توطئة

راج مصطلح «ما بعد الحداثة» الفرنسي في الحياة الفكرية الأمريكية، ولم ينسب المصطلح إلى ميشيل فوكو نفسه. كان مصطلحًا غامضًا حتى بالنسبة إلى معتنقيه، كان مصطلحًا مربكًا ويستعصي على الفهم، لم يكن لفلسفة ما بعد الحداثة قاعدة جماهيرية، لكن بدأت الأوساط الأكاديمية تعد نموذجًا أوليًا للدراسة وتجهز مناهج تبرز التعامل الخيالي مع النصوص التقليدية وهو ما يجعل ما بعد الحداثة تجذب الكثير من الطلاب.

أصبح مصطلح ما بعد الحداثة مقولة أساسية للنسبية، حيث الحقيقة في ضوء «المعرفة/القوة» كانت ما هي إلا حقيقة السلطة التأديبية، حقيقة يجب فهمها في ضوء فكر فوكو كونها نظامًا من الإجراءات الانضباطية المنظمة للإنتاج وإعادة التوزيع والتنظيم وتحليل البيانات، حقيقة مرتبطة بعلاقة دائرية مع السلطة التي تنتجها وتدعم وجودها.

كانت أفكار فوكو ما بعد الحداثية مطلوبة لهدف سياسي كما أوضحنا في مقالات سابقة، فقد صارت الحقيقة النسبية ذات وجه واحد، فالسكان الأصليون عليهم التكيف مع أن حقيقتهم تكمن في حقيقة الرجل الأبيض الأنغلوسكسوني، الحقيقة تكمن في خطاب مالك العبيد، وفي الإبادة الجماعية.

لم تكن نسبية باطاي وفوكو في التعامل مع الحقيقة كمشروع كما تمنوها من حيث قدرتها على التدمير الكاملة للنسق القائم، إلا أن فوكو فُهم لدى الأمريكيين ما بعد الحداثيين بوصفه راديكاليًا يشبه المسيح، ومُعارضًا للأنظمة القائمة، فنارًا يُهدي سفينة المنظّرين الليبراليين السياسيين. أحب الأمريكيون نظريات فوكو المنسجمة بسهولة مع نضالهم باسم النسوية والمثلية الجنسية والعرق.

في نظر اليسار الأمريكي مثَّل فوكو مارتن لوثر جديدًا لا حاجة معه لقراءة أو تفسير إنجيل المقاومة والتمرد، كان إطلاق القوة الكامنة للفرد رغبة جماهيرية جامحة، وكان هذا النهج الجديد ملائمًا لليسار الأمريكي. كانت هذه ظاهرة أمريكية فريدة.

حتى الآن مشروع فوكو يسير بصورة جيدة جدًا داخل الأكاديميات والمؤسسات الثقافية، لكن ماذا عن الثقافة الرسمية؟ ولمن تتبع؟ وأي ثقافات تستحق أن تُعرض وأي ثقافات يجب أن تزول؟ من يملك تذكر التاريخ ومن ينسى؟ ما أنماط الحياة الاجتماعية التي سيتم اعتمادها وما التي سيتم تهميشها؟ وما الأصوات التي تُسمع وما الأصوات التي سيتم إسكاتها؟ من سيشكل هذه التساؤلات وعلى أي أساس؟ هذا هو عالم السياسة ومعارضة الدولة الذي كان قويًا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ثم انكمش واختفى دون رجعة.

كان خطاب المعارضة، كما خطاب السلطة، يحتاج إلى إطار مؤسسي جديد، وأدت لغة فوكو الغرض، حيث تم نسج خيوط جديدة لا حصر لها للمعارضة، لكن هنا بند ضمني هو أن هذه الخيوط لا يمكن جمعها ونسجها على منوال واحد، وهكذا تصبح المعارضة مفتتة، أو بصورة أدق صار خطاب المعارضة شعوذة من التضاد والانقسامات وسخرية غير متبلورة لا يمكن استثمارها لخدمة هدف واحد.

شهد الربع قرن الأخير نموًا هائلًا في إنتاج ما بعد الحداثة التي تحولت إلى عقيدة اخترقت أغلب الفروع الأكاديمية من اللغات إلى الاقتصاد حتى علوم التاريخ، وتصدرت الصحف والمجلات والمؤتمرات والجمعيات والهيئات الخاصة بالتربية والتعليم والمجال العام، حيث مثّل خطاب فوكو الحكومة.

نجحت الإدارة الأمريكية عبر ما بعد الحداثة في تفتيت المعارضة، وتشويه التعاطف العالمي، وتعزيز مصالح الشركات الأمريكية عبر خرافة التنوع وكسر الحدود الوطنية، والعداء ومراقبة الخطابات الناقدة، والقضاء على ديناميات تولد الفعل السياسي من خلال تطبيق نظرية «القوة/المعرفة».

أولًا: المتغيرات الهزلية… يسار ما بعد الحداثة: الصوابية السياسية والتعليم والإمبراطورية[2]

1 – الصوابية السياسية والتعليم

العلم من منظور ما بعد الحداثة ما هو إلا نوع من الخطاب القائم على براهين رياضية وتطور تكنولوجي، وكلما قمنا بتعزيز التكنولوجيا كانت فرصتنا أكبر في أن تكون نسبيًا على صواب، كان هذا طرح جان فرانسوا ليوتار الذي مهد لفكرة نهاية العلم مقابل التكنولوجيا، أو بمعنى أدق قوة التكنولوجيا. ما زلنا محصورين في خرافة «القوة/المعرفة».

ففي نظر ما بعد الحداثيين، صار ضروريًا أن يكون هناك إضافة جديدة لثالوث السلطة السياسية والعسكرية والصناعية وهي التكنولوجيا. كان هذا الحكم متسرعًا بالقضاء على العلم، حيث التقنية يتم إنتاجها في وسط بيروقراطي بشري ما زال محكومًا بفرضيات العلم وقصوره. لكن ليوتار لم يكن لديه الوقت ولا المعرفة لتقييم مزايا وعيوب النظام التكنولوجي مقابل العلوم.

نظر ليوتار إلى المستقبل وقال ما دامت الأمة لا تحتاج إلا إلى مجموعة من المديرين لمؤسسات الدولة، إذًا يجب تحويل الأكاديميات لمحللي أداء على المنهاج الفوكوي، حيث يتم فقط تعلم أجزاء من بعض المعارف لأجل الحفاظ على عمل المنظومة «جزء من اللغات، جزء من التاريخ، جزء من الحقيقة». إنها منظمة تكنولوجيا المعلومات.

تم تصميم الجامعة كونها بيت أعمال حيث فروع العلم ماتت، ويجب أن يتم الاهتمام بالاختلاف والتنوع المفيد للسوق. كان هذا درب من خداع ما بعد الحداثة، فالإجماع صفة شمولية، لكن الفردانية تسهل عملية الإخضاع والمراقبة والانضباط. لقد اختفى البحث الحُر في الجامعات كما اختفى مفهوم البروفيسور واحتل مكانهما تقنية الأنترنت ورغبات السوق التجارية.

2 – الإمبراطورية

عاجلًا أم أجلًا كان على شخص ما تطبيق الفكر الغنوصي لفوكو في ما يتعلق بـ«القوة/المعرفة» على نطاق عالمي، لم يكن شخص بل شخصان في الحقيقة عام 2000. قدم السياسي الإيطالي أنطونيو نيغري وتلميذه أستاذ الأدب الأمريكي ميخائيل هارت كتابًا بعنوان الإمبراطورية، نال الكتاب تأييدًا واسعًا في أوساط ما بعد الحداثيين واليسار الجديد، فقد كان نيغري أحد الراديكاليين الشباب في الستينيات، يرى ضرورة استخدام القوة في الفضاء السياسي، القوة البروليتارية، لكنه لم يكن أبدًا بروليتاريًا ولا يملك قاعدة مثل هذه، حُكم عليه بالسجن وهرب إلى فرنسا وهناك تلقى تعاليم فوكو قبل أن يعود من فرنسا أواخر التسعينيات إلى إيطاليا.

رأى نيغري وهارت أن العولمة قد أتاحت للقوة أن تتمدد في الهوامش المحلية وفي شبكة للسلطة تشمل جميع أنحاء الكوكب. عمومًا، أعاد نيغري تقديم تعاليم فوكو على أنها أفكار ماركس، فقد استبدل المعرفة بنموذج التخطيط العمالي، واستبدل القوة برأس المال. هذا الانقلاب المفاهيمي في الماركسية أراح كثيرًا الإدارة الأمريكية حيث قدم دلالة قاطعة على انهيار عصر الاستعمار وبداية عصر الإمبراطورية.

مثّل مفهوم الإمبراطورية بعض الحرج لتوليفة الأفكار الليبرالية الأمريكية، إلا أن نيغري وهارت أشارا إلى أن الاستعمار كان مركزيًا، وحداثيًا، وقوميًا عنيفًا يُخضع الشعوب، وكل المجازر من هيروشيما، إلى صبرا وشاتيلا، وفيتنام، وكمبوديا ما هي إلا جرائم الدولة القومية. كان هذا في الماضي أما الآن فالإمبراطورية ما بعد الحداثية غير مركزية ولا قومية، ولا تعتمد على حدود ثابتة، ولا تفرض مركزًا إقليميًا للسلطة. إن الإمبراطورية تعني علاقات قوة جديدة آخذة في النشوء.

الآن في ظل الإمبراطورية، على المواطن الأمريكي أن يسعد فبلاده حملت العالم إلى نهاية، نهاية العلم، نهاية التاريخ، بشكل أقل عنفًا مقارنة بالماضي. وإذا كان هذا الزمن دلالة نهاية فلماذا نصلحه؟ هذا سؤال رئيسي في خطاب المعارضة، الحل ليس التخلص من الإمبراطورية، لكن الحفاظ عليها وعلى آليات قوتها وعولمتها وإعادة توجيهها لجديد ما بعد النهاية، باختصار اللعبة الجديدة للمعارضة تسمى بناء إمبراطورية مضادة.

التلاعب بنظرية فوكو والديالكتيك الماركسي لما بعد الحداثة كان مطلوبًا من أجل إنقاذ اليسار المفلس، وبقاء خطابه على الساحة العامة، حتى وإن تم هذا عبر رسم صورة مزيفة عن نضالهم ضد نظرائهم اليمنيين، إلا أنه لا شك في التطابق التام بين «التقدمية» و«الرجعية»، الأمر كله لا يعدو كونه مجرد تنافس ظاهري حول السوق، وتحشيد أكبر عدد من الأصوات الناخبة كدليل لياقة للعملية الديمقراطية الأمريكية.

3 – يمين ما بعد الحداثة[3]

منذ بداية ولاية الرئيس جورج بوش الابن في كانون الثاني/ يناير 2001، كان الحديث يدور حول ظاهرة «المحافظين الجدد»، وكان أغلب منتقديها يعدّونها تيارًا فرعيًا من الحزب الجمهوري ولكنه نوع أكثر شعوبية مصحوبة بانعدام الضمير، وصوروا الإدارة الأمريكية وقتها بكتيبة أيديولوجية تعاني جنون العظمة، وتحكم وفق آليتَي الخوف والحرب مستغلة النفط والسلاح. باختصار، كانت سياسة المحافظين الجدد نهجًا مغايرًا للبراغماتية السياسية الأمريكية المعتادة.

اعتمد المحافظون الجدد على رافعة مجتمعية عمادها الأثرياء أو طبقة البلوتوقراطية عبر تقديم إعفاءات ضريبية وتسهيلات كبيرة لها في بيئة الأعمال، إلى جانب الترويج للحرب الخارجية التي حشدت تأييد الكثير من الإنجيليين المسيحيين في البلاد.

أما الخطاب الإعلامي فقد استند إلى سيل من التصريحات السياسية والجيوسياسية التي صاغها محللون لديهم صلة فكرية – بصورة أو بأخرى – بعقلية ليو شتراوس.

ولد شتراوس في ألمانيا عام 1899. حصل على الجنسية الأمريكية وأصبح أستاذًا في العلوم السياسية في جامعة شيكاغو في الخمسينيات والستينيات، وتوفي عام 1973 تاركًا خلفه إرثًا كبيرًا من الكلاسيكيات الغامضة وتفسيراتها الغرائبية. يشير الكثير من الليبراليين إلى إرث شتراوس كسبب في التخريب السياسي الذي صنعه المحافظون الجدد، وخصوصًا في حرب العراق وتلاعب الإدارة الأمريكية بالجماهير.

يعدّ موقف الليبراليين من المحافظين الجدد، وربطه بـشتراوس واقتصاره على حرب العراق، موقفًا قاصرًا، لأن عقلية المحافظين الجدد لا تمثل قطعًا مع العقلية الأمريكية الإمبريالية بل هي امتداد لها، وإن كان صار أكثر صخبًا. لو نظرنا إلى قواعد اللعبة العسكرية منذ أن وضعها البريطانيون سنجد أن أوقات الحروب يزيد فيها الإنفاق، وتتم عسكرة الخطاب. فالإدارة الأمريكية ومتحدثو البنتاغون والوزارات الأخرى يقومون بدورهم فقط، هم ليسوا استثناءً إنما وجهة دعائية حديثة للقاعدة الإمبريالية الثابتة.

المحافظون الجدد هم واجهة فقط لجهاز أيديولوجي للمجتمع الصناعي/العسكري، لذا المبالغة في شيطنتهم تخفي الصورة الكاملة، بل قد يكون المحافظون الجدد هم نقطة ضعف في النظام المترسخ أصلًا. فالليبرالية التي تهاجمهم اليوم لو نظرنا في طبيعة حكمها وممثلها بيل كلينتون السابق على بوش، نجد أنه قبل نهاية ولايته الأولى في عام 1996 قد مات مليون عراقي نصفهم من الأطفال «بسبب ضمير كلينتون الحي»، هذا الرقم لو قمنا بمقارنته بإدارة جورج بوش سنجد أن الثاني لم يرتكب إلا جزءًا بسيطًا من الجريمة.

حاول اليمين في صورة المحافظين الجدد أن يجد سردية وهيكلًا ملائمًا له كما فعل اليسار الذي وجد ضالته في جورج باطاي وفوكو. فلجأ اليمين إلى ليو شتراوس ومن خلفة ألكساندر كوجيف ومارتن هايدغر وإرنست يونغر. كان اليمين على موعد مع فكر أقل فقرًا في رموزه مقارنة بباطاي ولكنه أكثر عبادة للعنف وحب للحرب وشغف بالسلطة وإيمان بفراغ ما بعد الموت والخضوع لحكم القلة.

مثّل كل اسم من المذكورين أعلاه للمحافظين الجدد تقاليد في غاية البساطة عمادها الغضب الذي خلفته هجمات 11 سبتمبر والتي من دونها تتحول كل الأفكار المنتجة من صامويل هنتنغتون كصراع الحضارات إلى مجرد هراء. لكن في ظل الظرف الراهن تم إحياء التقاليد النازية ونسيان كل ما اقترفته بصورة عجيبة.

مثّل الإنتاج الأدبي الغزير للألماني إرنست يونغر أحد الأعمدة الأساسية لفكر اليمين ما بعد الحداثي، فقد كان الصراع والحرب والعنف فيه أمرًا ضروريًا، بل كان القتل في نظر يونغر هو معنى أن تعيش. بالنسبة إلى يونغر مثّل غروب العصر الأرستقراطي وبزوغ فجر العمل/التقنية أننا مقبلون على العدمية. العالم صار محكومًا بفرق من الجبابرة المدججة بالتكنولوجيا وبالعلوم الدقيقة لغرض الحرب والإبادة.

بسقوط النازية خرج يونغر مِن الحرب وهو يدور حوله الكثير من الجدل، لم يصبه أذى حيث كان محصنًا بشكل ما، إلى جانب هايدغر إلا أنهما بقوا على الاحتفاظ برفات الرايخ الثالث، وبرز اسم هايدغر في العالم المتحدث بالإنكليزية، بينما بقي التبجيل ليونغر محصورًا في أوروبا وخصوصًا في إيطاليا وفرنسا.

امتلك يونغر بصيرة استثنائية، فقد كان بالنسبة إليه لا عودة إلى العصر الليبرالي، ولم يعد هناك إيمان بالتقدم بعد المحرقة، والوسيلة الوحيدة لتجاوز العدمية هي عودة أخلاقية الكتاب المقدس، فالبشرية القادمة تريد أن تؤمن. كان يونغر يتوقع أن العصر الجديد سيشهد ميلاد لاهوت حديث ليس بالضرورة عماده المسيح فقط، ولكن قد يكون هناك تحالف بينه وبين الأرواح البدائية.

مثّلت الغنوصية ركنًا رئيسيًا في تجاوز العدمية الليبرالية، أبخرة المخدرات، والانعزالية من أجل الاتصال المباشر مع الآلهة لإعادة الإيمان للبشر، كان يجب أن يكون هناك تنامٍ للروح لمواجهة فراغ المحرقة. كان التأليه يعم العالم في فجر العصر البازغ، ما بين الديانات الجديدة المنبثقة من ديانات السكان الأصليين، أو عبادة التقنية باسم الخير للبشرية، أو عبادة السياسة والأحزاب وتوهم الديمقراطية.

سريعًا وصل يونغر إلى ما بعد الحداثة الكلاسيكية وأعلن أن الحرب العالمية الثانية أنهت الفرق بين الإمبراطوريات. لا فرق بين الأمريكيين والسوفيات فالدولة القديمة اضمحلت، وبدأ عصر النهايات، والدول صارت تلتحم بعضها مع بعض في دولة كبيرة معولمة بلا حدود.

4 – هايدغر الغامض

مارتن هايدغر أيقونة ما بعد الحداثة، كوَّن أساس فلسفته عن الإنسان والتاريخ والعلم السلطة والسياسة على أساس غنوصي. كانت مدرسة فرانكفورت النقدية[4] هي أول من أشار إلى أوجه التشابه بين هايدغر وباطاي. تمركز هايدغر حول فلسفة السيناتور الروماني غايوس يوليوس قيصر، أحد أقطاب أقوى المدارس الغنوصية في روما. كان هايدغر يرى أن علة الإنسان هي في وجوده لا في مشيئة الله، وتمحورت فلسفته كاملة على مصطلح «الوجود» وأن الزمن أو الدهر هو مرشد لروح الشعوب، إن الإنسان عالق في ضباب ميتافيزيقي، في كون غريب عنه يدعى الوجود. ووجوديًا نحن لا شيء، يتحدث الآخر من خلالنا وتتخبط الإنسانية في مركب الوجودية داخل بحر العدم.

كان تواصل البشر والآلهة يتم في نظر هايدغر عبر نار العالم أو نار الحداثة، كانت الإبادة هي الطريق للاتصال بالمتعالي، كانت النازية وبرغماتية هتلر وقراره السياسي هو العودة إلى وجود نقي يخلص الطائفة من خبث اليهودية، والليبرالية… إلخ. وبنزعة نازية خالصة أعلن هايدغر أن الروح الألمانية والعلم انضمّا معًا إلى السلطة ليكونا الرايخ الثالث.

كان هايدغر معلم شتراوس، معلم ما بعد الحداثيين الذين تفزعوا بشدة لتذكيرهم بهذا، فقد غفروا له فهو قد شرب من نفس الغنوصية، وأن النازية لا تمنع من أن يغفر له، كان هذا أمرًا نادر الحدوث مع غيره. كانت أعمال الأستاذ النازي متناقضة، كل شيء وعكسه، لكن كانت تحظى بتقدير اليسار الفرنسي ما بعد الحداثي. كان اليسار مفلسًا ويريد كل النصوص التي تهدم الطبيعية الإنسانية، وأكمل اليسار الأمريكي المهمة فيما بعد، اتحد اليسار واليمين في هدم كل الأسس العقلانية لتفادي إعلان انهيار خطاباتهم.

5 – ألكساندر كوجيف: بيير مينارد[5] ما بعد الحداثة

نكتشف الرابط بين التيارين اليساري واليميني في ما بعد الحداثة من تتبع أفكارهم المقتبسة من أعمال أليكساندر كوجيف وهو معلم جورج باطاي ورفيق درب شتراوس. كما أعاد الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس شخصية (بيير مينارد) من رواية دون كيخوتي دي لا مانتشا. لكن كانت رواية الأخير تجسد روحًا ساخرة من فروسية القرن السابع عشر، غير أن مينارد كان يجسد نهاية الفارس الأرستقراطي في رواية تعني نهاية التاريخ والنفس وعدم تحديد سمات جنسية واضحة لشخوصه رغم أنه حاكى رواية دون كيخوتي كلمةً كلمة وسطرًا سطرًا، ولكن في سياق دلالي مختلف. وهذا ما فعله كوجيف مع نصوص هيغل.

استقر كوجيف في عام 1926 في فرنسا قادمًا من موطنه الأصلي روسيا. وانضم إلى مدرسة الدراسات العليا، وفي عام 1933 بدأ بإعطاء محاضرات حول «الفلسفة الدينية لهيغل» خصصت لقراءة منتظمة لظواهرية الروح لهيغل وتفسيرها، وتركت أثرًا مدهشًا في كل من حضرها، وأثار طرحه رعبًا حقيقيًا في تلك الأوساط المستمعة، كما يصف باطاي شعوره. ومثّل فكر كوجيف نوعًا من الجاذبية والنفور في الوقت نفسه بين أولئك الذين سوف يطبعون بعمق الحياة الثقافية الفرنسية قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها.

سرد كوجيف أعمال هيغل على نحو حرفي، لكنه ركّز على مقاطع معينة، والعمل بانتقائية لتكوين رواية تشبه الأصل، ولكنها تختلف عنها كليًا في السياق الدلالي وهي ما ستكون أحد أعمدة فلاسفة ما بعد الحداثة وخصوصًا في تعاملهم مع النص الهيغلي.

اختار كوجيف أن ينطلق من استقلالية وتبعية الوعي بالذات وربطها بعلاقة السيادة والعبودية، مسلطًا الضوء على مفهوم الرغبة بوصفها عنصرًا مؤسسًا للإنسان، للوعي بالذات، وبالتالي للحقيقة الإنسانية وللتاريخ الكوني.

باختصار، كان كوجيف يشير إلى أن الرغبة تتولد لتحقيق القيمة، والقيمة تأتي بالاعتراف، وللحصول على الاعتراف يجب أن يكون هناك من هو أضعف لتقديمه، أي أن السيد لا يحصل على قيمته كسيد من دون اعتراف العبد الضعيف بهذا، من هنا مثلت الدولة الحديثة بحلول عام إشكالية كبيرة وتوترًا في علاقة السيد/العبد، فقد صار الإنسان كائنًا اجتماعيًا مستقرًا، تحول العبيد إلى عمال وجنود، وتحول السيد إلى قادة أو طغاة. هذا النموذج عجّل من إعلان نهاية التاريخ المعتاد واستبداله بضرورة عودة الروح الكاملة، أي الفلسفة الحقة، الفيلسوف الذي يسود نفسه، والذي يفوز أمام كل رجال الفضائل.

مع كوجيف أخذت فلسفة ما بعد الحداثة بعدًا رومانسيًا، صار التخريب ذا بعد روحاني والتنوع أمرًا مقدسًا. بعد نهاية الدين والتاريخ والقانون يجب على البشرية أن تحافظ على الاختلاف بين أفرادها داخل جدران الدولة العالمية العولمة فيما بعد.

6 – ليو شتراوس

تسلطت الأضواء على ليو شتراوس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1994 بعد فوز الحزب الجمهوري بأغلبية المقاعد بالكونغرس. في عام 1952، كان الحزب الجمهوري له برنامج محافظ، وديني، وأثار فزع التيار الليبرالي الأمريكي، وهوجم في الصحف وعلى رأسها النيويورك تايمز. وقد قُدّم شتراوس على أنه عرّاب فوز الجمهوريين المتعصّبين الرجعيين في انتخابات الخمسينيات، ووُجهت أصابع الاتهام إليه والتحذير من أن أفكاره باتت تؤدي إلى تغيرات جذرية في النظام السياسي الأمريكي، وهذا قد يقوض العملية الديمقراطية.

مع المحافظين الجدد ظهر التيار التابع لشتراوس ثانية وخصوصًا مع قرب تلاميذ شتراوس من إدارة بوش الابن 2001. مثل آلان بلوم، والأكاديمي فرانسيس فوكوياما. جاء شتراوس إلى أمريكا من طريق إنكلترا في أوائل الثلاثينيات هاربًا من النازية الألمانية، ودرس حتى أواخر الستينيات أفكار هايدغر وكوجيف.

كانت فلسفة شتراوس تعتمد على ملخصات غير مستساغة من النصوص الكلاسيكية الغنوصية إلى جانب أعمال الفلاسفة سابقي الذكر. وكان تركيز شتراوس على عبادة الفراغ والعنف والسيد/العبد. كان خطاب شتراوس مؤسس لفلسفة ما بعد الحداثة في جو سياسي أمريكي داعم لهذا التوجه الذي كان أحد صوره حكم المحافظين الجدد.

ثانيًا: القوة الحقيقية: نهاية المعارضة…
إيران/العراق والحرب على الإرهاب
[6]

توزعت أفكار اليسار الأمريكي على ثلاث مراحل زمنية: مرحلة الاشتراكية بداية عام 1900 – 1905. ومرحلة اليسار الجديد 1960 – 1980. ومرحلة يسار ما بعد الحداثة 1980 إلى الوقت الحاضر. كان التمرحل الفكري والتاريخي لليسار الأوروبي مشابهًا تقريبًا لهذه التغيرات على الساحة الأمريكية على الرغم من أن الصيغة الاشتراكية الكلاسيكية بقيت حاضرة في أوروبا حتى 1990. فلم تكن أوروبا بحاجة إلى تسريع عملية احتواء اليسار وتدجينه داخل أطر فلسفة ما بعد الحداثة مثل الولايات المتحدة، حيث عمل الليبراليون جاهدين على خلق يسار مؤسسي رسمي سواء عبر الإكراه القانوني من مؤسسات الدولة أو بإعطاء مجال لممارسة الأنشطة لممثلي اليسار مقابل التقييد بشروط وظروف السلطة القائمة، فقد كان همّ الأمريكيين منع أي قوى جماهيرية من التشكل تمنح اليسار قوة لخلق تغيير حقيقي.

فوّت اليسار الأمريكي فرصة حقيقة لتكوين مشروع له لتجاهله الأطروحات الاقتصادية والنظرية السياسية لشخصية مثل ثورستين فيبلين[7]، الذي يعد أعظم عقول عصره. كان فوكو البديل، حيث مثّل تيارًا «تقدميًا» كان له توجهات مأسوية. كان اليسار في الغرب ينقض الإمبريالية ولكنه مؤيد لإسرائيل، وكانت المواقف التقدمية أحيانًا أكثر محافظة من اليمين.

فقدَ اليسار بريقه وتغيّرت أولوياته؛ فعوضًا من صراع الشمال ضد الجنوب، أو الرأسمالية ضد الاشتراكية، صار صراع الحضارات هو الفرضية الغالبة. كان اليسار المؤسسي الناتج من أفكار ما بعد الحداثيين باهتًا وإن حاول أن يحاكي نمطية الماركسية اللينينية. تخلت الطبقة الوسطى تحديدًا عن تيار اليسار الجديد بعدما انحرف في تأييده للراديكالية الإسلامية الصاعدة في الشرق، حيث زار فوكو إيران عام 1979 وأشاد بالإمام الخميني المرشد الأعلى للثورة هناك. كانت تقريبًا هذه هي اللحظة التي كانت المعارضة اليسارية التقليدية والمنظمة تلفظ فيها أنفاسها الأخيرة.

وافقت السلطات الأمريكية من اليمين على صعود اليسار الجديد المفتت، صاحب الصراعات الفرعية والنضالات الهامشية الذي رأت فيه مسوقًا جيدًا لبضاعتها الديمقراطية، ومدافعًا شرسًا عن حروبها ضد الشرق. وبهذا قدّم اليسار لليمين أكبر خدمة جيوسياسية واستراتيجية لتحقيق أهدافه ومصالحه.

عام 1991 كانت حرب الخليج التي تزامنت مع انهيار الاتحاد السوفياتي، والترويج لعصر صِدام الحضارات. فتح فوكو وجان بودريار[8] فصلًا جديدًا من تاريخ يسار ما بعد الحداثة، وأعلنا عن أن الحرب صارت مجازية، لم تعد خاضعة للزمان والمكان بل يتم استحضارها عبر شاشات التلفاز بواسطة القوة الروحية للغرب، في فقدان تدريجي للمعنى، أي نهاية المعنى. وأطلت الغنوصية برأسها من جديد لتحكم الخطاب اليساري الأمريكي المؤسسي.

عام 2001 حصلت هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وفسّرها بودريار من باب اللاوعي. فالإرهاب عدو خفي نما من كراهية الذات في الشرق الأوسط، والآن كانت فرصة اليمين لاستغلال هذا التفسير. رأى يسار ما بعد الحداثة الأمريكي أن هناك قلقًا على حياة النساء في الوطن العربي وعلى الإمبراطورية الأمريكية أن تتجاوز عقودًا من الإمبريالية الطفيلية، وأخذ دور الحامي للإنسانية في الشرق، وأن تجتث الغضب الإسلامي العازم على تدمير الولايات المتحدة التي يمثل وجودها في نظر يسار نيغري وهارت مسوغًا لإنشاء عولمة أكثر راديكالية لإمبراطورية مضادة أكثر عدالة.

يشجع اليسار الأمريكي حروب بوش الابن، وبعد سنوات من التحليلات المتنوعة للعمل الإرهابي الإسلامي والأطروحات حول المرأة والحريات في الشرق شاهد اليسار نتيجة تأييده حيث قتلى بالملايين من المدنيين ودمار يعم الشرق الأوسط. ولم يتم التوصل إلى الجناة الحقيقيين في عهد بوش الابن ولم تشهد الولايات المتحدة محاكمات في إطار القانون، بل تم التوغل في حالات الاستثناء القانوني والسماح بالتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان.

لم يعد السلام ومحاربة الإمبريالية على جدول أعمال اليسار، كان فوكو ومن معه من تيار ما بعد الحداثة يقدمون أنفسهم كحراس للعدالة والقيم والتنوع التي عصفت بها الحداثة. لكن مع انكسار المعارضة اليسارية وتفككها، صار اليسار المؤسسي مجرد فرع أو صوت آخر لتسويق أطروحات اليمين وخصوصًا المحافظين الجدد.

عززت المؤسسات الأمريكية الخطاب الحقوقي عبر اليسار ما بعد الحداثي بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، وتمثل هذا بتعزيز دور ودعم جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست عام 1928. ولها تاريخ معقد وسمعة سيئة من الارتزاق الطفيلي من أجل أداء دور المعارضة. لكن في نظر المؤسسات الأمريكية فإن دور جماعة الإخوان المسلمين له أهمية قصوى في تمهيد أرضية وصنع مناخ للحرب على الإرهاب، حيث يمكن للجماعة العمل للقيام بعد ذلك بدورها في تفتيت الأرض وانتهاك السيادة، وإنشاء الميليشيات الدينية التابعة لها، وصناعة شبكات دعم عابرة للقوميات. وتعمل الجماعة بصورة منفصلة عن أي دولة أو إطار وطني. كما جرت تجربة صناعة تابع في مسارح الحرب في البوسنة والشيشان وأفغانستان والفيليبين، وكان هذا هو الدور المسند إلى الجماعة في الشرق من جانب الولايات المتحدة حيث تلاقت مصالح الراديكالية الإسلامية والإمبريالية الأمريكية.

أرادت الولايات المتحدة من الإخوان المسلمين تفتيت العمق الجيوسياسي العربي عبر اختراق الشرق والمنطقة الأوراسية لتوفير أسواق للسلاح والموارد الخام، وإعاقة أي قطب إسلامي من الظهور والمنافسة على السيادة في مناطق وجود الأمريكان. بالطبع كل هذا كان بستار من اليسار ما بعد الحداثي حيث يحتفلون بتلاقي الأفكار والتنوع والاختلاف والسعي الدائم للسلام ومحاربة الإرهاب.

خاتمة[9]

لم يعد لليسار في أمريكا وجود حقيقي، ولا مشروع لديه، وكان ينتظر رصاصة الرحمة الأخيرة لنهايته لولا أن فوكو أعاد له الحياة. ومع مرور الوقت تبنى أطروحاته، وانحرف عن مساره، ومعه انحرفت العملية الديمقراطية، والقيم الليبرالية الحقيقية في أمريكا، وربح فوكو مقعدًا أماميًا ما كان ليحظى به في أوروبا، واستخدم مركزية التأثير الأمريكي في العالم في تصدير هذه الأفكار الفاسدة حسب المؤلف إلى سائر التيارات اليسارية.

المحافظون من اليمين هم أصحاب السلطة الحقيقية، واليسار مجرد شريك لهم في السلطة من دون امتلاك مشروع حقيقي، وقد أدرك قادة اليسار هذا الأمر، ولم يعد بمقدورهم سوى التناغم مع المحافظين لتأدية دور المعارضة. والمحافظون راضون عن هذا الدور إدراكًا منهم أن السياسة تكره الفراغ، وفي حال خروج اليسار من المشهد سيؤدي هذا الأمر ربما إلى نشوء بديل جديد يُخرج كلا الطرفين من المعادلة السياسية.

البيروقراطية المحافظة المسيطرة على مقاليد السلطة في أمريكا قوية جدًا، وتمتلك من المرونة والقدرة على المناورة ما يحفظ بقاءها وهيمنتها، وتُدير العملية السياسية بذكاء ودهاء شديدين من خلف الغرف المغلقة، بينما يتم إلهاء الشعب الأمريكي، وسائر شعوب العالم بصراعات وهمية لا طائل منها سوى ضياع حقوقهم الحقيقية.

الدولة الأمريكية عبر بيروقراطيتها تمتلك كل الأدوات التي تضمن عدم انحراف أي طرف عن المسار الذي حددته له، والجميع تقريبًا مدرك لذلك الأمر في أمريكا وإن لم يتحدث عنه، لذلك أي معارضة هي دومًا من داخل النظام. في حقيقة الأمر هناك استبداد يحكم أمريكا يمارس فيه اليسار والأكاديميون دور المُحلل، والديمقراطية مجرد واجهة براقة وعملية إجرائية لا أكثر.

اليسار الحقيقي عبر بعض الأشخاص الذين يخرجون عن الطريق المرسوم لا قدرة لديهم على صنع تغيير. هنا يمكن أن نُشير من عندنا إلى بيرني ساندرز الذي يعتمد خطابه، إلى حد كبير، على أدبيات اليسار التقليدية، ولذلك تحالف الجميع ضده، ولم يتمكن من أن يحقق أي تغيير يُذكر.

السينما الأمريكية لا تنفق المليارات من الدولارات سنويًا على إنتاج أفلام «الفنتازيا» من فراغ. تلك الأفلام التي تمجد العنف، والدم، وتقدم صورة مُبهرة لمعارك الأمم والممالك، وصراع الآلهة في الميثولوجيا اليونانية. إنها دعوة تشجيعية لعالم قائم على الصراع، وتسخيف من فكرة الديمقراطية وتمجيد للقوة والسلطة تترسخ عبر أعمال يتم التركيز عليها بصورة ممنهجة ومنظمة في السنوات الأخيرة.

بينما بشّر تيار ما بعد الحداثة وخدع المثقفين بنهاية عصر الأيديولوجيات. فلدى اليمين المحافظ، وهذا التيار، بناء أيديولوجي شديد القوة يريد من خلاله الحفاظ على تماسكه، مقابل ترهل سائر التيارات الأخرى تحت زعم نهاية ذلك الزمن.

وفق النظرة النسبية التفكيكية للتاريخ التي روّجها فوكو، لا وجود لمقدس، ولا ثوابت، ولا حقيقة تاريخية، ولا خير أو شر، أو قيم أخلاقية. كل شيء قابل للنقد، وكل قيمة قابلة لإعادة النظر فيها، وكل حدث تاريخي مهما بلغت وحشيته ينطوي على فائدة لا بد من النظر إليها.

«الفكر هو الرعب» هكذا قال باطاي، وكذلك تحدث فوكو عن مفهوم جديد للسيادة، ألا وهو سيادة الفكر، لذلك لا بد من تعطيله ليس عبر إلغائه ولكن عبر زرع أفكار وقيم جديدة يتم تصويرها على أنها تمثل الرقي، وقيم المجتمع الليبرالي الحديث، وهو ما يضمن عدم التفكير الجدي بمعزل عن هذه المؤثرات لخلق ثقافة محدودة ومشوهة لدى الأكاديميين. ومن يشذ عن القاعدة يتم إرهابه، والتضييق عليه، والسخرية من أفكاره، وتسخيفها بصورة دائمة وممنهجة.

الأمل الوحيد في خلق معارضة هي تكاتف الأفراد المؤمنين بالتغيير، والمدركين لزيف الديمقراطية الأمريكية، والاستبداد الذي أصبحت تعيش تحت وطأته. لذلك يمكن للحركات السياسية، والجمعيات الفكرية، والمجالس الشعبية خارج المدن الكبرى أن تصنع تحالفًا فيما بينها حول العالم لنقد هذه العملية السياسية، وتقديم تصور بديل سيحتاج إلى وقت لكي ينشأ.

إن ترك العملية السياسية على ما هي عليه في أمريكا، وتلاعُب اليسار والمحافظين بالشعوب، سيؤديان إلى خسارة الماضي والحاضر وكذلك المستقبل.

تلاقت مصالح تيار الإخوان المسلمين مع مصالح المحافظين الجدد في حاجتهم إلى تيار يفتت المنطقة، ويعمل على منع أي مشروع وحدة مستقبلي يمكن أن ينشأ فيها. لا يهم أن يحكم هذا التيار طويلًا المهم قيامه بهذه المهمة، وضرب فكرة سيادة الدولة التي ما زال لها وجود في الشرق، ليسهل فيما بعد دمج المنطقة في منظومة العولمة بصورة كاملة. أما اليسار فكل علاقته بالأمر هي الترويج لهذا التيار، والحديث عن ضرورة قبول الآخر، وتعزيز القيم المشتركة لدعم العملية «الديمقراطية».

كتب ذات صلة:

من النهضة إلى الحداثة

التراث والحداثة: دراسات .. ومناقشات

سوسيولوجيا الثقافة: المفاهيم والإشكاليات … من الحداثة إلى العولمة