مقدمة:

تمثل مسألة توافر حق التخطيط والبناء العربي الفلسطيني في القدس الشرقية إحدى المسائل الرئيسة في إنجاز الحق في المدينة للمقدسيين. هذه المسألة تؤرق كل مقدسي عربي، وعلى الغالب لا تزول من جدول حياة المجتمع أفراداً ومجتمعات. بواسطة التخطيط، يطبق ويمارس الاحتلال الإسرائيلي على القدس الشرقية، سياسات ديمغرافية، وجغرافية وتخطيطية حضرية لإحكام بسط السيطرة على المدينة لأسرلتها، وتهويدها وعبرنتها. استخدام وتطبيق التخطيط الحضري المُقَوننْ من جانب المؤسسات الإسرائيلية لتحقيق سياساتها لا يَقتصر على القدس، بل تمارسها في الأراضي الفلسطينية المُجَزأة في الضفة الغربية، مع أخذ الخصوصيات المُنشَئَة لهذه المناطق والمجموعات السكانية الفلسطينية التي تسكنها بالاعتبار. فَرضت إسرائيل قواعدها بالقوة، أو بموجب اتفاقيات مفروضة بظرفية غير ندية وبدون تناظر في القوة وتأمين المصالح بين الطرفين‏[1]. خصوصيه تطبيق وممارسة السياسات الإسرائيلية هي نِتاج تَميُز مكانة وواقع مدينة القدس الدينية، والأيديولوجية، والرمزية، والجيوسياسية، والوظائفية، والبنيوية التي تصيغ أو على الأقل تؤثر في الصراع الحضري في المدينة ومحيطها وتحدث تغيرات جيو – ديمغرافية‏[2]. تعامُل الإسرائيليين مع خصوصية القدس عُبِرَ عنه من خلال إدخال الفلسطينيين المقدسيين في مصيدة تخطيط يتهمهم بانهم هم المذنبون في الواقع المُنشأ حيث أزمة السكن، والبناء العشوائي غير المنظم وغير المرخص وشح الأراضي المخصصة للاستخدامات العامة والطرق‏[3]. بينما يرى الفلسطينيون أن السبب في الواقع الحضري المُنشأ في القدس الشرقية هو نتاج الاحتلال وأدواته المستخدمة في أسر التطوير الفلسطيني في القدس لمصفوفة ضبط تستخدم التخطيط الحضري كأداة طيِّعة في إعاقة إصدار رخص بناء، أو تخطيط وتنظيم القدس الشرقية والأحياء الفلسطينية بشكل لائق وملبٍّ لحاجات المجتمع الفلسطيني المقدسي وطموحاته. هذا الاتهام المتبادل غير المتناظر‏[4] بين مؤسسات الدولة والبلدية المحتلة التي تمتلك موارد القوة، بما في ذلك التخطيط الحضري، وتفرضها على الحيِّز والمجتمع، وبين مجتمعات بعضها قروية، يمرر عملية تمدين قسرية، مشوّهة مأسورة ومأزومة وتصارع البقاء. وتواجهه قوة الدولة والبلدية من ناحية، ومن ناحية ثانية تحاول أن تلبي حاجاتها في ظل قوة الاحتلال وقوة السوق النيوليبرالي المفروضين عليها.

تهدف هذه الورقة الموجزة إلى وصف وتحليل ونقد سياسات التخطيط الحضري التي تشكل مِصْيَدة وآلية اتهام تعوق إصدار رخصة بناء وكوشان طابو (وثيقة تسجيل الأرض)، حيث تعتبر مصيدة التخطيط المتهم مركباً من مركبات مصفوفة الضبط الذكية، ذات المركبات الخشنة والناعمة، المرئية وغير المرئية، التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي لإحداث التغييرات الجيو – ديمغرافية والحضرية الفلسطينية في القدس. هذه المصفوفة يطبقها الاحتلال الإسرائيلي بشكل انتقائي مختلف وثنائي على حالة ومكانة الإنسان الفلسطيني المقدسي، وعلى الأرض والحيِّز الفلسطيني ومكوّناته الحضرية والمؤسسات الفلسطينية الناظمة والموجهة لتنمية الفرد والمجتمع الفلسطيني في القدس. ولكن تطبيق مكوّنات هذه المصفوفة يتم بشكل انتقائي، متكامل ومتراكم، متأثراً بالظرفية الزمانية -المكانية لتحقيق الأيديولوجية، والأهداف والسياسات الجيوسياسية والديمغرافية التي تسعى إليها إسرائيل. بالمقابل يقوم الاحتلال الإسرائيلي بخلق واقع مُأَسرَل/مُعَبرَن ومُصَهيَن للمكان، يبسط به روايته وسيطرته على المدينة وحولياتها بواسطة تخطيط هيكلي حيِّزي مقونن يسعى تطبيقه لتحقيق تغيير الواقع الديمغرافي، والجغرافي والمؤسسي في القدس الشرقية، ويفرض النظام والقانون المحلي الإسرائيلي بدل القانون الدولي المستحق العمل بموجبه في مكانة القدس الشرقية كأرض محتلة حسب اعتراف وإقرار المجتمع الدولي.

أولاً: التخطيط الحضري: أداة رفع تنموي أم أسر حيِّزي

أصبح التخطيط الحضري المقونن والناظم بشكل فوقي/تنازلي (up-down) حاجة للتدخل ومطلباً لتخطيط موارد الأرض والمنافع منها مع توسع المدن الذي رافق الثورة الصناعية ومعها تسارُع عملية التمدن‏[5]. هذا لا يعني أنه قبل الثورة الصناعية لم يكن هنالك تخطيط مديني‏[6]، ولكن تسارع التمدن بعدها حوَّل التخطيط الحضري، ولاحقاً التخطيط الإقليمي، إلى جزء من السياسة الحيِّزية الناظمة، المُقَيِدة والموجهة للتطوير المديني بالرغم من الفروق بين النظرية التخطيطية وتطبيقها‏[7]. يُستخدَم التخطيط الحضري كأداة للتدخل الحكومي والبلدي من أجل إنتاج المكان‏[8]، وتوزيع الموارد وفرص التطوير على الأرض، وترشيدها أو منعها لحفظ وتأمين المصلحة العامة، حتى ولو على حساب المصلحة الخاصة‏[9]. ولكن في حالات الصراع السوسيو – ثقافي والجيوسياسي يستخدم التخطيط الحضري كأداة ضبط وسيطرة مُجَندَة من جانب مؤسسات المُسيطِر على المجتمعات المُسَيْطَر عليها؛ خاصة في المدن التي تعاني حالات صراع حضري‏[10] أو المدن المقسمة‏[11].

ويمكن تعريف التخطيط على أنه عملية ذهنية فكرية تترجم إلى أدوات وأجهزة تسعى إلى رسم صورة المستقبل وترجمة التصورات المرغوبة إلى أهداف عينية وخطة عمل لإنجازها. وهذا يعني أن الشخص المخطط أو المجتمع المُخَطَط له يجب أن يعي أن المجتمع سوف ينمو ويتطور وتتوافر لديه حالة الاستقرار والطمأنينة؛ إذ كيف يُمكِن أن نخطط لمجتمع وجوده مؤقت أو مهدد‏[12]! إن التخطيط يسهم في الاستقرار وتوجيه المجتمع نحو المستقبل وإنه يشكل أساس التنمية الحضرية. تعرف التنمية الحضرية على أنها مجموعة من العمليات التي تسعى لإحداث التغيير في بنية المدينة عبر تأهيلها وتوفير كل الخدمات الأساسية والبنى التحتية التي تحتاج إليها للمساعدة على التخفيف من حدة مشاكلها واختلالاتها المتعددة. والمقـصود بالتنمية الحضـرية كمفهوم هو أنها: «عمليـة تطوير المجتمعــات الحضرية التي تزداد كثافتهـا السكانية، ويتسـع حجــــم مدنها، من خلال إنشـاء مشاريع ومخططـات بهدف اشتغال الأفراد في شتى القطاعات، وتوزيع التكنـولوجيا وسيادة المهــــن التجارية والصنــاعية والخدمات، بقصـد تحقيق الرفاهية والـرقي اجتماعياً واقتصــادياً بالمدن، والحفاظ على هويتها وتاريخها وتطويرها على المستويات الهندسية والمعمارية والجمالية‏[13]. لذا يشكل التخطيط المُسَخَّر لخدمة المجتمع والمدينة رافعة إذا ما أُنجز بالمشاركة وأخذ بعين الاعتبار حاجات السكان وطموحاتهم. وإذا ما سعت الدولة إلى فرض تخطيط قسري على المواطنين، كجزء من سيطرته الكولونيالية لإنشاء حيِّز يخدم مصالحه‏[14]، فيتحول التخطيط إلى أداة أسر حيِّزي يحول دون توفير حاجات السكان وتلبية طموحاتهم، وبخاصة في حالة الصراع على موارد المدينة المادية والرمزية‏[15]. خلق تطبيق التخطيط الحضري كجزء من عملية التحديث في المدينة العربية أزمات متعددة في واقع السيطرة الكولونيالية وبعدها‏[16].

استخدمت مؤسسات التخطيط والمخططون المُجَنَّدون‏[17] لخدمة الدولة الإسرائيلية في حالة الصراع القومي والوطني والثقافي التخطيط الحضري والقطري كأداة أسر حيِّزي وجزء من مصفوفة السيطرة التي تسعى إلى خلق ضبط حيِّزي وتقليل فرص التنمية والنمو العربي الفلسطيني. شكّل هذا التخطيط مصيدة أدخلت المجتمع الفلسطيني المقدسي في حالة أسر ذهني وسلوكي لكيفية التعامل معه، لأنه أوقعهم بين مطرقة سلطات الاحتلال القطرية والبلدية، وبين سندان المجتمع المقدسي المتنوع في ظرفيته وحاجاته وفي خلفيته الخطاب التعبوي الغربي والإسلامي. تتلخص هذه المصيدة بطرح السلطات الإسرائيلية للتخطيط الحضري كحل حداثي عقلاني إيجابي لتنظيم حيِّز الأحياء الفلسطينية. ولكن هذا التخطيط لم يشكل رافعة للمجتمع بل قيده وحدد تطوره. لذا فإن التعامل مع مؤسسات التخطيط الإسرائيلية والاشتراك أو حتى الاشتباك معها، ربما تُحَول العلاقة بين محتل كولونيالي وبين مجتمع يرفض الاحتلال ويسعى لإنهائه إلى علاقة شبه طبيعية بين سلطة مركزية وبلدية و«مواطن» يسعى لتحقيق المساواة والإنصاف. هذا الترنح الفردي والجمعي الذي يعيش به ومعه الفلسطينيون في القدس؛ بين الموقف الجوهري/الماهيتي الجيوسياسي والوطني وبين إجراءات المعايشة اليومية لتلبية المطالب وتأمين الرباط والتنمية، أسهم في وقوعهم في مصيدة التخطيط المتهِم. هذه المصيدة التي وضعت قواعد اللعبة لها الدولة والبلدية الإسرائيليتان، مستخدمتين قوة الدولة ومواردها، فارضتين قوانينها وممارستين لمصفوفة ضبط، يشكل التخطيط الحضري أحد مركباتها الرئيسة. فالمواطنون الفلسطينيون يرفضون الاحتلال وهيمنته عليهم وعلى مدينتهم، وموقفهم السائد والمعلن رافض لتطبيع العلاقة مع البلدية ومؤسسات التخطيط الإسرائيلية، ويتعاملون معها مُكرهين. ويُستَغل هذا التعامل (المكرهين عليه) مع سياسات وممارسات البلدية والحكومة الإسرائيلية بدهاء وفي بعض الحالات بسذاجة لإيقاع الفلسطينيين في مصيدة على أنهم هم الذين يرفضون التخطيط، ويرغبون في استمرار حال يتصرفون فيه بشكل غير منظم ومخطط، ولا يرغبون في دفع مستحقات التخطيط على ما يشمله من تخصيصات جزء من أراضيهم للمرافق العامة، والدخول في إجراءات ترخيص المباني ودفع متطلبات الترخيص المرتفعة والشاقة، وعمل تقسيم وتسجيل الأراضي في السجل العقاري لتحديد من بحيازته وتحت تصرفه الأرض. هكذا يتهم الإسرائيليون الفلسطينيين بأنهم السبب في الواقع التخطيطي الذي نشأ كما سنوضح لاحقاً. ولكن قبل مناقشة زيف الاتهام الإسرائيلي نطرح مفهوم مصفوفة الضبط واستخدامها بواقع التخطيط الحضري الفلسطيني في القدس.

ثانياً: مصفوفة الضبط والسيطرة والتخطيط

تتألف مصفوفة الضبط والسيطرة من مجموعة من الآليات والأدوات والأجهزة التي توظَّف وتُفَعَّل عند الحاجة من طرف القوة المسيطرة على الحيِّز الحضري لأجل تحقيق أهدافها. تطبق هذه المصفوفة بعد أخذ اعتبارات المكانة والظرفية لذوي العلاقة في الصراع على الوطن والمدينة. الصراع على القدس هو جزء من الصراع على الهوية والثقافة والوطن، الذي تسعى الحركة الصهيونية للسيطرة عليه وبسط سيادتها وحضورها وهيبتها وثقافتها وخطابها ولغتها عليه‏[18]. لإنجاز السيطرة التخطيطية على القدس، وتأمين عبرنتها وتطبيق الأيديولوجية الدينية والجيوسياسية الإسرائيلية كدولة مؤسسات مجندة، تعمل بتنسيق لترجمة السياسات إلى أدوات عمل تُشَكل معاً مصفوفة ضبط وسيطرة مركبة، بينها يوجد تكامل وتراكم بين مركباتها لتحقيق الأهداف المصاغة من مؤسسات الدولة والبلدية وأذرعهما المتعددة لتعزيز سيطرتهما، وضبطهما ورقابتهما على الفلسطينيين وتبعيتهم عليها‏[19]. تتكون مصفوفة الضبط من أجهزة وأدوات خشنة وناعمة، مرئية وغير مرئية‏[20] لتطويع وإضعاف واحتواء المجتمع الفلسطيني المقدسي. يعبَّر عن المركبات الخشنة بمصادرة الأراضي، وإقامة المستوطنات، وهدم المباني، وإقامة جدار الفصل، وحصر الامتداد والتوسع الحضري، وتطبيق قوانين ضبط الزيادة السكانية الفلسطينية، ومصادرة الهويات الفردية، وتخطيط وشق شبكة طرق مقطعة للأحياء الفلسطينية وحاصرة لها‏[21]. أما المركبات الناعمة فتشمل مَديَنَة العسكرة، أي تلبيس السيطرة العسكرية في المدينة إلى سيطرة مدنية، تغيّر الأسماء، وإنتاج وصياغة خطاب ولغة تذنيب واتهام مُستَخدمة نحو وبين المجتمع الفلسطيني وداخل المشهد الحضري المقدسي، وهندسة الذهنية والوعي الفردي والجمعي لإيقاعهم في دائرة سحرية من العجز وصراع البقاء وتجنب المأسسة واغتيال المؤسسات الوطنية ودفعها للخروج خلف محيط المدينة، وتوطنها في المدن الفلسطينية المجاورة التي تخضع لإدارة السلطة الوطنية الفلسطينية، مثل رام الله وبيت لحم. كما أن من مركبات مصفوفة الضبط إنتاج خطاب وأدوات ومفردات ولغة من طرف القوي المحتل، يستهلكها الطرف الضعيف المحتل «يجترها» ويرددها على أنه ضحية ويبقى في دائرة رد الفعل التي أدخله إليها الطرف القوي وأسره بها‏[22]. تطبيق مركبات هذه المصفوفة التي لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بالتخطيط الحضري تشمل أربعة مركبات رئيسة: إعداد وتصديق مخططات هيكلية وتفصيلية؛ تسجيل وتسوية الأراضي وإصدار وثيقة تسجيل أراضي؛ إصدار رخصة بناء؛ ورقابة على البناء، وفرض غرامات وإصدار أوامر هدم وحتى تطبيق الهدم فعلياً. أحدث تطبيق مركبات هذه المصفوفة تغيرات ديمغرافية وجغرافية وحضرية في القدس‏[23]، آخذين بعين الاعتبار خصوصيتها الحيِّزية، الجيوسياسية والدينية والرمزية والجيو – ديمغرافية. وسنتناول هذه التغييرات وبعض مؤشراتها بإيجاز بعد عرض خصوصية القدس بعد أن فُصلت قسراً (إدارياً وفيزيائياً) عن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وفرض عليها قانون التنظيم والبناء الإسرائيلي وتعديلاته، التي شملت مؤسسات تخطيط إسرائيلية مفصولة عن تلك التي تعمل في الضفة الغربية‏[24]. كما أن كل القوانين المتعلقة بتسوية الأراضي وتسجيلها في السجل العقاري وإدارتها التي تسري في إسرائيل، أصبحت تسري على القدس الشرقية وذلك بعد ضمها وسلخها عن الضفة الغربية، وبذلك منحت مكانة خاصة تفرق بين مكانة الإنسان والمكان كما سنوضح.

ثالثاً: خصوصية وتميُّز القدس وعلاقة ذلك بمصيدة التخطيط

أثر تعريف مكانة القدس الخاصة في مسارات تخطيط وتطوير مدينة القدس، إذ فصلت هذه المكانة بين مكانة السكان ومكانة الأرض، وخلطت بين الواقع المديني والقروي، مما أحدث خللاً ملحوظاً في تخطيط القدس الحضري. صحيح أن للقدس مكانة دينية خاصة لدى المؤمنين، ولكن هذه المكانة امتدت إلى تخطيط القدس وضبط التطور السكاني والإسكاني بها. ودفعت مكانة القدس الخاصة الدولة العثمانية للإعلان عن تشكيل بلدية القدس عام 1863 كثاني بلدية بعد اسطنبول. وبعد الاحتلال البريطاني وإعلان انتدابه على فلسطين اتخذت بريطانيا القدس مركزاً للمندوب السامي الذي حكم فلسطين بين 1918 و1948، ومع ذلك اتخذت قرارات تخطيطية مثل منع البناء ببعد 75م من السور المحيط بالبلدة القديمة، خصص لحزام أخضر؛ ولم يسمح البناء بدون ترخيص بدائرة نصف قطرها نحو 2500 متر من باب العامود، وكل بناء يجب أن يكون من الحجر الطبيعي. خلال فترة الانتداب أُعدت خمسة مخططات هيكلية للقدس، وجهت وضبطت عملية التطوير والبناء، حيث اعتمدت البلدة القديمة محور هذه المخططات‏[25]. هذه المخططات شكلت أساس إصدار رخص للمباني وتوجيه التطوير في القدس بما في ذلك إقامة الأحياء المقدسية خارج البلدة القديمة قبل تقسيم المدينة عام 1948.

واقع منح مكانة خاصة للقدس عُبِّرَ عنه في قرار التقسيم الأممي لفلسطين الرقم (181) لعام 1947، الذي أشار إلى إبقاء القدس ومحيطها تحت إدارة دولية وعدم تقسيمها. نتيجة لحرب 1948، قُسمت المدينة إلى جزء شرقي خضع لاحقاً للمملكة الأردنية الهاشمية، أما الجزء الغربي فخضع للسيطرة الإسرائيلية بعد النكبة، وتهجير العرب الفلسطينيين من القدس الغربية. أعدت بلدية القدس الشرقية العربية الأردنية مخططاً هيكلياً للمدينة، بالمقابل أعدت بلدية القدس الغربية مخططاً هيكلياً للجزء الغربي. حسب هذه المخططات والموروث الانتدابي، عملت بلديتا القدس العربية والإسرائيلية بشكل منفصل دون تنسيق حول تخطيط المدينة المقسمة وإنتاج نمطية تخطيط شبه خاصه بها‏[26]. وبعد احتلال الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية) بما في ذلك القدس الشرقية من قبل إسرائيل عام 1967، فصلتها إسرائيل عن الأراضي الفلسطينية وضمتها إلى القدس الغربية ودولة إسرائيل قسراً وفرضت عليها السيادة والقانون الإسرائيليين. وحددت حدود الأراضي التي ضمت عملياً ورسمياً، من وجهة نظر إسرائيل، وشملت مساحة تزيد على سبعين كم2، بما في ذلك البلدة القديمة وخمس عشرة بلدة/قرية فلسطينية، كانت تدار بعضها من مجالس قروية مثل العيساوية، شعفاط، صور باهر. واعتمدت إسرائيل في عملية رسم حدود الأراضي المحتلة التي ضُمت إلى القدس الغربية وبقرار من الحكومة الإسرائيلية على اعتبارات جيو – ديمغرافية وجيوسياسة ومؤسساتية، يمكن تلخيصها بضم أقل عدد سكان فلسطينيين، مقابل أكبر مساحة تشمل أراضي وموارد استراتيجية مثل مطار القدس وأراضي تحيط البلدة القديمة تأخذ بعين الاعتبار التضاريس الجغرافية والأمنية. وكجزء من عملية السيطرة، أُلغيت المؤسسات البلدية والقروية العربية وضمتها الحكومة الإسرائيلية وأخضعتها لبلدية القدس الإسرائيلية بعد توسيع صلاحياتها وبسط سيادتها على القدس الشرقية، وفرضت القانون المحلي عليها بدل القانون الدولي.

وعام 1980 سن الكنيست الإسرائيلي «قانون أساس: أورشليم القدس عاصمة إسرائيل» ويتلخص محتواه بأن: «أورشليم القدس الكاملة الموحدة هي عاصمة إسرائيل؛ القدس هي مقر الرئاسة، الكنيست، الحكومة والمحكمة العليا؛ تحمى الأماكن المقدسة في القدس من أية محاولة لانتهاكها أو منع الوصول الحر إليها، وتتمتع القدس بأولوية في مشاريع الحكومة التطويرية وتمنح الحكومة لبلدية أورشليم القدس ميزانية سنوية خاصة لتطوير المدينة. وفي سنة 2001 أضيف بند للقانون يؤكد أن حدود مدينة القدس «الإسرائيلية» هي الحدود الواردة في الأمر الحكومي منذ احتلالها عام 1967، ويحظر نقل صلاحيات إسرائيل في القدس لأي عنصر سياسي أجنبي. رغم المعارضة الدولية للقانون الإسرائيلي وإصدار مجلس الأمن القرار الرقم (478) في 20 آب/أغسطس 1980، إلا أن الكونغرس الأمريكي أصدر قانوناً عام 1995 يعترف بالقدس كعاصمة لإسرائيل ومنح صلاحية إنجاز نقل السفارة الأمريكية للرئيس الأمريكي.

وكجزء من خصوصية القدس، فصلت إسرائيل بين مكانة الأرض وبين مكانة الإنسان العربي الفلسطيني المقدسي. فرغم الضم للأرض وبسط قوانين الأراضي والتخطيط كجزء من مصفوفة الضبط، إلا أن مكانة الإقامة الثابتة المشروطة منحت من قبل إسرائيل للمقدسيين الفلسطينيين الأصلانيين. هذه المكانة المُمَيَزة والمُمَيِزة حُدِدَت بمعايير استمرار الإقامة في القدس وأن تكون القدس مركز حياة الأسرة والفرد لنيل حقوقه المدنية. وتُخضِع مكانة الإقامة الثابتة المشروطة كل مقدسي فلسطيني لعملية رصد مدني وأمنى من قبل المؤسسات الإسرائيلية، ويكون مُعَرَّضاً لفقدان الإقامة في وطنه ومدينته إذا تبين أنه خالف أنظمة الدولة والبلدية القسرية‏[27]. كجزء من عملية الضبط الديمغرافي والمنطلق من تحديد مكانة خاصة للمقدسيين الفلسطينيين، الذي يشمل في طياته التعامل مع السكان المقدسيين كأنهم مؤقتون في وطنهم ومدينتهم من خلال منحهم مكانة «مقيم ثابت»، وليس مكانة المواطن أو إبقائه على مكانة إنسان ومجتمع محتل كما هو واقع الفلسطينيين المحتلين منذ عام 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة. هذه المكانة انطلقت من اعتبارات ديمغرافية وجيوسياسية وأمنية، وأثرت في سلوك المقدسيين حيث وُضِعوا بين مطرقة السلطات الإسرائيلية ومصفوفة ضبطها وبين سندان الضوابط السوسيو – ثقافية والحاجات الحضرية والاقتصادية التي لها خاصية في واقع القدس.

حالة تعامل المقدسيين الفلسطينيين مع الاحتلال الإسرائيلي على أنه مؤقت وسوف ينتهي، ومن ناحية أخرى نظر الاحتلال الإسرائيلي إليهم كمؤقتين، كان له أثر مباشر على مكانة المقدسيين الفلسطينيين وعلى تخطيط أحيائهم والتعامل معهم كنسيج حضري متكامل، كما أثر في سلوكهم الفردي والجمعي وفي تحديد موقع الحدود الجيوسياسية والبلدية والأحياء‏[28]. كذلك كان له أثر في سياسات البلدية والحكومة الإسرائيليتين والتي شملت رصد الموارد والتخطيط المنظم طويل المدى. كما هو متعارف عليه فإن التخطيط الحضري يهدف إلى توجيه التطوير على المدى البعيد وليس فقط لإطفاء الحرائق اليومية والمستعجلة. وإن النظر إلى الذات والآخر (أفراداً ومؤسسات) والتعامل معها بشكل مؤقت، تَحُول أو على الأقل تعوق إعداد تخطيط هيكلي وتفصيلي مناسب لمجمل القدس الشرقية أو للأحياء فيها كما سنوضح لاحقاً. هكذا فإن حالة الترنح بين المؤقت والثابت تشكل حالة خاصة في واقع ومكانة القدس، ووضع أولويات التخطيط والتنمية الحضرية فيها. ظرفية المؤقت استخدمت كجزء من مصفوفة الضبط المفروضة من قبل الحكومة والبلدية الإسرائيليتين على الفلسطينيين في القدس، وبالمقابل منحت ودفعت تطوير عبرنة وتهويد القدس.

تشمل خصوصية وتميز التعامل الإسرائيلي مع حالة القدس إقامة جدار فصل يقسم أحياء القدس الفلسطينية، ويفصل القدس عن محيطها وحولياتها الفلسطينية المُغَذية لها حضارياً ووظائفياً. هذا الجدار قطع الوجود الفلسطيني وفصل بين الفلسطينيين والفلسطينيين وضَبَط دخولهم للقدس بدون إذن، وأبقى الدخول مُمَكِناً ونافذاً للإسرائيليين، واستخدمت المستوطنات التي أقيمت في محيط حوليات القدس وبريتها من أجل تعزيز وتمكين السيطرة الإسرائيلية على القدس جيو – ديمغرافياً وسوسيو – سياسياً من خلال تسهيل زيادة عدد المستوطنين الإسرائيليين في المستوطنات التي أقيمت في القدس الشرقية وحولها. دفعت خصوصية القدس السلطات الإسرائيلية إلى إعادة تقسيم الحيِّز الحضري بواسطة جدار يغلف القدس ويضبط الدخول إليها والخروج منها بواسطة حواجز و«بوابات» مراقبة تحدد من يسمح له الإقامة والحركة. يظهر الجدار في مشهد المحيط الحضري ويُقَطِع أوصال المجتمع المقدسي الفلسطيني، ويفصل بين تلك التي تعيش داخل الجدار وخلفه. هذه الثنائية المزدوجة التي تُمارَس في القدس على حركة السكان بناءً على اعتبارات هوية الشخص وانتمائه، خلقت منظومة فصل عنصري واحتلال عرقي في المكان. وقد مثّلت إقامة المستوطنات الإسرائيلية المدنية والقروية تطبيقاً لاستراتيجية الإحاطة بالأحياء والبلدات الفلسطينية لتقطيع تواصلها ومنع خلق تواصل جغرافي بينها، ولاحقاً حصل التغلغل في الأحياء الفلسطينية، وخاصة في منطقة البلدة القديمة ومحيطها. هذه الاستراتيجية تُنجَز بواسطة زيادة عدد النقاط الاستيطانية وعدد المستوطنين الذين يسكنونها، وتوصيلها بشبكة طرق ضابطة للحركة الفلسطينية، ومسيطرة على أراضي لمنع الفلسطينيين من السكن والتوسع بها.

ساهمت إقامة الجدار لاعتبارات أمنية وجيو – ديمغرافية في المحيط الحضري المقدسي (Urbanized Region)‏[29]، في إعادة حالة التقسيم للمدينة كما حدث عام 1948، ولكن المدينة كلها باتت تحت السيطرة الإسرائيلية، رغم منح بعض الصلاحيات الإدارية والوظائفية للسلطة الفلسطينية بموجب الاتفاقيات المرحلية بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية في المنطقة المصنفة أ و ب والتي تشمل قرابة 40 بالمئة من مساحة الضفة الغربية. هذه الاتفاقيات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي كانت واعية لخصوصية القدس، ولذلك اتفق على أن يتم تسوية الحل الجيوسياسي بشأنها كجزء من الاتفاقيات النهائية. أدى تأجيل التسوية السياسية بشأن القدس إلى استمرار التعامل معها بحالة وفكر المؤقت ووضع اقتراحات تسويات مُجَزأَة ومُجَزِئة ساهمت في تشويش التعامل مع التخطيط والبناء كحاجة حياتية أساسية تتطلب الاستقرار ومستقبـلاً جيوسياسياً واضحاً.

مركب إضافي لخصوصية القدس يتعلق بالتركيبة الديمغرافية على أساس انتماء قومي واثنو – ثقافي، حيث بلغت نسبة المقدسيين الفلسطينيين عام 2017 ما يزيد على 37 بالمئة من عدد السكان، والباقي إسرائيليون حريديم (يهود متدينون أرثوذكسيون) مشكلين نحو 34 بالمئة من الإسرائيليين والباقون موزعون بين متدينين 32 بالمئة وبين 34 بالمئة يعرفون أنفسهم كعلمانيين إسرائيليين صهاينة‏[30]. أما المجتمع الفلسطيني المقدسي فهو مقسم اجتماعياً إلى مجتمع مقدسي مديني وبين مجتمع قروي. المجتمع المقدسي المديني مقسم حسب الهوية الثقافية والأصلانية أو الانتماءات العظامية إلى مقدسيين أصلانيين وآخرين قدموا للمدينة وبخاصة من منطقة الخليل. وإن المجتمع القروي موزع بين قرى محيطة وقريبة من البلدة القديمة مثل سلوان، وبين قرى بعيدة تقع في جنوب وشمال القدس بينها تفاوت في مستوى التمدن والمَدْيَنة واستقطاب واستيعاب الهجرة بها، حيث إن قرى/أحياء جنوب شرق القدس الشرقية (صور باهر والسواحرة) أكثر تقليدية ومحافظة من أحياء/قرى شمال القدس مثل شعفاط وبيت حنينا. أما من حيث الانتماء الديني الرئيسي فإن نسبة العرب المسيحيين الفلسطينيين في القدس كانت عام 2015 نحو 4 بالمئة، والباقي (96 بالمئة) مسلمون‏[31]. هذا التنوع داخل المجتمع المقدسي اسْتغلَّه الإسرائيليون لإيقاع الخلافات بين المجموعات الفلسطينية والتعامل معهم بموجب قاعدة «فرّق تسد». وبخاصة أن فرض سياسة الضبط المكاني وغياب تشكيل حيِّز عام حضري جمعي ينتمي إليه مجمل الفلسطينيين عمق الانتماء الفئوي على أساس حاراتي، قروي وعشائري. هؤلاء المقدسيون يمرّون في سيرورات تمدن انتقائية تترنح بين البداوة المقنعة من ناحية سوسيو – ثقافية، والسلوك الاستهلاكي الرأسمالي. هذا الواقع المركب أنشأ خصوصية لحالة المجتمع المقدسي الذي ما زال يصارع البقاء به، لتوفير الحياة الكريمة وحفظ نفسه رغم التهديدات الإسرائيلية الخارجية والمعيقات السوسيو – ثقافية والبنيوية الاقتصادية التي يعانيها، والتي أسهمت في خفض فرص تطويره وتشكيله لمجتمع مديني معتمد على تخطيط وتنمية حضرية تلبي حاجات السكان ولا تحصرها.

رابعاً: تحريك مصيدة التخطيط الحضري

خصوصية القدس واستمرار احتلالها ما يزيد على خمسين سنة، كان لهما أثر مباشر في تحول سياسات وممارسات تخطيط الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية من جانب مؤسسات التخطيط الإسرائيلية الحكومية والبلدية. سياسة فرض الأمر الواقع غير القابل للعودة، وتعامل إسرائيل بشكل متفاوت مع مستقبل الأحياء الفلسطينية، مرده إلى إنجاز رغبة إسرائيل في تأمين مصالحها الأيديولوجية والوظائفية لخدمة استمرار السيطرة الإسرائيلية على القدس. تقسم كوهين – بر، مراحل تطور التخطيط الحضري على امتداد العقود الخمسة من الاحتلال إلى خمس مراحل‏[32]. تظهر هذه المراحل انتقال مؤسسات التخطيط من شبه التجاهل والتقييد للاحتواء والضبط. كما أن أولويات التخطيط والتصديق انتقلت من أولوية التخطيط للبلدة القديمة ومحيطها لتحقيق الأهداف الإسرائيلية لتأمين سيطرتها على البلدة القديمة ومحيطها المباشر، ولاحقاً توسع العمل التخطيطي للأحياء الفلسطينية خارج محيط البلدة القديمة. يُظهر رصد التحولات أنها متأثرة في عدة عوامل يمكن تلخيصها بتغير سياسة البلدية من المؤقت والمستقبل الغامض إلى التعامل مع الواقع وتخطيطه حتى لو تم تحقيق تسوية جيوسياسية مستقبلية. بالموازاة حدثت تحولات داخل المجتمع المقدسي الذي ارتفع عدد سكانه، وحدثت فيه تغييرات وتحولات سوسيو – ثقافية وبنيوية اقتصادية كان لها أثر في أنماط سلوكه واستهلاكه للحيِّز. هذه الزيادة بعدد السكان والتغيُّر في أنماط الحياة، رافقها ارتفاع بالطلب على السكن والحيِّز العام والخدمات الحاراتية والبلدية. كما رافق هذه التغيرات الداخلية، تغيرات في سياسات التخطيط وآليات تطبيقها بما في ذلك تعديلات وإصلاحات قانون التنظيم والبناء، مثل تعديل 43 لقانون التنظيم عام 1995، وتفويض صلاحيات لبلدية القدس لإقرار مخططات تفصيلية تعديلية محلية. وعلى المستوى القطري أعدت وأقرت مخططات هيكلية قطرية، مثل مخطط قطري رقم 35 الذي أقر رسمياً عام 2005، ومخططات لوائية مثل مخطط لواء القدس الرقم (1) تعديل 30 الذي أقر رسمياً عام 2013. هذه المخططات شملت القدس الشرقية التي فرضت عليها السيادة الإسرائيلية، وحددت سياسات وضوابط التخطيط بها. وهذا يعني أن التغيرات المجتمعية في المجتمع المقدسي والتغيرات الجيوسياسية في العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين رافقتها تغيرات في أجهزة وسياسات التخطيط وممارساتها أثرت بشكل مباشر في مراحل إعداد المخططات الهيكلية في الأحياء الفلسطينية.

يجانب الحقيقة من يدعي أن مؤسسات التخطيط الإسرائيلية، بما في ذلك بلدية القدس على اعتبار أنها لجنة تنظيم محلية، لم تُعد مخططات هيكلية محلية للأحياء الفلسطينية في القدس. فمنذ احتلال القدس الشرقية بدأت عملية إعداد وتصديق مخططات هيكلية واستخدام التخطيط الحضري المُقَونَن المحاصر والضابط من قبل البلدية ومؤسسات التخطيط اللوائية والقطرية والذي أنتج حيِّزاً حضرياً مشوهاً وتخطيطاً لا يلبي حاجات المقدسيين الفلسطينيين، بل يحقق أهداف البلدية والحكومة الإسرائيلية‏[33].

يمكن أن نقسم تحريك مصيدة التخطيط، التي شملت إعداد مخططات هيكلية للأحياء الفلسطينية، بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى

شملت العقد الأول من احتلال القدس. خلال هذه المرحلة تبنت بلدية القدس الإسرائيلية انتقائياً المخططات الهيكلية والنظام التخطيطي الذي وضع خلال الفترة الانتدابية البريطانية، ولاحقاً خلال الفترة الأردنية، والذي طبق على جزء من حدود بلدية القدس العربية (نحو 6 آلاف دونم)، وأضافت عليه إعداد مخطط هيكلي، بمبادرة سلطة الطبيعة والحدائق الوطنية للمنطقة المحيطة بشكل مباشر بسور البلدة القديمة (المخطط الرقم عم/6) للإعلان عنه كمنطقة حديقة وطنية. هذا المخطط صودق عليه للإيداع عام 1968. بموجب هذا المخطط أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن منطقة محيط سور البلدة القديمة حديقة وطنية عام 1974 حسب مخطط رقم ج/19/11. ولاحقاً تم إعداد مخطط معدل لمنطقة حوض البلدة القديمة والتي تمتد شمالاً حتى الشيخ جراح، جبل الزيتون، شرقاً جبل المشارف ومنطقة الطور والشياح، وجنوباً وادي قدوم وجبل المكبر وغرباً منطقة مأمن الله. هذا المخطط شمل حدود بلدية القدس الأردنية الذي يعرف باسم عم/9 وصودق عليه عام 1972. على مستوى المدينة تبنت البلدية مخططاً توجيهياً عام يعرف باسم «مخطط رئيسي القدس 1968»‏[34]. هذا المخطط الرئيسي بُدِئ بإعداده للقدس الغربية عام 1963، ولكن بعد احتلال القدس الشرقية تم توسيع حدود المخطط وشمل القدس الشرقية، بما في ذلك المخطط الهيكلي التوجيهي الذي بُدِئ بإعداده للقدس الشرقية الأردنية عام 1964 تحت إشراف هنري كيندل الذي شغل مستشار المندوب السامي على فلسطين بين الفترة 1935 – 1948.

رغم أن مخطط القدس 1968 لم يصدق رسمياً حسب قانون التنظيم والبناء الإسرائيلي، فإنه وضع المحاور لسياسات واتجاهات تطوير المدينة بعد قرار الضم 1967، وأنشأ أساساً لمصادرة الأراضي في القدس الشرقية وإقامة المستوطنات الإسرائيلية عليها‏[35]. في هذه المرحلة تَرْجَمَ التخطيط الحضري أيديولوجيا عبرنة وصهينة الحيِّز وطبق أولويات التدخل لتغيير الواقع في القدس الشرقية. كما وضع هذا المخطط الأساس لضبط وشرذمة الأحياء الفلسطينية من خلال مصادرة الأرض وإقامة مستوطنات عليها، مثل التلة الفرنسية، نبي يعقوب، رموت في الشمال وجيلو وتلبيوت في الجنوب. كما أن مخطط عم/9 ضبط البناء الفلسطيني في حوض البلدة القديمة (الذي ما زال ساري المفعول في ضبط استخدامات الأراضي في محيطه)، وتجاهل وجود أغلبية المباني القائمة بإعلان تعيين استخدامات أراضي كحدائق وطنية أو منطقة ساحات عامة مفتوحة حتى على المباني الفلسطينية، وفي الجزء الذي منح إمكان التطوير حددت حقوق البناء بموجب النمط القروي حيث لا تتجاوز حقوق البناء المسموحة عن 75 بالمئة من مساحة قطعة الأرض.

المرحلة الثانية

أسست وبُنِيتْ وتراكمت على المرحلة الأولى وشملت إعداد مخططات هيكلية محلية لأحياء/قرى فلسطينية ضمت القدس الشرقية على مستويين: الأول، إعداد مخططات هيكلية محلية ضابطة ومحددة للقرى والمواقع الفلسطينية التي شُمِلتْ في مخطط عم/9 مثل سلوان، الشيخ جراح، الشياح، جبل المكبر والطور. رغم أن إعداد هذه المخططات بُدِءَ به في السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن التصديق عليها كان في الثمانينيات من القرن الماضي. هذه المخططات عَدَّلتْ، وفَصَّلَتْ وَحَدَدَتْ المواقع المسموح بها البناء في منطقة عم/9، بالموازاة ثَبَّتَتْ هذه المخططات الأراضي التي يُمنَع بها البناء، وتلك المخصصة للاستخدام كمناطق خضراء على أنواعها أو للاستخدام كحدائق وطنية. المستوى الثاني، إعداد مخططات هيكلية تفصيلية لقرى/أحياء فلسطينية مجاورة أو خارج حوض البلدة القديمة مثل الثوري، بيت صفافا، بيت حنينا والعيساوية. هَدَفَتْ هذه المخططات، التي صودق عليها في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي (انظر الجدول الرقم (1))، تحديد المناطق التي يمكن البناء بها ونسبة البناء الممنوحة وقدرتها الاستيعابية لوحدات السكن. هذه المخططات لم يكن هدفها أن تخطط الأحياء للتطوير المستقبلي، بل مهمتها وضع مرجعية للبلدية لإمكان إصدار رخص بناء أو رفض إصدارها في المناطق التي شملتها المخططات وحسب الضوابط التي وضعتها. هذه المخططات أُعدت بمبادرة البلدية وصودق عليها من جانبها، ولم تكن توجد مشاركة للسكان بها، بل على الغالب رفضها السكان لأسباب إجرائية وماهية. تتعلق الأسباب الإجرائية بتجنب هذه المخططات آخذة بعين الاعتبار حاجات وطموحات السكان. لذلك قدم بعضهم اعتراضات عليها لتخفيف الأضرار والاعتداءات التي جلبتها هذه المخططات. أما الأسباب الماهية فتتعلق برفض كل عملية احتواء أو تطويع يقوم بها الاحتلال من خلال استخدام وسائل مدنية، بما في ذلك التخطيط الحضري. في بعض الحالات حصل تشابك وتكامل بين الجوهري/الماهياتي/الوطني وبين الإجرائي/المدني، دفع أصحاب العلاقة من السكان رفض التعامل مع العملية التخطيطية التي فرضت عليهم نتائجها والتي تتمثل بإقرار المخطط الهيكلي التفصيلي المحدد الضابط، وتطبيقه من جانب البلدية كمرجعية لإقرار رخص بناء أو رفضها.

الجدول الرقم (1)

المخططات التي أُعدت وَأُقِرَت للأحياء الفلسطينية حتى العقد الرابع من الاحتلال وقدرتها الاستيعابية لوحدات السكن

رقم المخططاسم الحينوع المخططتاريخ التصديقمساحة المخططعدد الوحدات السكنية التي حددها المخطط كقدرة استيعابية له
2639الشيخ جراح، الحي الأمريكيغير تفصيلي1984/11/8560
2591الشيخ جراح، باب الساهرةهيكلي تفصيلي1984/11/153102,425
2733الطورغير تفصيلي1985/5/18280770
2691، 2691 أجبل المكبرهيكلي تفصيلي1987/5/5579300
2783 أسلوان الوسطىهيكلي تفصيلي1987/5/253701200
3488بيت صفافاهيكلي تفصيلي1987/5/25217
1864 أالثوريهيكلي تفصيلي1989/6/206701,500
3092الصوانةهيكلي تفصيلي1990/9/3500600
2317بيت صفافا، شرفاتغير تفصيلي1990/11/222,2853,000
3000 ببيت حنينا، شعفاطغير تفصيلي1991/7/188,0007,500
2316العيسويةهيكلي تفصيلي1991/12/316661,400
3085الشياحهيكلي تفصيلي1993/2/51,1001,350
2683 أالسواحرةهيكلي تفصيلي1996/3/304,0002,770
2302 أصور باهر، ام طوباهيكلي تفصيلي1999/9/233,3153,100
2668راس العمودهيكلي تفصيلي1998/2/211,6002,000
5222 أ + بالثوريهيكلي تفصيلي2004/6/17108+14200
2521 أكفر عقبهيكلي تفصيلي2005/3/21,2581,450
المجموع25,71029,565

المصدر: تجميع من تقرير البناء في قفص التخطيط. انظر: إيفرات كوهين – بر، البناء في قفص التخطيط: سياسات التخطيط والتطوير في الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية (القدس: بمكوم، 2014) (بالعبرية).

جدير بالذكر أن هذه المخططات حددت القدرة الاستيعابية الكامنة التي أُسست على اعتبارات حفظ الميزان الديمغرافي 30 بالمئة فلسطينيون 70 بالمئة إسرائيليون. بموجب هذه القدرة الاستيعابية حددت حقوق البناء التي لم تأخذ بعين الاعتبار طريقة البناء في الأحياء الفلسطينية وملكية الأرض ونسبة الاستغلال للقدرة الاستيعابية، مما أسهم في الضائقة السكنية في الأحياء الفلسطينية والبناء غير المرخص، بسبب المعوقات أمام استصدار الرخص.

محاولات مواجهة المواطنين الفلسطينيين لهذه المخططات المفروضة من مؤسسات التخطيط المحلية واللوائية والقطرية بشكل تنازلي، كانت بثلاث طرائق رئيسة: الأولى، بناء وتطوير دون الاكتراث لهذه المخططات وبتجاهلها، وبالتركيز على التوافقات المحلية الموضوعية التي لا تستند إلى تخطيط مقاوم بديل. منطلق استخدام هذه الطريقة هو توفير حاجة السكان التي لا يُمَكِنها المخطط المصدق. بعض من قام بذلك البناء برره بإنجاز دافعية مواجهة الاحتلال. بناء المباني وخلق الأمر الواقع من هذا النوع، زاد عشوائية البناء في الأحياء الفلسطينية وزاد من ظاهرة البناء غير المرخص. ومثّل غياب التخطيط المناسب والمتجانس مع حاجات المواطنين وطموحاتهم السبب المركزي في زيادة ظاهرة البناء غير المرخص في الأحياء المقدسية.

الطريقة الثانية، شملت إعداد مخططات تفصيلية معدلة يقوم بها ذوو العلاقة (ملاكو أراضٍ/منشئو مبانٍ بدون ترخيص) وقدموها لأجهزة التخطيط من أجل إقرارها، بما في ذلك تغيير استخدام الأرض من مناطق خضراء إلى سكن أو تطوير. ارتفعت عملية المبادرة لإعداد مخططات تفصيلية تصاعدية من السكان بعد إجراء تعديل 43 لقانون التنظيم والبناء الإسرائيلي عام 1995، الذي أجاز لكل صاحب علاقة بالأرض أن يبادر لإعداد مخطط هيكلي تفصيلي ويسعى لتصديقه من قبل مؤسسات التخطيط. فَتَحَ تعديل القانون الرقم (43) هذا فرصة إعداد مخططات تفصيلية تعديلية من قبل أصحاب الشأن الفلسطينيين ليتمكنوا من ترخيص مبانيهم السكنية والتجارية أو إقامتها ومواجهة أوامر الهدم ومخالفات البناء.

الطريقة الثالثة شملت التوجه إلى المحاكم الإسرائيلية ضد المخططات الهيكلية التفصيلية من أجل تعديلها أو إيقافها على اعتبار أنها لا تلبي حاجات السكان، بالإضافة إلى التوجه للمحكمة ضد البلدية أو لجان التفتيش على المباني لإيقاف ومنع تنفيذ أوامر هدم مبانٍ أقيمت بدون ترخيص أو خفض غرامات فرضت على المباني ومنع سجن صاحب المبنى.

أما الطريقة الرابعة التي بدأت في النصف الأخير من العقد الخامس من الاحتلال، تتلخص بمحاولات مبادرة محلية لإعداد مخططات تفصيلية بديلة لتلك التي تُعد من البلدية. هذه المخططات البديلة أعدت بدعم الاتحاد الأوروبي وتم تقديمها لمؤسسات التخطيط الرسمية لتصديقها مثل مخطط عين اللوزة، ومخطط عداسة‏[36]. على الأغلب هذه المخططات البديلة أُعدت لمواجهة هدم مبانٍ قائمة ولكنها تقع خارج المخططات المصدقة أو المعدة من البلدية‏[37].

المرحلة الثالثة

هذه المرحلة من تطبيق مصيدة التخطيط المُتَهِم تراكمت وتكاملت مع بداية العقد الرابع لاحتلال القدس الشرقية خاصة بعد إعداد المخطط الهيكلي العام لمدينة القدس المعروف باسم «القدس 2000». رغم أن هذا المخطط تم تعديله خلال عملية إعداده بعد عرضه على مؤسسات التخطيط، فإنه لم يصدق للتنفيذ كمخطط هيكلي ملزم. مع ذلك فإن بلدية القدس تُطَبِق المخطط عملياً وتلزم كل من يبادر لإعداد مخطط هيكلي تفصيلي جديد أو تعديل مخطط هيكلي قائم لإضافة حقوق بناء أو توسيع مناطق مخصصة للتطوير مثل مخطط السواحرة ومخطط دير العمود والمنطار ومخطط المركز التجاري والإداري في منطقة سليمان القانوني وشارع صلاح الدين. خلال هذه الفترة انطلقت مبادرات من البلدية لإعداد مخططات رئيسة توجيهية (مخططات أبوية) مثل مخطط صور باهر. هذه المخططات المحلية الرئيسة للأحياء المقدسية، التي تبادر لها البلدية أو مجموعات مصلحية تدافع عن الوجود والمباني الفلسطينية وتنميتها، تلزمها توجيهات وحدود التطوير التي وضعت في مخطط القدس 2000. جدير بالذكر أن مخطط القدس 2000 يقع ضمن سياسات التخطيط القطرية التي وضعت في مخطط قطري رقم 35 ومخطط لواء القدس حسب التعريف الإسرائيلي رقم 1 تعديل 30. كما ان المخطط يلتزم بالخطاب ولغة وآليات التخطيط التي تطورت في إسرائيل وتطبق في القدس الشرقية دون التعامل معها كمنطقة محتلة، ومكانة السكان الفلسطينيين على اعتبار أنهم مقيمون ثابتون وليس مواطنين.

شكل مخطط القدس 2000 محوراً مركزياً لعملية التخطيط الحضري الضابط للوجود والتنمية الفلسطينية في القدس، واستمر في الخطاب الديمغرافوبي وحفظ الميزان الديمغرافي لصالح الإسرائيليين وتحديد المساحات المعدة للتطوير، بما في ذلك استخدام مناطق خضراء مفتوحة، حسب تصنيفات متعددة، كأداة ضبط وسجن مناطق تطوير الأحياء الفلسطينية. رغم أن المخطط عرض وأقر التحولات في عدد السكان حيث ارتفعت نسبة السكان الفلسطينيين وتجاوزوا ثلث السكان. توقعات مخطط القدس 2000 هي أن تكون نسبة السكان اليهود للعرب في القدس 40:60 بعد أن حددت النسبة في بداية العقد الثاني للاحتلال بـ 30:70 حسب قرار لجنة جفني‏[38]. كما أن المخطط خصص بعض توسيعات للأحياء الفلسطينية غالبيتها عملياً مستغلة للبناء بشكل كامل أو جزئي، ولكن المخطط يشير إليها وكأنها معدة للتطوير السكني الفلسطيني. كما أشار المخطط الهيكلي إلى تعبئته تكثيف مناطق البناء القائمة، وزيادة حقوق البناء المسموح بها بموجب مخططات هيكلية محلية مصدقة. هذه بعض التعديلات الشكلية والإضافات الجزئية التي شملها مخطط هيكلي القدس 2000، التي تُعرض من قبل السلطات الإسرائيلية بخطاب ولغة على أنها إنجاز وفرصة تطوير كذلك للفلسطينيين المقدسيين، ولكنها لا تستغل بشكل كاف من قبلهم.

يُظهِر البحث المعمق لمخطط هيكلي القدس 2000 أنه مُغَلف بأدوات تُوقِع المجتمع الفلسطيني في مصيدة على المستوى الماهياتي الوطني الجيوسياسي والإجرائي التخطيطي المدني. فعلى المستوى الماهوي تجاهل المخطط الفصل بين القدس الشرقية المحتلة والقدس الغربية وسعى لخلق تثبيت تخطيطي شامل للضم القسري الجيوسياسي وإقامة المستوطنات لتطبيق سياسات وأعمال فرض الأمر الواقع الإسرائيلية. كما أن المخطط تجاهل الاتفاقيات الموقعة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بشأن إقرار مستقبل القدس، وموقف المجتمع الدولي على اعتبار أن القدس الشرقية محتلة وتسري عليها مرجعيات المواثيق والقانون الدولي وليس القانون المحلي‏[39]. كما تجاهل المخطط إقامة جدار الفصل والتقسيم والتجزيئية للمحيط الحضري المقدسي. أما على المستوى الإجرائي فإن المساحات العامة المخصصة للتطوير الفلسطيني لم تتجاوز 16 بالمئة من مساحة التطوير المخصصة للتطوير في سنة هدف المخطط، رغم أن المخطط توقع زيادة عدد السكان الفلسطينيين ليشكلوا 40 بالمئة من عدد السكان في القدس حسب التعريف الإسرائيلي. كما أن سياسة التكثيف التي اعتمدها المخطط سوف تزيد من كثافة البناء التي لا تتجانس وتتناسب مع البنى التحتية وشبكة الطرق والمرافق العامة الموجودة أو تلك التي يمكن توفيرها حسب متطلبات المخطط. ونظراً إلى أن الأحياء الفلسطينية تطورت على أراضٍ خاصة، بينما أقيمت المستوطنات على أراضي دولة صودرت أغلبيتها من الفلسطينيين، ولكنها لا تخصص لتطويرهم، لذا فإن تجاهل المخطط لواقع ملكية الأراضي الخاصة، وطريقة البناء الذاتي وثقافة البناء وسوق السكن المأسور بمعيقات خارجية وداخلية، أدخلت وستدخل المجتمع الفلسطيني في أزمات تخطيط حضري تنموي إضافية. إن تحديد حدود التخطيط والتطوير المفروضة من البلدية بموجب حدود وضعت في مخطط القدس 2000 عند إجراء محاولات إعداد مخططات هيكلية أو تفصيلية، إن كان ذلك بمبادرة البلدية، مثل مخطط تعديل السواحرة الشرقية‏[40] والعيساوية 2015‏[41]، أو بمبادرة السكان وبدعم دولي مثل مخطط العداسة‏[42]، فإن تعليمات المخطط وقرارات البلدية ومؤسسات التخطيط تُفشل هذه المبادرات بذرائع أن النتائج التخطيطية التي توصل إليها الطاقم التخطيطي لا تتجانس مع تعليمات وسياسات التخطيط التي تضعها البلدية مترجمة لمخطط القدس 2000.

خلال المرحلة الثالثة والحالية من تحريك مصيدة التخطيط الحضري، التي شملت تبني البلدية سياسات تفويض صلاحيات التخطيط للمستوى المحلي، بما في ذلك قيام مبادرين وأصحاب أراضٍ، حيث تقوم البلدية بإعداد مخططات رئيسة توجيهية (مخططات أبوية) يتم تبنّيها لضبط مبادرات التخطيط التي يقوم بها المواطنون عند إعداد مخططات تفصيلية موضعية أو نقطية. خلال هذه الفترة بدأت البلدية ترفض مخططات نقطية تقل مساحتها عن خمسين دونماً. رغم أن طلب البلدية يعتمد على منطق تخطيطي شمولي، إلا أنه ينطبق عليه قول «كلمة حق أريد بها باطل». حيث إن البلدية لا تبادر لإعداد مخططات تفصيلية، وتفرض متطلباتها التعجيزية على المبادرين لإعداد مخططات تفصيلية نقطية. هذه المتطلبات تشمل إثباتات ملكية، وتوافق بين المالكين على اقتطاع وتخصيص مرافق عامة من أراضيهم يتم تسجيلها على اسم البلدية بعد استقطاعها بموجب التخطيط. كما أن البلدية ومؤسسات إسرائيلية لها مصلحة في إنجاز تخطيط قطاعي في القدس الشرقية تفرض متطلباتها ومخططاتها على التخطيط التفصيلي وذلك يشمل على سبيل المثال سلطة الآثار، وسلطة حماية الطبيعة والحدائق الوطنية، ووزارة المواصلات. يساهم دمج مخططات هذه المؤسسات القطاعية، التي تترجم عملية أسرلة المكان وتمكين الوجود والتطوير الإسرائيلي في القدس الشرقية، في تضييق فرص التطوير الفلسطيني، حتى في حالة قبوله السير في مسار التخطيط المفروض ودخول إطار مصيدة التخطيط.

رغم تحريك مصيدة التخطيط الحضري والتحولات التي جرت بها خلال خمسة عقود من الاحتلال، متأثرة بالتغيرات العامة التي تحدث بموجب الإصلاحات والتعديلات في مبنى وسياسات التخطيط في إسرائيل، وتلك المتعلقة في خصوصية القدس، فإن التخطيط الحضري التنموي ما زال يستخدم كجزء من أداة الضبط الذكية ومصيدة لاتهام الفلسطينيين على اعتبار انتمائهم الوطني والثقافي، بأنهم هم السبب في إنتاج واقع الضائقة التخطيطية ومعها ضائقة الإسكان وتوافر الحيِّز العام التي يعيشونها. كما عرضنا بإيجاز، فإن تحريك مصيدة التخطيط تواكبها تطوير أدوات وأجهزة من قبل البلدية تمارس إبقاء الضبط على الفلسطينيين رغم التحولات والتنوع في الأدوات المستحدثة. تطبيق مضامين وتعليمات مخطط القدس 2000 والمخططات المعدّة بموجبه، ربما يفتح بعض فرص الحلول الموضعية لبعض المتضررين الفلسطينيين الذين عانوا وما زالوا يعانون مصيدة التخطيط، ولكن مجمل المخطط من الناحية الماهوية والإجرائية ضار ولا يسهم في تمكين التخطيط الحضري التنموي للمقدسيين الفلسطينيين ويعيق إنجاز حقهم في مدينتهم. التطبيق القسري المُجزأ لمخطط القدس 2000، رغم أنه لم يقر رسمياً حسب القانون، دفع جمعيات مدنية إسرائيلية (جمعية حقوق المواطن وجمعية بمكوم)‏[43] للتوجه للمحكمة الإسرائيلية المحلية عام 2013 من أجل منع استخدامه كأساس لتوجيه التخطيط في القدس الشرقية، حيث شرحوا في الالتماس أضرار المخطط على الفلسطينيين.

1 – مصيدة رخصة البناء

رخصة البناء المطلوب استصدارها حسب قانون التنظيم والبناء لكل مبادرة بناء أو تطوير فيزيائي، تستخدم كوسيلة ضبط وإنجاز في مصيدة التخطيط. حسب المعطيات المتوافرة فإن 8 بالمئة من رخص البناء التي أصدرتها بلدية القدس بين عامي 2009 و2016 كانت للبناء الفلسطيني في القدس الشرقية‏[44]. وحالياً قرابة 6 بالمئة من مساحة الأرض المستخدمة للسكن في القدس مستخدمة من جانب الفلسطينيين، رغم أن نسبتهم من عدد سكان القدس حوالى 37.4 بالمئة‏[45] وأن نسبة الأسر الفلسطينية تعادل 28.4 بالمئة‏[46] من مجمل الأسر في القدس. يعود سبب قلة إصدار الرخص إلى صعوبة الحصول عليها والمعوقات التي تضعها البلدية أمام استصدارها. أحد المعوقات أمام الحصول على رخصة بناء مرتبط بغياب التخطيط الحضري المناسب للأحياء الفلسطينية. هذا التخطيط الحضري المُقَونَن والتوجيهي المفروض تنازلياً من فوق من طرف مؤسسات التخطيط الرسمية على المجتمع والأحياء الفلسطينية أُعد وأُقر دون مشاركته وإشراكه. هذا التخطيط وضع قواعد وحدوداً مخالفة للأعراف المجتمعية والتوافقات بين المالكين للأرض مما حال دون إصدار رخص بناء، وهذا أسهم في خلق ظاهرة البناء العشوائي غير المرخص وغير المنظم. كما أن التخطيط الحضري المعد المصدق والمعمول به في الأحياء الفلسطينية ينطلق من مفاهيم منح حقوق تخطيط/بناء قروية قليلة لا تتجاوز 50 – 75 بالمئة لإنتاج حيِّز قروي، مع أن الواقع والحاجات الفلسطينية على الأغلب هي مدينية. ولتلبية هذه الحاجات يجب منح حقوق تخطيط/بناء مدينية تمكّن من منح رخص بناء بموجبها لاستيعاب الزيادة السكانية العالية، ومعها توفير متطلبات السكن والإسكان المرخص ليسهم في إخراج الإنسان والأسرة والمجتمع الفلسطيني المقدسي من دائرة الضائقة والأزمة الإسكانية، وتقلل دفع غرامات على البناء غير المرخص؛ وهذا ما أدخل الأسر الفلسطينية في حلقات تعوق حصولهم على رخص بناء فيندفعون للبناء بدون ترخيص ويتحولون إلى متهمين تقاضيهم المحاكم، وتفرض عليهم الغرامات، بعضهم يسجن وآخر يضطر إلى أن يهدم بيته الذي بناه بيده يهدمه بيده‏[47] كي لا يدفع ثمن تكاليف الهدم في حال نُفذ بواسطة مؤسسات التخطيط.

كما أن غياب تصديق مخططات هيكلية محلية تفصيلية بالسرعة المناسبة، وكون هذه المخططات على الغالب مغايرة للواقع والحاجات الفلسطينية فإنها لا تسهم في إمكان استصدار رخص بناء أو وضع تخطيط وتوجيه التطوير الفلسطيني على مستوى الأحياء بوجه خاص، وعلى مستوى المدينة بوجه عام ولا تلبي الحاجات والتوقعات الحياتية الأساسية. هذا الإقرار لمخططات هيكلية جزئية، مجزِّئة ومجزَّأة من قبل السلطات الإسرائيلية تؤدي إلى غياب الحيِّز العام بما في ذلك شبكة طرق خادمة للأحياء الفلسطينية وتؤمن الحركة والمنالية المناسبة والمريحة إليها وبها، وفي حال توفره في المخططات غير القابلة للإنجاز بسبب مباني موجودة في الطرق والأراضي المخصصة للمرافق العامة ولم يأخذها التخطيط بعين الاعتبار، أو اعتدى عليها المواطنون المالكون كجزء من تعبيرهم عن رفض المخطط بواسطة خلق واقع بدون ترخيص. كما أن هذه المخططات تَحُول دون استصدار رخص بناء للمباني القائمة أو الجديدة لتأمين صراع بقائهم على أرضهم وفي مدينتهم. تدفع إعاقة إصدار رخص البناء، الفلسطينيين إلى البناء بدون ترخيص لتوفير حاجاتهم، وبذلك تدخلهم السلطات الإسرائيلية في قفص الاتهام وفخ المقاضاة القانونية ودفع الغرامات المالية والسجن، وحتى هدم المباني، كجزء من مصفوفة الضبط المَدنية المُطبقة من مؤسسات بلدية القدس والحكومة الإسرائيلية التي تقوم أجهزة البلدية والدولة بتطبيقها عندما ترى حاجة إليها لإنجاز مصالحها.

لا توجد معطيات دقيقة بشأن عدد المباني الفلسطينية المقامة بدون ترخيص. حسب التقديرات يمكن أن نقول إن أكثر من ثلث الأسر الفلسطينية المقدسية (أي ما يزيد على 25 ألف أسرة) تعيش في مبانٍ غير مرخصة، بعضها داخل حدود التطوير المسموح بها داخل مخططات هيكلية مصدقة وأخرى خارجها. وبيوت هذه الأسر مهددة بالهدم أو دفع غرامات مالية عالية. هذه الغرامات ارتفعت كثيراً بعد إقرار تعديل 116 لقانون التنظيم والبناء عام 2017 (الذي يُعرف بتعديل كيمينس)، وسوف يشمل كل المشاركين في عملية البناء (مالك، مهندس، مقاول، مزود مواد بناء). وحسب هذا التعديل فإن صلاحية الرقابة على المباني وإصدار أوامر هدم للمباني التي أقيمت بدون ترخيص نقلت من المحاكم إلى المستوى الإداري في مؤسسات التخطيط، مما سيضاعف الغرامات وأوامر الهدم الصادرة على المباني المقامة بدون ترخيص. وإن عقاب الهدم يُشَكِل أقسى عقوبة في مصفوفة الضبط الخشنة الممارسة على المباني السكنية في القدس. وبموجب معطيات تم تركيزها من تقرير مركز أبحاث الأراضي في جمعية الدراسات العربية فإنه خلال الفترة 2000 – 2017 هُدم 1189 مبنى في حدود بلدية القدس حسب التعريف الإسرائيلي (انظر الشكل الرقم (1)).

الشكل الرقم (1)

هدم المباني الفلسطينية في القدس الشرقية 2000 – 2017

المصدر: مركز أبحاث الأراضي، هدم المساكن الفلسطينية سياسة تهجير: ملخص إحصائي حول هدم المساكن في شرقي القدس خلال الأعوام 2000 – 2017 (القدس الشرقية: جمعية الدراسات العربية، 2018)، <http://lrcj.org/pdf/web/viewer.html?file=Jer_Demo_2000_2017_ARB_S.pdf>.

الشكل الرقم (2)

هدم المباني في القدس الشرقية 2000 – 2017 حسب الأحياء

المصدر: تجميع من مركز أبحاث الأراضي (2018)، <http://lrcj.org/pdf/web/viewer.html?file=Jer_Demo_2000_2017_ARB_S.pdf>.

من المعطيات يتضح أن هناك ارتفاعاً في عدد المباني التي هُدمت في السنتين الأخيرتين بالمقارنة مع السنوات في العقد الأخير. كما أن نسبة الهدم في الأحياء المقدسية خارج حوض البلدة القديمة أعلى من تلك التي تحدث في محيط البلدة القديمة. ورغم أن كل بيت يهدم هو 100 بالمئة مصيبة لصاحبه، وعقاب التهديد بالهدم والسجن لصاحب البيت يستخدم لإرغام الفلسطينيين وإيقاعهم في مصيدة التخطيط المتهم لحماية بيوتهم، لذلك نجد بعضهم يتهافتون للمبادرة في إعداد مخططات تفصيلية موضعية أو المشاركة المبكرة في عمليات التخطيط الضابط الذي تقوم به البلدية لحماية بيوتهم من الهدم أو من مخالفات البناء، ورغم رفضهم الجوهري الوطني الدخول في مصيدة التخطيط، إلا أن متطلبات حماية بيوتهم ومواجهة صراع البقاء، تضطرهم إلى الدخول في إجراءات مصيدة التخطيط.

2 – مصيدة كوشان الطابو وإثبات الملكية

تشكل وثيقة إثبات ملكية الأرض مركباً مركزياً في مصيدة التخطيط المتهم، حيث إن استصدار رخص بناء مشروط بتوافر الأرض بملكية مقدم طلب رخصة البناء. لتأمين إثبات ملكية الأرض على مقدم طلب رخصة واستصدارها إجراء مسح وتسويتها لتحديد موقعها وتسجيلها على المالك. خلال فترة الاحتلال التي تجاوزت الخمسة عقود، صادرت السلطات الإسرائيلية أراضي فلسطينية تجاوزت ثلث الأراضي التي ضمت عام 1967، وأقيمت عليها مستوطنات إسرائيلية واستخدامات أراضٍ تخدمها. أما القسم الباقي فأعلن عنه مناطق خضراء يمنع البناء الفلسطيني حسب المخططات الإسرائيلية، وجزء منها مقامة عليها الأحياء الفلسطينية تمتد على ما يقل عن 6 بالمئة من مساحة بلدية القدس المخصصة للسكن، مع أن عدد الفلسطينيين حالياً يقدر بنحو 37 بالمئة من عدد سكان بلدية القدس، كما ذكر سابقاً. في أغلبية هذه المساحة المسكونة والمساحات المحيطة بها لا يمكن استصدار كوشان طابو رسمي من دائرة السجل العقاري. وتعتمد آليات إثبات الملكية على سجل المخاتير، كما في منطقة صور باهر، أو إخراجات قيد ضريبة أردنية. لقد بدأت السلطات الأردنية في تسوية الأراضي وتسجيلها رسمياً في القدس ومنطقتها. ولكن بعد أن احتلت إسرائيل القدس الشرقية وضمتها أوقفت عملية تسوية الأراضي في الأجزاء التي بقيت خارج الأراضي التي صودرت. حالياً معظم الأراضي التي تقع في الأحياء الفلسطينية وحولها ما زالت دون تسوية رسمية وتسجيل أراضٍ منظم، مما يعيق إصدار رخص بناء، ويسهل المصادرة ويدخل إشكاليات وصراعات بين المالكين والورثة، مما يزيد المشاكل الاجتماعية والتوترات بين الأقرباء والجيران. بالمقابل تترصد الدولة لاقتناص فرص تطبيق قوانين وتعليمات تمكنها من مصادرة الأرض. وإن عجز المالك عن إحضار إثبات ملكية مقبول على مؤسسات التخطيط يحول دون استصدار رخصة بناء حتى لو أن التخطيط ساري المفعول يمكِّنه من إصدار الرخصة. وإن عملية تسوية الأرض بمبادرة المالك ممكنة ولكنها مرهونة بموافقة الشركاء المالكين أو المتصرفين، كذلك مرهونة بمندوب حارس أملاك الغائبين الذي وضع يده على الأراضي التي تم تهجير أصحابها وتم تعريفهم حسب القانون الإسرائيلي كغائبين. كما أن عملية تسوية وتسجيل الأراضي على اسم المالك وبمبادرته بموجب التخطيط الحضري التفصيلي الساري المفعول أو خارجه يتطلب موارد مهنية ومستحقات مالية عالية وزمن طويل، مما لا يشجع كثيراً من المالكين السير في عملية تسوية وتسجيل الأراضي واستصدار كوشان طابو على قسيمة أرضه ليتسنى له استصدار رخصة بناء.

إعاقة تسوية الأراضي الفلسطينية في القدس وتسويتها رسمياً من قبل الحكومة الإسرائيلية، رغم مرور أكثر من خمسة عقود على احتلالها، هي جزء من أدوات مصفوفة الضبط الممارسة التي تحول دون إصدار رخصة بناء، وتسهم بالتالي في عملية البناء بدون ترخيص وتخلق نسيجاً عمرانياً عشوائياً وغير منظم، بالإضافة إلى زيادة الإشكاليات والمعيقات داخل المجتمع لتسهيل اتهامه وتذنيبه وتعميق ذهنية وسلوك جَلد الذات من قبل أبنائه. ورغم حق الفلسطينيين في أراضي «الدولة»، حيث إن معظم الشباب الفلسطينيين الآن لا يملكون أراضي للبناء، إلا أن دولة إسرائيل وبلدية القدس لا تخصصان أراضي «دولة» لإقامة وتطوير إسكانات وأحياء فلسطينية، بل تمنحان «أراضي الدولة» لإقامة وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية. هكذا فإن رخصة البناء وكوشان الطابو تشكلان أدوات طيّعة بيد السلطات الإسرائيلية، البلدية والحكومية، لضبط البناء والتطوير المقدسي وتحديد التنمية الحضرية الفلسطينية. هذه الأدوات مُستَخدَمة بصورة سلبية تجاه المواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل، وفي المنطقة المسماة «ج» في الضفة الغربية، ولكن له خصوصية وتميز في واقع القدس، حيث إن ما يزيد على ثلث المباني السكنية الفلسطينية في القدس غير مرخصة ومهددة بالهدم ودفع غرامات عليها، وهذا يسهم في إفقار الأسر الفلسطينية، وفي بعض الحالات تستخدم لضبط السلوك الفردي السياسي واحتوائه.

بسبب خضوع القدس للسيادة والقوانين الإسرائيلية عملياً، بما في ذلك قوانين الأراضي ومؤسسات السجل العقاري ومؤسسات ضرائب الملكية، يضطر المقدسيون إلى التعامل معها والسير في محيط مصيدتها الإجرائية، رغم رفضهم لها. وكجزء من حفظ الحقوق وتأمين الملكية الفردية للمالكين الفلسطينيين فهم يذهبون إلى المحاكم الإسرائيلية ويستخدمون المساحة التي يسمح بها القانون لتسجيل الأراضي المخططة للتطوير أو غير المسموح التطوير بها ولكن لم تنزع ملكيتها من أصحابها. وجدير بالذكر أنه خلال العقدين الأول والثاني للاحتلال كانت هنالك شبه ممانعة فلسطينية لاستخدام المساحة التي يمكنها القانون المحلي الإسرائيلي لحفظ الملكية لأسباب ماهوية على الأغلب، لاعتقادهم أن الاحتلال هو مؤقت وأن القانون الدولي هو الذي يجب أن يسري على المقدسيين. ولكن الواقع تغير، وفي العقد الأخير أصبح هنالك دعم فلسطيني لحفظ ملكية الفلسطينيين على الأراضي حتى لو تطلّب الأمر استخدام المساحة التي يمكنها القانون الإسرائيلي المحلي. ولكن التعقيدات الإجرائية بالإضافة إلى المعوقات البنيوية، تصعّب عملية تسجيل الأراضي وتطويبها، أو استصدار رخص بناء وتسجيل استقطاعات الأراضي للمرافق العامة لمنفعة الفلسطينيين. وتزيد التغيرات الديمغرافية داخل المجتمع الفلسطيني من تعقيدات تسوية الأراضي وتسجيلها.

خامساً: الدوافع الديمغرافية والمؤسسية في التخطيط الحضري

تتأثر مصيدة التخطيط المتهم من الديمغرافوبية الإسرائيلية من الفلسطينيين ومن تفريغ القدس من المؤسسات الفلسطينية الجامعة لإدارة حياة المقدسيين، حيث تنطلق سيرورات تطبيق مصفوفة الضبط التخطيطية الحضرية من دوافع ديمغرافية وجيوسياسية لتكوين مورفولوجيا حضرية مسيطر عليها من قبل الحكومة الإسرائيلية‏[48]. تسعى الدوافع الديمغرافية الإسرائيلية إلى إبقاء الفلسطينيين أقلية عددية ومهمشة وتابعة اقتصادياً ووظائفياً للمركز العبري في القدس الغربية، ومشرذمة حيِّزياً إلى أحياء يتضاعف عدد سكانها، ترتفع في المباني السكنية عمودياً ومحرومة من التوسع الأفقي الموجه لخلق فرص التنمية بها. هذه الأحياء الفلسطينية مقطعة اجتماعياً، وتعمُّق انتمائها الأساسي والأول هو للحمولة أو للحي وليس للمدينة، رغم عملية التمدن المشوه التي تمر بها. حيث إن القدس حالياً تفتقر للمؤسسات والوظائف البلدية التي تشكل جهازاً وحيِّزاً يساهم في التنظيم الجمعي وتأمين حقهم في المدينة. لتحقيق الأهداف الديمغرافية التي تسعى لإبقاء الفلسطينيين أقلية في بلدية القدس (رغم أنهم أغلبية عددية في القدس الشرقية رغم تشجيع الاستيطان الإسرائيلي بها)، حددت القدرة الاستيعابية للمخططات بأن لا يتجاوز نسبة السكان الفلسطينيين 30 بالمئة من عدد سكان بلدية القدس الغربية والشرقية حتى إعداد مخطط القدس 2000 في العقد الرابع للاحتلال. ونظراً إلى التغييرات الديمغرافية وزيادة السكان الفلسطينيين في القدس، رغم المعوقات الإسرائيلية، عدلت هذه النسبة لـ 40 بالمئة بموجب مخطط هيكلي القدس 2000. رغم هذا التغير المعلن، ما زالت الاعتبارات الديمغرافوبية تشكل بوصلة لتحديد القدرة الاستيعابية للمخططات الرئيسة التي تعد للأحياء الفلسطينية حالياً مثل بيت حنينا وشعفاط، وراس العمود وصور باهر والمخطط الهيكلي التفصيلي الموجود في طور الإعداد للعيساوية. وكجزء من تقليل عدد الفلسطينيين في حدود بلدية القدس تم تحديد موقع إقامة الجدار بحيث أدى إلى «إخراج» زهاء 50 ألف فلسطينيي مقدسي خلف الجدار دون تغيير مكانة الأفراد وحدود البلدية الإدارية والجيوسياسية أو تعديل المخططات الهيكلية التفصيلية سارية المفعول على مناطق مثل كفرعقب، ومخيم شعفاط وعناتا والولجة.

لقد ترجمت السياسات الديمغرافوبية بعملية سحب الهويات الشخصية المستمرة التي تقدر بنحو 15 ألف هوية منذ عام 1976. حيث تستند عملية سحب الهويات إلى قانون الدخول إلى إسرائيل، الذي يشير إلى أنه في حال كان لدى وزير الداخلية شك أو يثبت له أحد الأمور الثلاثة التالية: مغادرة الشخص المقدسي البلد لمدة 7 سنوات أو حمله للجنسية الأجنبية أو حمله الإقامة الأجنبية، يحق لوزير الداخلية سحب الهوية المقدسية من هذا الشخص بدون إعلامه. بالمقابل توضع العراقيل أمام تَجنيس المقدسيين وإقرار لمّ شمل العائلات وتسجيل المواليد الفلسطينيين في سجل النفوس. هذه التدخلات الخارجية القسرية تؤثر في السلوك الديمغرافي للمجتمع الفلسطيني، الذي يتمثل بهجرة الشباب وانخفاض المواليد وتأخر سنوات الزواج وما يرافق ذلك من سلوكيات اجتماعية تسهم في شرذمة المجتمع وخفض حصانته المجتمعية والوطنية.

رغم مصفوفة الضبط والسياسة الديمغرافية التي تمارسها إسرائيل في القدس ارتفع عدد المقدسيين الفلسطينيين من حوالى 68.6 ألف نسمة عام 1967، مشكلين نسبة 25.8 بالمئة من مجمل سكان القدس إلى ما يقرب من 323.7 ألف نسمة عام 2015 مشكلين حوالى 37.7 بالمئة من مجمل سكان القدس‏[49]. هذه الزيادة السكانية حصلت رغم الضوابط والمعيقات والمحددات الإسرائيلية، إلا أنه نظراً إلى مكانة القدس وموقعها الجيوساسي كقلب فلسطين كان مُمكِناً أن يكون عدد سكانها ضعفي السكان الحالي على الأقل لولا السياسات الديمغرافية الإسرائيلية. هذه السياسة الجيو – ديمغرافية دفعت السكان الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى والعليا لترك القدس والهجرة إلى رام الله أو إلى خارج الوطن، ومعهم مؤسساتهم الاقتصادية والإدارية، وهذا يسهم في إضعاف الواقع الفلسطيني في القدس. كما أن التخطيط الحضري لم يخطط القدس الشرقية كمدينة متكاملة ولم يخصص أراضي لتوطين المؤسسات الفلسطينية، بل تعامل معها كأحياء ليس بينها تواصل وتكامل وظائفي.

هكذا تكونت مورفولوجيا المدينة بتأثير مباشر من سياسات التخطيط ومركباته التي تشكل جزءاً من مصفوفة الضبط. هذه المصفوفة تشكلت نتيجة سياسات تخطيط وإدارة الأرض وطرق البناء المعمول بها في القدس. هذه السياسات كونت أحياء فلسطينية تعاني من حالات مرضية. بين الأحياء يوجد اختلاف وغربة، رغم التشابه في ما بينها من حيث المشهد الحضري. لكن تقطيع الأحياء الفلسطينية فيزيائياً، وحصرها حيِّزياً وعدم توافر مؤسسات عاملة لتكوين وإدارة وظائف وخدمات بلدية جامعة وصاقلة اجتماعياً ومدينياً للفلسطينيين، حولت المجتمع المقدسي إلى تابع إما لمدينة القدس الغربية وإما للمركز الفلسطيني في رام الله. وساهم توسيع المستوطنات وبناؤها بموجب مبادرات رسمية حكومية أو بواسطه جمعيات يهودية بموجب نموذج البناء الكثيف، وضخ المستوطنين إليها بتشجيع ودعم حكومي، في تغليب الوجود الإسرائيلي في مشهد المدينة وعبرنتها، رغم أن الفلسطينيين ما زالوا يشكلون أغلبية في القدس الشرقية‏[50] وفي المحيط المقدسي بين رام الله شمالاً وبيت لحم جنوباً‏[51].

خاتمة

أنشأت التعقيدات في حالة ومكانة القدس في واقع احتلال طويل مصيدة يُواجهها المقدسي الفلسطيني في حياته اليومية مترنحاً بين الوطني والمدني. استخدم الاحتلال الإسرائيلي التخطيط الحضري وأدواته المتمثلة بالمخطط الهيكلي، ورخصة البناء، وكوشان الطابو والدفاع عن بيته، مصيدة لتطويع واحتواء الفلسطينيين وتأمين تبعيتهم له من ناحية، ومن ناحية أخرى السيطرة عليهم وعقابهم. ولإدخال الفلسطيني في مصيدة التخطيط سخّرت واستخدمت قوة الدولة ومواردها التي تدمج بين الوسائل المَدَنِية والأمنية/العسكرية لتحقيق الأهداف الإسرائيلية. حاول الفلسطينيون تجنب دخول مصيدة التخطيط بمواجهته ورفضه وفي بعض الحالات عرض بدائل له، ولكن هذه المحاولات بقيت محدودة ولم تستطع تغيير قواعد لعبة مصيدة التخطيط المتهم التي بقي الفلسطينيون يعانونها.

كما أشرنا، فإن إنتاج الحيِّز الحضري الفلسطيني المقدسي متأثر بشكل مباشر بالصراع الديمغرافي والجيوسياسي في القدس، حيث يمارس الاحتلال الإسرائيلي سياسات وأفعال تؤدي إلى تغييرات ديمغرافية وحضرية. هذه التغييرات تسعى إلى هندسة الحيِّز والمحيط الحضري والسلوك السكاني من أجل تحقيق الأيديولوجيا والأهداف الإسرائيلية. إن تَمَيُز وخصوصية حالة ومكانة القدس «المؤقتة» استُغِلت من الاحتلال الإسرائيلي لإحكام السيطرة على المدينة، رغم الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية التي أرجأت التفاوض على الحل الجيوسياسي النهائي للقدس كجزء من الحل النهائي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. كما أن الحكومة الإسرائيلية تمارس سياسة فرض الأمر الواقع غير القابل للعودة بواسطة تغيير الميزان الديمغرافي وتكوين النسيج الحضري لمصلحة الإسرائيليين‏[52]، مستخدمة قوة الدولة وقوانينها المحلية غير مكترثة بالقانون الدولي ومعتدية على حقوق المقدسيين الفلسطينيين الفردية والجمعية ومحاصرة لهم. لمواجهة مركبات التخطيط الحضري في مصفوفة الضبط، يجب العمل والتدخل من أجل إعادة التنظيم المجتمعي المقدسي وتأمين حقه بالمدينة وانتقاله من واقع رد الفعل إلى المبادرة في المساحات الممكنة. بالموازاة لا بد من دعم فلسطيني، وعربي ودولي لتأمين الحقوق الأساسية والجيوسياسية للمقدسيين على أساس منظومة القوانين والأعراف الدولية.

كما أن استمرار حالة الاحتلال وتطبيقه لمركبات التخطيط في مصفوفة الضبط يتطلب منا، كعرب فلسطينيين فهم مبتغى هذا التخطيط الإسرائيلي المهيمن وكيفية استخدامه لأجل تحديه ومواجهته وليس تبنيه وشرعنته. وإن مواجهته لا تتم فقط بشتمه ووصفه؛ بل بطرح بدائل تتحداه وتقاومه. هذه البدائل تعتمد على منظومة أخلاقية قيمية تسعى إلى تحقيق العدل والإنصاف ومواجهة الظلم وتوفير الحياة الكريمة المحترمة للإنسان العربي الفلسطيني آخذة بعين الاعتبار التنوع في التوجهات والحاجات، ولكن دون أن يكون هذا التنوع أساساً لحرمان فرد أو مجموعة مجتمعية من حقوقها الأساسية في الحياة الكريمة. وإن التخطيط الحضري الذي يعتمد على هذه المنظومة الأخلاقية والقيمية التي تسعى إلى توفير العدل، لا يمكن إنجازها فقط بالفرض القسري، بل بالمشاركة الواعية بالمواجهة والمقاومة التي تستخدم المركب الإجرائي والمدني اليومي لتحقيق المركب الماهوي الوطني الجيوسياسي، وتطوير مفهوم تسوية الاختلافات بالحوار والمنفعة. إن المتتبع والفاحص للتخطيط الحضري الحالي المعدّ والمعمول به في القدس، يجد أنه مغاير ومخالف لهذه القيم؛ لذلك لا بد من مواجهته وتحدّيه بواسطة تخطيط بديل مقاوم متحد، يطبق قيم العدل والإنصاف وإحقاق الحقوق في رصد وتوزيع الموارد على المستوى الإجرائي والمطلبي، رغم خصوصية القدس للسعي نحو تحقيق التسويات الجيوسياسية الماهوية الوطنية.

 

قد يهمكم أيضاً  المصادر التاريخية والرواية القرآنية المغيَّبة في تاريخ فلسطين والقدس

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #القدس #تهويد_القدس #فلسطين_المحتلة #التخطيط_الحضري_في_القدس #التنظيم_المدني_في_القدس #دراسات