مقدمة:

تحاول هذه الدراسة فك الصورة النمطية المروَّجة عن المستوطنين، حيث تسم المؤسسة الرسمية الفلسطينية الحياة اليومية للمستوطنين وسلوكهم الاستعماري اتجاه فلسطين أرضاً وشعباً وحكاية، تارة بـ«اعتداءات مستوطنين»، وفي مواقع أخرى «اعتداءات المستعمِرين». ويظهر عجز منهجي في وضع سلوك المستوطنين في موقعه الحقيقي في بنية الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. بينما في الواقع يشكل المستوطنون كتلة فيزيائية من السكان والمساكن والبنية التحتية والأيديولوجيا التي أسهمت في تفتيت الأرض الفلسطينية، وفككت المجتمع الفلسطيني وبناه المتعددة، وصعّدت من بنية الاستعمار الاستيطاني وكثفته جغرافياً في الأرض الفلسطينية، وأمعنت في تحقيق تطهير الفلسطنة. وتتسم الحياة اليومية للمستوطنين، في أغلبها، بسلوك إرهابي ضد السكان الفلسطينيين وممتلكاتهم وأراضيهم وحياتهم اليومية. تعتمد هذه الدراسة على عرض بعض المؤشرات والإحصاءات التي تؤكد الفرضية البحثية التي ترى في مجتمع المستوطنين بنية استعمارية إسرائيلية مكملة للبنية الاستعمارية المركزية المتمثلة بالمجتمع الإسرائيلي ومؤسساته ومؤسسات الدولة الاستعمارية. كما تفترض الدراسة أن هناك عجزاً منهجياً وخطابياً في بيانات وتقارير المؤسسة الرسمية الفلسطينية في توصيف البنية الاستعمارية للحياة اليومية للمستوطنين على أنها استعمار استيطاني، وإن حققت نجاحاً ملحوظاً في رصد وتوثيق سلوك المستوطنين وعنفهم اليومي.

تهدف هذه الدراسة إلى نقد وتفكيك خطاب المؤسسة الرسمية الفلسطينية تجاه المستوطنين، وخصوصاً خطاب مؤسستَي هيئة مقاومة الجدار والاستيطان التابعة للسلطة الفلسطينية ولاحقاً لمنظمة التحرير؛ ومركز عبد الله الحوراني للدراسات والتوثيق التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. وتعتمد الدراسة في نقد خطاب المؤسستين على بعض التقارير الدورية التي تصدر عن هاتين المؤسستين.

أولاً: ماهية الاستعمار وأشكاله

إن التفريق بين الاستعمار الاستيطاني والاستعمار الاستغلالي أساسي في فهم سلوك المستوطنين وممارساتهم اليومية تجاه المجتمع الأصلاني، وخصوصاً في دراسة المجتمع الفلسطيني. لقد بين باترك وولف أن الاستعمار الاستيطاني مختلف عن التشكيلات الاستعمارية الاستغلالية، فالمستعمرات الاستيطانية لم تؤسس من أجل استخلاص القيمة الزائدة من عمل السكان الأصلانيين، وإنما تقوم على فرضية إزالة السكان الأصلانيين من وعن أرضهم[1]. كما يميز فيرتشيني بين الاستعمار الاستيطاني والاستعمار الاستغلالي بمقولة أن الاستعمار الاستغلالي يخاطب العمال الأصلانيين: «أنت اعمل لدي»؛ بينما يخاطبهم الاستعمار الاستيطاني بمقولة «أنت ارحل من هنا»[2]. يتبين من المقولات النظرية والتحليلية التي طورها كل من وولف وفيرتشيني وآخرين في حقل الاستعمار الاستيطاني منذ تسعينيات القرن الماضي أن هناك فروقاً جوهرية بين الاستعمار الاستيطاني والاستعمار الاستغلالي، إذ يهدف الأول إلى إزالة السكان الأصلانيين، بينما يقوم الثاني على استغلال قوتهم وطاقتهم من أجل الربح الرأسمالي، في حين يمثل الاستعمار الاستغلالي كحدث له بداية ونهاية ويمكن الحديث عن مرحلة ما بعد الاستعمار الاستغلالي بعد انتهائه، بينما يمثل الاستعمار الاستيطاني بنية وليس حدثاً؛ فهو بنية مستمرة ومتأصلة تهدف إلى تحقيق مبدأ إزالة السكان الأصلانيين.

يرى إيليا زريق أن الاستعمار هو «هيمنة وسيطرة أشمل على المنطقة المستوطنة، بينما يعني الاستيطان إعادة إنتاج النماذج الأوروبية لمجتمع المستوطنين في أراض جديدة يزعم أنها غير مأهولة»[3]. أما نظام بركات فقد بيَّن أن «ظاهرة الاستيطان الصهيوني في فلسطين تميزت عن غيرها من التجارب الاستيطانية القديمة والحديثة، من خلال ارتباط هذه الظاهرة بالعنف والاستيلاء على أرض مملوكة لأصحابها الشرعيين بالقوة، مع التخطيط المسبق لطرد هؤلاء السكان واستئصال حضارتهم من هذه الأرض، بهدف إقامة دولة استعمارية توسعية جديدة»[4]. أما فايز الصايغ فقد حدد منهجية الاستعمار بعدد من الأبعاد، أهمها: نزع ملكية الشعب الأصلي جبرياً؛ طرده من بلده الأصلي؛ فرض سيادة أجنبية على أرضه؛ تهجير مجموعات أجنبية لاحتلال الأرض التي طرد منها سكانها الشرعيين؛ وفقدان الشعب الأصلاني وجوده الطبيعي على الأرض وليس الإشراف السياسي على بلادهم[5]. كما ميز صايغ الاستعمار الصهيوني من الاستعمار الأوروبي بعدد من المحاور أهمها: المستعمرون الأوروبيون وفدوا بدوافع اقتصادية – سياسية إمبريالية، أما المستعمرون الصهاينة فهدفهم تأسيس وطن قومي ودولة لليهود؛ تعايش واستغلال من جانب الأوروبيين للسكان الأصليين. أما المستعمرون الصهاينة فهم لا يوافقون على تعايش مستمر مع أهالي فلسطين؛ تغلب الأوروبيون على العوائق التي اعترضتهم، أما مستعمرو فلسطين فلم يتوقعوا مثل تلك التسهيلات فقاومتهم الدولة العثمانية[6] .

يضيف بركات إلى سمات الاستعمار التي أشار إليها صايغ سمات أخرى، أهمها: ارتباط الاستعمار الصهيوني بالمشاريع الاستعمارية في المنطقة العربية، إنه استعمار توسعي لا يكتفي بالمناطق التي سيطر عليها بل ظل يسعى دائماً إلى التوسع، يبرز الاستعمار الصهيوني شرعيته استناداً إلى أسس أيديولوجية وادعاء ديني، يقوم على أساس امتلاك اليهود حقوق تاريخية ودينية في فلسطين[7]. أما سمات الاستعمار الصهيوني في فلسطين فقد لخصها صايغ في: السلوك والطابع العنصري؛ الميل للعنف؛ الاتجاه التوسعي[8].  كذلك بيّن منير العكش أساليب الاستعمار الأوروبية للأصلانيين في أمريكا بعدد من الأساليب، مثل: السخرة، التجويع الإجباري، الرحيل الجماعي، تقويض معنويات الضحايا، الحصار، تدمير شامل للبنى الاقتصادية للحياة، التسميم الجماعي، مطاردة كلاب الصيد للأصلانيين، إحراق المدن، نشر الأمراض، عمليات التعقير[9]. وربما لا تختلف هذه السلوكيات الأوروبية الاستعمارية عن سلوك المستوطنين الاستعماريين الإسرائيليين، إذ ارتكبوا مجازر وعمليات قتل وتهجير جماعية، وأبادوا قرى ومدناً فلسطينية عن الخارطة الجغرافية، وما زال سلوكهم يستمر في خطف الأطفال وإحراقهم مثل حالة الطفل محمد أبو خضير من القدس، وإحراق أسرة فلسطينية في المنزل تحت جنح الظلام مثل عائلة دوابشة في دوما، أو الاعتداء على الأماكن المقدسة، والاعتداء على المواطنين وممتلكاتهم وحرياتهم… إلخ.

بينما قارب زريق أهداف الحركة الاستيطانية في فلسطين بعدد من الأمور، أهمها: السيطرة على الأرض وعزل السكان الأصليين، استخدام نظام مراقبة للتعقب والتنصت، السيطرة على نمط الحياة من خلال التركيز على التوازن الديمغرافي في المجتمع، اعتماد حجة أمن الدولة لتبرير استخدام العنف والقوة ضد الأصليين[10]. ويشترك في هذا السلوك الاستعماري عدد من البنى الاستعمارية الإسرائيلية، أهمها: البنية الاستعمارية الرسمية المتمثلة بالدولة ومؤسساتها الأيديولوجية والقمعية والعنفية والسياسية والقانونية والتنفيذية، وبنية أخرى شعبوية مؤدلجة بالعنصرية والعدوانية والتطرف؛ تتمثل ببنية المستوطنين المنتشرين في حوالى أكثر من 150 مستوطنة في الضفة الغربية تساند وتدعم وتكمل المشروع الاستعماري الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة. وتمثل بنية المستوطنين الشعبوية رأس الحربة في العدوان على الفلسطينيين وأرضهم وفضائهم الخاص والعام، وفي ذات الوقت تشرع الماكينة الاستعمارية في تفتيت التواصل الجغرافي بين مدن الضفة الغربية، وتقوم بدور تشويه المشهد الفلسطيني جغرافياً وتاريخياً ومكانياً ونفسياً، وهي بيئة إسرائيلية لتفريخ المستوطنين سكانياً بكثافة غير معهودة من قبل لدى المجتمع الاستعماري الإسرائيلي، كما تُعَد بنية المستوطنات والمستوطنين حاضنة خصبة لإنتاج التطرف والإرهاب الديني والقومي.

يتبين من التحليلات والتنظيرات المتعددة السابقة أن الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين هو استعمار استيطاني إحلالي؛ هدفه تقويض البنية المكانية والسكانية والاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين. فالاستعمار الإسرائيلي ليس حدثاً أو حادثة تاريخية، وإنما هو بنية استعمارية استمرارية عبر الزمن بلغة باتريك وولف؛ فالاستعمار الصهيوني استعمار بنيوي يهدف إلى تطهير الفلسطنة بأبعادها الجغرافية والسكانية والتاريخية، وهدفها تقويض البنية الأصلانية لإحلال بنية استعمارية استشراقية مكانها وعلى أنقاضها.

ثانياً: ملامح المستوطنين والمستوطنات كبنى للاستعمار الاستيطاني

يتبين من الشكل الرقم (1) أن عدد المستوطنات في الضفة الغربية قد بلغ حتى عام 2016-2017 ما يقارب 150 مستوطنة. تركزت تلك المستوطنات بشكل كثيف في محافظتي القدس ورام الله حيث بلغ عدد مستوطنات كل محافظة منهما على حدة 26 مستوطنة، تلا ذلك تركيز المستوطنات أيضاً في محافظتي الخليل وأريحا والأغوار، أما أقل محافظة فيها مستوطنات على أراضيها فهي محافظة طولكرم.

يمكن تفسير سبب ارتفاع عدد المستوطنات في محافظتي القدس ورام الله والبيرة، بارتباط تلك المحافظات بالهدف الإسرائيلي الاستعماري لخلق أغلبية سكانية في ما يسمى القدس الكبرى؛ التي تمتد من محافظة رام الله والبيرة إلى مشارف محافظة الخليل، والأغلبية السكانية تحتاج إلى بنية تحتية وسكنية من أجل استيعابهم. وهذا ما يفسر تعاظم عدد المستوطنات في محافظتَي القدس ورام الله والبيرة، أما سبب ارتفاع عدد المستوطنات في محافظة الخليل فيعود إلى أن هناك مزاعم ومعتقدات توراتية ولاهوتية تربط مدينة الخليل بعلاقة ما باليهود عبر التاريخ. أما سبب ارتفاع عدد المستوطنات في محافظة أريحا والأغوار فهو تمدُّد المشروع الاستعماري الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 والمتمثل بمشروع آيالون الذي ركز على الاستيطان في الأغوار.

أي أن عملية الاستيطان في الضفة الغربية وبناء المستوطنات ليست لخلق طرف مرتبط بالمركز الرسمي الإسرائيلي في مناطق المركز، وإنما يمثل مشروع الاستعمار والاستيطان في الأطراف (في المستوطنات على أراضي الضفة الغربية) امتداداً واستمراراً لبنية المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي؛ الذي يهدف إلى محو وإزالة السكان الفلسطينيين من خلال تحقيق التطهير المكاني ببناء المستوطنات، والتطهير الثقافي والاسمي من خلال تغيير أسماء المعالم الفلسطينية وعبرنتها وأسرلتها، وخلق تسميات جديدة توراتية وصهيونية، والتطهير الاجتماعي والعرقي من خلال تشريد الفلسطينيين واستئصال إمكانات الحياة الكريمة في مناطق وجودهم، وبذلك يحقق المشروع الاستعماري بشقيه المتوازيين والمتقاطعين معاً سواء في المركز أو في الأطراف (المستوطنات) تطهيراً جمعياً للبنية الفلسطينية بكل أشكالها، أي يحقق ما يمكن وسمه بتطهير الفلسطنة.

يوضح الشكل الرقم (2) أن عدد المستعمرين في الضفة الغربية قد بلغ 636,452 مستعمراً، وذلك في نهاية العام 2016، ويتضح من البيانات أن معظم المستعمرين يسكنون محافظة القدس بواقع 302,188 مستعمراً، منهم 222,325 مستعمراً في منطقة (J1)، يليها محافظة رام الله والبيرة بواقع 125,061 مستعمراً، و78,365 مستعمراً في محافظة بيت لحم، و41,143 مستعمراً في محافظة سلفيت. أما أقل المحافظات من حيث عدد المستعمرين فهي محافظة طوباس بواقع 2,156 مستعمراً.

يعود ارتفاع عدد المستعمرين والمستوطنين في محافظة القدس إلى الهدف الاستعماري الرسمي الإسرائيلي في خلق أغلبية سكانية في القدس، كما يعود إلى توافر بنية سكنية واستيطانية كثيفة في محافظة القدس، وخصوصاً أن هناك 26 مستوطنة في محافظة القدس، كما أن هناك مبررات توراتية ومعتقدات تشجع على السكن في القدس. أما سبب ارتفاع عدد المستوطنين في محافظة رام والله والبيرة ومحافظة بيت لحم، فهو يعود إلى أن جزءاً من أراضي هذه المحافظات مصنف وفق التخطيط الحضري الاستعماري ضمن حدود القدس الكبرى، وهناك نشاط استعماري كثيف في هذه المحافظات ويوجد في كلا المحافظتين 39 مستوطنة، وهو ما يسمح باستيعاب عدد كبير من المستوطنين، إضافة إلى عامل آخر وهو القرب الجغرافي والزماني من تلك المستوطنات إلى قلب مدينة القدس حيث لا يستغرق وقتاً كبيراً للوصول إليها.

يتضح من الشكل الرقم (3) أن هناك علاقة طردية بين عدد المستوطنين والزمن، فكلما تقدم عمر الاستيطان بالسنوات ازداد عدد المستوطنين، فالرسم يبين أن هناك قفزة نوعية في عدد المستوطنين بعد عام 1993، وهذا ما يؤكد مقولة أن عملية السلام أطلقت العنان للاستيطان وزيادة عدد المستوطنين، وما يفسر ازدياد عدد المستوطنين عدة عوامل، أهمها: فسحت عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية في المجال للاستمرار في النشاط الاستيطاني من أجل خلق وقائع جديدة على الأرض؛ من أجل عدم تنازل المفاوض الإسرائيلي عن التجمعات الاستيطانية الكبرى وتحقيق وقائع جديدة على الأرض. إضافة إلى استيعاب إسرائيل والمستوطنات من ضمنها هجرات يهود روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. لقد كانت زيادة عدد المستوطنات بفعل تنشيط سوق العمل الإسرائيلي في مجال البناء والشيد واستغلال العمالة الفلسطينية الحرفية والرخيصة، التي أدت دوراً مركزياً في شيد المستوطنات كمراكز سكنية ينتقل إليها المستوطنون لعدد من العوامل (الدينية، الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية). كما منح المركز الاستعماري امتيازات متعددة لسكان الأطراف في المستوطنات، أضف إلى ذلك تصاعد موجة الاستيطان الديني والتوراتي الذي يرى في جبال الضفة الغربية (يهودا والسامرة) أرض الآباء والأجداد، وأرض توراة موسى النبي وفق الرؤية الصهيوينة الدينية، والسعي لخلق كثافة ديمغرافية في القدس ومخطط القدس الكبرى التي تمتد على مساحة أربع محافظات فلسطينية (القدس، رام الله والبيرة، بيت لحم، الخليل)، وانزياح الحكم والسياسية الإسرائيلية باتجاه اليمين واليمين الصهيوني المتشدد الداعم للاستيطان.

ثالثاً: ممارسات المستوطنين كجزء من بنية الاستعمار الاستيطاني

يقول غازي حسين: «تُشكل ممارسات المستوطنين واعتداءاتهم على أهالي الخليل مظهراً رسمياً لسياسة الاستيطان والاستعمار الاستيطاني الرسمية تجاه الشعب الفلسطيني»[11].

ويقول نبيل الصالح «إن منع الفلسطيني من الوصول إلى الأراضي المجاورة للمستوطنات هو نتيجية لمشروع الاستيطان ذاته وجزء لا يتجزأ منه»[12]. كما أن المستعمرات الإسرائيلية المتنامية والمتوسعة باستمرار – والتي يحميها الجيش الإسرائيلي الذي بدوره يحتفظ بقوة حاسمة في المناطق – لا تزال في قلب رؤية إسرائيل للمستقبل. وبين هذه المستعمرات والقوات الإسرائيلية رباط احتضان تكافلي؛ فالمستعمرات بحاجة إلى الجيش لحمايتها وللحدّ من السلطة التي قد تتنازل إسرائيل عنها للسلطة الفلسطينية، والجيش الإسرائيلي بعد التسوية النهائية بحاجة إلى مهمة حماية المستعمرات إذ كان لها ألّا تصبح مجرد جيش احتلال[13].

في حين يبيَّن الصالح أن تأثير عنف المستوطنين وصل إلى الهيمنة على حق الفلسطيني في حرية التنقل والحق في معيشة لائقة، وتأثير سلب الأراضي ومعيقات مادية على حق الفلسطينيين في التمسك والبناء والتوسع؛ وتأثيرها في الخدمات الصحية وفرص العمل والتواصل الثقافي والاجتماعي؛ وتأثير سلب المستوطنين لينابيع المياه في حياة المزارعين وفي المياه المتاحة للاستهلاك المنزلي؛ ويؤثر انعدام مصارف الصرف الصحي في البيئة الفلسطينية وجودة المياه المخصصة للفلسطينيين؛ كما يؤثر عنف المستوطنين في معيشة الفلسطينيين، ويضاعف ظاهرة العنف في مواسم الزيتون وتأثيره في الحياة الزراعية والمزارعين. ولعنف المستوطنين تأثير في الأطفال وله آثار نفسية وتعليمية عليهم[14].

كما بينت دراسة توثيقية لاعتداءات المستوطنين في مناطق وسط الضفة الغربية (القدس، بيت لحم، أريحا)، طبيعة الاعتداءات التي يتعرض لها الفلسطينيون من قبل المستوطنين، وتشمل: القتل والشروع في القتل، الاعتداء على الأرض والبيوت من أجل السيطرة عليها، الاعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية، العنف الجسدي وتدمير الممتلكات، السطو المسلح والابتزاز تحت التهديد، وكان هذا في ثمانينيات القرن الماضي[15]. وعند مقارنة سلوك المستوطنين في تلك الفترة وسلوكهم في الوقت الحالي تبين أن هناك تشابهاً في الأساليب، وتبين أن هناك استحداثاً لأساليب عدوانية جديدة أخرى، لكن يجدر التنويه بتبدل حالة الخوف لدى المستوطنين، فبينما كانوا يخافون من التعرض للفلسطينيين أو أمكنة وجودهم، فاليوم أضحى الموضوع معكوساً. فإرهاب المستوطنين تحول إلى (مستوطنوفوبيا) لدى السكان الفلسطينيين. تمثل ممارسات المستوطنين وسلوكهم اليومي تجاه الفلسطينيين وطبيعة حياتهم اليومية بنية عضوية من بنى الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، كون المستوطنين على ارتباط عضوي وبنيوي بالمشروع الاستعماري، ويخدمون بسلوكهم الاستيطاني والعدواني المشروع الاستعماري في اقتلاع الفلسطينيين والسيطرة على أرضهم وممتلكاتهم؛ وبذلك يحققون مبدأ إزالة السكان الأصلانيين بمنطق باتريك وولف.

 

رابعاً: الحياة اليومية للمستوطنين كإرهاب

هناك العديد من المؤسسات (الفلسطينية والإسرائيلية والدولية) التي توثق سلوك المستوطنين اليومي في الضفة الغربية والقدس، وتُجمع أغلبية تلك المؤسسات في تقاريرها على أن هناك سلوكاً إرهابياً وعنصرياً واستعمارياً يمارسه المستوطنون ضد المكان والإنسان والتاريخ في فلسطين. فقد بيَّن تقرير نشرته هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لشهر تشرين الأول/أكتوبر 2017 وقوع نحو 92 اعتداءً في شهر أيلول/سبتمبر. وتنوعت اعتداءات المستوطنين وشملت: إصابة 12 مواطناً فلسطينياً؛ سرقة ثمار 1410 شجرة زيتون موزعة على قرى مختلفة (قريوت، عورتا، دير الحطب، المغير، سنجل، بورين)؛ الاعتداء على منازل المواطنين في حي تل أرميدة وجبل الرحمة والكرنتينا في الخليل؛ محاولة إحراق مسجد قرية التوانة إلى الجنوب من محافظة الخليل؛ الاعتداء على محال المواطنين في منطقة الخالدية والمجلس في القدس؛ تنفيذ 22 اقتحاماً للمسجد الأقصى المبارك[16].

كما بين تقرير أعده جهاد حرب وعلاء لحلول من المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، معاناة أهالي مدينة الخليل، وخصوصاً منطقة H2، من جراء اعتداءات المستوطنين، والتي تتمثل بـ: اعتداءات على السكان، فالمواطنون يعانون الخوف الشديد على أطفالهم في رحلتهم اليومة إلى المدرسة ذهاباً وإياباً، ويخافون على أبنائهم الخروج من المنازل في منطقة تل أرميدة خوفاً من المستوطنين. وهناك اعتداءات على المساكن. وتشمل الاعتداءات إغلاق الطرق وإلقاء الحجارة على المنازل وغيرها من أعمال المستوطنين الإرهابية، وهو ما يجعل الأهالي يتناوبون في حراسة المنازل من إرهاب المستوطنين. وتشمل اعتداءات المستوطنين اعتداءات على التجار في الخليل؛ فيعاني التجار من مضايقات واستفزازات يومية من قبل المستوطنين، ويحتاجون إلى التنسيق من أجل إدخال أو إخراج البضائع. وشملت اعتداءات المستوطنين المدارس في الخليل، فالطلاب يتعرضون لمضايقات من المستوطنين وأبنائهم إلى جانب اعتداءات مباشرة على المدرسة، مثل الهجوم عليها وإلقاء الحجارة أثناء وجود الطلاب بداخلها[17].

في حين بيَّن تقرير خاص لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي المحتلة، نشر في عام 2008، طبيعة العنف الموجَّه من قبل المستوطنين تجاه المواطنين الفلسطينيين في مدينة الخليل، وشملت أعمال عنف المستوطنين إلقاء الحجارة على المنازل، وإضرام النار في المركبات والحقول الزراعية والمنازل والمساجد. كما حاول المستوطنون الدخول عنوة إلى البيوت الفلسطينية. وشمل عنف المستوطن إطلاق الرصاص الحي تجاه المواطنين الفلسطينيين[18]. في حين أوضح تقرير للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال فرع فلسطين، أن عنف المستوطنين يأخذ عدة أشكال منها المضايقات الكلامية والشتائم وسوء المعاملة والترهيب، ويأخذ أشكالاً أكثر عنفاً مثل الاعتداء الجسدي، وقد يصل في بعض الحالات إلى القتل، وفي حالات يشمل التخريب والتدمير لممتلكات الفلسطينيين بما فيها المنازل والأراضي الزراعية. وبيَّن التقرير أن أكثر أشكال العنف من المستوطنين التي يتعرض لها الأطفال تتمثل بالتالي: إطلاق النار، الضرب، الرض بالحجارة، الدهس، والملاحقة والفرار[19].

كما جادلت دراسة أنطوان شلحت أن جماعة جباية الثمن (تنظيم شعبوي للمستوطنين) متأصلة من الناحية الفكرية في العقيدة الاستيطانية، وتتلقى دعماً سياسياً ودينياً كبيرين، وهي ليست مجموعة هامشية أو صغيرة وفق التسميات الإسرائيلية «أعشاب ضارة»، وبيَّن أن الجهازين القضائي والأمني يغضّان الطرف عن سلوك تلك المجموعات، وبذلك يتم توفير هامش عمل واسع لعمل تلك المجموعات من المستوطنين من دون التصريح بذلك. وهذا يعني أن جماعة جباية الثمن مقبولة من جانب المؤسسة الحاكمة التشريعية والتنفيذية والأمنية والاستيطانية بل تخدم مصالحها بوسائل يصعب على المؤسسة الرسمية اللجوء إليها[20]. واستنتج شلحت أن جماعة جباية الثمن «تشكل سيفاً للاستيطان الإسرائيلي بموازاة كونها دوريات/ كتائب صاعقة للمشروع الكولونيالي برمته»[21].

في حين أظهر محمود محارب طبيعة التركيبة والنشاط التنظيمي لجماعة جباية الثمن بقوله: إن النشاط الإرهابي لجماعة جباية الثمن لا تنطلق من مستوطنة واحدة؛ وإنما من مجمل البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة، كما تشمل عمليات المجموعة الإرهابية مسرح الضفة الغربية والداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، كما تشير المعلومات والمعطيات إلى أن تنظيم جباية الثمن هو تنظيم سري له قيادة مركزية تقوده وتوجه أنشطته الإرهابية. ويتضح من عمليات التنظيم أنها تتم بتنظيم وتخطيط سريين، وأن التنظيم يجمع المعلومات بدقة حول أهدافه. ويضم التنظيم في تركيبه تشكيلات سياسية واجتماعية ودينية متنوعة من مستوطنات الضفة الغربية مثل شبيبة التلال، وحاخاميين من التيار الديني القومي والتيار الديني الحريدي ومن اتباع حركة كاخ وغيرها من فئات المستوطنين العنصرية والإرهابية[22].

في حين أشارت منظمة بيتسيلم إلى حالة دراسية لتحطيم الحيز القروي لقرى قريبة من مستوطنة آلون موريه (هي عزموط ودير الحطب وسالم)، ويفيد التقرير بأن «كلّ قيد من القيود التي فرضتها الدولة على سكّان القرى الفلسطينية أتاح في الواقع للمستوطنين الغزو والتوسّع. تحت جُنح الفصل الذي فرضته إسرائيل بين السكّان الفلسطينيين وأراضيهم الزراعية ومراعيهم، يبني المستوطنون منازل في المنطقة، ويقيمون بؤراً استيطانية، يشقّون الطرق، يزرعون الحقول، يغرسون الكروم، يرعون قطعان الأغنام، ويستولون على موارد المياه الطبيعية. كلّ هذه الأفعال يرافقها اعتداءات جسدية يمارسها المستوطنون يوميّاً ضدّ سكّان القرى الفلسطينية دون رقيب أو حسيب»[23].

كما تحدث تقرير آخر للمنظمة نفسها عن قرية برقة قرب رام الله، وجاء فيه ما يلي: «برقة هي مثال على الاحتلال، والتي تشير إلى كيفية قيام المستوطنات ومصالحها بلعب دور مركزيّ في إملاء السياسات الإسرائيليّة، حتى لو كان ثمن ذلك المسّ الجسيم بالسكان الفلسطينيّين، وكيف أنّ نسيجاً قضائيّاً – إداريّاً يخنق القرية ويمنع سريان روتين الحياة والتطوير بشكل معقول: السلطات الإسرائيليّة تفضّل دائماً مصالح المستوطنين والمستوطنات على حاجات ومصالح السكان الفلسطينيّين. ورغم أنّ إقامة المستوطنات ليست قانونيّة أصلاً، إلا أنّ الدولة تخصّص موارد كثيرة لتطويرها وحماية سكّانها، في الوقت الذي تبذل كل ما بوسعها من أجل منع التطوير الفلسطينيّ»[24].

بيَّن تقرير ثالث للمنظمة نفسها أيضاً كيفية تعامل المستوطنين مع الفلسطينيين من أجل منعهم من الوصول إلى أراضيهم، فقد ذكر التقرير ما يلي: «قام المستوطنون بشق طرق للدوريات ووضع معيقات ملموسة على أراضي الفلسطينيين المجاورة لهم، مرة بمصادقة السلطات ومرة بدونها. بالإضافة إلى ذلك، فقد اعتاد المستوطنون على طرد الفلسطينيين بالقوة من الأرض بحيث إن المزارعين هم المتضررون بالدرجة الأولى. وقد وثقت بيتسيلم في هذا السياق حالات من إطلاق النار، التهديد بإطلاق النار والقتل، الضرب باللكمات، أعقاب البنادق والمقابض والعصي، رشق الحجارة، إطلاق الكلاب، محاولات الدهس، إتلاف المعدات الزراعية والمحاصيل، سرقة المحاصيل، قتل الحيوانات الأليفة وسرقة البهائم التي تستعمل في أعمال الأرض والفلاحة، طلب بطاقات الهوية بدون صلاحية وسرقة الوثائق»[25].

من خلال الدراسات والمقالات والتقارير المتنوعة سواء الدولية، أو الفلسطينية، أو الإسرائيلية الداعمة للحقوق الفلسطينية مثل بيتسيلم، يمكن ملاحظة طبيعة الحياة اليومية للمستوطنين المتمثلة بالعدوان والعنف وترهيب الفلسطينيين، كما تعطي تلك التقارير لمحة إجمالية عن أساليب العنف المتبعة من قبل المستوطنين وتركز على إبراز حالات ميدانية وخصوصاً في التقارير الدولية أو تقارير بيتسيلم التي يحضر فيهما صوت الضحايا بينما يغيب في التقارير الفلسطينية الرسمية، مثل تقارير مركز الحوراني أو هيئة مكافحة الجدار والاستيطان، ويظهر أحياناً أخرى صوت الضحايا والمعنفين من قبل المستوطنين في بعض التقارير الفلسطينية غير الرسمية التي تنتمي إلى المجتمع المدني والمجتمع الأهلي الفلسطينيين.

خامساً: نقد خطاب المؤسسة الرسمية الفلسطينية تجاه المستوطنين: حالتان دراسيتان

الحالة الأولى: «اعتداءات المستوطنين»[26]

في تقرير شهر كانون الثاني/يناير 2015 وتحت بند اعتداءات مستوطنين، جاء ما يلي: «شرع مستوطنون ومن خلال ثلاث جرافات، بتجريف 30 دونماً في منطقة خلة النحلة القريبة من مستوطنة إفرات وتعود للمواطن محمد يحيى عايش، ويشار إلى أن أعمال التجريف تهدف إلى شق طريق استيطانية تمهيداً لإقامة بؤرة استيطانية في الموقع، علماً أن المستوطنين نصبوا خيمة كبيرة منذ العام 2013 فيها»[27]. لا بد من التنويه أن الفقرة السابقة المقتبسة من تقرير لمركز الحوراني تنسب الموقع المعتدى عليه من قبل المستوطنين إلى مستوطنة إفرات بدل نسبه إلى اسم القرية الفلسطينية القريبة مثل أرطاس أو واد رحال القريبتين من الموقع أكثر من مستوطنة إفرات.

أما تقرير شهر شباط/فبراير 2015 تحت بند اعتداءات المستوطنين واقتلاع الأشجار، فقد ورد فيه ما يلي: «قام المستوطنون باقتلاع نحو 1000 شتلة زيتون حديثة الزراعة خلال الشهر الجاري، فقد اقتلع أكثر من 500 شجرة زيتون مزروعة حديثاً في أراضي تعود لعائلة العيايدة ببلدة الشيوخ شرق الخليل…»[28]. لقد اهتم التقرير في تكميم الحدث وإبرازه بلغة الأرقام، في حين أن ما يجري في فلسطين هو عملياً تطهير مكاني؛ يهدف إلى اقتلاع الأشجار التي تمثل مصدر رزق للسكان أصحاب الأرض، وهو تمهيد لتحقيق تطهير عرقي بعد اقتلاعهم أيضاً من أرضهم لصالح تمدد المستوطنات وطرق المستوطنين الالتفافية والحيز العام للمستوطنة.

بينما في تقرير شهر آذار/مارس 2015 وتحت جزء اعتداءات المستوطنين واقتلاع الأشجار، أورد التقرير ما يلي: «قامت مجموعة من المستوطنين بتجريف أراضي في قرية قريوت جنوب نابلس، واعتدت مجموعة أخرى على سيارات فلسطينية قرب قريتي الجبعة وصوريف شمال الخليل»[29].  كما بين تقرير شهر نيسان/أبريل 2015  ما يلي: «أقدمت قوات الاحتلال والمستوطنون على قطع وإتلاف ما يزيد على 765 شجرة زيتون ولوزيات وعنب… وقد استمرت اعتداءات واقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال بشكل شبه يومي، وازدادت حوادث الدهس التي يقوم بها المستوطنون، وأصبحت ظاهرة خطيرة في مختلف مناطق الضفة الغربية والقدس»[30].

أما في تقرير شهر آب/أغسطس 2015 فجاء ما يلي «بعد الاعتداء البشع الذي قام به المستوطنون من خلال حرق عائلة دوابشة في منزلهم في قرية دوما وإدانة العالم لهذا الفعل الإجرامي، ما زالت اعتداءات المستوطنين مستمرة ضد المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس حيث بلغت أكثر من 375 اعتداءً في النصف الأول من العام الحالي، وقد هاجم المستوطنون بالحجارة والزجاجات الفارغة منازل المواطنين في بلدة سيلة الظهر جنوب جنين وسط ترديد الهتافات العنصرية، كما أقدموا على حرق عشرات أشجار الزيتون في أراضي المواطنين في وادي عزون شرق قلقيلية، بالإضافة إلى قيام أحد المستوطنين بدهس طفل من عرب الرماضين شرق قلقيلية وصفت إصابته بالخطيرة»[31]. لقد تم تصوير جريمة اغتيال وإحراق عائلة دوابشة بالاعتداء وفق التقرير، في حين أن ما جرى لعائلة دوابشة هو جريمة لم يحاسب عليها المستوطنون، وإنما يكافؤون بمزيد من المستوطنات والدعم المادي والمعنوي من قبل الحكومة الإسرائيلية.

ذكر تقرير شهر تشرين الأول/أكتوبر 2015 ما يلي: «هاجم مئات المستوطنين عدة منازل على مدخل القرية (بورين)، حيث أشعل مستوطنو مستوطنة يتسهار النيران بعشرات الدونمات المزروعة بالزيتون… ومستوطنو مستوطنة برافا أشعلوها بمنطقة جبل السبع… كما هاجم عدد من المستوطنين مركبات المواطنين بالحجارة قرب حجز حوارة جنوب نابلس… كما قام مستوطنون إرهابيون بالاعتداء على المواطنين خلال قطف الزيتون في قرى جنوب نابلس، واعتدوا على المزارعين ومتضامنين دوليين، وأطلقوا النار عليهم ورشقوهم بالحجارة…»[32]. إن هذا السلوك من قبل المستوطنين يؤكد فرضية أن الحياة اليومية للمستوطنين هدفها إرهاب الفلسطينيين، ومقابل ذلك هناك عجز في توصيف هذه الظاهرة من قبل مركز الحوراني، وكما هو مبيّن، إن عملية التوثيق والوصف ركيكة وصحافية ولا تربط الأحداث بالمشروع الاستعماري الإسرائيلي، وإنما ترى الظاهرة في بعدها المصغّر أو الجزئي.

يتبين من تقارير مركز الحوراني أن هناك انشغالاً وانهماكاً في رصد الانتهاكات وتوثيقها بشكل ميكانيكي؛ فبنية التقرير منذ عدد من السنوات تحمل نفس التقسيم والترتيب والاهتمامات، ونفس المصطلحات أحياناً، دون إدخال أي تجديد على بنية التقارير، كما يجدر التنويه أن التقرير هو وصفي إحصائي يسعى إلى تكميم الأحداث وإخراجها على شكل أرقام، وهذا أمر مهم وجيد، لكن عيوب التقارير أنها لا تنطلق من فلسفة نقدية أو رؤية مركزية للصراع الاستعماري ضد مجتمع المستوطنين.

فالتقرير ينطلق من روح البنية الفلسطينية الرسمية التي ترى في المستوطنات أنها استعمار استيطاني لكنها لا توصفها بهذا الوصف، وإنما تطلق عليه مصطلح الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967، وهذا أمر لا يصنف الاحتلال ضمن فئة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الذي يقوِّض بنية المجتمع المستعمَر.

ولا تبيِّن التقارير أن سلوك المستوطنين هو تماثل للحياة اليومية للمستوطنين كإرهاب، وإنما يورد التقرير اعتداءات المستوطنين كبند خاص غير مرتبط ببنية المشروع الاستعماري الإسرائيلي، وحسب القراءة النقدية للتقارير تبين أنها تنشغل في التوصيف السطحي للممارسات واعتداءات المستوطنين، من دون ربطها ببنية الاستعمار الإسرائيلي؛ الذي لا يختلف هدفه ورؤيته لإزالة الفلسطينيين في أي تجمع من التجمعات الفلسطينية وفق الجغرافيا الاستعمارية لتقسيم الفضاء العام الفلسطيني.

الحالة الثانية: «اعتداءات المستعمرين»
خطاب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان[33]

رصدت الهيئة اعتداءات المستعمرين على المواطنين والممتلكات خلال عام 2016 كما هو في الجدول الرقم (1).

الجدول الرقم (1)

اعتداءات المستعمرين على المواطنين والممتلكات

المحافظةمجموع الاعتداءات
القدس28
رام الله23
جنين15
نابلس89
طوباس9
قلقيلية16
سلفيت23
أريحا16
طولكرم7
بيت لحم24
الخليل49
المجموع299

 المصدر: هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، ملخص لأبرز الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية خلال العام 2016 (رام الله: الإدارة العامة للتوثيق والنشر، 2016)، ص 79.

يتبين من الجدول الرقم (1) أن اعتداءات المستوطنين ترتفع في محافظات: نابلس، الخليل، القدس؛ ويعود ذلك إلى ارتفاع نسبة المستوطنات والمستوطنين في تلك المحافظات، إلى جانب قرب المستوطنات المقامة على أراضي محافظة نابلس من الفضاء الحيوي الفلسطيني الذي يمارسون فيه حياتهم، إلى جانب وجود ادعاء ديني لليهود في نابلس ويقومون دوماً بزيارة قبر يوسف ويعتدون على الفلسطينيين. أما في الخليل والقدس فيرتفع معدل اعتداء المستوطنين كونهم يسكنون في قلب المدينتين: في البلدة القديمة في الخليل وجوارها، وفي القدس يسكنون في البلدة القديمة وجوارها وفي المستوطنات القريبة أو البيوت المصادرة في القرى الفلسطينية المجاورة.

وقد بينت الهيئة طبيعة الاعتداء خلال عام 2016 بما يلي:

الجدول الرقم (2)

طبيعة الاعتداء خلال عام 2016

نوع الاعتداءمجموع الاعتداءات
دهس33
الاعتداء بالضرب52
إضرام النار21
الاعتداء على الممتلكات34
قطع أشجار وتجريف أراضٍ20
رشق حجارة39
إطلاق نار12
الدخول إلى أراضٍ ومنع الوصول38
اقتحام50
الاعتداء على الأماكن الدينية266
المجموع565

المصدر: المصدر نفسه، ص 79.

يبيِّن الجدول الرقم (2) أن عنف المستوطنين هو عنف بنيوي يشمل جميع الجوانب والمجالات الفلسطينية، ويمارس المستوطنون أصنافاً مختلفة من الاعتداءات من أجل اقتلاع الفلسطيني وإرهابه. إن التمعن في أساليب الاعتداءات وأنواعها يؤكد الفرضية البحثية التي ترى في عنف المستوطنين جزءاً أساسياً من حياتهم اليومية، فالمستوطنون يحوّلون الوسائل المتاحة لهم في حياتهم اليومية يحولوها إلى عنف وإرهاب بنيوي ضد الفلسطينيين.

بين تقرير هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لشهر حزيران/يونيو 2016 مظاهر من اعتداءات المستعمرين ضد الفلسطينيين، منها: اعتداءات ضد المواطنين، منها: حالات دهس، اعتداءات على الأطفال، الضرب المبرح، اعتداءً على الأرض الفلسطينية واقتحام البلدات، والتجول في الأمكنة الدينية، اقتحام أراضي المزارعين، طرد المواطنين من أراضيهم. أما الاعتداءات على الممتلكات فشملت رشق السيارات بالحجارة، اعتداء على المنازل والسيارات، سرقة حيوانات المزارعين والمواطنين، إلى جانب اقتحام المستعمرين الأماكن الدينية كالمسجد الأقصى وقبر يوسف في نابلس[34].

كما تراوحت اعتداءات المستعمرين وفق تقرير الهيئة لشهر أيار/مايو 2016 ما بين اعتداءات المستعمرين على المواطنين، التي تمثلت بالضرب المبرح؛ مهاجمة المنازل؛ الاعتداء على الحجاج المسيحيين في القدس في سبت النور؛ الخروج في مسيرات في القدس؛ مهاجمة نشطاء المقاومة الشعبية، إلى جانب اعتداءات المستعمرين على الأراضي الفلسطينية والممتلكات العامة والخاصة للفلسطينيين[35].

بيَّن تقرير آخر للهيئة لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2017 أن قطعان المستوطنين تنفذ الإرهاب من خلال مجموعات منظمة، مثل شبيبة التلال ومجموعة تدفيع الثمن، وشملت اعتداءات المستعمرين عمليات ضرب ودهس؛ تنفيذ هجمات على المزارعين خلال موسم قطف الزيتون؛ رشق سيارات المواطنين بالحجارة؛ سرقة ثمار 280 شجرة زيتون؛ اقتحام المستوطنين تحت حماية جيش الاحتلال بلدة حلحول وإقامة صلوات تلمودية في مسجد النبي يونس في القرية. ومنع المزارعين في منطقتي صارورة والخروبة في مسافر يطا من حراثة أراضيهم؛ نصب ثلاثة كرفانات عند مدخل الساكوت في الأغوار الشمالية، وتنفيذ 22 عملية اقتحام لباحات المسجد الأقصى[36].

كما ذكر تقرير الهيئة تحت عنوان إرهاب المستوطنين ما يلي: «تواصلت الاعتداءات التي تمارسها عصابات المستعمرين من دهس ورشق بالحجارة واقتحام أدت إلى إصابة 7 مواطنين، منهم الطفلة ليان الرازم 5 سنوات من محافظة الخليل، وتكسير 15 سيارة على الطريق الواصل بين محافظتي رام الله ونابلس، كذلك تنفيذ 20 علمية اقتحام لساحات المسجد الأقصى المبارك ومهاجمة عدد من المستعمرين المسلحين قرية قصرة وقبر يوسف وبرك سليمان»[37].

يتبين من المعلومات والمعطيات السابقة أن هناك انشغالاً من هيئة مقاومة الجدار والاستيطان مثل انشغال مركز عبد الله الحوراني في رصد وتوثيق انتهاكات واعتداءات المستعمرين في مناطق الضفة الغربية. كما أن تقارير الهيئة تذهب إلى تكميم الأحداث والظاهرة ضمن عدد من الاعتداءات مثل الضرب وإضرام النيران واقتحام الأماكن المقدسة، ويغيب عن الهيئة ربط سلوك المستوطنين كسلوك إرهابي بنيوي ينتمي إلى بنية المشروع الاستعماري ككل. يتبين من تقارير الهيئة أن هناك هامشية في تناول اعتداءات المستعمرين التي يتم اختزالها في عدد من الممارسات، والتي يتم تكميمها رقمياً للتعبير عن الظاهرة، من دون إبداء انشغال معرفي جدي في تبيان حقيقة اعتداءات المستوطنين؛ بأنها جزء بنيوي من المشروع الاستعماري الإسرائيلي وتوضيح خطر المستوطنين كونهم جماعة وظيفية تقوم بوظائف لا تستطيع المؤسسة الرسمية الإسرائيلية القيام بها.

خاتمة واستنتاجات

تبرز نقاط تقاطع والتقاء متعددة بين تقارير المؤسستين، من مثل: الانشغال في الرصد والتوثيق؛ التوجه نحو تكميم الظاهرة؛ التركيز على الاعتداء كحدث وليس كبنية استعمارية مرتبطة بالبنية الاستعمارية للمشروع الاستعماري الإسرائيلي؛ تركيز التقارير على الأحداث في الضفة الغربية من دون التطرق إلى السلوك الإرهابي للمستوطنين تجاه الفلسطيني في الداخل الفلسطيني، وذلك نابع من رؤية تلك المؤسسات التي ترى الضفة الغربية وقطاع غزة هي حدود الدولة الفلسطينية. كما أن التقارير هي نمطية لا تحمل التجديد أو التغيير، وتركز على عرض الأحداث ولا تربطها بالإطار السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والأيديولوجي في المركز الإسرائيلي، ورؤية المؤسسات الرسمية الإسرائيلية لدور المستوطنين كمراكز عنف استعماري قريبة من الفلسطينيين وتهدف إلى تدمير حياتهم وأراضيهم من خلال ممارسة الحياة اليومية للمستوطنين، كعنف وإرهاب.

تبيَّن من عينة البحث أن هناك فشلاً في الخطاب الرسمي الفلسطيني في توصيف عنف المستوطنين كإرهاب بنيوي، وفشلاً في تشريح الحياة اليومية للمستوطنين وتوضيحها على حقيقتها؛ بأن حياة المستوطنين هي مجموعة من ممارسات العنف والإرهاب البنيوي والوظيفي التي تهدف إلى إزالة السكان الفلسطينيين، والاستيلاء على أراضيهم. وقد عجزت المؤسسة الرسمية الفلسطينية من خلال أذرعها الناشطة في حقل توثيق عنف المستوطنين من وسم سلوك المستوطنين بأنه سلوك إرهابي وسادي واستعماري، وما زالت تقارير المؤسسة الرسمية تتعامل مع عنف المستوطنين كحوادث متفرقة وموسمية مرتبطة بمواسم قطف الزيتون، أو هي مجرد حوادث وأعمال عفوية وغير منظمة.

كما يتبين أن هناك عزوفاً من جانب مؤسسات السلطة الفلسطينية، عن توثيق وفضح ممارسات المستوطنين ووسم حياتهم اليومية كحياة يومية مكملة للبنية الاستعمارية المركزية، والدليل على ذلك تحويل هيئة مقاومة الجدار والاستيطان من هيئة تتبع للسلطة الفلسطينية إلى هيئة تتبع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهذا التحول يحمل دلالات تراجع السلطة الفلسطينية عن دورها في هذا المجال، وحصر ملف توثيق ظاهرة المستوطنين الإرهابية في دائرة عمل منظمة التحرير. كما يسجل بعض النجاحات لمؤسسات مدنية فلسطينية أخرى في فضح ممارسات المستوطنين وتوصيفها بشكل يسد فجوة العجز المنهجي والمعرفي لدى المؤسسة الرسمية الفلسطينية، وخصوصاً العمل الذي يقوم به المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية – مدى الكرمل في حيفا، وخصوصاً تقرير الرصد السياسي الشهري الذي يصدر بالشراكة مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية في رام الله وبيروت.

إن التوثيق المنهجي والصحيح يغني الذاكرة ويوفر مادة خصبة لإدانة الاستعمار الصهيوني في المركز والأطراف، وتشكل المادة الحية في التوثيق، وخصوصاً توثيق شهادات الضحايا والمستعمَرين في إسماع صوت المقهورين والمعنفين باستعمار المستوطنين، ويكون للتوثيق الدقيق دور في بناء وعي ثوري ومقاوم يسهم في عملية التحول الثوري. أما التوثيق الأعور والعاجز عن إسماع صوت المستعمَرين والضحايا فهو جهد لا يسهم في تعزيز العمل المقاوم أو بناء سياسات مقاومة وطنية جمعية.

 

قد يهمكم أيضاً  النفوذ الإسرائيلي المتنامي في الأمم المتحدة: الأسباب والتداعيات

اقرؤوا أيضاً  فلسطين وإسرائيل وشعرية الإبادة الجماعية

الكثير من المقالات والدراسات ذات الصلة تجدونها على موقعنا… وهذه إحداها  مِصيَدة التخطيط الحضري في القدس

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المستوطنات #الاستيطان #فلسطين_المحتلة #المستوطنون_الصهاينة #إعتداءات_المستوطنين #الاستعمار_الاستيطاني #الإرهاب_الاسرائيلي #دراسات