في السنوات الأخيرة انصبّ اهتمامي الأساسي على محاولة الإفادة من علم الاستعمار المقارن وتحديد نوع الطبيعة الاستيطانية للمشروع الصهيوني واختلافه عن أنواع الاستيطان والاستعمار الأخرى، بمعنى أن تحديد طبيعة العدو وفهمها هما أمر أساسي في تحديد استراتيجيات المواجهة. سآتي على ذكر الطبيعة الخاصة بالمشروع الاستيطاني الصهيوني، ولكن ما يخيفني بالأساس هو التركيز على منهجية صفقة القرن. أنا لا يهمني ماذا تقول الأطراف الفلسطينية حقيقة، سواء المعارضة حقاً أو المعارضة فقط أمام الإعلام. ما يهمني هو التجربة، وبالتالي أكثر ما كان يخيفني من قراءة التاريخ هو ما يسمى الاقتصاد السياسي للخراب الأيديولوجي، بمعنى أنه كان هناك على الدوام تأسيس بنى اقتصادية لخلق مسارات سياسية، وهذا تحديداً ما يحدث في صفقة القرن. وإحدى تبعات هذه البنى الاقتصادية التي تؤسس لمسارات سياسية كانت خراباً في العقول وخراباً أيديولوجياً.
ما دفعني إلى التركيز على الاقتصاد السياسي لتصفية القضية الفلسطينية ولخراب العقول تحديداً عدة قضايا. مثـلاً، عملية التضامن مع الأسرى أو إضرابات الأسرى مؤخراً لم تكن دون المستوى المطلوب فقط بل كانت شبه معدومة. تضامن أهلنا في أراضي الـ 48 لا مع الأسرى فقط بل تحديداً أثناء العدوان على غزة. كلنا سعدنا بتظاهرة حيفا، ولكن ما خلف التظاهرة هو المخيف، فالنشطاء الفلسطينيون اضطروا إلى التظاهر في حيفا لأنهم لم يستطيعوا التظاهر والتضامن داخل مناطقهم في داخل أراضي الـ 48، هذا عدا عن رام الله والحدود التي يمكن أن يُسمح لهم فيها بالتضامن مع غزة. فعلى الرغم من أن تظاهرة حيفا أظهرت تضامناً ووحدة لشعبنا، فهي كانت في الحقيقة مؤشر خراب؛ كانت هناك منهجية دائمة قادت إلى خراب أيديولوجي قاد إلى سيادة نظام مفاهيمي استعماري عند الشعب الفلسطيني، سواء كان ذلك مقصوداً لدى البعض أم لم يكن. من جهة أخرى، كلنا يذكر ما حصل في حادثة النفق عام 1996، فقد حصل انتفاضة لمجرد أن الصهاينة حاولوا الإقدام على فتح النفق. في حين أنه قبل أيام قام السفير الأمريكي دايفيد فريدمان بالاحتفال بافتتاح النفق ولم يحصل أي رد فعل شعبي. ما حصل بين عام 1993 واليوم هو ما قاد إلى خراب هائل على مستوى العقول والأيديولوجيا.
تقول سارة روي، أستاذة في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفرد، في دراستها حول قطاع غزة، إن اقتصاد قطاع غزة هو نموذج ممتاز حول كيف يمكن مستوى معيّناً من الازدهار أن يتحقق من دون أي تنمية اقتصادية. أنا في الحقيقة لم أتفاجأ عند قراءتي لدراستها، لأننا كباحثين فلسطينيين كنا قد وثقنا أن السياسة الاقتصادية الصهيونية في فلسطين المحتلة، وتحديداً في الضفة الغربية وقطاع غزة، منذ عام 1968 وحتى أوسلو عام 1993 قادت إلى تطورين متناقضين: تدمير البنية الاقتصادية أو القاعدة الاقتصادية داخل فلسطين وفي المقابل ارتفاع الدخل الفردي وتضاعفه داخل الضفة الغربية ليبلغ 1450 دولاراً عام 1993، أي عدة أضعاف ما كان عليه حين وقع الاحتلال عام 1967، بحيث رُبط الاقتصاد الفلسطيني أو حياة الفلسطيني الاقتصادية بالمشروع الصهيوني، وبالتالي عمل جزء كبير من اليد العاملة الفلسطينية في داخل الكيان الصهيوني بأجور مرتفعة. أما التبعات الأساسية لهذه السياسة منذ عام 1968، أي مباشرة بعد الاحتلال، إلى عام 1993، فكانت تأهيل بعض قطاعات أو شرائح الشعب الفلسطيني وتحديداً تأهيل النخبة وربطها بنيوياً ومصلحياً بالمشروع الصهيوني في فلسطين، وهذا ما قاد إلى الخراب الأيديولوجي والتحول من اعتبار الكيان الصهيوني عدواً وجودياً كما هو في الحقيقة، إلى كونه مجرد جار وفق البعض، وهذا أدى إلى ضعف التضامن مع الأسرى ومنع الفلسطينيين داخل أراضي الـ 48 من التضامن مع غزة… إلخ.
هذه إحدى القضايا الخطيرة جداً التي نعرفها بالأرقام والتفاصيل؛ فما حصل في الصناعة والزراعة في الضفة الغربية وغزة منذ عام 1968 حتى أوسلو هو بالضبط ما أسس لأوسلو، أي أن أوسلو لم تحدث فجأة ولم تكن كالصاعقة في سماء صافية كما كان يقال، بل تم التأسيس لها، وهذا المشروع في الحقيقة موجود منذ البداية. هناك إحصاءات أخرى تشير إلى أن الموقف لدى بعض الشرائح في الضفة الغربية تحديداً في هذه المرحلة من الكيان الصهيوني كان أقل حدة من مواقف الفلسطينيين خارج فلسطين أو في غزة أو حتى في أراضي الـ 48، بسبب المسار الاقتصادي الذي فرضه الاحتلال وقاد إلى خراب العقول الذي تضاعف أكثر فأكثر بعد أوسلو، وقد كتبت عن ذلك في التقرير العربي للتنمية للضفة الغربية وغزة لسنة 2017.
باختصار شديد، منهجية هذه السياسة مجربة وفعّالة، وهي تأسيس بنية اقتصادية، وهنا تكمن أهمية ورشة البحرين التي تؤسس لمسار سياسي تصفوي يتضمن في ما يتضمن تخريب العقول أو الخراب الأيديولوجي، هذه هي القضية الأساسية. كان يُفترض بالثورة الفلسطينية منذ البداية التركيز على مسألة بسيطة وهي أنه من أجل مقاومة الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين عليها بالضرورة فهم طبيعة العدو؛ فلا يمكن تحديد استراتيجيات المواجهة والمقاومة من دون فهم طبيعة العدو.
في علم الاستعمار الاستيطاني، هناك 3 أنواع من الاستعمار الاستيطاني: (1) المستوطنة المختلطة، كما حصل في جنوب أفريقيا، ودائماً ما أشدد أن فلسطين ليست جنوب أفريقيا، وبالتالي مخطئ من يعتقد أنه في إمكاننا استخدام استراتيجيات المواجهة التي حصلت في جنوب أفريقيا وانتصارنا. هذا نوع مختلف من الاستيطان يتميز بالسيطرة على الأرض واستغلال العمل. هم سيطروا على الأرض في جنوب أفريقيا واستغلوا عمل الأفارقة هناك. (2) المستوطنة المزرعة كما حصل في هايتي، حيث تتم السيطرة على الأرض واستيراد العمل، فاستوردوا المستعبَـدين من أفريقيا بعدما قاموا بتصفية السكان الأصليين. (3) النموذج الثالث الذي يتميز به الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، والذي يأخذ في النظر ما يحدث للسكان الأصليين – نيوزلندا وأستراليا – من حيث تأسيس المستوطنة الصافية والنقية التي تتميز بالسيطرة على الأرض أو استعمار الأرض والعمل.
هنا تكمن أهمية المنهجية التي تفسر شعارات عبرنة العمل، والبضاعة اليهودية والزراعة اليهودية ومنع الفلسطينيين… وغيرها من المظاهر. حتى في وثائق الوكالة الصهيونية الأولى، يوجد تفصيل حول موضوع تأجير الأراضي ومنع استخدام العرب في العمل. في هذه المنهجية في التاريخ، من يُطرد من العمل أو الاقتصاد يُطرد من التاريخ وبالتالي يمكن تصفيته وارتكاب المجازر والتطهير العرقي في حقه، وهو ما حصل منذ البداية، مثل تنظيف الأرض من أجل الزراعة؛ فالأمر أشبه بالتخلص من مكونات الأرض الطبيعية من أجل تحديث المكان. وهذا أمر خطير جداً، هذا النوع من الاستعمار الاستيطاني متميز بأنه اقتلاع ونفي لوجود الطرف الآخر. وبالتالي أنا عادة أميل إلى عدم استخدام مفهوم عبد الوهاب المسيري «استيطان استعماري استحلالي»، والسبب هو أنه مفهوم توصيفي ليس فيه بعدٌ تحليليٌّ، مفهوم المستوطنة الصافية والنقية هنا تربط بين الأرض والعمل. فالعمل هو الوظيفة الأساسية هنا. لهذا السبب قلت إن البنية الاقتصادية تستخدم واستخدمت منذ البداية لاقتلاع جذور شعبنا من الوجود كلياً ونُفينا. ليس غريباً اليوم أنهم يتحدثون عن قانون القومية الصهيوني، فهو نتاج طبيعة هذه المستعمرة وبنيتها، فهي قائمة على السيطرة على الأرض والعمل منذ البداية. كان هناك مشروع لـبن غوريون يقول إنه من دون طبقة عاملة إسرائيلية لن تكون هناك إسرائيل، وبالتالي يجب طرد العرب من الاقتصاد وهو حقيقة ما حصل حتى عام 1948. وبعد 1948 وتحديداً بعد 1967 بدأت الاستراتيجية الجديدة، وهي التأهيل، أي خراب العقول عبر استخدام الاقتصاد. هذه الاستراتيجية محددة منذ البداية، فهم يستخدمون المنهجية نفسها منذ أكثر من قرن.
بناء على ما حصل وعلى طريقة إدارة المواجهة الفلسطينية، هناك مشاريع حتى منظمة التحرير قامت بها، قادت أكثر إلى التفكيك بدلاً من قيامنا فلسطينيين وعرباً كمقاومين لوجود الكيان الصهيوني.
وبالتالي لم يتوقف الأمر على منع تأهيل شرائح معيّنة وربطها مصلحياً وبنيوياً بالمشروع الصهيوني، وبالتالي هم يدافعون عن المشروع الصهيوني الآن ولهم مصلحة فيه. كاد يكون أحد أهم أهداف منظمة التحرير هو العمل على تفكيك العلاقة الكولونيالية، لكن ما حصل للأسف هو أن مشاريع المنظمة كانت على نمط مشروع صامد، الذي أُنفق عليه مئات ملايين الدولارات، وكانت في الحقيقة جزءاً من البنية، بمعنى أن ما قامت منظمة التحرير بتمويله بمئات الملايين من الدولارات تحت عنوان مشروع صامد، وهو اسم يوحي بأننا ندعم وجود الشعب الفلسطيني، كان إحدى أهم الأدوات التي أسست لأوسلو وأسست لهذا المسار الاقتصادي وساهمت فيه. ومن خلال مراجعتنا للتجربة الفلسطينية ومحاولة إعادة قراءتها وفق منهجية رأساً على عقب أو وفق منهجية بندكت أندرسون بأن تتم كتابة التاريخ انطلاقاً من المستقبل وتفسير الماضي بالمستقبل، أي أن نبدأ بـأوسلو لنفهم النكبة لا العكس، يكون لدينا سردية عن الثورة لا تتوافق مع النتائج، المطلوب إعادة تركيب السردية لا وفقاً للرغبات ولكن وفق النتيجة، وبالتالي إذا ما قمنا بذلك وفق منهجية رأساً على عقب أو المنهجية العكسية، يمكن ملاحظة أين كانت الأخطاء. وقد وضعت استنتاجي في دراسة مطولة نشرتها في أحد الكتب، الأدوات الفلسطينية الموجودة غير مؤهلة؛ وأنا أتحدث عن الأدوات التنظيمية كافة بدءاً من منظمة التحرير وانتهاءً بحماس، جميعها غير مؤهلة، سواء فكرياً أو سياسياً. في الحقيقة هناك مجال للحديث عن الموضوع السياسي وهو إحدى القضايا التي استنتجها إقبال أحمد بعد لقائه بياسر عرفات سنة 1972، أن القادة الفلسطينيين لا يعرفون السياسة. عندما نتحدث عن مهارة ياسر عرفات وتشبيهه بالثعلب فنحن هنا نتحدث عن مؤامرات، لا عن السياسة بمعنى علم السياسة. لم يكن للفلسطينيين أي تجربة، وعلى أي حال هناك إشكالية لهذا الأمر في التاريخ العربي على عكس التاريخ الغربي، وهي أنه ليس في تاريخنا الكثير من السياسة. وفق هذه الرؤية، هذه الأدوات غير مؤهلة، لا للتحرير فقط بل حتى للمواجهة أيضاً. هذه إحدى القضايا التي يمكن استنتاجها. يمكن الاستناد أيضاً إلى نماذج عرفتها شعوب أخرى واجهت القضية نفسها ووصلت إلى نتيجة أن أدواتها القيادية غير مؤهلة لقيادة التغيير.
النموذج الأول كان في الجزائر، حين أصر مصالي الحاج وحركة الانتقال الديمقراطي على الخيار السياسي في مواجهة فرنسا، التقت المجموعة التي أصبحت تسمى مجموعة 22 التاريخية وتمردت على قيادة مصالي الحاج وأعلنت في 1 تشرين الثاني/نوفمبر تأسيس جبهة التحرير الوطني وانطلقت. وبعد 6 سنوات فقط من تبني الاستراتيجية الشاملة للمقاومة التي كان جوهرها الأساسي المواجهة والمقاومة، حصلت الجزائر على الاستقلال. كانت الجزائر على وشك أن تضيع وكانوا يعيشون الظروف نفسها التي نعيشها الآن. سأقرأ جزء من البيان الذي صدر في 1 تشرين الثاني/نوفمبر في الجزائر:
«وهكذا، فإن حركتنا الوطنية قد وجدت نفسها محطمة، نتيجة لسنوات طويلة من الجمود والروتين، توجيهها سيئ، محرومة من سند الرأي العام الضروري، قد تجاوزتها الأحداث، الأمر الذي جعل الاستعمار يطير فرحاً ظناً منه أنه قد أحرز أضخم انتصاراته في كفاحه ضد الطليعة الجزائرية.
إن المرحلة خطيرة.
أمام هذه الوضعية التي يخشى أن يصبح علاجها مستحيـلاً، رأت مجموعة من الشبان المسؤولين المناضلين الواعين التي جمعت حولها أغلب العناصر التي لا تزال سليمة ومصممة، أن الوقت قد حان لإخراج الحركة الوطنية من المأزق الذي أوقعها فيه صراع الأشخاص والتأثيرات لدفعها إلى المعركة الحقيقية الثورية إلى جانب إخواننا المغاربة والتونسيين…».
اللافت للنظر في تجربة الجزائر أنه حصل انقسام بين اللجنة المركزية والانفصاليين تقريباً مثل فتح وحماس اليوم، وحين فشلت المجموعة التي تألفت وبدأت أصـلاً لمحاولة إعادة الوحدة للحركة الوطنية الجزائرية، قرروا إطلاق ذلك. كيف فهمنا مثـلاً في فلسطين أنه في إمكاننا تغيير الرأي العام الغربي، لم نعمل على استراتيجية للتعامل مع الشعوب في الغرب أو في كل العالم، ولكن كان عندنا عمل دبلوماسي يستهدف الحكومات، والحكومات لا تغير رأيها، أو على الأقل يصعب ذلك كثيراً.
نموذج آخر يشبه تجبرتنا هو التجربة الإيرلندية. حتى عام 1969 أصرت قيادة ما سمي لاحقاً الجيش الجمهوري الرسمي على الخيار السياسي أيضاً، وفي مؤتمرهم في كانون الأول/ديسمبر 1969 حصل شيء مشابه لما حصل في الجزائر، بمعنى أنه تم التوصُّل إلى الاستنتاج أن الجيش لم يكن باستطاعته حتى حماية الكاثوليك في إيرلندا الشمالية من القتل اليومي والاضطهاد بغض النظر عما حدث في اتفاقية بلفاست (اتفاقية الجمعة العظيمة) التي هي نفسها اتفاقية أوسلو، فحتى هذه الحقوق القليلة التي حصلوا عليها ما كانت لتحصل لولا الخروج الجماعي من المؤتمر في كانون الأول/ديسمبر 1969 بقيادة جيري آدامز وإعلان قيام الجيش الجمهوري المؤقت الذي تبنّى عملياً الكفاح المسلح والمقاومة المسلحة ضد الاستعمار البريطاني.
هذه النماذج توضح لنا أن هناك شعوباً أدركت أن نموذج القيادة الاستراتيجية المعمول به لا ينفع، وكان عليها الخروج من ذلك. ما أود الإشارة إليه هو أنني لا أؤمن بحتمية التاريخ ولا أؤمن بأن التاريخ يختزل مساراً أو معنى، ولا يمكننا التخيّل بالضرورة أن الفلسطينيين سيقومون بما قام به الجزائريون والإيرلنديون، التاريخ مسار يُصنع عبر القوى والصراعات البشرية، وما لم يكن هناك تخطيط لن يكون هناك خيار آخر. القضية الأساسية في اعتقادي أن المطلوب الآن ليس صوغ استراتيجية مواجهة شاملة فقط، بل وجود قوة حقيقية، بمعنى أن كل شيء سيتغير إذا كان هناك فعل على الأرض. وكما قلت، ما يخيفني هو الخراب الأيديولوجي وخراب العقول، يمكن الفعل أن يقوم على عكس ذلك تماماً في مدة قصيرة ووقت قليل. كما يجب التركيز على البعد الاقتصادي والبنى الاقتصادية لتفكيك العلاقات الكولونيالية، كان بودي أن ألقي الضوء على اتفاقية أو بروتوكول باريس التي وقعها محمد دحلان بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، فلولا هذه الاتفاقية لما كان حصل كل ما حصل، بل تم التأسيس بوعي لما حصل. ما نراه في اتفاقية باريس هو أولاً، عدم تحديد أي نوع من الحدود السياسية والجغرافية والاقتصادية والأمنية، من كان يتحدث عن دولة على الأقل حتى لو قبلنا بمشروع دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، فالاتفاقية لا يوجد فيها أي نوع من الحدود، وهو ما يجعل الاتفاقية مجرد استمرار للمرحلة السابقة منذ عام 1967 لغاية عام 1993. ثانياً، كان هناك غياب كامل لأي سياسة مالية، التي هي في الحقيقة المدخل لكل ما نتحدث عنه من صراع بين الشمال والجنوب وهيمنة الليبرالية على العالم. تسريب الفائض، كل الفائض من دول العالم الثالث أو دول الجنوب إلى مراكز النظام الرأسمالي في الشمال يحدث عبر آليات اقتصادية، حيث يتم نهب العالم عبر الآليات التي تطبق تماماً في الحالة الفلسطينية. وهناك غياب تام لسياسة مالية وعملة وطنية مستقلة، كما تم النص على ذلك بالحرف في بروتوكول باريس، هذا التركيب يجعل من إمكان قطع العلاقات مع القوى الكولونيالية شبه مستحيل، بمعنى أن ما قاموا بتوقيعه يعمل على تأبيد ما كان يحصل بدلاً من أن يكون العكس. فعوضاً من قطع العلاقات بالقوى الكولونيالية، عززوا ما نتج من علاقات كولونيالية وبالتالي استمروا في تأهيل شرائح معينة وربطها مصلحياً وبنيوياً بالكيان الصهيوني وخراب العقول. اللافت للنظر هنا عدم وجود تكافؤ في القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهو ما يجعل أي خلاف على تفسير البنود وفق اتفاقية باريس خاضعاً للقوة، فالغريب أنهم يتحدثون عن أنه في حال رفض أي طرف من الأطراف أي ممارسة أو بند فلن يتم تنفيذه. مثـلاً يمكن الكيان الصهيوني بموجب اتفاقية باريس أن يمنع العمالة الفلسطينية، طبعاً أنا لست مؤيداً للعمالة الفلسطينية في إسرائيل ولكنني لا أملك حـلاً للمسألة. وهو ما يقوم به أحياناً. المضحك أنهم يعطون الفلسطينيين الحق نفسه، وكأن الإسرائيليين يعملون داخل مناطق السلطة الفلسطينية. الأهم في كل ذلك أنه لا مفر بعد كل المراجعة من اعتبار اتفاقية باريس نتاجاً لقرار سياسي، هذا ليس كلامي بل كلام يوسف الصايغ الذي أشرف على المفاوضات والذي استقال منها 3 مرات وأُجبر على العودة. فالأمر نتاج اتفاق سياسي وليس اقتصادياً، ولكن هذا فيه استمرار لخراب العقول. أنا طرحت نموذجَي الجزائر وأيرلندا، كما قلت إن المنهجية المتبعة منذ أكثر من قرن هي كيف يتم استيلاد منظومة مفاهيمية استعمارية في سياق اقتصاد سياسي محدد. مثـلاً ماجد كيالي يتحدث عن صيغة زائفة هي نتاج لهذه المنظومة داخل أراضي الـ 48 وأن الكيان الصهيوني أشاع فكرة أن القيادة السياسية للجماهير العربية في الـ 48 تركز على السياسة وتتجاهل حقوقهم وحياتهم اليومية. وهكذا بدأت البلديات والمجالس المحلية بالتركيز على الحقوق. هدف القيادة السياسية الفلسطينية أصبح تكذيب الكيان الصهيوني والدعاية الصهيونية بينما لا نركز على السياسة ونستثني الداخل، فباتوا يركزون على الحياة اليومية واستثنوا السياسة، لهذا رأينا ضعف التضامن مع غزة. في الحقيقة، وفي المنطق، هذه ثنائية زائفة لأنه لا يوجد تناقض بين العمل على تحسين ظروف حياة أهلنا في الـ 48 وفي الوقت نفسه التضامن مع غزة أو التركيز على البعد السياسي. هناك جدلية وتطابق بين الهدفين. لذلك كما قلت، ما طرحته من نموذجَي أيرلندا والجزائر هو ما أرى فيه الخيار والحل، ليس على مستوى ضرورة صوغ استراتيجية شاملة، تستند إلى المنهجية نفسها. نحن بحاجة إلى منهجية مضادة تتضمن أيضاً التركيز على هذا المنهج السياسي للخراب، ونحتاج إلى اقتصاد سياسي للمقاومة. هذه قضية مركزية ومحورية، ولكن أعتقد أن القضية الأهم هي أنه واهم من يعتقد أن أي من الأدوات الموجودة الآن لديها القدرة على المواجهة ومؤهلة لها. وبالتالي استنتاجي النهائي قريب مما استنتجه محمد بوضياف في الجزائر حين حصلت العشرية السوداء في بدايتها، كان تعليقه بالحرف وتقييمه لما حصل، أن بداية الجزائر كدولة وليس كثورة بعد انتصارهم، كانت بداية زائفة ومزورة، بمعنى أن النموذج الذي تم تبنيه في بناء الدولة الجزائرية قاد الاقتصاد إلى العشرية السوداء التي لم تنفجر إلا بعد تراكم السياسات التي بدأت مباشرة مع تسلُّم بن بلّا ولاحقاً بومدين قيادة الجزائر.
الأمر في فلسطين ليس مثل الجزائر، فلم نحرر وطننا ثم بدأنا بداية زائفة في بناء دولة على كل فلسطين. الحقيقة هي أن الثورة الفلسطينية نفسها بدأت بداية زائفة. كان لدينا ثوار ولم يكن لدينا ثورة، هذا استنتاجي على الأقل. مؤلم أن نقول ذلك، كان لدينا ثوار وشعب على استعداد للتضحية بكل شيء، ولكن لم يكن لدينا ثورة بالمعنى الذي حصل في الجزائر مثـلاً، ثورة عرفت العدو وصاغت استراتيجيات بناء على طبيعة هذا العدو. كان لدينا أهداف محددة، عدا عن الفشل في السياسة كما قلت وعدم فهم معنى السياسة. مثـلاً أن تخاطب الشعوب بدلاً من الحكومات في أمريكا، لأن اللوبي قوي وتتخيل أنك لا تستطيع مواجهة الدعاية الصهيونية، فأنت لم تجرب أصـلاً ولم تؤسس بنية للتعامل مع الشعوب في الخارج، بل أسست فقط بنية دبلوماسية للتعامل مع الحكومات. كان الهدف الفلسطيني هو بناء دولة، على الأقل منذ عام 74 (أو ربما منذ عام 58، مع صدور العدد الثاني من مجلة فلسطيننا والمقال الافتتاحي لـخالد الحسن الذي دعا إلى تأسيس دولة في الضفة الغربية والقطاع، قبل انطلاق حركة فتح). كان المشروع مشروع دولة أو مشروع سلطة في الضفة والقطاع، وعلى هذا الأساس تم صوغ كل الاستراتيجيات. لم تكن توجد ثورة لتحرير فلسطين منذ البداية. كان هناك ثوار، وقادة على قناعة عقائدية أنه يجب تحرير كل شبر من أرض فلسطين وأنهم يعملون على ذلك، ولكن المسارات التي اتخذتها الثورة وعدم تأسيس منهجية مضادة لما كان يحدث في الطرف الآخر، هي ما أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه الآن.
المطلوب بداية جديدة كلياً، هذا لا يعني استبدال الأشخاص، أنا أتحدث عن الثورة بالمعنى التاريخي والفلسفي، نحن لدينا شعب عظيم ومقاوم على استعداد للتضحية ولدينا أمة عربية عظيمة لديها الاستعداد لنصرتنا والتضامن، وحتى القتال، معنا، كما حصل على طول التاريخ، ولكن إذا أردنا أن نستمر بما هو موجود، أعتقد أن هذا يضعنا في خطر شديد، وهو أن نخسر فلسطين فعـلاً. يجب أن تكون هناك بداية جديدة برؤية جديدة تستفيد من التجارب السابقة كما حصل في الجزائر وإيرلندا، ويمكن أن أذكر عشرات الأمثلة. ليس علينا أن نخترع العجلة، فهي موجودة، والعجلة موجودة في رام الله وفي الخليل ولم تذهب إلى أي مكان، علينا فقط أن نقوم بذلك. أتمنى أن أسمع قريباً بما يشبه مجموعة 22 التاريخية الفلسطينية على طريقة ما حصل في الجزائر.
اطّلعوا على ورقة العمل الثانية من الحلقة النقاشية ذاتها قراءة في صفقة القرن
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #صفقة_القرن #فلسطين #خراب_العقول #الاقتصاد_السياسي_والقضية_الفلسطينية #المشروع_الصهيوني #الاستيطان #الاحتلال_الاسرائيلي #القضية_الفلسطينية #السياسة_الأمريكية_في_الشرق_الأوسط #طرامب_والقضية_الفلسطينية #وجهة_نظر
يمكنكم مشاهدة فيديو الحلقة النقاشية كاملة:
المصادر:
(*) ورقة عمل ضمن الحلقة النقاشية “القضية الفلسطينية وصفقة القرن” التي عُقدت في مقر مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت يوم الاثنين 8 تموز/يوليو 2019.
ونُشرت أعمالها في مجلة المستقبل العربي العدد 489 في تشرين الثاني/ نوقمبر 2019.
وكانت قد قدّمت الحلقة وأدارت الحوار لونا أبوسويرح وشارك فيها (بحسب الترتيب الألفبائي):
أنيس النقاش محلل سياسي ومنسق شبكة الأمان للبحوث والدراسات الاستراتيجية.
حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة.
حيان حيدر عضو المؤتمر القومي العربي، أمين سر منبر الوحدة العربية.
سيف دعنا عميد كلية العلوم الاجتماعية في جامعة ويسكونسون – الولايات المتحدة.
صلاح صلاح باحث فلسطيني.
عبد الحليم فضل الله رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق.
عبد الملك سكرية عضو حملة مقاطعة داعمي إسرائيل – لبنان.
عصام السعدي عميد معهد المشرق للدراسات الجيوسياسية.
فارس أبي صعب مدير التحرير في مركز دراسات الوحدة العربية.
كابي الخوري مدير التوثيق والمعلوماتية في مركز دراسات الوحدة العربية.
لبيب قمحاوي كاتب ومحلل سياسي فلسطيني.
لونا أبوسويرح مدير عام مركز دراسات الوحدة العربية.
ماهر الطاهر مسؤول دائرة العلاقات السياسية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
محمد فقيه إعلامي وباحث سياسي في قناة الميادين.
منير شفيق أمين عام المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج.
منى سكرية صحافية لبنانية.
نافذ أبو حسنة إعلامي فلسطيني.
يوسف الصواني مدير الدراسات في مركز دراسات الوحدة العربية.
(**) سيف دعنا: عميد كلية العلوم الاجتماعية في جامعة ويسكونسون – الولايات المتحدة.
سيف دعنا
أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدولية، جامعة ويسكونسن- الولايات المتحدة الأميريكة.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.