مقدمة:

لا يختلف إثنان على أن الثروة البشرية المتعلمة هي أهم مكوِّن لأي مجتمع وأمة. فالإنسان المتعلم وحده من يسخِّر ثروات محيطة لارتقاء وديمومة مجتمعه.

فإن استعرضنا الإنجازات البشرية سنجد أن جلّها نابع من تنامي المعين الثرّ المكتسب عبر الأزمان والحضارات. فثقافة المجتمع تشمل أنماطاً وقوالب للسلوك المشترك في ذلك المجتمع بين أبنائه تكونت من خلال انتقال اجتماعي للمعلومات.

ولا يحيا المجتمع إلّا بالتواصل بين الأجيال بنقل الأفكار والخبرات شريطة أن لا يعتمد النقل على أهواء الأفراد وسلوكياتهم المتباينة، وأن لا يترك الجيل الجديد ليتعلّم من تقليد أفراد أسرته أو ليخضع لأسلوب التجربة والخطأ، فهما مسلكان شائكان لا يحققان للفرد ولا للمجتمع أياً من مقومات الديمومة والارتقاء.

فالتعلّم وحده يكوّن الإنسان المدرك لما له وما عليه ليصبح عنصراً فاعـلاً يساهم مع غيره في بناء مجتمعه ورفده بما يضمن بقاءه وارتقاءه بما يؤهله للتعاضد مع غيره من المجتمعات للتغلب على المشاكل الإنسانية الطبيعية والمصطنعة، ويؤهله أيضاً للنهوض بالعلم والتكنولوجيا والاقتصاد والسياسة لتحقيق الرخاء والأمن والسلام للإنسانية جمعاء.

ولا بدّ من التمييز بين التعليم والتعلّم، فهذا الأخير وسيلة لتحقيق الأول الذي ينجز في المدارس والمعاهد والجامعات.

نرى أن التعليم في المدارس يمثل أهم مراحل تكوين الإنسان المدرك لذاته والذي يحترم الآخر ويعامله كما يود أن يُعامل؛ لذا سنركز في بحثنا على هذه المرحلة التعليمية وبدرجة أقل على التعليم المهني والفني والجامعي.

يمكننا تصنيف شعوب العالم ضمن أربع مجاميع:

  •  شعوب متقدمة تسارع الخطى لمزيد من التقدم.
  •  شعوب نامية تسعى حثيثاً للتطور.
  •  شعوب تتطلع لم تعثر بعد على طريقها للتقدم.
  •  شعوب تتحسّر غارقة في هموم لا تدري كيف تتغلب عليها.

 

أياً كان موقع بلادنا ضمن هذا التصنيف، علينا التفكير الجاد والتخطيط لتبني السبيل الذي يرفعنا إلى صنفٍ أعلى من واقعنا الحالي.

ومن المحزن حقاً أن نجد بلداناً عربية لا تعير التربية والتعليم الاهتمام الذي يستحقه، وقد تضعه في أسفل اهتماماتها. ونتيجة لهذا التردي والتخبط واللامبالاة، يلجأ الفرد العربي إلى التمسك بالعادات والتقاليد المتوارثة. وتلك حقيقة لا ينبغي أن نخجل منها ونتخوف من تصحيحها (فالشيء الوحيد الذي يتوجب أن يخيفنا هو الخوف ذاته). وأن لا يقتصر إدراك هذه الحقيقة على السلطات والعلماء والمختصين، بل يتوجب أن تأتي المساهمة الكبرى من الأفراد، فالعوائل، فالعشائر ومن أبناء الحضر والريف.

نرى من واجبنا جميعاً التمحيص في طبيعة مؤسساتنا التربوية والتعليمية… تاريخها، واقعها وأساليب أدائها، ابتغاء تطويرها لتواكب طموحات أمتنا ومستقبلها. وهذا موضوع شائك ومعقّد، فلكل منا تجربته فسنجد معيناً ضخماً من الأفكار والرؤى.

سنستعرض في هذا البحث مسألة التربية والتعليم عند الحضارات القديمة ثم تطور فلسفتها المعاصرة وننتقل إلى واقع أنظمتها في الوطن العربي، بالتركيز على مرحلة المدرسة. ونختم طرحنا بالتوصل إلى اقتراح استراتيجية الإصلاح والتجديد المطلوب.

أولاً: تجارب تاريخية وعالمية

 

1 – التربية والتعليم في الحضارات القديمة

كان العراق القديم مهداً للتقدم الأصيل في مساعي البشرية، ومنبعاً للحضارات التي تدين لحضارة بلاد الرافدين‏[1]؛ فقد اكتشفت مكتبة في مدينة أوروك جنوب العراق تضم ألف لوح طيني تشتمل معلومات قيِّمة. ويعتبر المعلم كوديا الأكدي أول من اهتم بتوثيق العلم والتعليم حيث أسس سنة 2000 ق.م. في مدينة لكش مكتبة ضمّت ثلاثين ألف لوح طيني مصفوفة بنظام أنيق ودقيق، لذا يمكننا اعتباره أباً لعلوم المكتبات والتوثيق.

وثمة مكتبة ضخمة أسسها الملك آشور بانيبال في نينوى سنة 668 ق.م. ضمت آلاف الألواح الطينية المدونة باللغة السومرية وبالخط المسماري، وهي مكتبة شاملة لعلوم وآداب حضارات ذلك الزمان؛ وقد نقلت أغلبية تلك الألواح إلى المتحف البريطاني في لندن.

كانت المدرسة التي تسمى «بيت الألواح» تخضع لتعليمات عن سلوك الطلبة وحسن هندامهم وآداب الدراسة. وكان للمدرسة مدير يسمى «أبو بيت الألواح»، ومراقب للنظافة والهندام ورجل العصا لحفظ النظام بالقسوة حيناً وبالمديح والإطراء حيناً. وكانت مباني المدارس ملحقة بالمعابد، ثم استقلت في بنايات تشتمل كل منها عدداً من الغرف، في كل غرفة مصاطب مصنوعة من الطين لجلوس الطلبة. كان مدير المدرسة يضع المناهج ويشرف على اختيار الطلبة ويتابع أداء المعلمين، ويسعى لبناء المدارس‏[2].

كانت المدرسة معنية بتعليم معاني الكلمات ونطقها وتدوينها إضافة إلى طريقة إعداد الألواح الطينية وأسلوب الكتابة عليها. وتوسعت المدارس لتعليم القراءة والكتابة والحساب، ثم شملت علوم النبات والحيوان والرياضيات والجغرافيا والفلك واللاهوت والموسيقى. ثم تطورت لتدريس الطب والقانون في معاهد سميت بيوت الحكمة، وتوسع عملها لجمع واستنساخ نشاطات السابقة. فمن كل ذلك ذهب الخبير الألماني كونراد فولكر للقول «إن مدارس قدماء بلاد ما بين النهرين مشابهة في مجملها مدارسنا الحالية»‏[3].

كان معظم الطلبة أولاد الحكام والكهنة والأغنياء وقلة من أولاد العوام الطامحين لتعليم أولادهم وعلى حساب ضنك عيشهم من جرّاء تحمل كلفة التعليم الباهظة. كان المعلمون يتمتعون بمركز اجتماعي يقترب من الكهنة والضباط على الرغم من قلة دخلهم‏[4].

حين نذكر بشيء من التفصيل التعليم في حضارات العراق القديم لا ننطلق من الولاء لبلدنا، فنحن ندرك العطاء الثر لحضارات مصر واليونان والهند والصين وغيرها ولكننا سنركز باختصار على فلسفة التربية والتعليم في تلك الحضارات القديمة‏[5].

استندت فلسفة التعليم عند قدماء اليونان إلى مبدأ التنسيق والتآلف، فاعتمدت مواضيع الحساب والفلك والهندسة والموسيقى مواضيع أساس، مع الاهتمام الكبير بتعليم لغتهم… قواعدها ونطقها، والاهتمام بالمخاطبة وعلم المنطق كونها أدوات فهم مواضيع التعليم ومبادئها وتوجيهاتها والتبصير بها. وتولى سقراط فضح المعتقدات الخاطئة. بينما دعا أفلاطون إلى عدم تعليم المنطق واهتم أرسطو بموضوع الخطأ من دون إعطائه التعريف الواضح.

وفي الصين دعا كونفوشيوس إلى التركيز على موضوع السلاح نظرياً وعملياً لا لخلق محاربين بل لاعتقاده أن ذلك يعلِّم الانضباط والدقة والتركيز. وأوصى بتدريس موضوع السلوك الحسن.

وساد الاعتقاد في أوروبا القرون الوسطى أن جميع المواضيع ليست سوى صيغٍ من المحادثة، وعليه فالتعليم يستند إلى صيغ من اللغة، وأن معرفة موضوع معين يعني معرفة اللغة التي تصفه.

2 – فلسفات التعليم المعاصرة والنموذج الفنلندي

يقترح أحد المعاصرين اعتماد علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وعلم الفلك وعلم الآثار مواضيع ذات أولوية، وأن تدرّس باستعراض تاريخها المتنامي ومعانيها المتراكمة ليدرك الطالب كيفية توصل الإنسان إليها وكيفية تمكنه من تدوين نجاحاته ليستفيد منها من يأتي بعده، وليدرك نموها وازدهارها وليتعرف إلى معاناة المفكرين الذين أوصلوها إلى المستوى الذي يدرسه.

يدعو الكاتب وليم جيمس (William James) إلى تدريس جميع المواضيع ضمن المفهوم التاريخي لنشوئها وتطورها، فالاقتصاد والميكانيك وعلم الأحياء تصبح مواضيع أدبية إذا تم تدريسها بالتركيز على إنجازات عباقرتها فقط، إذ سيقتصر تدريس التاريخ على تكديس قوائم بالأسماء والتواريخ، وستقتصر المواضيع العلمية على معادلات ومكاييل وقوانين وقياسات، ويصبح علم الفلك مقتصراً على أسماء كواكب ونجوم سرعان ما ينساها الطالب بعد أداء الامتحان.

ويستشهد هذا الكاتب بالإمبراطور الروماني سيسرو (Cicero) الذي قال «إذا لا ندرِّس ما حدث قبل ولادتنا سنبقى أطفالاً، فما جدوى حياة الإنسان إذا لا تتضمن معرفة حياة آبائه والسلف السابق». ويدعو هذا الكاتب إلى تدريس اللغات الأجنبية ومقارنة الأديان‏[6].

يقترح عدد من التربويين أن يتفرغ مدرِّس الثانوية – ولو لفصل واحد – لتدريس موضوع يكرهه خارج اختصاصه لكي يشعر بما يشعر به الطالب حين يدرس موضوعاً يكرهه. وسيتعرف المدرِّس إلى ظاهرة الخوف من ارتكاب الخطأ واحتمال معرفة الطلبة للموضوع الذي يكرهه هو أفضل من معرفته، وحين يعود لتدريس موضوع اختصاصه سيعرف أسلوب عرضه على الطلبة الكارهين للموضوع.

ويدعو آخرون إلى تقييم الكتب المنهجية لأن أغلبيتها قد أُعدّت من مؤلفين لا صلة لهم بالتعامل مع الناس، فهم يسطّرون المعلومات بأسلوب جاف لا حياة فيها وكأنها حقائق لا تقبل النقاش، فهذه الكتب المنهجية معدَّة لتسهيل الأمر على المدرس وعدم تعرضه للإحراج.

ويدعو آخرون إلى اهتمام المدارس بتنشئة أُناس متفهمين لأسلوب البحث ومدركين لاحتمالية وقوعهم في الخطأ، وأن يتعلموا التشكيك حتى في آرائهم فإن اعتقدوا أن المسؤول لا يخطئ، أكان مدرساً أو قاضياً أو طبيباً أو رئيساً، فنكون قد فشلنا في إعداد النشء‏[7].

ويصرِّح جون ديوي‏[8]: «نتعلّم من فعل الشيء بنجاح، ونتعلم أكثر بارتكاب الخطأ فنصححه بسلوك مسار التجربة والخطأ، وقد نقع في أخطاء أخرى فنصححها حتى تتولد لدينا قناعة راسخة بما أنجزنا من هذا المسلك الشائك».

ويذهب عالم النفس الروسي لِڤ ڤيڠوتسكي (Lev Vygotsky) للتصريح أوائل القرن العشرين بأن الحفظ عن ظهر قلب يخلق إنساناً لا يدرك معاني ما حفظه ولا عن أهميته‏[9].

ويبالغ الكاتب الأمريكي جون مولت‏[10] حين يصرِّح بأن «مدارسنا التقليدية واحدة من أكثر المؤسسات جوراً ولاديمقراطية، وهي جريمة بحق العقل والروح، وهي المسؤولة عن ملل الطلبة ولامبالاتهم وتعاستهم تجاه التعليم وعدم حب الاستطلاع».

ويدعو آخرون‏[11] إلى تغيير جذري للنظام الحالي لتجنيب الطلبة الاعتماد على الحفظ والتذكر، فيتوجب تدريبهم على الاعتماد على الذات في استنباط المعرفة، وهو ما يطلق عليه أسلوب التعليم المعمّق، إذ يُضع الطالب على المحك فيقضي وقتاً أطول لإنجاز مشروع محدد أو تقييم عرض لما تعلمه أو المشاركة في حلقات دراسية وندوات.

يتميز التعليم المعمّق بالآتي‏[12]:

  •  إنجاز تجارب حيّة ذات جدوى.
  •  انعماس الطالب ببرامج ومشاريع واقعية نابعة من محيطه.
  •  خلق التنوع لدى الخريجين.
  •  تشجيع الطلبة على التفكير النقدي.

 

وأعرف شخصياً أن هذا الأسلوب مطبق في مدارس كندا، فاطلعت عليه عند متابعة دراسة أحفادي في مرحلتي الابتدائية والثانوية.

ومن المفيد الاطلاع على نتائج تقييم دولي أجري لمدارس عدد من الدول على وفق برنامج: برنامج لتقييم الطلاب الدوليين (Program for International Student Assessment (PISA)) فجاءت فنلندا على رأس القائمة. وتشير تقارير دولية عديدة إلى أن أفضل نظام تربوي هو نظام فنلندا‏[13]، لذا نرى من المفيد إعطاء وصف لهذا النظام لا بالإطناب الممل ولا الإيجاز المخل وضمن أربعة محاور هي: الأهداف، المقومات، الأساليب والميزات للنظام الفنلندي المنشود.

 

أ – الأهداف

  •  تعليم الطلبة ما يحتاجون إليه في حياتهم وليس تلبية متطلبات التقييم والامتحانات.
  •  تمتع الطلبة بالسعادة التامة والمرح ومحبة المدرسة.
  •  التخلي كلياً عن النظام الحالي (التعليم وفقاً لمقررات دراسية محددة) أي تدريس العلوم والآداب وغيرها مجزأة ضمن مفردات منفصلة غير مترابطة ببعضها. على سبيل المثال لا الحصر نذكر مقررات الفيزياء والأحياء والتاريخ والجغرافية والاقتصاد واللغة والدين.
  •  تبني منهج راديكالي باعتماد نظام (التعليم وفق ظواهر وأحداث من الواقع والمحيط). مثل موضوع الاتحاد الأوروبي وموضوع التغير المناخي. فيتعلم من الأول اللغات والجغرافية والتاريخ والاقتصاد وإيجابيات وسلبيات الاتحاد. ويتعلم من الثاني العلوم والبيئة والاقتصاد والسياسة العامة وأساليب إصدار القرارات.

 

ب – المقوِّمات

  •  يمارس الطلبة إعداد الدراسات والظواهر المطلوبة بالعمل ضمن مجاميع من الطلبة يتم اختيار أعضائها من الطلبة ذاتهم.
  •  يمارس الطلبة التمارين الرياضية بالاشتراك الجمعي لما لا يقل عن ثلاث ساعات يومياً في قاعات الرياضة في المدرسة أو في باحاتها الخارجية وهي مدة تزيد على مدة الساعة الواحدة يومياً حسب توصية منظمة الصحة العالمية WHO.

 

ج – الأساليب

  •  يختار المعلم أو المدرِّس، بالتشاور مع الطلبة، موضوعاً حيوياً من الواقع والمحيط المحلي.
  •  تتولى مجاميع الطلبة دراسة الموضوع وإعداد تقارير للمشروع بالاستعانة بالمصادر المطبوعة و/أو المواقع الإلكترونية للمعلومات.
  •  يتعاضد طلبة كل مجموعة في إتمامه بالتشاور والمناقشة وحرية الوصول إلى رأي موحّد متفق عليه.
  •  تعرض كل مجموعة ما توصلت إليه في الصف الدراسي لمناقشته من جميع الطلبة ومن المعلم أو المدرس، الذي يلخص ما يرد في تقارير مجاميع الطلبة ويشرح ما يرد في الخلاصة من علوم وآداب وغيرها. وقد يختار أفضلها لعرضه على الأسرة التعليمية في المدرسة، التي قد توصي بتوثيقه ضمن إصدارات المدرسة.

 

د – الميزات

  •  يكتسب الطلبة تلقائياً المهارات المتنوعة والتكنولوجيا إضافة إلى المواضيع العلمية والأدبية الأساس.
  •  يمارس الطلبة الحرية واحترام آراء الآخرين واكتساب الشجاعة في عرض التقرير ومناقشته والدفاع عما يرد فيه وتقبُّل النقد والإرشاد.
  •  يتخلّص الطلبة من النظام الهرمي الحالي بقبول التلقين من المعلم والمدرس والالتزام بما يتلقاه من معلمه.
  •  يتخلّص أعضاء الهيئة التعليمية من أعباء تصميم مواضيع التعليم ومفرداتها ومهمات الإشراف على التنفيذ.
  •  يزاوج الطالب بين استنباط المعرفة من المصادر وبين ما يتعلمه من النقاش مع الزملاء والمعلم.
  •  تتوافر للمعلم والمدرس حرية اختيار الأحداث والظواهر من المحيط المحلي.
  •  يستمتع الطلبة بالتحسس عن قرب بالظواهر والأحداث القريبة منه والتي يعايشها، وهو ما يجعله فخوراً بما يتوصل إليه.
  •  يتعلم الطلبة من المشاركة في التمارين الرياضية والألعاب المقررة على التفاعل في ما بينهم ويكسبون مهارات الترابط الاجتماعي.
  •  تتغير العلاقة بين الطلبة والمربي من تلقي المعلومات مصحوبة بالأوامر والانضباط إلى المشاركة في تكوينها وتعلمها.

 

ثانياً: واقع أنظمة التربية والتعليم في الوطن العربي

إذا كان النقد البنّاء لأنظمة التربية والتعليم في الدول الأكثر تقدماً صارخاً ومعمقاً كما ذكرناه آنفاً ووضع مؤسساتهم في أحسن حال، فما بال مدارس بلادنا العربية ومعظمها متدنٍ جداً؟

إبتداءً يجب أن تعلمنا المدارس كيف نعيش، وهو أمر مختلف كلياً عن مفهوم كيف نكيِّف وضعنا وعملنا. ويتوجب أن لا نترك الناس فريسة لما يتعرضوا له في المجتمع، فالفقر يعلِّم فقدان الأمل، ووسائل الإعلام تروِّج للنزعة الاستهلاكية، والسياسة تعلِّم السخرية وعدم الثقة بالآخر. أما المدرسة فيتوجب أن تعلمنا أسلوب العيش ولكنها لا تضطلع حالياً بهذه المهمة النبيلة في بلادنا، لأن أولي الأمر معنيون بأمور أخطر عليهم من التعليم، وثقافة أبناء المجتمع تجعلهم غير مبالين وسلبيين، كما أن الاقتصاد يهب التعليم موقعاً ثانوياً. وعلى الرغم من كل هذه المثبطات يبقى التعليم وتبقى المدرسة تستحق كل الاهتمام.

لنتطرق الآن إلى الوضع الحالي لأغلب مدارسنا، كما عايشناه أو كما نراه الآن. ومن الطبيعي أن ترتكز رؤيتنا على الوضع في العراق.

يأتي المعلم ليقف أمام صفوف من الرحلات (المصاطب) يجلس خلفها الطلاب فيلقي الدرس، ويأمر الطلاب تدوين ما يقوله في دفاترهم وحفظه عن ظهر قلب، ثم يمتحنهم في ما حفظوه، والويل لمن يخطئ فتقلّ درجة الاختبار وينال التوبيخ من المعلم والعقاب من أبويه.

ويقضي الطلاب نصف وقتهم منتظرين توزيع أوراق الاختبار ثم ينتظرون حصول الطلبة الأسوأ أداءً إجابات لأسئلتهم وشكواهم، ثم ينتظرون بفارغ الصبر والأمل سماع جرس نهاية الدرس إما للاستمتاع باستراحة قصيرة وإما لانتهاء الدوام والذهاب إلى بيوتهم.

فالطالب في المدرسة معزول بالكامل عن المجتمع. وإن جلوسهم خلف رحلات مرتّبة خلف بعضها ليستلموا الأوامر، والعقاب إن تكلموا مع بعضهم بدون إذن المعلم، وعليهم الالتزام بمناهج مليئة بالعيوب تتطلب أن يتقبلها دون تشكيك أو استفسار، فيدرك أن استعادة معلوماتها يأتي بأفضل النتائج. فيتنافس الطلبة للحصول على درجات عالية فينمو لديهم حب الذات والأنانية. ويتعرض الطالب للتخويف من المعلم ومن إدارة المدرسة وحتى من زملائه، فالعقاب يمارس بنطاق واسع.

يستوجب هذا النظام بالضرورة أن يكون الطالب متيقظاً ومنتبهاً وملتزماً. وهو أمر بالغ الصعوبة لطالب صغير العمر، فينتابه الملل وما يرافقه من قلق وشعور سلبي تجاه المدرسة وتجاه التعلّم يدفعه إلى التصرف السيئ فيقابل بضوابط قاسية وهو ما قد يجعله يتسرب من المدرسة وترك التعلّم فتزداد الأمية في المجتمع ويزداد التخلف.

لنغادر موضوع التعليم في المدارس – رغم أهميته القصوى – لنخرج باختصار إلى المؤسسات التعليمية الأخرى.

1 – التعليم المهني

أ – التلمذة المهنية

لا نخالف الواقع إن قلنا إن الأسلوب الأكثر رواجاً في إعداد المهنيين (أو العمال المهرة) في البلدان العربية هو قضاء الصبي فترة زمنية عند صاحب المهنة ليعمل بإمرته ويتعلم مهنته لينتقل بعدها لممارسة المهنة عند مدربه أو بمفرده أو بالاشتراك مع أقرانه أو ليعمل مع آخرين من أرباب المهنة. ولا يحتاج هذا الأسلوب إلى الحصول على إجازة عمل من جهة حكومية أو نقابية تخوله ممارسة المهنة ويترك هو لشطارته ولباقته في التعامل مع الزبائن. ومن إيجابيات هذا الأسلوب:

- عدم تحديد مدة التدريب عند رب العمل.

- العمل بكل تفاني ذاتي في تعلم المهنة.

- إتقان الممارسة المهنية بحرية وليس بالإكراه.

أما سيئاته فمنها:

- حرمان المتدرب من التعليم بالمدارس وحرمانه حياة الطفولة.

- خضوعه لقساوة العمل والإهانة من رب العمل ومن الزبائن، وهو ما قد يولِّد لديه سلوكاً غير سوي في شبابه وعند كبر سنه، وقد يكتسب روح العدوان والانتقام.

- عدم حصوله على معونة مالية طوال مدة التدريب. وعلى الرغم من عدم امتلاكنا إحصاءات حقيقية عن حجم هذا الأسلوب التعليمي، إلّا أننا نعلم أن أغلب المهنيين والحرفيين في البلدان العربية هم من خريجي هذا الأسلوب.

ب – المدارس المهنية

تأسست في النصف الثاني من القرن العشرين في معظم البلدان العربية مدارس مهنية (صناعية وزراعية وتجارية وصحية) يلتحق بها خريجو المدارس المتوسطة (الصف التاسع عند بعض المسميات) ليتخرجوا بعد ثلاث سنوات وهي مدة الدراسة الإعدادية نفسها (الصف العاشر إلى الثاني عشر).

يحصل المتخرج على قدر جيد من المعرفة النظرية ولكنه يفتقر إلى الممارسة العملية والتطبيقية لنقص إمكانات تلك المدارس، فهو إذاً غير مؤهل لسوق العمل ولا يستطيع منافسة خريج التلمذة المهنية آنفة الذكر.

ج – المعاهد الفنية

تأسست في عدد من البلدان العربية معاهد فنية يقبل فيها خريج الدراسة الإعدادية بفرعيه العلمي والأدبي وكذلك خريج المدارس المهنية. ويبلغ أمد الدراسة في المعهد الفني سنتين دراسيتين؛ معظمها نظرية وقليل من البرامج العملية والتطبيقية.

توفر هذه المعاهد فنيين مؤهلين متمكنين من تنفيذ بعض الأعمال في مواقع العمل المختلفة. فمثـلاً في القطاع الهندسي يمارسون الرسم الهندسي والتصنيع الكهربائي والإلكتروني، وكذلك التشييد المدني وأعمال الصيانة. وفي القطاع الصحي يمارسون تشغيل أجهزة التشخيص والعلاج ومساعدة الأطباء في أعمال الفحص ومتابعة العلاج وهكذا في القطاعات الأخرى.

ويشكو طلبة هذه المعاهد أن انتماءهم إليها تم في ضوء درجات تخرجهم من الدراسة الإعدادية فيشعرون أنهم حُرِموا الدراسة الجامعية لهذا السبب ليس إلّا.

وأذكر للمقارنة أنني التقيت في إنكلترا عدداً من طلاب معهد فني متخصص بعلوم الألبان وآخرين في معهد زراعي وكانوا متحمسين جداً للدراسة وسعداء بمسعاهم وينتظرون بفارغ الأمل للعمل في مزارع ذويهم أو في مؤسسات كبيرة في هذين المجالين. كما وجدت في مراكز للبحث والتطوير فنيين تغمرهم السعادة والرغبة للعمل بمعية الباحثين، فهم ينفذون الأعمال الروتينية من نصب المعدات وتشغيلها وإدامتها وغير ذلك من الأعمال.

والأمل يحدوني أننا سنصل إلى هذا الأسلوب المرغوب في مجتمعاتنا عندما تتقدم بلادنا إلى مستويات أعلى من وضعها الحالي. فالتقدم يشمل كل شيء ولا يمكن تجزئته.

2 – التعليم الجامعي

سأقتصر في هذا الموضوع على تجربتي في تدريس الكيمياء اللاعضوية في جامعات العراق والجزائر، وأستند أيضاً إلى اطلاعي على المناهج في بعض الجامعات العالمية (إنكلترا وألمانيا وكندا وماليزيا والهند وغيرها).

وربما لا تتطابق رؤيتي على غير الكيمياء من العلوم الأساسية (الفيزياء وعلم الأحياء والجيولوجيا والرياضيات). وقد تكون الرؤية مختلفة في كليات الطب والهندسة والزراعة والآداب وغيرها.

- مفردات المناهج للدراسة الجامعية الأولية تحاكي وتماثل ما في جامعات الدول المتقدمة. والهدف من ذلك معادلة الشهادة مع شهادات الجامعات الدولية.

- فالدراسة في الجانب النظري ذات مستوى جيد جداً، غير أن الأسلوب يستند إلى التلقين من دون مشاركة فعّالة من الطلبة ومن دون تكليفهم إعداد مشاريع أو دراسات أو تقارير، سواءٌ على المستوى الفردي أو الجمعي.

- ويهدف التدريس أيضاً إلى تأهيل المتخرج لمرحلة الدراسات العليا في البلد نفسه أو في البلاد المتقدمة. أما إعداد المتخرج لسوق العمل المحلي فلا يحظى بالاهتمام الذي يحتاجه على الرغم من أن أغلب المتخرجين ينخرطون فيه، وقلةً منهم يتوجه للدراسة العليا.

أما الجانب العملي أو التجريبي – وإن تخصص له ساعات تزيد عن ساعات الدراسة النظرية – فهو يشكو من معضلات كثيرة تجعله لا يحقق مردوداً يتناسب مع مفرداته ولا مع الجهد المبذول من الطلبة أو الكادر التدريسي، ولا مع المبالغ الكبيرة التي تصرف على الأجهزة والمختبرات والبنى الساندة من مخازن وورش وكذلك المواد الكيميائية المستوردة بأثمان باهظة. وفي ما يأتي نذكر بعض المآخذ على هذا الأسلوب ثم نتطرق إلى الإصلاح:

أ – مساوئ المنهج التجريبي العملي في الكيمياء

- يزود الطالب ملزمة تتضمن أدق تفاصيل طرق إجراء التجارب، سواء كانت تحضير مادة معينة أو إجراء تحليل محدد.

- ينفذ الطالب ما يرد في طريقة العمل خطوة بخطوة ولا يحيد عن ما يرد في الملزمة.

- إن أخطأ الطالب في خطوة من خطوات طريقة العمل لا يحاول التحرّي عن أسباب الخطأ ذاتياً بل يلجأ إلى المشرف ليتحرى نيابة عنه أسباب الخطأ.

- لا يتدرَّب الطالب ضمن البرنامج التجريبي على الاستنباط والبحث ولا على تعزيز الثقة بالنفس، وهو ما يحتاجه في ميدان العمل لاحقاً.

- يبذل المدرسون المساعدون جهداً غير اعتيادي لمساعدة الطلبة.

ب – مقترح التجديد

- إلغاء أسلوب التلقين في التدريس النظري واستبداله بأسلوب المشاركة والمحاورة واستنباط المعرفة.

- الاهتداء بفلسفات التدريس المعاصرة والواردة سابقاً في هذا البحث.

- إلغاء الأسلوب المعمول به حالياً في البرنامج التجريبي لما يكتنفه من مساوئ كما ذكرت آنفاً.

- إعطاء الطالب عنوان التجربة المطلوبة مع شرح مقتضب للجانب النظري للتجربة. كأن تكون تحضير مادة محددة.

- يوجَّه الطالب إلى المصادر المتوافرة في المختبر لإعداد طريقة العمل. ويكون مسؤولاً عن حسن اختيارها وأن يتفحصها جيداً للتعرف إلى كل خطوة، وأن لا يطلب من المدرس المشرف الموافقة على الطريقة التي اختارها ولكن يمكنه طلب المساعدة لتفهم ما قد يعصى عليه في الجانب النظري لأي من خطوات العمل.

- يتولى الطالب تجميع المواد والمعدات من المخزن الملحق بالمختبر أو من المخزن المركزي.

- ليس من الضروري إنجاز التجربة ضمن حصة واحدة بل يمكنه تأجيل الإنجاز لحصة أو حصص أخرى. فالغاية ليست إجراء أكبر عدد من التجارب بل إنجاز ما يستطيع إنجازه بكفاءة جيدة.

- يُعد الطالب تقريراً في نهاية التجربة يتضمن طريقة العمل ووصفاً لجميع الخطوات وسجـلاً للمشاكل التي صادفته والنتيجة المتحققة.

- يطبق ذات الأسلوب في تجارب التحليل الكيميائي، على أن يتولى المدرس المساعد التأكد من معرفة الطالب وكفاءه في استخدام أجهزة التحليل.

- يطبق هذا الأسلوب في السنتين الأخيرتين من الدراسة (الصف الثالث والرابع) فقط. أما في السنتين الأوليين (الصف الأول والثاني) فيطبق الأسلوب المعمول به حالياً مع تحويره ليتعلم الطالب من خلاله الاعتماد على الذات قدر الإمكان استعداداً للمرحلتين الأخيرتين.

قبل أن أختم هذا الموضوع يطيب لي ذكر حادثة من تجربتي مع طلبة الماجستير والدكتوراه الذين أشرفت على بحوثهم.

طلبتُ من أحد طلابي تحضير المادة الأولية للبحث فحضرها ثم طلبت منه تنقيتها فجاءني ليقول إن التنقية تتم بطريقة التسامي تحت ضغط مخلخل وأنه لا يعرف كيف يجريها فأخبرته أنني لا أعرف أيضاً، فبَهَتَ لقولي، لكونه تربّى على أن المسؤول لا يخطئ، وذهبنا سويةً إلى أستاذ نعرف أن طلابه يستخدمون تلك الطريقة لتنقية المواد التي يحضرونها. ذهبنا نحن الثلاثة إلى طالب ماجستير هو زميل طالبي وطلبنا منه أن يرشدنا إلى الطريقة وأن يساعد طالبي على تنقية مادته شريطة أن لا يجريها له.

وبعد سنين طويلة قال لي الطالب – وهو حينئذ يحمل الدكتوراه ويعمل رئيساً لقسم في أحد المؤسسات البحثية – إن أفضل ما تعلمه أثناء مرحلة الماجستير معي هو اعتراف أستاذه بعدم المعرفة وهو ليس عيباً بل فضيلة، وقال إنه التزم بذلك التصرف في عمله وفي إدراته للقسم.

لن ألوم قارئ هذا البحث إن قال (ما منعك من تطبيق ما تدعو إليه الآن حين كنت عضواً فاعـلاً ضمن تدريس أقسام الكيمياء؟) أقول إنني – وكما ذكرت في أبواب هذا البحث – أؤمن أن التجديد يأتي من الأعلى إلى الأسفل، وهو إجراء جمعي وليس فردياً. فهدفي من إعداد هذا البحث هو إقناع الجهات العليا في تبنَّي المقترح كـلاً أو بعضاً منه وترك التفاصيل إلى الكوادر التدريسية. وأستشهد بالمقولة الإنكليزية: (The devil is in the details) أي أن الشيطان يكمن في التفاصيل.

ثالثاً: استراتيجية الإصلاح والتجديد المطلوب

سنركز الاهتمام بمرحلة المدرسة ذات الأهمية القصوى وكما ذكرنا سابقاً.

نحن كبشر سنجد دوماً صعوبة في تفهم بعضنا، فنتخاصم على معاني الكلمات، ونشكو الضرر الذي يصيبنا من الغير، وربما لا نجد في أية لغة ما يلغي التحريض والجدل والغموض في القول. فيتوجب على التربية والتعليم التثقيف للتخلص من هذه المشاعر الإنسانية الهدّامة.

ولا ينهض أي مجتمع إلّا بأبنائه المالكين للمعرفة في شتى مجالاتها؛ فبالعلوم والتقانة والمهارة والكفاءة المتناغمة مع متطلبات العصر تنهض الأمم. فالنشاط البشري الأصيل ابن يومه، غير ناقل لغيره ونابع من حاجات محيطهِ.

برز في بدايات القرن العشرين مفكرون وتربويون في مصر وبلاد الشام والعراق، أحدثوا عطاءً ثراً في مجال تعريب مصطلحات التربية والثقافة والعلوم وشتى مجالات المعرفة التي كان لها أكبر الأثر في مناهج ومفردات التربية والتعليم في جميع المراحل التعليمية.

ففي العراق استحدث المربي ساطع الحصري – الموظف سابقاً في منظومة التربية في العهد العثماني والمدير العام للتربية في العراق في عهد الملك فيصل الأول – نظاماً تربوياً ومفردات مواضيع القراءة والكتابة واللغة العربية والتربية الوطنية موجهة لغرس مفاهيم المجد والشموخ العربي في نفوسنا أطفالاً وشبّاناً، والتشديد على أن الوضع حينئذ وليد التفتيت المصطنع وتقسيم بلاد العرب إلى أقطار ودويلات من جانب العثمانيين أولاً ثم الانتداب الغربي لأراضي شبه جزيرة العرب والاستعمار العسكري الاستيطاني لأراضي شمال أفريقيا من مصر وحتى المغرب العربي، فتربى جيلنا على مفهوم الوحدة العربية لتصبح أمة موحّدة.

لم تقتصر مهمة الحصري على هذا الجانب التربوي، بل دعا إلى التنقيب الأثري لكشف آثار حضارة العراق عبر العصور بغية التأكيد على كونها مهد الحضارات ومنبع الكتابة والفلك والرياضيات وأدب الملاحم الخالدة وغيرها الكثير.

ولن نرى قِواماً يحقق طموحات أمتنا إلا بإحداث ثورة تربوية شاملة وأصيلة تنسجم وتراثنا وتستجيب لحاجاتنا.. ثورة لن تتحقق إلا حين تستقر بلادنا سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.

ستقتصر الاستراتيجية التي ندعو إليها في بحثنا على إصلاح وتجديد يضمنان تطبيقها تدريجياً ولحين استحداث الثورة التربوية المنشودة، ولنا في نموذج فنلندا ما نصبو إليه. فالهدف من الاستراتيجية الناجحة يرتكز على العناية القصوى بالثروة البشرية إذ بدونها لا فائدة من الثروات الطبيعية مهما تنوعت وتعاظمت مقاديرها وتزايدت أقيامها، إذ ستبقى كامنة ما لم يتولى أبناؤها تطويعها واستغلالها لخير الأمة جمعاء.

نحن متيقنون أن الاهتمام الأكبر يتوجب أن يتوجه صوب مراحل المدرسة، فهي التي تؤهل النشء وتصقل تجربتهم وتهيئهم للمساهمة الفاعلة في تسيير شؤون الوطن سواء بالتحاقهم بسوق العمل أو انتقالهم إلى التعليم الجامعي.

ولنتساءل: ما الفرق بين التعليم في المدارس والتعلّم من البيت والمجتمع ومواقع العمل؟ فالطفل الرضيع ذو ملكة كبيرة لاكتساب اللغة والمعارف البسيطة ذاتياً لحاجته إلى التواصل مع أهله والناس في محيطه. وللمقارنة بين التعليم المنظم وبين التعلم الذاتي نطرح أسئلة أكثر من أجوبة‏[14] من بينها:

- ما هي الغاية من المدرسة وما دورها؟

- هل المدرسة محركة لتطوير المجتمع أم للسيطرة عليه؟

- أم أنها أداة لترسيخ التباين والتفاوت في البنية الحالية للمجتمع والاقتصاد؟

- هل المدرسة منارة للأمل أو بيتاً لحبس العقل؟

نستطيع تأكيد ضرورة تمحور مهمة المدرسة على خلق ناس متحضرين، متمكنين من تحمل المسؤولية، مدركين لأهمية المعيشة الأفضل، وأن لا يكون أكبر همّهم الحصول على الشهادات.

1 – من أين نبدأ؟

نعتقد أن التسلسل الناجح يكون على وفق الخطوات الآتية:

أ – التوصل إلى إدراك جيد وتقييم واقعي للوضع الحالي. وبالإمكان إنجازه من قبل لجنة تضم اختصاصيين تربويين ومدرسين متمرسين وأولياء أمور الطلبة من ذوي الاهتمام والنظرة الواقعية المتجردة.

ب – تعرض استنتاجات اللجنة أمام جمهور بدعوة حرة لمناقشتها وإثرائها؛ ثم تُعرض أمام البرلمان أو مجالس الشورى للأخذ بها.

ج – استحداث أساليب تربوية تؤسس لمحبة واحترام متبادل بين الطلبة وبينهم وبين معلميهم.

د – استحداث برامج تعليمية تضمن التخلي كلياً عن أسلوب التلقين والتحفيظ. وتشجيع الطلبة على مغادرة السلوك الفردي في الأنشطة المتعددة وتبني العمل الجمعي مع أقرانهم ومعلميهم ومع فئات المجتمع، فلن يستطيع الإنسان تنفيذ نشاطه إذا لا يأخذ بالحسبان أنشطة الآخرين. فاحترام رأي الآخر عماد تطوير المجتمع.

هـ – تطوير البرامج التربوية والتعليمية لتحاكي مثيلاتها في الدول المتقدمة والدول المتطورة.

و – استحداث برامج تناسب التقانة الرقمية والتقدم الهائل في تقانة المعلومات والاتصالات.

ز – تطبيق المفاهيم والمعايير المعتمدة دولياً.

ح – تفعيل العلوم التربوية والاجتماعية والنفسية لرعاية الطفل وطالب المدرسة.. رعاية تؤهل جيـلاً سيتولى تسيير شؤون المجتمع علمياً وتقانياً ومهنياً وإدارياً واقتصادياً وسياسياً.

ط – التشديد في المدرسة على ترك المفاهيم والبدع والخرافات السائدة حالياً.

ي – رعاية المعلمين والمدرسين وإعلاء شأنهم وموقعهم في المجتمع لمستوى لا يقل عن موقع أقرانهم الأطباء والمهندسين ومنتسبي القوات المسلحة والإداريين والسياسيين. فشعور التربوي بتدني موقعه الاقتصادي والاجتماعي يجعله ينتقص من ثقل تحمّل مسؤولياته.

ك – الاهتمام بمباني المدارس وملاحقها ومحتوياتها لتصبح أماكن توفر الراحة والسكينة أفضل مما توفره أغلب بيوتهم. وحبذا لو ألحقت بالمدرسة بيوت أعضاء الهيئة التعليمية.

ل – إصلاح برامج مؤسسات إعداد المعلمين والمدرسين وسنأتي على هذا الموضوع بالتفصيل لاحقاً.

م – التأكيد أن واجب المدرسة رعاية وتربية وتعليم جميع الطلبة وليس مجموعة محددة عرقياً أو طائفياً.

ن – تنشئة طلبة مؤمنين بروح التنوع والاختلاف واحترام الآخر، سواء كان التنوع الثقافي نابعاً من اللغة والدين والعادات والفنون والتراث.

2 – الإصلاح والتجديد المطلوبان

هل يأتي التجديد من القاعدة إلى القمة؟ أي من البيت والطلبة إلى المدرسة فالتربويين فالسلطات؟ أم يأتي من القمة إلى القاعدة؟ أي من السلطة العليا إلى السلطة المحلية وإلى التربويين والمدرسة والطلبة والعائلة.

نعتقد أن التجديد والتطوير كلّ لا يتجزأ، أي أن تتعاضد المنظومة التربوية السلطوية مع العوائل وطبقات المجتمع لإعداد منظومة محبوكة جيداً تستجيب للخطوات المذكورة آنفاً وأن الخطة يمكن أن تتمحور على ما يأتي:

- تقويم وتطوير مؤسسات إعداد المعلمين والمدرسين.

- تأسيس المدارس في مواقع الوطن كافة وعدم اقتصارها على المدن الكبيرة بل أن تعمم على المدن الصغيرة والقرى والأرياف كافة، وأن تؤسس المدرسة وسط تجمع سكاني ليتمكن الطلبة الوصول إليها بيسر.

- أن تضاهي أبنية المدارس الأبنية الإدارية إن لم تكن أبهى منها، وأن يشتمل البناء على غرف بهيجة تحتوي كل وسائل التعليم والمتطلبات الترفيهية. وأن يُعنى بالخدمات والبنى التحتية والبيئة المحيطة البهيجة والنظافة المستدامة.

سنتناول هذه المحاور بما يتناسب ومستوى أهمية كل منها كالآتي:

– مؤسسات إعداد المعلمين والمدرسين: قد تتباين هذه المؤسسات في البلدان العربية، لذا سنتطرق إلى تجربة العراق في هذا المجال.

(1) يتم إعداد المعلمين للمدارس الابتدائية في معاهد يسمى واحدها دار المعلمين الابتدائية، حيث تستغرق مدة الدراسة سنتين لخريجي المدارس الإعدادية بشقيها العلمي والأدبي.

(2) يتم إعداد المدرسين للمدارس المتوسطة والإعدادية في كليات التربية وهي وريثة دور المعلمين العالية الملغاة. وسنتولى النظر في شؤون كليات التربية بالتفصيل وكالآتي:

(أ) الواقع الحالي لكليات التربية: وهي في العراق فئتان، أولاهما تتولى إعداد المدرسين في المواضيع العلمية، وثانيتهما تتولى إعداد المدرسين في المواضيع الأدبية. تعتمد هذه الكليات حالياً مناهج مماثلة لمناهج كليات العلوم وكليات الآداب في الجامعات العراقية وتكاد تكون صورة طبق الأصل لها فيما عدا بعض المواضيع التربوية. ويتنافس خريجو كليات التربية مع خريجي كليات العلوم والآداب في سوق العمل وفي الدراسات العليا، وهذا يعني أن كليات التربية ليست موجهة بالكامل لإعداد مدرسي الثانويات، لذا فهي لم تعد تسهم في الارتقاء بالتربية والتعليم في المدارس الثانوية. ولأجل أن تؤدي هذه الكليات دورها الأساس نتقدم بالمقترح الآتي لتجديد أدائها.

(ب) تطوير كليات التربية: يشمل مقترحنا لتطوير هذه الكليات الإجراءات التالية:

(1) تتفرغ كليات التربية لتحقيق أهدافها في إعداد مدرسين للمدارس الثانوية، أكفاء يساهمون في عملية الارتقاء بالتعليم للجيل الصاعد.

(2) إعداد المناهج العلمية والأدبية بحيث يكتمل الإعداد الأكاديمي في غضون ثلاث سنوات دراسية. ويُحبّذ أن يتخصص الطالب بموضوعين رئيسيين (مثـلاً كيمياء وعلم الأحياء، كيمياء وفيزياء، فيزياء ورياضيات… وغيرها) وعلى نفس الشاكلة في كليات التربية الأدبية.

(3) تخصص السنة الرابعة بالكامل للمواضيع التربوية والاجتماعية والنفسية بواقع نصف السنة للدراسة النظرية. ثم يتفرغ الطالب في النصف الثاني للتطبيق التدريسي في مدارس محددة بالاشتراك الفعّال مع مدرسي تلك المدارس وبإشراف مكثف من أساتذة الكلية في التخصصات العلمية والتربوية. وبتقييم فعّال للتطبيق من أساتذة الكلية ومن إدارات المدارس. وأن يطلب من الطالب المطبِّق إعداد رسالة قصيرة بإشراف الأساتذة التربويين على وفق أسس الدراسات العليا.

(4) يمنح المتخرج من كلية التربية شهادة بكالوريوس تربية – علوم (BEd.Sc) أو بكالوريوس تربية آداب (BEd.A).

(5) يعيّن العشرة الأوائل بدرجة مدرس مساعد لسنة واحدة فقط في كليات التربية لاكتساب المزيد من الخبرة وليساهموا في الإشراف على التطبيق التدريسي لطلاب الصفوف الرابعة ويتم تعيينهم بعدئذ في المدارس وحسب رغباتهم.

(6) اختيار 2 بالمئة من خريجي كل تخصص ومن المتميزين في التطبيق التدريسي لإيفادهم إلى الدول المتقدمة والمتطورة ليعايشوا التدريس في مدارسها لسنة دراسية واحدة وبإشراف التربويين في تلك الدول وبالتنسيق مع أساتذة كليات التربية في الوطن.

(7) تتولى وزارات التربية والخارجية عقد الاتفاقيات مع الدول المضيّفة والتنسيق لأجلها مع المنظمات الدولية والعربية (يونيسكو وأليسكو).

(8) إيفاد الأساتذة التربويين في كليات التربية لمدة سنة تفرغ إلى الدول المتقدمة لمعايشة الواقع التربوي المتجدد في تلك الدول. ولأجل ذلك تتولى الحكومة عقد الاتفاقيات مع الدول المضيّفة. وتتولى وزارتا التربية والتعليم العالي متابعة شؤون التفرغ بأولوية قصوى.

(9) يمنح من يفضل التعيين في مدرسة ابتدائية مخصصات مهنية مجزية تشجيعاً لتطوير التعليم في المدارس الابتدائية.

(10) تخصص الدراسات العليا في كليات التربية للمواضيع التربوية والتدريسية. ويفسح المجال للراغبين في الدراسات العليا في مواضيع تخصصهم العلمي أو الأدبي الالتحاق بالدراسات العليا في كليات العلوم أو الآداب.

(11) تخصص بعثات إلى الخارج في المواضيع التربوية والاجتماعية والنفسية يتنافس عليها خريجو كليات التربية حصراً.

(12) تسعى كليات التربية إلى تثقيف المتخرج لتبنّي ثلاثة أمور أساسية وهي:

- كل شخص معرض لارتكاب الخطأ. فالخطأ نوع من سلوك غير مرتبط بمستوى الذكاء.

- بالإمكان تقليل الوقوع في الخطأ.

- ارتكاب الخطأ ليس عيباً فهو يصدر عن اللسان أولاً، وحين يُرتَكب الخطأ يجب أن يكون مسبوقاً بالحديث مع الذات والاقتناع بأن الفعل هو ليس خطأ بل هو عين الصواب. إن تعلّم المدرس هذه المفاهيم يستطيع تصريف التدريس بأفضل أسلوب ويقول أحد التربويين (غاية التعليم أن نساعد الطالب).

(ج) مؤهلات مدرّسي الثانويات

– يتوجب عليهم أن يهدفوا ليس إلى إعداد طلاب أكثر ذكاءً بل أقل غباءً، وأن يقتدوا بالأطباء الذين – رغم خبرتهم وبراعتهم في تشخيص المرض – يدركون أن الصحة الجيدة تعني عدم وجود المرض. وكذلك حال رجال القانون – وهم المتدربون على اكتشاف اللاعدل ولديهم الخبرة في تحقيق العدالة – يدركون أيضاً أن العدل يعني عدم وجود اللاعدل. فهل نطلب من المدرس أن يأخذ دور رجل الدين والمعالج الطبي والنفسي، والمصلح الاجتماعي والمصلح السياسي وأن يتقمص شخصية الأبوين! وهل نطلب منه تجنيب الطالب تحمُّل الخطأ؟ هذه مطالب محالة فهو غير مدرب لكل ذلك ولا لأي من ذلك، بل هو مدرِّب في حقل اختصاص محدد.

– اعتماد سلَّم للترقيات المهنية على غرار الترقيات لأعضاء هيئات التدريس في الجامعات وقد تُستحدث الدرجات الوظيفية: مدرس، مدرس أقدم، رئيس مدرسين، مشرف تربوي. وعلى الجهات المسؤولة إصدار التعليمات لهذه الترقيات المهنية.