مقدمة

بعد نحو سبع سنوات من قطع العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وبعد نحو عقدين على تدهور العلاقات بين البلدين، تنجح الصين في جمع كلا الطرفين والتوصل معهما إلى اتفاق لعودة العلاقات يمكن أن يفتح منطقة الخليج، ومنطقة الشرق الأوسط بوجه عام، على مرحلة جديدة من العلاقات والاصطفافات التي تعيد رسم المشهد السياسي والاقتصادي والإنساني فيها على نحو يضع حدًا لحالة التدهور الحاد الذي عرفته المنطقة منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 على الأقل، الذي أخذ العلاقات السعودية الإيرانية ومنطقة الشرق الأوسط بوجه عام إلى حالة من الانقسامات والحروب وأعمال العنف والإرهاب تحتاج المنطقة معها ربما إلى عقود للخروج من تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ فتوتر العلاقات بين بلدين في حجم السعودية وإيران اقتصاديًّا وسياسيًّا وجيوسياسيًّا، لا تقتصر آثاره وتداعياته على حدود البلدين وحسب، بل تنعكس على دائرة جغرافية وسياسية وبشرية واسعة في الشرق، نظرًا إلى ما تمثله كل منهما من مكانة اقتصادية وجيوسياسية ودينية ومن تأثير في الدائرتين العربية والإسلامية، وبالتالي من دور قطبي إقليمي في المنطقة وفي العلاقات الدولية.

فما هي أبرز القضايا الخلافية بين البلدين، وما هي ظروف هذا الاتفاق ومدى ارتباطه بحل هذه القضايا، ولماذا وقِّع هذا الإتفاق اليوم، وما هي دوافع الاتفاق لدى الطرفين السعودي والإيراني، وما هي آفاق التعاون السعودي الإيراني، وما هي الآفاق التي يمكن أن يفتحها هذا الاتفاق على المستوى الإقليمي؟

1 – القضايا الخلافية بين الطرفين

مثّل انتصار الثورة الإسلامية في إيران حدثًا مفصليًا لإعادة تشكيل العلاقة بين السعودية وإيران في المنطقة، فالعلاقة بينهما قبل الثورة كانت تندرج في خانة الصداقة التي لا تخلو من مشكلات تفصيلية تتعلق ببعض التوترات المذهبية أو قضايا الحج أو نزاعات حدودية في الخليج، أو التنافس على الأدوار والوظائف لكن تحت السقف الأمريكي نفسه، الذي أخذ يتحكّم في منطقة الخليج بوجه عام بعد الحرب العالمية الثانية وإطاحة حكومة مصدّق في إيران عام 1953، ثم إقرار مبدأ أيزنهاور عام 1957، الذي وضع السياسة الخارجية لكلا البلدين تحت المظلة الأمريكية التي سعت لمواجهة التمدد السوفياتي والأنظمة الاشتراكية والقومية العربية وحركات التحرر الوطني في المنطقة.

وبعد الثورة الإسلامية، التي أخرجت إيران من تحت المظلة الأمريكية ووضعتها في موقع معادٍ لها لكنه مستقل عن الثنائية القطبية التي حكمت النظام العالمي في حقبة الحرب الباردة، أخذت القضايا الخلافية السعودية – الإيرانية تتراكم على وقع الاختلاف في مقاربة كلا البلدين للقضايا الكبرى، وأبرزها الهيمنة الأمريكية على المنطقة ونهب ثرواتها الطبيعية والتحكُّم في موارد النفط فيها، والمشروع الصهيوني الذي يحتل فلسطين وأجزاء من الأراضي العربية المجاورة ويهدد المنقطة برمتها، وموقف كل من الطرفين (السعودية وإيران) من هذه القضايا وما تفرع منها من أحداث وأزمات وصراعات وحروب ضربت المنطقة على مدى عقود، وكان لكل من الطرفين موقفه أو دوره فيها؛ فاتخذت هذه القضايا الخلافية تسميات مختلفة لدى كل من الطرفين بناء على موقع كل منهما فيها؛ فمن المنظار السعودي، مثِّل التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، وتصدير الثورة، والبرنامج النووي الإيراني، ومواجهة المصالح الأمريكية في المنطقة، وتهديد أمن الخليج، ودعم خيار التطرّف في وجه إسرائيل، والتشيُّع، العناوين الرئيسية للقضايا الخلافية مع إيران؛ ومن المنظار الإيراني، مثلت مسألة ارتهان السياسة السعودية للمصالح الأمريكية، والقواعد الأمريكية في الخليج، والتجييش المذهبي في الشارع العربي ضد إيران، ونشر الفكر التكفيري، ومحاربة أطراف المقاومة في العالم العربي تحت شعار الاعتدال، وأخيرًا حرب اليمن، ورعاية التطبيع والتنسيق الأمني مع إسرائيل، أهم القضايا الخلافية مع السعودية.

2 – ظروف الاتفاق وحيثياته

تشهد المنطقة في السنوات الأخيرة مجموعة تحوُّلات ترجِّح تراجع خيار التصعيد والقطيعة بين السعودية وإيران وتدفع بالطرفين إلى البحث عن مخارج لبعض ملفات المنطقة، أبرزها ملف اليمن. كما يأتي هذا التراجع في حدة المواجهة السعودية الإيرانية، مع حدوث تحوُّل في الإدارة الأمريكية لمصلحة الحزب الديمقراطي، الذي سبق له أن أعطى الأولوية في معالجة الملف النووي الإيراني للخيار الدبلوماسي والتوصل إلى اتفاق دولي مع إيران لضبط برنامجها النووي بعيدًا من الخيار العسكري، فاستأنفت هذه الإدارة في عهد بايدن المفاوضات مع إيران وكانا قاب قوسين أو أدنى من توقيع الاتفاق حين اندلعت المواجهة الروسية – الأطلسية في أوكرانيا ودفعت الولايات المتحدة إلى التريُّث في توقيع الاتفاق. فضلًا عن أن الإدارة الأمريكية «الديمقراطية» كانت تتبنى أساسًا نقل ثقل المواجهة على الساحة العالمية إلى آسيا وأوراسيا في مواجهة روسيا والصين كقضية مركزية في استراتيجية الحفاظ على نظام الأحادية القطبية والقيادة الأمريكية للعالم. في ظل هذه التحوُّلات تراجع الرهان السعودي على إمكان اعتماد الخيار العسكري ضد إيران سواء من جانب الولايات المتحدة نفسها، أو من جانب إسرائيل التي اندفعت بعض دول الخليج العربية إلى التطبيع معها للاستقواء بها ضد إيران.

في مقابل ذلك كان للعقوبات الأمريكية على إيران تأثيرها في الوضعين الاقتصادي والاجتماعي الإيرانيين، فضلًا عن الوضع الضاغط على إيران في الإقليم، وبخاصة على الساحة العراقية، وما عرفته تلك الساحة من اضطرابات واحتجاجات شعبية استهدفت من ضمن ما استهدفته دور إيران ونفوذها وحلفاءها في العراق.

كل هذا التأزم في ملفات المنطقة التي تمثل كل من السعودية وإيران، أو إحداهما، طرفًا فيها، وفّر الأجواء لدى كلا الطرفين للبحث عن سبل للخروج من القطيعة الدبلوماسية والبحث عن حلول للملفات المأزومة.

3 – الاتفاق السعودي – الإيراني: الآفاق والخيارات 

أمام هذا المشهد الدولي والإقليمي والمحلي يمكن تحديد الآفاق المتاحة أمام مستقبل العلاقات السعودية – الإيرانية ودور هذا الاتفاق فيها، وانعكاساته على مستقبل منطقة الشرق الأوسط بوجه عام. وهذا يتطلب معرفة ماذا تريد كل من السعودية وإيران من الاتفاق، وما هي الآفاق المستقبلية لكل منهما في المنطقة وما هي الخيارات الفضلى أمام هذه الأطراف في المستقبل:

على المستوى السعودي تتوقف التطلعات السعودية من هذا الاتفاق على مسألتين على الأقل، إحداهما التحولات المجتمعية الداخلية الكبيرة في السعودية والدور الاقتصادي والجيوسياسي الذي تطمح القيادة السعودية الجديدة إلى القيام به إقليميًا ودوليًّا، في سياق رؤية 2030 التي تطمح إلى احتلال السعودية مكانة إقليمية ودولية فاعلة ومؤثرة. وهذا يتطلب بالتالي إعادة ترتيب العلاقات مع الجوار ومع القوى الدولية وفق رؤية نفعية توسِّع من آفاق التعاون وتعزيز المصالح مع الأطراف الإقليمية المختلفة، وفق مقاربة وطنية سعودية تركز على المصالح الوطنية المحلية (السعودية أولًا) على حساب القضايا والاهتمامات العربية والإسلامية، والدور التاريخي للمملكة السعودية كدولة محورية للعالم الإسلامي، وجغرافية الرسالة المحمَّدية؛ وثانيتهما تحوُّلات المشهد الإقليمي والدولي وصعود دور قوى كبرى أخرى في النظام الدولي، وبخاصة الصين وروسيا، وبداية تصدّع النظام الأحادي القطبية الذي تحكمه الولايات المتحدة الأمريكية، وانعكاس هذا التحول على موازين القوى وأدوار القوى الإقليمية في الشرق الأوسط بعد فشل الولايات المتحدة في تطويع هذه المنطقة وإدارتها وحل النزاعات فيها، بل أَخْذِ هذه المنطقة إلى مزيد من التأزم والانقسام والصراعات والفشل في تحقيق التنمية لدى معظم بلدانها التي لا تزال نسبة عالية من شعوبها تقع تحت خط الفقر وتعاني الأمية والجوع والعطش والاحتلال والاستبداد واليأس والهجرة. وعلى رأس المشكلات التي لا تزال المنطقة تعانيها هي القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، الذي لم تستطِع السعودية إيجاد حل لهما عبر الخيار السلمي التفاوضي «المعتدل» الذي شجعته في المنطقة على مدى عقود عبر تحالفها مع الولايات المتحدة صاحبة القرار المركزي في إيجاد حل «عادل» نسبيًا لهذه القضية على قاعدة قرارات الأمم المتحدة المعروفة.

وبناء على المقاربة الإقليمية هذه تظهر بعض ملامح التحوُّل في السياسة السعودية عبر انفتاحها المتسارع على القوى الدولية الصاعدة، كالصين وروسيا والهند، وعلى حساب علاقتها التاريخية المحورية بالولايات المتحدة. وهذا يمكن أن يُستتبع بإعادة السعودية قراءتها لدورها وعلاقاتها الإقليمية، سواء على مستوى دورها العربي أو على مستوى علاقتها بإيران، التي يتوقف تحقيق تقارب سعودي بعيد المدى معها على تبنِّي السعودية مقاربةً إقليمية لمشروعها الوطني تعيد النظر معها بالرهان التاريخي على الولايات المتحدة كحامية للمملكة السعودية وكراعية للسلام في المنطقة – وعلى المشاريع التي فرضتها على المنطقة وكان آخرها الاتفاقيات الإبراهيمية والتطبيع العربي مع إسرائيل، وهما قضيتان تمثلان نقطتي خلاف جوهريتين بين السعودية وإيران إلى جانب قضية البرنامج النووي الإيراني، الذي تأسس برعاية أمريكية وغربية في عهد الشاه ولم يُثِر حينها استفزاز ومخاوف السعودية ودول الخليج العربية الأخرى.

وعلى المستوى الإيراني، لا يبدو أن القضايا الخلافية كلها قابلة للتنازل، وبخاصةٍ قضايا البرنامج النووي والموقف من الوجود الأمريكي في المنطقة والمشروع الصهيوني، ودعم فصائل المقاومة الذي يمثّل عنصر قوة أساسيًا لإيران في مواجهتها مع الولايات المتحدة. أما القضية الخلافية القابلة للحل فهي قضية الاستقطاب المذهبي الذي خلق حواجز مذهبية أمام توسُّع محور المقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة، بعدما استطاعت السعودية توظيفه إلى أقصى حد في الخطاب السياسي والإعلامي لمواجهة إيران ومحور المقاومة في عالم عربي يمثل أهل السنة أكثرية واسعة من شعوبه. وقد نجح الخطاب السياسي والإعلامي السعودي في تحريف القضايا الخلافية مع طهران من كونها قضايا متمحورة أساسًا حول الموقف من الصراع ضد إسرائيل والوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، ومن خيار المقاومة، إلى كونها قضايا افتراضية عناوينها الصراع «العربي الفارسي» ومواجهة التشيُّع والتدخل الإيراني في الشؤون الداخلية العربية. ولا شك في أن طريقة تعاطي إيران مع مجالها الحيوي، وبخاصة تجربتها في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003، ساعدت السعودية على التجييش ضدها وخلق رأي عام معارض لها في المجتمعات العربية.

واليوم، مع تراجع التطرّف الديني في الخطاب التعبوي السعودي، مع التحديثات الأخيرة في السعودية، التي أنهت النمط التعاقدي الثنائي، الملكي السعودي الديني الوهابي، وانتقلت إلى نمط ملكي عمودي ذي سلطة مطلقة ينحو باتجاه التخلي عن الوهابية كمرجعية تحكم الخطاب السياسي التعبوي في المملكة، يمكن أن تتراجع حدة إحدى القضايا الخلافية مع طهران إذا ما عرفت الأخيرة إعادة التركيز على خطاب ديني سياسي توحيدي يركز على منطلقين أساسيين، أولهما روحية الثورة الإسلامية في إيران التي عملت منذ يومها الأول على التقريب بين المذاهب الإسلامية، وأسست من أجل ذلك المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية؛ وثانيهما شمولية الصراع مع المشروع الصهيوني والاستكبار العالمي المتمثل بالإمبريالية الأمريكية، وهذه الشمولية تستدعي أدوات عمل أوسع فكريًا وتنظيميًا وبرنامجيًا وإعلاميًا، فضلًا عن أن إيران تواجه تحديًا جديًا في نمط الحكم لديها بوصفه نظامًا إسلاميًا يقدم نفسه كمشروع نقيض للنظام الرأسمالي الغربي وللثقافة الليبرالية الفردانية. لذلك تواجه إيران تحدي تقديم نموذج بديل من النموذج الرأسمالي الغربي، وهذا يتطلب بناء إيران نموذجًا مغايرًا اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا يكون أكثر عدالة ومساواة وأكفأ إنتاجيًا لناحية تقليص الهدر، وأقل استنزافًا واستغلالًا للإنسان والطبيعة، وأكثر توازنًا في تحديد العلاقة بين الفرد والمجتمع بما يضمن حقوق الإنسان الفرد من جهة وتماسك المجتمع وقيمه الإسلامية المتسامحة، وقابليته للتطور والتجدد الحضاري وفق رؤية إسلامية عقلانية منفتحة على الاجتهاد، من جهة أخرى.

4 – الخيارات الفضلى للمنطقة

يبدو الاتفاق السعودي الإيراني أمام خيارات مختلفة، تراوح بين: (1) علاقات دبلوماسية بين البلدين، مع استمرار عدد من القضايا الخلافية المحورية بينهما، وبخاصةٍ قضايا البرنامج النووي الإيراني، والوجود العسكري الأمريكي في الخليج، والدور الإيراني في الصراع مع إسرائيل. وهو أمر سيساهم في استمرار استنزاف المنطقة بكثير من الصراعات والانقسامات؛ أو (2) علاقات دبلوماسية تستطيع التوصل إلى حلول لكثير من القضايا الخلافية وتبعاتها في المنطقة، وهذا أمر يتوقف على توصل الطرفين إلى التوافق على مقاربة مشتركة لمستقبل المنطقة تأخذ في الحسبان المصالح المشتركة بينهما بحكم الجغرافيا والتاريخ والثقافة والدين؛ مقابل فشل الولايات المتحدة في إدارة شؤون المنطقة وإحلال سلام عادل فيها، وفشل قواعدها العسكرية في توفير الأمن للسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي كافة، وهذا ما أثبتته حرب اليمن، وفشل الخيار السلمي والتفاوضي في استعادة أبسط حقوق الشعب الفلسطيني وغيره من الشعوب العربية المجاورة في استعادة أرضه والعودة إليها وبناء دولته الفلسطينية المستقلة عليها، كما تأخذ في الحسبان التحولات الدولية والإقليمية وتراجع مكانة الولايات المتحدة اقتصاديًا واستراتيجيًا في النظام العالمي وصعود قوى أخرى تعتمد مقاربات أكثر توازنًا في تعاملها مع الشعوب الأخرى، وتسعى إلى دور لها في المنطقة يقوم على المصالح المشتركة والمتبادلة لا على السيطرة ونهب الثروات وتدمير الثقافات المحلية.

وفي حال التوافق على هذه الخيارات بين السعودية وإيران ستزول بالتأكيد معظم القضايا الخلافية بينهما، إذ لا يعود هناك مبرر للانحياز إلى السياسة الأمريكية في المنطقة، ولا لوجود القواعد العسكرية الأمريكية فيها، ولا للرهان على التطبيع مع إسرائيل كمخرج للصراع معها وخيار لاستعادة الأراضي المحتلة أو كوسيله للتوازن مع إيران أو لمواجهتها، وبالتالي يعود خيار المقاومة خياراً متفقًا عليه عربيًا وإيرانيًا، وربما تركيًا في المستقبل. وهذا أمر يفتح الأبواب أمام المنطقة لمزيد التقارب بين أطراف مثلث القوة في الشرق الأوسط، أي العالم العربي وإيران وتركيا.