لا بد أن يتوقف المراقب أمام التحوّل الذي أصاب نمط التفاعلات السياسية بين البلدان العربية في الحقبة التي تلت انعقاد قمة العُلا في السعودية في 5 كانون الثاني/يناير 2021، التي اتسمت بالاتجاه نحو الوفاق والتوافق. ففي عقبه مباشرة، بدأت سلسلة من المصالحات بين قطر من ناحية، وكل من السعودية والإمارات ومصر والبحرين من ناحية أخرى. تحركت عجلة المصالحة بسرعات متفاوتة، فتسارعت في حالتَي السعودية ومصر، وأُعلن عن عودة العلاقات الدبلوماسية مع الرياض في الخامس من الشهر نفسه، ومع القاهرة في العشرين منه. بينما تباطأت في حالة البحرين والإمارات، فلم يتم الإعلان عن عودة العلاقات الدبلوماسية مع المنامة إلا في نيسان/أبريل 2023، وأعلنت قطر في الشهر إياه قرب موعد عودة العلاقات مع أبو ظبي.

يبدو أن قمة العلا كانت حدثًا كاشفًا ومنشئًا في الوقت نفسه، فقد كشفت من ناحية عن تبلور إدراكات جديدة لدى قادة دول المنطقة، وأنشأت من ناحية أخرى البيئة الحاضنة لكثير من مظاهر التقارب والتعاون والتنسيق على المستوى العربي الشامل أو مستوى عدد من البلدان العربية في صورة اجتماعات رسمية أو لقاءات تشاورية؛ منها على المستوى الرسمي: المؤتمرات الدولية لمجلس جامعة الدول العربية التي أفصحت عن درجة أعلى من التفاهم العربي، ومؤتمر القمة العربي الذي انعقد في الجزائر في  تشرين الثاني/نوفمبر 2022 وشارك فيه 13 دولة على مستوى رئيس الدولة أو ولي العهد؛ ومنها أيضًا، اجتماعا قمة جدة مع الرئيس الأمريكي جو بايدن في تموز/يوليو 2022، وقمة الرياض مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، التي شارك فيها قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن؛  ومنها أيضًا اللقاء التشاوري الذي انعقد في مدينة العَلمين المصرية في آب/أغسطس 2022، بحضور قادة دول مصر والإمارات والبحرين والعراق والأردن، وتكرر هذا اللقاء في أبو ظبي في كانون الثاني/يناير 2023 بحضور رؤساء دول الإمارات ومصر وقطر والبحرين وسلطنة عمان والأردن.

ظهور أسماء مصر والعراق والأردن في أكثر من مناسبة لم يكن مصادفة، إذ يربط بينها جهود للتعاون والتنسيق، بدأت في القاهرة في آذار/مارس 2019، عندما دعا الرئيس المصري ملك الأردن ورئيس وزراء العراق إلى أول اجتماع، وتتالت اجتماعاتهم على مستوى القادة والوزراء؛ وكان منها الاجتماع الذي انعقد في العراق في تموز/يوليو 2021، وأحدثها في الأردن في كانون الأول/ديسمبر 2022. ترافق مع هذه الاجتماعات واللقاءات سلسلة من التفاعلات الثنائية على مستوى رؤساء الدول.

وفي عامي 2022 و2023، زار الرئيس المصري كلًا من الجزائر والسعودية والإمارات وقطر والأردن وسلطنة عمان والبحرين والكويت، وزار ولي العهد السعودي بدوره مصر والأردن وتركيا وقطر، وزار رئيس دولة الإمارات كلًا من مصر والسعودية وقطر وسلطنة عمان والبحرين، ونائبه الشيخ محمد بن راشد زار الجزائر، وكذلك زار ملك الأردن الإمارات والسعودية وقطر والبحرين وسلطنة عمان والجزائر، وزار رئيس وزراء العراق مصر والإمارات والسعودية والأردن والجزائر وقطر والكويت.

تسارعت الأحداث على أكثر من مسار يتعلق بالبؤر الساخنة في المنطقة؛ فبالنسبة إلى العراق، انعقد مؤتمر بغداد 1 في آب/غسطس 2021 بهدف تنسيق جهود إعمار العراق بمشاركة عربية ضمت السعودية والإمارات ومصر والكويت وقطر والأردن، وإقليمية ضمّت تركيا وإيران، ودولية ضمّت الرئيس الفرنسي ماكرون وعددًا من منظمات التنمية والتمويل الدولية؛ ثم مؤتمر بغداد 2 في الأردن في كانون الأول/ديسمبر 2022، المشاركة نفسها مع انضمام البحرين وسلطنة عمان.

أما بالنسبة إلى سورية، فقد كانت الإمارات سبّاقة، إذ أعلنت عن إعادة فتح سفارتها في دمشق في كانون الأول/ ديسمبر 2018. وفي عامي 2022 و2023، ازدادت التفاعلات العربية في شأن عودة سورية إلى البيت العربي، فزار وزير الخارجية السوري مصر والسعودية والجزائر وتونس والإمارات، واستقبلت دمشق وزراء خارجية الإمارات ومصر والسعودية والأردن وسلطنة عمان والجزائر، وحرص الرئيس السوري بشار الأسد على الالتقاء بهم. وفي شباط/ فبراير 2023 زار وفد من الاتحاد البرلماني العربي ضم 8 من رؤساء البرلمانات سورية للتعبير عن التضامن العربي مع الشعب السوري بعد كارثة الزلزال الذي دمر جزءًا من أرضها. وأعلنت تونس عن تعيين سفير جديد لها في سورية في نيسان/أبريل 2023. واجتمع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي والدول الثلاث مصر والعراق والأردن في جدة في الشهر نفسه لبحث احتمالات إصدار قرار في مؤتمر القمة العربي المقبل المقرر عقده في الرياض في أيار/ مايو 2023 بعودة سورية إلى الجامعة العربية وبحث العقبات التي تحول دون ذلك.

وامتد مناخ المصالحات إلى القضية الفلسطينية، فبعد انقطاع في العلاقات بين السعودية وحركة حماس استمر 8 سنوات، استقبلت الرياض في نيسان/أبريل 2023 وفدًا من حركة حماس كان على رأسه رئيس المكتب السياسي للحركة في الداخل إسماعيل هنية ورئيس الحركة في الخارج خالد مشعل، في الوقت الذي كان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يزور السعودية برفقة عدد من قيادات السلطة.

لم يقتصر مناخ التهدئة والمصالحة على العلاقات بين البلدان العربية بعضها ببعض بل امتد ليشمل علاقاتها بكل من تركيا وإيران، فعادت العلاقات السياسية والاقتصادية بين تركيا وأغلب البلدان العربية، وكان آخرها مصر؛ فقد التقى الرئيسان المصري والتركي على هامش افتتاح بطولة كأس العالم لكرة القدم التي نظمتها قطر في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وتبادل وزراء خارجية البلدين الزيارات في عام 2023. وسعت الدبلوماسية الروسية بمشاركة إيرانية إلى التخفيف من حدة التوتر بين سورية وتركيا، فنظمت لقاءات بين وزراء الدفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات، كان أحدثها في 25 نيسان/ أبريل 2023.

أما في شأن إيران، فقد كان أهم تطور هو الإعلان في آذار/مارس 2023 عن الاتفاق مع السعودية على عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين التي تمت بوساطة صينية. ومن ويُرجح، أن تكون لهذا الاتفاق تأثيرات في تهدئة عدد من صراعات المنطقة.

لا شبهة أن هناك اتجاهًا عامًّا نحو التهدئة والمصالحة بين قطاع كبير من البلدان العربية، ربما يمكن تفسير بعض هذه المصالحات بعوامل ثنائية تتصل بوضع هذه الدولة أو تلك، لكن الأهم هو العوامل العامة ذات الطابع الإقليمي والدولي التي أوجدت البيئة المحفزة للتوافق والتي يمكن عرضها في الثلاثة عوامل الآتية:

الأول: تراجع دوافع الاستثمار في الصراع. شهدت الحقبة التالية لنشوب الانتفاضات الشعبية العربية في عامَي 2010 و2011، تحركات لعدد من البلدان العربية التي تدخلت لدعم هذه الانتفاضات لإسقاط النظم القائمة. على سبيل المثال، كان لبعض الدول الخليجية تأثيرها في دعم التنظيمات السياسية والميليشيات العسكرية المناهضة لنظام الحكم في سورية، وتكرر هذا المشهد في ليبيا والعراق واليمن بدرجات وأشكال وأطراف عربية مختلفة.

وبدا لوهلة أن الاستثمار في الصراع ودعم أحد أطرافه ضد طرف آخر يفيد المصلحة الوطنية لهذه الدولة أو تلك، ولكن مع عام 2015 تقريبًا تراجع هذا الاعتقاد؛ ففي سورية مثلًا، اتضح هيمنة قوى الإسلام السياسي على التنظيمات والميليشيات المعادية للنظام الحاكم، وظهر أن كل طرف في الصراع له من يؤيده من القوى الإقليمية والدولية، الأمر الذي يجعل الصراع لا نهاية له، وأن الدعم المالي والعسكري الذي تتلقاه هذه التنظيمات والميليشيات أدى إلى ظهور طبقة من أمراء الحرب المستفيدين من الصراع والحرصاء على استمراره وتأجيجه بين فينة وأخرى حتى لا تنضب المكاسب التي يحصلون عليها.

أدى هذا كله إلى إدراك النخب السياسية العربية أن تكلفة الاستثمار في الصراع باتت تفوق كثيرًا أي مكاسب متوقعة منه، وأن الأولوية هي ضرورة العمل على إيجاد حالة الاستقرار الإقليمي التي توفر البيئة المناسبة للتحديث والتنمية في كل دولة وإعادة بناء مؤسساتها والقدرات البشرية بما يتجاوب مع حاجات الثورة الصناعية الرابعة.

الثاني: تراجع موثوقية الحليف أو الشريك الأمريكي. اتسم سلوك السياسة الخارجية الأمريكية على مدى سنوات بعدم التشاور مع البلدان العربية أو عدم الاكتراث لسماع وجهة نظرها في القضايا التي تتعلق بالمنطقة؛ ظهر ذلك جليًا في إبرام الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 في عهد إدارة الرئيس أوباما، من دون أن تأخذ أمريكا في الحسبان مخاوف البلدان العربية في شأن سياسة إيران في المنطقة، وقرار سحب بطاريات الدفاع الجوي الأمريكي من السعودية، وقرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021. وكرر المسؤولون الأمريكيون وتقارير مراكز البحوث الأمريكية الحديث عن تراجع أهمية المنطقة العربية والشرق الأوسط من منظور الاستراتيجية الأمريكية، وأن الأولوية أصبحت للاتجاه شرقًا لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد في منطقة الإندو-باسفيك، وهو ما زاد شعور الحكام العرب بـأن الغطاء الاستراتيجي والأمني الأمريكي لم يعد قائمًا. وزاد الأمر سوءًا استخفاف إدارة ترامب بالمشاعر العربية تجاه القضية الفلسطينية، فاعترفت بالقدس كعاصمة لإسرائيل واعترفت قانونيًا بضمها منطقة الجولان السورية لها. كان من شأن ذلك إعادة النظر في أولويات السياسة الخارجية وبخاصة مع تزايد تطلع روسيا والصين إلى تطوير العلاقات مع دول المنطقة على أسس من الاحترام المتبادل.

الثالث: تزايد الإدراك للتحولات العالمية. عاش العالم لعدة حقب في ظل الحرب الباردة وتوازن القوى بين المعسكرين الغربي والشرقي. وجاء تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية في الاتحاد السوفياتي في حقبة الثمانينيات ليعطي واشنطن دورًا أكبر في تسيير النظام الدولي، وصولًا إلى تفكك الاتحاد السوفياتي في عام 1991، فأصبحت الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة التي سعت إلى الهيمنة على مقدرات العالم.

لكن هذا الوضع الأحادي لم يستغرق طويلًا. فمع نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استعادت روسيا عافيتها الاستراتيجية وبزغ نجم الصين كمزاحم على قمة اقتصاد العالم، وبدا أن العالم يتغير تدريجًا من حالة الأحادية إلى حالة التعددية على مستوى القوى الكبرى. وتبين للقادة العرب أنهم يستطيعون تحقيق مصالح بلادهم على نحوٍ أكثر جدوى وأقل تكلفة من خلال تطوير العلاقات مع روسيا والصين. واتضح لهم أن المصلحة الوطنية لدولهم تقتضي الابتعاد من الموقف الأمريكي. ظهر ذلك بجلاء في المواقف المستقلة لأغلب البلدان العربية تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا، وعدم تأييدها المطلق لأي من الأطراف المتحاربة. وظهر ذلك في امتناع أغلب البلدان العربية عن التصويت في الجمعية العامة على قرار تجميد عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وعدم تبني العقوبات التي فرضتها الدول الغربية، وفي قرارات مجموعة أوبك بلس، وفي كلمات الرؤساء العرب في الاجتماع مع بايدن في جدة، وفي مناخ الدفء الذي ساد في اجتماعهم مع الرئيس الصيني في الرياض في العام نفسه.

تدخل المنطقة العربية مرحلة من تهدئة الخلافات والصراعات القائمة، وإقامة مصالحات وترتيبات عربية وإقليمية جديدة، كان أسرعها ما ظهر في حالة اليمن، ولكن يبقى انتظار تأثير هذه الحالة على الانقسام السياسي والعسكري في ليبيا، والشغور الرئاسي والأزمة الاقتصادية – الاجتماعية في لبنان، وعلى وقف السياسات العدوانية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى الاقتتال العسكري الذي انفجر في السودان يوم 15 نيسان/ أبريل 2023.

وينبغي أن نتذكر عند تقييم حالة الوفاق والمصالحة العربية الجديدة أنها لا تقوم على أسس أيديولوجية أو فكرية، بل تستند إلى تقدير واقعي بالسياق الدولي والمصالح الوطنية لكل دولة، وعلى مبدأ الاحترام المتبادل بين الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

ولا يعني الوفاق بهذا المعنى انتفاء الاختلافات في وجهات النظر والتنافسات بين الدول؛ فهذا أمر طبيعي. ولكن المهم أن يتم ذلك على نحو سلمي ومشروع، وألّا يكون هدفه الإضرار بمصالح طرف آخر. ومن المتوقع، استمرار وجود بعض هذه الخلافات والاختلافات بين هذا الطرف أو ذاك، ولكن من دون تهديدٍ لأسس هذا التوافق، وأن حلها يكون بالمحادثات المباشرة والتعرف إلى دوافع الطرف الآخر ومخاوفه.

ومن المهم أيضًا الانتباه إلى أن هذا الوفاق لن يستمر بلا عوائق وتدخلات خارجية. ومن الأرجح أن الولايات المتحدة – وربما بعض القوى الغربية – لا تكون راضية عن هذا التوجه الذي يغلق أحد أبواب تدخلها في شؤون المنطقة، مثل التقارب السعودي – الإيراني، وجهود إعادة سورية إلى البيت العربي. والتدخلات الخارجية لإفساد هذا التوافق أمر وارد، فقد كان التقارب أو التضامن العربي دومًا يمثل هدفًا لكل الطامعين والمتربصين بالمنطقة العربية.

وأيًا كانت الأسباب والدوافع والمبررات لهذه الحالة من الوفاق العربي، فالأمر المؤكد أنه تطور تسعد به الشعوب العربية، وتأمل في دعمه وتكريسه، وتوسيع آفاقه. فسوف يظل للعلاقات بين العرب مذاق وحميمية يختلفان نوعيًا عن علاقات بلادهم بأي بلاد أُخرى.