فالمطلوب، وطنيًا، نظامٌ سياسي مؤسسي يضم قيادات سياسية وطنية وكفاءات شبابية مهنية ذات وجهة استراتيجية وطنية واجتماعية، تتبنى اللامركزية في عملها وترسيم هيئاتها الاختصاصية.

خلاصة

إن الإنكار المتعمد للرسمية الفلسطينية لآثار أوسلو ونتائجه التدميرية فاقم المشكلات الناجمة عنه لعدم إجراء أي مراجعة نقدية له، ما أفضى إلى تكلّس العقل السياسي الفلسطيني السائد، الذي كفّ البحث عن خيارات بديلة، ناهيك بإشاعته البلبلة في إدراكات الفلسطينيين الجمعية، بما فيها إدراكاتهم لمصيرهم المشترك ولعلاقتهم بقيادتهم التمثيلية.

إن السلطة الفلسطينية أخذت بالضمور والانحسار السياسي، وفشلت فشلاً ذريعاً في رعاية جيل جديد من المواهب والكفاءات الشبابية تنموياً ووطنياً، وثمة دلائل واضحة كل الوضوح على هجرة الأدمغة والكفاءات الشبابية من ميدان المواجهة الوطنية والاقتصادية.

إذًا، لا بد من أن يقوم البناء في منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها على أسس وطنية تمثيلية ومؤسسية تشاركية، إضافة إلى أن تتركز مهمتها على تنمية كيانات الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده، وتعزيز صموده على أرضه، وتعزيز وحدته، وتنمية هويته الوطنية وارتباطه بقضيته.

 

قد يهمكم أيضاً

مأزق “الدولة اليهودية” والصراع العربي – الإسرائيلي

عبثية الاستمرار في طريق أوسلو

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #منظمة_التحرير_الفلسطينية #أبو_عمار #ياسر_عرفات #القضية_الفلسطينية #أوسلو #المقاومة_الفلسطينية #الشباب_الفلسطيني