إن قوة الأمم وأساس تقدمها إنما تنهض على قوة مخزونها الثقافي ممّا تمتلكه من مفكرين ومبدعين قادرين على تنوير المجتمع وأنسنة ثقافته ورؤيته لذاته ولغيره من المجتمعات. فالتقدم مرهون باكتشاف المبدعين ورعايتهم وخلق المناخ القادر على تنميتهم، ليس في نطاق الإبداع الأدبي فقط، بل مختلف صور الإبداع الممكنة. ولعل النظر في واقع الدول المتقدمة يولي الاهتمام إلى غياب الانفصال بين التقدم على مستوى المجالات العلمية والعملية، والتقدم على مستوى المجالات الثقافية، فكلاهما لونان من ألوان التطور الإنساني؛ فلا إمكان لتطور علمي من دون تطور على مستوى المعرفة والثقافة ومجالات الفنون والآداب. دليل ذلك هذا الاهتمام الذي يتمتع به الأدب والفنون في البلاد المتقدمة على نحو ما نجد في الحالة اليابانية. فقد لاحظ رجال التربية والأدب والثقافة في معظم المراكز التعليمية والثقافية باليابان أن الطفل الياباني يكتب القصة والقصيدة في أساليب إبداعية متميزة. وهو ما دفع الدولة إلى تبني إصدار سلسلة قومية تحت شعار «نحن كتبنا هذه القصائد» وسلسلة «نحن كتبنا هذه القصص». كذلك نجد أن الاهتمام بأدب الطفل حاضر في السياق العالمي، حيث يوجد موقع «منشورات الطفل» وهو ينشر إبداعات الأطفال القصصية من دون تدخل بالتحرير. كما توجد مبادرات حكومية ومدنية في السياق العربي ببلاد تونس والإمارات مهتمة بالقضية.

والواقع أن نص الطفل العربي له صور متنوعة تستحق الاهتمام بالتحليل والدراسة، منها النص الجداري الفرعوني، والنص الشفوي الذي يتم تناقله بين الأطفال عبر القرى والمدن وعبر الأجيال، والنص المكتوب الذي ينشر عبر المجلات المخصصة للأطفال أو في الجرائد القومية والإقليمية، أو في المجلات المتخصصة في الأدب، التي تنشره منذ مطلع القرن العشرين.

هذه المقالة البحثية هي بمنزلة إطار نظري تحليلي لمفهوم أدب الطفل في السياق العربي، والغاية منها، في واقع الحال، هي الانتقال من معنى إنتاج الراشدين للأدب الموجّه للأطفال، إلى أدب ينتجه الأطفال أنفسهم، من دون أن تعدم المسألة، مع ذلك، إدراج كل أدب له صلة بالطفولة فيه. والغاية من وراء بناء هذا المفهوم الجديد في صياغته، ليست إحلال مركزية الأطفال محل الراشدين، بل جعلهم متمتعين بالحقين معاً، حق التلقي الخلّاق، والإبداع الموجّه إلى الجمهور العام، فلهم الحق في الاستهلاك والتمتع والالتذاذ بجمالية نص موجّه إليهم، خالٍ من أبوية مفرطة، وتربوية فائضة. ومع ذلك يركز المقال على جانب واحد وهو المنتج الذي يقدمه الأطفال، كمنتجين فاعلين مؤثرين في عملية الإبداع، ولهم بصمتهم التي تظل قائمة على نسيج كتابتهم طوال عمرهم الأدبي. وذلك في محاولة، يظن فيها الجدية، لبناء تصور لنوعية هذا النوع من الكتابة، والتعريف بفكرته وتجلياته.

أولاً: في معنى أدب الطفل

لا يوجد في السياق العربي جهود حقيقية للتنظير لاصطلاح أدب الأطفال. في حين نجد في التراث الغربي، وفي الدراسات المعنية بتراث القرن التاسع عشر، عملاً دؤوباً على دراسة وتحليل المصطلح والتكريس له اصطلاحياً. فهناك اصطلاح «juvenilia»، الذي يصاغ لتمييز أدب الأطفال من اصطلاح «Children Literature» الذي يعني أدب الأطفال الذي يؤلفه الراشدون لهم. وبحسب كريستين ألكسندر، يعرّف قاموس أكسفورد المصطلح على النحو التالي: «أعمال أدبية أو فنية أنتجت في صبا أحد المؤلفين». ويحدد القاموس بداية ظهور المصطلح في عام 1622. ويضيف قاموس كولينز معنى النضج: «عمل فني، أو أدبي، أو موسيقي، أنتج في الطفولة أو المراهقة قبل أن يبلغ المؤلف والفنان أو الملحن أسلوبه الناضج»‏[1]. وهو ما نجده في قاموس ويبستر الأمريكي؛ حيث يقول «المؤلفات الفنية أو الأدبية التي ألفها مؤلف في صباه، وتمتاز بعدم نضج في الأسلوب، وفي المعالجة والتفكير». وهكذا يضيف جانباً من جوانب وملامح كتابة الأطفال وهو «عدم النضج»، بوصفها كتابة مرحلة «الصبا». ويرتبط هذا المعنى بآخر وهو التدني. فهي أعمال أقل نضجاً فكرياً ونفسياً وأسلوبياً إن قورنت بأعمال الراشدين. وتميزها بعدم النضج، ليس بالمعنى السلبي للمفهوم، بل بمعنى افتقادها كمال الأسلوب والشكل، أو بالأدق «القصور الجمالي»، فتقع فيها أخطاء اللغة والأغلاط الإملائية والأسلوبية والنحوية. وهذه في رأيها مسألة طبيعية في تطور الإبداع. وليس معنى ذلك تميز أدب الراشدين على أدب الأطفال، إذ يدلنا النظر في أعمال المؤلفين المعتمدين، والمقارنة بينها وبين أعمالهم في صباهم، على وجود اختلاف في الأسلوب، واختلاف في المقدرة الجمالية، وفي الشكل، إذ طوال عملية التأليف المتشكلة عبر الزمن، يكوِّن المبدع أسلوبه، ويشكل عالمه.

وهكذا يقودنا الحديث عن الإبداع الذي يقدمه الأطفال في مسارين: مسار التوصيف، ومسار النوعية. الأول، يهتم بطبيعة التصور السائد حول معنى أدب الطفل، والثاني حول الطبيعة والنوعية للإبداع الذي يمكن أن يقدمه الطفل، سواء كان إبداعاً تابعاً مقلداً، أو إبداعاً متحرراً من سالف القوالب.

فمن جهة، درج الباحثون على وصف ما يقدمه الكبار من إبداع أدبي يوجهونه للصغار بأدب الطفل، بينما يطلقون اصطلاح «أدب المرأة» على الأدب الذي تكتبه المرأة ذاتها وتوجهه لجمهور القراء، ومن بينهم المرأة. والواقع أن وصف كتابة ما وإلحاقها بفئة معينة، كفئة الأطفال، أو النساء، أو الشباب، هو وصف له من المسوِّغات الأيديولوجية التي تؤكده، وله كذلك مسوِّغات جمالية يؤكدها البعض من الباحثين، حتى أمكن الحديث عن جمالية مميزة لكتابة المرأة على سبيل المثال. ولكن الأمر اللافت للنظر بالفعل أن ما يكتبه الأطفال أنفسهم يخرج من باب التصنيف، ويوصف فحسب ما ينجزه الكبار بالأدب، في حين يوصف ما ينتجونه هم بالمحاولات الأولى، كونهم غير قادرين على الإنتاج وبناء العمل الإبداعي، سواء جاء في صيغة شفوية أو في صيغة كتابية. حتى إن الباحثين في الفلكلور حين يصنفون الجماعة الشعبية المنشئة للنص الشفوي الشعبي إلى أقسام وفئات، لا يدرجون الأطفال ضمن منشئي فنون الأدب واللعب الشعبية المتنوعة كافة. ربما يعود ذلك إلى طبيعة تصوراتنا الراسخة النيئة عن الطفل، كونه تابعاً غير قادر على الابتكار، أو بالنظر إليه كشخص عاجز عن الفعل والمبادرة والتساؤل الناقد، ما يوحي بتصور له كناقص بدنياً ومعرفياً.

من جهة ثانية، ينطلق تعريف مفهوم الإبداع من تصورين أساسين: أولهما يربط الإبداع بالمحاكاة، وثانيهما يربطه بالتجديد. بما يعني أننا أمام متصل تصوري، يقع على طرفين: طرف التقليد، وطرف التجديد والحداثة. أولهما يقيم ارتباطاً بين الإبداع والتراث، فالمبدع يواصل ما استقر عليه الآخرون وإبداعيته من قدرته على المواصلة والمحافظة على الهوية المستقرة سلفاً، بينما ينهض المفهوم الثاني على هدم المستقر وجلب طرق جديدة في التعبير والتفكير. هذان التصوران يمكنهما معاً أن يمثلا درجات للتطور الإبداعي للمبدع. فعندما يبدأ المبدع فعل الكتابة يقلد مبدعاً آخر يتخذه أباً شعرياً، مرجعاً رئيسياً ومصدراً لاستلهام حق الكتابة. لكنه مع الوقت يحتاج إلى البحث عن ذاته بعدما يكتشف حاجته إلى التفرد وتمييز ذاته عن هذا الأب الروحي، إذ به يتمرد عليه تمرداً يقترب من معنى «قتل الأب» الذي يرد لدى سيغموند فرويد. لكن هذا القتل لا يغني عن تأكيد صعوبة الفصل المطلق بين الأب الشعري وطفله. فالمبدع الصغير يحاكي أدب الكبار وينمي ذاته الإبداعية من خلاله ثم سرعان ما يحصل على صوته الخاص. والمسألة تتوقف على مدّة التمرُّن التي يمر بها، ودرجة استعداده، والمصادر المعرفية التي تقف وراء كتابته، ورغبته الحقيقية في التغيير والتميُّز، وإلحاح الواقع الاجتماعي وقضاياه، ودرجة انخراطه في مستجدات الشأن العام. وبالتالي من الصعوبة بمكان الحديث عن إبداع الطفل من دون ذكر تراوحه بين المحاكاة والمغايرة.

ولعل هذا يستدعي على الفور ما قدمه رولان بارت من تفكيك للأساطير المحيطة بالعلاقة بين الطفولة والأدب. فقد تلوح في الأفق رؤية تقول بأن الأطفال عباقرة ينتجون ما لا يمكن قياسه؛ فهم بذلك ملهمون، أو هم ورثوا عن آبائهم حسن القول وزخرفه؛ أو قد يحاجج آخرون بأن هذا الأدب ليس لهم، هو نتاج لإبداع الكبار، أو أن الراشدين قد تدخلوا فألبسوه هيئة الأدب، فبدا على ما هو عليه.

إن تحليل بارت يبدأ بالإشارة إلى الشاعرة مينو دوريه‏[2]، التي استطاعت الكتابة في سن مبكرة. فكان لذلك ردود فعل متنوعة، ما بين مشكك في قدرتها على الكتابة، ومؤكد لعبقريتها وفذاذتها. وهنا يحلل بارت تلقي المجتمع، مبرزاً انشغاله بذاته وتصوراته عن الطفولة والشعر، لا النظر بموضوعية إلى الطفولة والشعر بذاته. فهو يفكك ما يحيط بمفهومَي الطفولة والشعر من أساطير تخص المجتمع الفرنسي بطوابعه الرأسمالية؛ فنجده من جهة يرى المجتمع الفرنسي في شعر مينو دليـلاً على العبقرية، بقدرته على تجاوز الزمن، إذ إن الطفلة تجاوزت زمنها، وكتبت شعر الراشدين. وإن كان بارت يراه شعراً متجاوزاً لهذا التصور. وكأن المجتمع هنا يؤصل لمفهومه عن الزمن، وعن ضرورة التعجيل بالقفز فوق اللحظات الزمنية، والإنجاز المبكر. وفي الآن ذاته، يخفي بيديه الطوابع المميزة لنص الطفل، ولخصوصيته التي تميزه، باعتبار لحظته ونوعيته، في مصلحة التصور السائد عن الشعر. ولعل ذلك يحقق وظيفة أخرى، وهي وقف إمكانات الخلخلة المحتملة التي تحملها كتابة الطفل وقمعها، بإثبات رشديته، وعبقرية نضجه، وإلهاميته. بينما في الواقع يخشى مغامرته، أو يسعى ضمناً للحؤول دون امتداده. ما يعني، في الأخير، أن الأطفال الذين يكتبون أدباً، ينبغي التعامل معهم «كمبدعين، يتلاعبون بالأصوات الإبداعية التي يطلعون عليها، ويغرسون هويتهم وانتماءهم الاجتماعي، أو يطورون أسلوبهم المخصوص في التعبير»‏[3].

ولعل في تحليل بارت ما يمكن الكشف به عن لونين من الكتابة الطفولية، وهو ما لم يصرح به بارت صراحة. الأول هو كتابة مينو دوريه، التي تنتهج مبدأ «المحاكاة»، بحيث يكون الإبداع رهيناً للحظة القائمة، وهو النوع الذي يلقى الرواج المجتمعي في سوق الكتابة والنشر، ويتلقى عادة الترحيب والاحتفاء، أو بحسب بارت يرى فيه المجتمع ذاته، وما يريده. والثاني هو كتابة رامبو التي تساير مبدأ «المغايرة»، وتنتهج سياسة المعارضة الجمالية والأسلوبية، وهي الكتابة التي ليس لها جمهور، أو بالأدق تعزل وتستبعد، لأنها كتابة المهمشين. ولعل المقارنة بين حياة مينو دوريه ابنة البرجوازية الفرنسية، وحياة رامبو الذي اختار حياة الصعلكة الدليل الكافي على ما يوحي به بارت.

ثانياً: التجلي الغربي للمفهوم

على أن الظاهرة لها امتدادها في أوروبا، والجانب الشرقي بالذات، وهي مسألة تستحق النظر والاهتمام، إذ يشار إلى أسماء ميليسا باناريللو (Melissa Panarello) في إيطاليا، وآن صوفيا براسم (Anne-Sophie Brasme) في فرنسا، وميرسولاف ناهاتش (Miroslav Nahach) في بولندا، وأنّا فيكوفيتش (Anna Vikovich) في صربيا، وليبكو ديريش (Ljubko Deresh) في أوكرانيا‏[4]. وجميعهم من الكتّاب أصحاب المبيعات الكبيرة. فالفرنسية براسم كانت في السابعة عشرة حين نشرت روايتها التنفس، وهي رواية سوداء تدور عن علاقة صداقة تنتهي بالسجن. كذلك كانت ميليسا في العمر عينه حين نشرت مذكراتها عن المغامرات الجنسية لصبية من سيشل، تحت عنوان مائة لمسة مداعبة قبل النوم، وأصبحت الرواية الأكثر مبيعاً في 2003، حيث باعت مليوني نسخة، وترجمت لأكثر من ثلاثين لغة. ثم أصبحت فيلماً في عام 2005‏[5].

ولعل مثال ديسي أشفورد هو أنجح نماذج أدب الأطفال في القرن التاسع عشر بروايتها «الزوار الصغار». لم تكن المؤلفة تنوي كتابة عمل روائي، وكتبت عملها على سبيل التسلية لذاتها ولأخواتها. كتبت الرواية عام 1890، وفيها تسخر من الطبقة العليا في القرن التاسع عشر في بريطانيا. وبعد أن اكتشفت الرواية لاحقاً بعد موت والدتها دفعت بها إلى أحد الناشرين، ونشرت بمقدمة لأحد الكتاب عام 1919، فظن القراء أنها لكاتب المقدمة، حتى اضطرت مؤلفة الرواية إلى الظهور لتثبت حقها في ملكية الرواية. ونشرت قصصها الأخرى، ولم تلقَ رواج هذه الرواية في بريطانيا والولايات المتحدة‏[6].

ومن النماذج المعاصرة ما قدمه بارت مويارت عام 1983، وهو في التاسعة عشرة من رواية بعنوان دويتو غير متوافق، وكان قد كتبها في المرحلة الفاصلة بين الرابعة عشرة والسادسة عشرة، من وحي مذكرات كتبها في الثالثة عشرة من عمره، وعرفت الرواية في بلجيكا بـ رواية حب مراهقة كتبها مراهق عاشق. واختيرت كأفضل كتاب عام 1984، وطبعت إحدى عشرة مرة لمدة عشر سنوات بعد نشرها. ونشرت بلغات متعددة ولم تنشر بالإنكليزية‏[7].

كذلك نقع على نموذج سونيا هارتنيت (Sonya Hartnett) التي نشرت أول كتاب لها متاعب طول الوقت في عام 1984، وكان عمرها خمسة عشر عاماً. وبعدها أصبحت من الروائيات الشهيرات في بلدها أستراليا، ونشرت عشر روايات نالت الاستحسان والتقدير، وحصلت على جوائز متعددة بفضلها. ولكنها ظلت معروفة ككاتبة أطفال تتوجه بأعمالها لغير الراشدين، وهو ما تنفيه المؤلفة ذاتها.

ونجد كتّاباً في ألمانيا مثل جوتا ريشتر (Jutta Richter) التي تكتب أدباً للأطفال والمراهقين والراشدين. وكتبت أولى رواياتها وهي في السادسة عشرة من عمرها. وكذلك المؤلفة الألمانية أليكسا هينيج التي فازت بجائزة مسابقة «أطفال يكتبون للأطفال» التي تطرحها مؤسسة ن.د.ر. ولم تطبع روايتها حتى بلغت الثالثة والعشرين. ولاقت روايتها الراحة رواجاً بين الأطفال والراشدين. ومن هؤلاء الكتّاب أيضاً بنيامين ليبرت الذي نشر روايته الجنون في عام 1999، وهو في السادسة عشرة. ونالت الرواية استحساناً واسع النطاق، حيث بيعت الرواية في أكثر من ثلاثين دولة. وتدور الرواية عن مراهق يعيش حياته بجنون يتواءم برأيه مع العالم المجنون الذي يحيا فيه.

ومع ذلك من الأهمية بمكان اعتبار الجهود المبذولة من جهة المجتمع المدني وقواه في تشجيع إبداعات الأطفال، ودعمها بالنشر والترويج. ومن أمثلة ذلك ما قامت به مؤسسة «اليوم العالمي من أجل الأطفال والشعر» في هولندا المدعومة من اليونيسيف؛ حيث طلبت المؤسسة من الأطفال من السادسة حتى الثانية عشرة كتابة قصائد من أحلامهم وإرسالها للمؤسسة عبر المدارس أو المكتبات العامة أو الأهل ليتم عرضها على لجنة تحكيم مكونة من أدباء ونقاد ومربين قرأوا القصائد بإمعان، وبلغ عدد القصائد عشرة آلاف قصيدة، واختير منها 150 قصيدة، طبعت جميعاً في كتاب جاء تحت عنوان ليس كل الأحلام قصائد‏[8]، ومن أجوائه النص التالي لدينيس بيريس:

لو كنتُ وردةً

لو قُطفتُ

لو وُضعت في مزهرية

حينذاك

سأشعرُ بالماء من حولي

سأشعرُ بدوخة

سأشعرُ بأني موشكٌ على الموت.

كذلك تقع العين على ما تنشره المواقع الإلكترونية المخصصة لأعمال الأطفال. ولعل أبرز وأهم تمثيل افتراضي لأدب الطفل ما يرد على موقع دار «أدب الأطفال» (Juvenilia Press)، وهي دار نشر معنية بآثار صبار كبار المبدعين في التراث الغربي الكلاسيكي والحديث. وهي الدار التي أسستها الباحثة جوليت ماكماستر.

ثالثاً: المفهوم في التراث العربي وحاضره

1 – الحاضنة القبلية

لقد عرف التراث العربي القديم شعراً يؤلفه أطفال أصبحوا في ما بعد من كبار شعراء العربية. كان من بينهم الشعراء طرفة بن العبد وكعب بن زهير ولبيد بن ربيعة وأبي الطيب المتنبي وعبد الله بن المعتز. كان إنتاجهم للشعر هو نتاج تدريب وتمرُّن. فالشاعر يولد في القبيلة، ويجد أن للشعر دوراً متميزاً في تشكيل الحياة الاجتماعية. فهو مصدر من مصادر رأس مال القبيلة. هو الحاضنة التاريخية لتصورات القبيلة عن نفسها وتاريخ حروبها وقيمها ونسبها الذي يميزها من غيرها من القبائل فكان ميلاد شاعر حدثاً اجتماعياً يُحتفى به. ولم يكن الشعر كواحد من وجوه الممارسة الأدبية المتعددة نتاجَ الموهبة الفطرية لكنه كان وليد الاكتساب الذي يبدأ منذ لحظة الميلاد. فالطفل الرضيع ينصت إلى شعر تردده له أمه يعبر عن مشاعرها الخاصة تارة وينقل ويغرس القيم العليا للجماعة القبلية. ثم يكبر ويبدأ، حال إحساسه بالرغبة في ممارسة إنشاد الشعر، بالتعرُّض لما يمكن تسميته التعميد الشعري؛ وهو أن يمر الفرد بتدريب شاق على فن الشعر. يبدأ بحفظ عدد كبير من الأبيات حتى رواية الشعر ثم تأليفه كآخر المحطات.

ويطلعنا التراث العربي على نماذج من هذه العملية المتدرجة عبر نموذجين؛ أولهما حالة كعب بن زهير والثانية حالة أبي نواس. فالأول يمنعه والده من الإنشاد خوفاً على مجد القبيلة أن يزول ويأتي بشعر على غير المتوقع لدى جموع المتلقين، ما يصيب القبيلة بالعار. لكن التراث لا يغفل الإشارة إلى عملية التدريب التي كان يقوم بها لولده. وهي العملية ذاتها التي يقوم بها بعض المهتمين المعاصرين بتدريس الأدب، إذ كان يدرب ولده عبر طريقة التعلم بالممارسة، حيث كان ينشد بيتاً، ويرد ولده ببيت. وهكذا معاً ينشئان نصاً مشتركاً، نصاً جماعياً. وهو عين ما قام به تولستوي حين أراد أن يعلم تدريس الأدب الروسي، بأن يدرس طلابه فن القص. كان تولستوي وقتها قد كف عن الكتابة كلية، ولكنه عبر التفاعل مع هؤلاء الصغار استطاع أن يجدد من ملكته الإبداعية، وأن يقدم في ما بعد روايته الحرب والسلام.

ثانيهما، لما أراد أبو نواس أن يكون شاعراً ذهب إلى الراوية خلف الأحمر وعرض عليه الأمر فما كان من الأخير إلا أن طلب منه حفظ ألف بيت من الشعر وأن يأتيه بعدها، فلما جاءه في حينه أبى إلا أن ينساها، فلما فعل، قال له الآن يمكنك أن تنشد الشعر. يقدم إلينا المثال الثاني جانباً من آليات التعلم القائم على اكتساب بنية الكتابة عبر الحفظ، وذلك يقترب من مفهوم جان بياجيه عن «غير الوعي»، وهو ما يعنيه ابن خلدون حين تحدث عن صنعة الحائك في صناعته، فهو يحيك الثوب، ويقوم بعمل آخر، من دون أن يلتفت لما يقوم به. الجسد قد حفظ عملية الحياكة، ومن ثم يمكنه أن يقوم بعمل آخر لا يعوق صنعته.

ومن النماذج التي يمكن التدليل بها على أدب الطفل، ما نظمه طرفة بن العبد صغيراً في سن مبكرة، فيما أورده الدميري في حياة الحيوان الكبرى، حين خرج مع عمه على سفر، فاستهواه صيد (القبّرة)، فقال:

يا لـك مـن قبـرة بمعمـر

خلا لك الجو فبيضي واصفـري

قد رفـع الفـخ فماذا تحذري

ونقـري مـا شئت أن تنقـري

قد ذهب الصياد عنك فأبشري

لا بـد مـن أخذك يوماً فاحذري

والشيء اللافت حقاً أن النماذج المقدمة لتلك الأعمال الشعرية التي أنشدها الشعراء صغـاراً، تدلل بقوة على طبيعة التوجه الفكري والجمالي الذي سيسود إبداع الشاعر حين ينبغ. ومن هذه النماذج قول المتنبي:

يا أبي من وددته فافترقنـا

وقضى الله بعد ذلك اجتماعـا

فافترقنا حولاً فلما التقينـا

كـان تسليمـه علي وداعـا‏[9]

فالبيتان يلخصان منهجية المتنبي في التأليف القائمة على التلاعب اللغوي بالمفردات، وشغل الأذن وعقل المتلقي في آن عبر استخدام المفارقة، وهي طريقة معتمدة جداً في ما قدمه بعد ذلك.

ولكن «تدوين شعر مرحلة الطفولة عند معظم الشعراء لم يتحقق بالقدر المقنع، فضـلاً عن عدم اكتراث الشعراء أنفسهم في مرحلة صباهم بتدوين محاولاتهم الأولى»‏[10].

2 – الحاضنة الدولتية ونشوء الطباعة

كانت بداية محاولة النشر تتمثل بمجلة روضة المدارس التي بدأت عام 1877 ولم تشتمل فحسب على كتابات موجهة للأطفال بل ضمت كتابات أدبية لهم. وهو الأمر الذي ظل طقساً لم يزل قائماً إلى وقتنا الحالي. فلا يزال تقدم بعض أعمال الأطفال الإبداعية على مضض في الصحف. ولعل أحد الشواهد المهمة ما نُشر في جريدة الأخبار في الثلاثينيات، حيث نشر طالب ثانوي وهو محمد أحمد المنسي قصيدة بالعامية المصرية بعنوان «لازم نشجع أوطانا». القصيدة تمثل وعي جيله أوانها. إنها تتناول أزمة الكساد التي مرت بها مصر في الحقبة من عام 1929 حتى عام 1933. وفيها يميز الشاعر الصغير بين ابن البلد والأجنبي. فابن البلد محروم وعلى هامش وطنه ولا يملك شيئاً يذكر؛ والأجنبي يحظى بالامتيازات وينهب الثروة، وفيها نلمس فوبيا الأجنبي التي انتهت بعد ثورة يوليو إلى الخلط بين الأجانب والمتمصرين. وهو الذي أدى وقتها إلى هجرة عدد لا بأس به من الأجانب المتمصّرين. يقول:

لازم نشجــع أوطانـا

ونكــون أعـوان

والأجنبي يكـون من بينا

مش لاقي مكــان

وبعــد شويـة يفارقنـا

ويـروح خسـران

واحنـا نفتـح معـاملنـا

ونـشغـل شبـان‏[11]

وفي الخمسينيات يمكن أن نقع على أعمال الشاعر أمل دنقل التي كتبها في صباه؛ فقد حفظت مجلة قنا الثانوية في العام الدراسي 1956/1957 أبياتاً من قصيدة مما كان يلقيه حول العدوان الثلاثي وأخرى بعنوان «عيد الأمومة»، وهي قصائد تحمل خصائص الشاعر في ما بعد. فالقصيدة الثانية ليست عن عيد الأم بل عن الوطن العربي والإنسان في كل مكان، محاطة بأجواء رومانسية، مثلت رؤيته في ما بعد كواحد من شعراء التوجه القومي ومنها قوله‏[12]:

وأمـي الجزائر… شعلة نار

الكفـاح تـرد العدا للحفـر

وأمـي كينيـا بنـار الحـراب

تشب لهيـب الردى المستعر

وأمـي كـل بـلاد… تثور

أضالعهـا باللظـى المستطر

وفي وقتنا الحالي استطاعت مجلة قطر الندى التي نشأت عام 1995 أن تركز على اكتشاف أجيال جديدة من المبدعين إلى جوار الكبار والرواد مع إعطاء أولوية للشباب من خريجي كليات الفنون الجميلة والشعراء والقصاصين. وقد قدمت المجلة أكثر من مئة كاتب ورسام جديد منذ صدورها حتى الآن وأصبحوا من مبدعي أدب الطفل وفنونه. وكان من بين من قدمتهم أدباء شبان تعرفهم الساحة الأدبية الآن وهم من طليعتها المميزة، مثل جابر سركيس، وأسماء عواد، وعزة سلطان، وطارق إمام، ومحمد عبد الحافظ ناصف‏[13]. كما دأبت المجلة على الفسح في صفحاتها لنشر مواهب الأطفال والتعريف بالمتميزين منهم في مجالات الإبداع المختلفة، فهي خلال مهرجان القراءة للجميع تفرد لهم ثماني صفحات كل عدد لنشر إبداعاتهم الشعرية والقصصية، وآرائهم وأفكارهم ومقالاتهم ورسوماتهم وصورهم‏[14].

وفي السياق العربي، لدينا أمثلة لمبدعين صغار بدأوا في الكتابة باكراً عربياً مثل مـا قدمتـه القاصة السورية هيا قرة ياسين التي كتبت سبعة أعمال: الكلب الذي يريد أن يبقى كلباً، القنفـذ الشجاع، امرح ولوِّن مع هيا (2009)، من أرسم ( 2010)، الكنز الذي معك(2010)، اهرب قبل الفجر(2010)، وصديقتي الفضائية (2010). وكذلك ما قدمته الشاعرة الفلسطينية الصغيرة ياسمين غسان الشملاوي (13 عاماً) التي تجمع بين ألوان إبداعية متنوعة، وهي أصغر عضو في اتحاد الكتاب الفلسطينيين. الشاعرة الصغيرة تكتب نصوصاً شعرية تشبه الومضات تتناول فيها القضية الفلسطيينية، ومنها هذا النص المعنون بـ «ميلاد»:

مادت بي الآمال

وأنا أعدو بطريق البحث عن الذات..

نيفاً من الزمان ويزيد

لا زوجة.. لا أولاد..

لا سيارة.. لا عمارة

فقط شاهد من رخام على القبر

يُخبرني بأني شهيد!‏[15]

كما تقدم الأردن ثلاث حالات إبداعية وهم الشاعرة الصغيـرة لما الخباص – عشر سنوات – التي أنتجت ديواناً شعرياً بعنوان من أنا وتستعد لإصدار ديوان آخر للأطفال. والحالة الإبداعية الثانية للطفل ورد وكيلة الذي أصدر ديوان شعر بعنوان شهد ورد والطفلة نهى الدجاني التي تملك رصيداً من القصص يؤهلها لإصدار أكثر من مجموعة قصصية‏[16].

3 – الكتابة الافتراضية والجهود المدنية

ومع دخول الإنترنت إلى الوطن العربي، وتزايد عدد المشتركين به، واتساع نطاق نشاطه، وما ينشر عليه من فاعليات وأنواع أدبية، ظهرت صفحات جديدة تحمل أعمال المبدعين من مختلف الأقطار، يتبارون في التعبير عن انتماءاتهم الأدبية. علاوة على نشوء منتديات ومجلات إلكترونية، وأوعية متنوعة، تحاول أن تسهم في رواج الإبداع، وفي نقده وتقييمه، والتعريف به، والتنويه إلى فاعلياته الجارية على أرض الواقع. ونال أدب الطفل نصيبه من الاهتمام، فنشأت منتديات وصفحات تشجع على نوع أدبي أو آخر. واللافت للنظر أن أكثرها جاء من الجانب العربي الخليجي، في تبارٍ ملحوظ في أسلوب عرضها، وشكل صفحاتها.

والواقع أن هناك إسهامات متنوعة في النطاق العربي لإطلاق أطفال يجيدون الكتابة والتعبير عن مكنوناتهم، وذلك عبر ورش العمل الأدبية. وتأتي هذه المساهمات من عدة جهات، منها التجربة المتميزة التي خاضها الشاعر السوري خليل برئ، وتعاون فيها مع منظمات مدنية غير حكومية استطاع أن ينشر نتاجها. حيث تعاون مع أطفال من مختلف الجنسيات والخلفيات الاجتماعية كمدرب في ورش كتابة إبداعية، فكان نتاج عمله كتاب رجلي فوق وأمشي على يدي الذي تمت كتابته بأقلام الأطفال اللاجئين في سورية بالتعاون مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بدمشق، وكتاب يوميات ليست عن سرطان البحر الذي كتبه أطفال مصابون بمرض السرطان بدعم من جمعية «بسمة»، فضـلاً عن كتاب في التفاحة شاعر الذي كتبه الأطفال بالتعاون مع جمعية «مكان». ومن أجواء التجربة الأخيرة، ما قدمه نادي سليمان (عشر سنوات):

أمسكت حبل الغسيل وصنعت منه بساطاً

طائراً

وسلكاً آخر صنعت منه صنارة سمك

وأمسكت سلكاً آخر صنعت منه كماناً

وبدأت أجوب العالم

وأنا أعزف على كمان وأصطاد السمك‏[17]

كذلك نقع على إسهام من الجانب الفلسطيني، قدمته مؤسسة التامر، في ما نشرته من أعمال، ومنها طفولة ضائعة لمشيرة توفيق الحاج، والكوب الضاحك لمحمود أمين الرياض، وغيرها من الأعمال القصصية التي كتبها الأطفال الفلسطينيون.

رابعاً: سمات النوع

يميز توني بينيت بين ثلاث طرق للتفريق بين الأنواع. الأول: التمييز عبر أدنى مستوى من السمات المشتركة في الشكل، فيتم تجميع الكتابات التي هي في سمة شكلية واحدة على الأقل حتى وإن اختلفت في جوانب أخرى. ويضرب مثـلاً بتعريف الرواية لبيري الذي يصف الرواية بأنها «سرد مطول»، يحكي قصة بغرض التسلية لا بغرض التثقيف، ومن ثم يكون التعريف قادراً على احتواء الأشكال النثرية القديمة والحديثة. والثاني هو تعريف النوع وفق نموذج مثالي، عبر وضع قائمة من الخصائص النوعية. أما النوع الثالث فهو التصنيف بحسب العنصر المهيمن، أي الاعتماد في التصنيف على المكون الجامع للعمل الفني، إذ يحكم المكونات الباقية ويحددها ويحولها. فهذا العنصر المهيمن هو الذي يبني العمل وينظمه وتخضع كل العناصر الأخرى المكونة للشكل لتأثيره. وهكذا فإن الاختلاف في الشكل ليس إشكالياً، بل المهم هو وجود مكون رئيسي تميز على أساسه الأنواع. فالذي يجعل الرواية رواية لدى لوكاتش هو عنصر مهيمن واحد، وهو سعي البطل نحو القيم العليا الأصيلة في عالم خال من المعنى.

قد يتواتر الحديث عن أدب الطفل على اعتباره كـلاً واحداً يمكن الإشارة إليه بيسر كجملة من الكتابات الأولية التي يمكن تحديد معالمها بوضوح تام، والوقوف على مزاياها ومثالبها في إطار علاقتها بالكتابة الراشدة. والبيِّن أن هذا التراث التحليلي المعني بأدب الطفل المكتوب من الأطفال، ينظر إلى هذا الأدب في إطار علاقته بأدب الراشدين، باعتبار الأخير المعيار الذي بموجبه يمكن خلع الأدبية عليه أو وصمه بالدونية والقصور، وهو ما يجعل هذا التراث قاصراً عن فهم اتساع مدى موضوعه، وتنوع مصادره وتكوينه، على نحو يصعب من إمكان وصفه في المجمل بمجموعة بعينها من السمات التي تميزه عن غيره من الآداب. ومع ذلك يمكن المغامرة بوضع تصور مبدئي ينطلق من تقسيمه إلى تصورين: الأول هو أدب مرحلة المرآة، والثاني هو أدب المراهقة.

ففي الأول نجد الكتابة/القول وقد أصبحت مشغولة ومفتونة بذاتها عن غيرها، لا تجد لذاتها أصـلاً تعود إليه، بل تشكل هويتها من ذاتها، وهي هوية متخيلة، ليست نابعة من مرجع يمكن العودة إليه بيسر. يمكن القول إن هذا النوع يشمل كل ما ينتجه الأطفال من خطابات شفوية تنتهي عند المراحل الأولى للكتابة والدخول إلى مؤسسة المدرسة التي تسعى بدورها إلى بناء خيال جديد، على افتراض أن المرحلة السابقة لم تتدخل فيها الأسرة أو أي حاضنة اجتماعية أخرى في تهديد الخيال النرجسي لذات الطفل الذي يكسبه القدرة على المغامرة، على الحكي والقول وابتكار الأحداث غير المقيدة بقانون طبيعي. وهو عين ما تعنيه سوزان آنجل حين بادرت بالحديث عن ممارسة الأطفال للحكي. ثمة في الحكي الشفوي تعبير عن الهوية، ميل لتجسيد صورة الذات، في صورتها النموذجية المتخيلة، وفي تعاطيها مع العالم المحيط بها، وتفاعلها مع الآخرين من الأفراد. ذلك أن «كل قصة يحكيها طفل أو يمثلها في اللعب أو يكتبها تسهم في رسم صورة ذاتية، صورة يمكن الآخرين استخدامها في تطوير فهمهم للقاص، وفي كل مرة يصف طفل تجربة مرَّ بها هو نفسه أو مرَّ بها غيره يصور جزءاً من ماضيه ويضيف إلى وعيه بذاته»‏[18].

لكن هذا الانشغال بالآخر الذي ينقل الاهتمام من مرحلة أدب المرآة إلى أدب المراهقة تبدأ فاعليته باكراً؛ فمثـلاً ينمو سرد الأطفال عن الآخرين في العام الثالث نمواً واضحاً، وهو ما تبين لإحدى الباحثات، حين جمعت عدداً من القصص لأطفال راوحت ما بين 24 و36 شهراً، وتبين لها أن معدل الاهتمام بالآخرين في قصصهم قد زاد بقوة بداية من الشهر السادس والثلاثين بنسبة تصل إلى 90 بالمئة. هذا التحول تزداد قوته مع انتقال الأطفال من الطفولة المبكرة إلى سن المدرسة، حيث يزداد تمييزهم بين الواقع والخيال، بين تجربة الخيال وتجربة الواقع‏[19].

وفي المستوى الثاني يمكن الحديث عن أدب المراهقة الذي يسعى فيه الطفل إلى أن ينافس الكبار، وأن يؤكد هويته، لا من خلال ذاته؛ بل من خلال الآخر. لذلك يغلب على هذه المرحلة المحاكاة لإبداع الكبار ومكابرته، والتناص معه، بالتوظيف أو التشويه المتعمد، وتتفاوت درجة هذا التقليد بدرجة حضور الفرد في المجتمع، وإمكان قبول حق الاختلاف. لكن هذا النوع نفسه ينقسم إلى شقين: أدب المراهقة الموجَّه للكبار، وأدب المراهقة الموجَّه للصغار.

وأدب المراهقة الموجه للكبار، هو أدب المراهقين الذين ينتهجون الكتابة الأدبية على غرار أو منافحة لأدب الراشدين. فأدباء هذا النوع يبنون كتابتهم وفقاً لما استقر لديهم من تصورات عن الأدبية، استمدّوها من التعليم الرسمي أو من الاطلاع على المنتجات الأدبية المنشورة في الصحف والمجلات، أو بدافع التأثر بجماعة مرجعية (الأصدقاء أو الأسرة… إلخ). وقد ينحرفون عن هذا النوع المستقر أو التصورات المستقرة عن النوع الأدبي السائد، لكن هذا مرهون بعدة شروط: الأول، هي علاقة المبدع بالجماعة الأدبية في مكانه، وعلاقته بالسياق الأدبي العام في بلاده، وعلاقته بالأدب بالإجمال؛ الثاني هو مدى قدرة شروط إنتاج النصوص على تقبل الاختلاف والتغيير كفضيلة أدبية؛ والثالث مدى انفتاح المجتمع واستيعابه وتفهمه لحق الاختلاف؛ والرابع تعريف الذوق الأدبي بوصفه تذوق الجديد والاحتفاء به أو تذوق القديم والمستقر والاحتفاء بمهارة التقليد المنضبط. ولكن من المتوقع أن يكون إثبات الكفاءة الأدبية مرهوناً بعامل القدرة على التقليد، والافتنان لا بالذات هنا، بل بآخر. حيث يتخذ المبدع في هذه المرحلة من أحد المبدعين أباً أدبياً له، يسعى لتقليده والتعلم على يديه. ولا يشترط أن تكون الأبوة بالحضور الحي المباشر للأب، بل من الممكن أن يكون الأب «أباً متخيـلاً»، حاضراً بنصوصه. ومسألة الانفصال عن الأب مرهونة بالمدّة التي قضاها داخل الجماعة الأدبية، ومدى توافر الشروط الداعية له لتمييز ذاته من أبيه الشعري.

أما أدب المراهقة الموجّه للصغار، فهو الأدب الذي يكتبه صاحبه لكي يثبت ذاته لا عبر محاكاة الأدب الموجه للراشدين، بل بتقليد الأدب المسمى «أدب الطفل» الذي هو عبارة عن النصوص الشعرية والقصصية الموجّهة للصغار من الأطفال في مرحلتي الطفولة المبكرة والمتأخرة. ويكتب عادة هذا النوع المراهقون المشرفون على مرحلة الشباب بيولوجياً. وربما يكون هذا هو الأندر بين الأطفال.

خاتمة

إن المفهوم الذي حاولت الورقة الحالية أن تزكيه هو مفهوم قديم، لكن شيئاً من التحيز القبلي ضد الأطفال، كونهم لا يملكون القدرة على الإبداع والابتكار وعاجزون بالفطرة، عاجزون عن الفهم الذاتي والإدراك، وغير قادرين بدنياً على العيش من دون عون من الكبار. وقد غاب عن هذه التصورات أن الطبيعة البشرية تحيا في إطار الجدل بين القدرة والحاجة، إذ بقدر ما يكون الطفل بحاجة ماسة إلى الكبار وعونهم، فإنهم بدورهم يلتمسون منه ما يفتقدون إليه. فلديه قدراته التي جبل عليها بفضل تعاطيه مع المعطيات التي تتجلى أمام ناظريه، وبفضل ما لدى المحيطين به من وعي بقدراته اللغوية والبلاغية والسردية والمعرفية. وتظل القدرة على الإبداع مسألة ملازمة للإنسان في الشرق والغرب، وتتفاوت القدرة بتفاوت رأس المال الرمزي والمادي المتاح.

والواقع أن اللحظة الراهنة بما طرحته من تكنولوجيا حديثة ساهمت في تغيير وعي الطفل العربي، وقادته إلى سبل غير ممهدة في الإبداع والتواصل، قد تدفع بضرورة تدشين هذا المصطلح والمفهوم الجديد لأدب الطفل وإبداعه، بوصفه فاعلية ينشدها الطفل ويمارسها، وتمكنه من الحصول على واحد من حقوقه الثقافية المتعددة، التي تبدأ من حق التعلم والمعرفة حتى الإبداع والمشاركة الناجزة. وليس في الإمكان في هذا الصدد التدشين لمفهوم يجبّ ما سبقه، في محاولة لإبدال مركزية الكبار بمركزية الصغار. ذلك بأن المفهوم التقليدي لأدب الأطفال مفهوم يتمركز حول الراشدين كمنشئين لهذا النوع المتميز بخصائصه والمستقل، يوجهونه إلى الأطفال، على نحو تربوي، وإن كان هو في واقع الحال ممارسة جمالية كغيره من الممارسات الجمالية التي يمارسها الراشدون. وعلى النقيض، فإن طرح المفهوم الجديد هو محاولة لتوسعة المعنى القديم، للقول بأن إنتاج أدب للطفل العربي لا ينبغي بحال قصره على منتجيه من الكبار، ولا على فئة عمرية بعينها، بله يتسع ليشمل الفئات كافة، على النحو الذي يبين عن اتساع زخم الظاهرة وأهميتها، في إطار كونها جزءاً من شاغل عام، وهو بناء صناعة ثقافية قادرة على المنافسة عالمياً.

وقد تتفاوت قيمة ما يقدمه الطفل العربي بتفاوت ما يتاح له من «تمكين ثقافي». ذلك بأن السياسة الثقافية الحقيقية، عليها أن تضع الطفل في مقدمة اهتمامها، لا بوصفه مستهلكاً ومتلقياً للمعرفة والثقافة فحسب، بل بوصفه مبدعاً محتمـلاً أيضاً، ومنتجاً مشاركاً باستمرار. على هذا النحو تكون التنمية الثقافية تنمية مستدامة، تنمية تبدأ مع الطفل، وتنتهي به شاباً ومبدعاً محترفاً، لديه القدرة على المنافسة، وتقديم الجديد، بما يفيد في النهاية وطنه الأم ويغني تراثه.

 

قد يهمكم ايضاً  ارتقاء الأوطان في تربية وتعليم الإنسان (تحديث أسس التربية والتعليم في البلدان العربية)