ـ 1 ـ 

يرصد هذا التقرير أهم المستجدات على مستوى النظام الدولي خلال 2012 والنصف الأوّل من 2013 وتطوراتها المحتملة، ثمّ ينتقل لدراسة الآثار المترتبة عليها بالنسبة إلى الوطن العربي على مستوى موارده وعناصر قوته وتحالفاته وسياساته. وفي ما يتعلق برصد معالم التغير على مستوى النظام الدولي، تمّ رصد عشرة ملامح رئيسية:

أول هذه الملامح اتجاه القوى الكبرى إلى تطوير وإعادة بناء عناصر قوتها الاستراتيجية، فالقوى التي لا تعاني عجزاً مالياً وتحقق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي، كالصين وروسيا الاتحادية، اتجهت إلى زيادة إنفاقها العسكري، في حين أن القوى التي عانت وما زالت تعاني أزمة مالية ومن مشكلات العجز في الموازنة العامة، كالولايات المتحدة وبعض بلدان الاتحاد الأوروبي، اتجهت إلى إعادة بناء عناصر قوتها الاستراتيجية، مع إعطاء الأولوية للمكون الاقتصادي.

الملمح الثاني يتمثل بتغير خريطة إنتاج مصادر الطاقة وتوزيعها، ويعزز هذا التصوّر التوقعات الصادرة مع بداية عام 2013 التي تفيد أن الولايات المتحدة، نتيجة التطورات التقانية التي شهدها مجال استخراج الغاز والنفط، ستصبح مصدرة للنفط عام 2020 وسوف تكتفي ذاتياً من الطاقة عام 2035 نظراً إلى الإمدادات الوفيرة من الغاز غير المكلف واكتشاف احتياطيات هائلة من النفط في كلّ من نورث داكوتا وخليج المكسيك، بل إن تكاليف تصدير الغاز الأمريكي إلى أوروبا سوف تكون أقل بنسبة 30 بالمئة مما تتقاضاه شركة غازبروم الروسية الشهيرة.

وفي ما يتعلق بالصين، فهي عمدت إلى توفير مصادر متعددة لتأمين حاجاتها من الطاقة، وفي إطار هذه الاستراتيجية اتجهت إلى تدعيم علاقاتها مع روسيا عبر إبرام اتفاقات وعقد شراكات في هذا المجال، فضلاً عن توجيه الاستثمارات إلى الاستحواذ أو الشراكة مع شركات النفط العاملة في مناطق العالم المختلفة، من الولايات المتحدة إلى أنغولا، أما بالنسبة إلى روسيا الاتحادية فهي تتبنى استراتيجية أكثر تعقيداً حيث تسعى إلى الحفاظ على أسعار مرتفعة للنفط لتوفير الموارد اللازمة لخططها وبرامجها الاستراتيجية، وكذا تعمل على تأمين مصادر لتمويل الاستثمارات المطلوبة في مجال الطاقة.

أما الملمح الثالث فهو تزايد الاهتمام بعلاج المشكلات المتعلّقة ببنية النظام الدولي، فيرى بعض الباحثين أن أمام الولايات المتحدة فرصة لإعادة تجديد النظام الدولي من خلال توسيع قاعدة المساندين لهذا النظام، وأكثر الشركاء الجدد وعداً هم أولئك الذين يملكون اقتصادات كبيرة سريعة النمو وهم البرازيل والهند وإندونيسيا وتركيا، وأن التعثر الأمريكي داخلياً وخارجياً سوف يؤدي إلى حدوث فوضى، هذا في حال عدم وجود قطب أو ائتلاف يشغل الفراغ الذي سيخلفه تراجع الدور الأمريكي.

أما الملمح الرابع فيدور حول تطوير التحالفات الاستراتيجية القائمة وبناء تكتلات اقتصادية جديدة، حيث نلاحظ اتجاهاً لتطوير وتدعيم بعض التحالفات الاستراتيجية القائمة بين القوى الكبرى، وهو ما ينطبق على التحالف الصيني ـ الروسي، والروسي ـ الهندي الذي تنامى في السنوات الأخيرة ليشمل المجالات الاقتصادية والعسكرية وبصورة أكبر في مجال الطاقة، وكذا الاتحاد الأوروبي الذي يوسع شراكته الاقتصادية مع الولايات المتحدة.

ويلقي الملمح الخامس الضوء على البحث عن سياسات جديدة لإدارة التفاعلات الدولية، حيث إن الفشل في التوصل إلى تلك السياسات يمكن أن يؤدي إلى تشظي النظام الدولي وتحلله.

والملمح السادس يتمثل بتفعيل أدوار بعض المنظمات والمؤسسات الدولية والدعوة إلى تطويرها، وأبرز مثال على ذلك هو دور مجموعة العشرين في المجال الاقتصادي، كما جرى تفعيل دور حلف شمال الأطلسي وهو ما بدا واضحاً في التدخل في مالي والدور غير المباشر في بعض الأحداث الساخنة الأخرى. هذا بالإضافة إلى الدور المتصاعد للوكالة الدولية للطاقة الذرية في القضايا المتعلّقة بالطاقة النووية وحظر انتشار الأسلحة النووية، وكذلك المنظمات المعنية بحقوق الإنسان وتقاريرها التي تمثل عامل ضغط على الحكومات، كما بدأ يظهر دور مؤثر لمؤسسات التصنيف الائتماني سواء على مستوى الاقتصاد العالمي أو على مستوى المنطقة العربية، خاصة بالنسبة إلى بلدان الربيع العربي التي تعرضت لتراجعات متتالية لجدارتها الائتمانية.

أما الملمح السابع لمستجدات النظام الدولي فيتمثل بتطوير القوى الكبرى استراتيجياتها في إطار النظام الدولي، وذلك أن الولايات المتحدة بدأت تركز بصورة أكبر على آسيا لمواجهة تنامي القدرات العسكرية الصينية، وبخاصة مع تزايد الصراعات الحدودية بين الصين وعدد من حلفاء أمريكا في المنطقة، كاليابان وكوريا الجنوبية، كما قامت الولايات المتحدة بالإعلان عن تقليص حجم قواتها البرية في مقابل زيادة الاعتماد على وسائل القتال غير التقليدية ومكافحة الإرهاب إلى جانب التدخلات الإنسانية التي تقع ضمنها عمليات فرض الحظر الجوي.

ويتناول الملمح الثامن تنامي حدة التنافس والهجمات الإلكترونية بين القوى الدولية، حيث تعمل كل الدول على حماية فضائها الإلكتروني من الاختراق، لكن هذا لا ينفي وقوع هذه الحوادث بكثرة خلال العام الماضي في عدد من بلدان العالم.

وبالنسبة إلى الملمح التاسع فهو يتعلق ببروز الدول الفاشلة كعنصر من عناصر تهديد أمن واستقرار النظام الدولي، حيث تمتلك البلدان العربية عدداً من عناصر الدولة الفاشلة، وهي معرضة للتحلل والعودة إلى مرحلة ما قبل الدولة الحديثة، وهو ما يعني الدخول إلى دائرة الصراع والحروب الأهلية على نحو يفتح المجال أمام إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة العربية وفقاً لأجندات ومصالح استراتيجية للقوى الكبرى في العالم.

ويتمحور الملمح العاشر والأخير حول تصاعد المخاوف الدولية حيال تنامي قوى الإسلام السياسي، وهو ما جعل القوى الدولية تتعامل مع هذه التيارات على نحو حذر جداً وهذا يتضح في وصف أوباما النظام المصري بأنه ليس حليفاً ولكنه ليس عدواً. ناهيك من أن الاستقطاب بين القوى الإسلامية والقوى غير الإسلامية في بلدان الربيع العربي قد يعزز من إمكان اتساع نطاق التدخل الخارجي المباشر في الشؤون العربية بأوجه وطرائق متعددة.

وفي ما يتعلق بالآثار المترتبة على متغيرات النظام الدولي بالنسبة إلى الوطن العربي، أمكن استقراء ثلاثة مظاهر لهذه التأثيرات، أولها يتعلق بموارد وإمكانيات البلدان العربية، إذ يمكن أن يحدث تراجع في الأهمية الاستراتيجية للمنطقة العربية في سياق التفاعلات الدولية، ويرجع ذلك إلى ما هو متوقع من أن الاكتفاء الذاتي الأمريكي من النفط والغاز سيؤدي إلى عدم وجود مصلحة مباشرة للولايات المتحدة في ضمان تدفق إمدادات النفط من تلك المنطقة، وإلى ما يشهده الواقع الدولي المعاصر من اشتداد حدة التنافس والهجمات الإلكترونية بين القوى الدولية حيث يبرز مصدر آخر من مصادر التأثير في عناصر القوة العربية، وبخاصة أن البلدان العربية لا تستطيع إنتاج تكنولوجيات الحماية الإلكترونية لبنيتها المعلوماتية والاتصالية، وهو ما سيزيد من أعبائها المالية لشراء ما تحتاج إليه من نظم وبرامج للحماية، كما قد تعاني بصورة أكبر في حال انكشاف مواردها المعلوماتية وبنيتها الاتصالية أمام الجهات الموردة لهذه النظم.

والمظهر الثاني من التأثيرات يتعلق بالتحالفات العربية، فالمرحلة الحالية هي مرحلة انتقالية معقّدة تشهد الملامح الأولى للتحالفات الجديدة، ومن أهم هذه الملامح تطوير التحالفات السابقة كالتحالف الأمريكي ـ الأوروبي ـ الياباني ـ الكوري الجنوبي، والتحالف الصيني ـ الروسي، وبروز الهند كقوة كبرى صاعدة تتعرض للتجاذب من جانب هذين التحالفين.

أما على الصعيد العربي فنجد أن ثمة تحرّكات باتجاه تأسيس تحالفات عربية ـ آسيوية، لكن هذا المشهد لا يزال محكوماً بالتناقضات والاستقطابات العربية التي عمّقتها أحداث ما يسمى «الربيع العربي» وموقف القوى الآسيوية الصاعدة تجاهها، وبخاصة الصين، وبمستوى ما روسيا، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى إحداث مراجعة عربية شاملة للعلاقات العربية ـ الدولية والعلاقات العربية ـ الإقليمية بما يشمل التطوير المؤسسي والوظيفي والفكري للجامعة العربية، وإعادة تحديد الرؤية العربية للقوى الإقليمية، وبخاصة تركيا وإيران وإثيوبيا وإسرائيل.

أما المظهر الثالث والأخير فهو يختص بمجموعة الآثار المتعلّقة بالسياسات العربية وهناك عدة سيناريوهات (مشاهد) لمستقبل المنطقة، منها أننا أمام سايكس بيكو جديد أو أمام تناقص الاهتمام بالمنطقة، إلا أن المتفق عليه أنه وفق أي سيناريو لمستقبل المنطقة، يتعين على البلدان العربية إحداث تغييرات جذرية في سياساتها ومؤسساتها.

ـ 2 ـ 

ويتناول الجزء الثاني الإطار الإقليمي ممثلاً بكلٍّ من تركيا وإيران

بالنسبة إلى إيران، يلقي التقرير الضوء على محورين أساسيين: الأوّل هو الأوضاع الداخلية، والثاني يتناول التفاعلات الإقليمية لإيران. في ما يخص المحور الأوّل، تمّ رصد عدة متغيرات كان على رأسها وجود رئيس تنفيذي في مواجهة مرشد روحي، فقد حرص الرئيس الإيراني على توجيه رسالة إلى الداخل بأنه «ليس الشخص الأكثر تشدداً في النظام الإيراني»، وأنه يحاول انتزاع صلاحياته كرئيس للسلطة التنفيذية، حتّى لو أدى ذلك إلى خلافات في الرأي والتوجهات مع المرشد. في حين تبنى الأخير سياسة الخروج الآمن للرئيس التي تعني استثمار نتائج الانتخابات البرلمانية التي أسفرت عن هزيمة تيار الرئيس من أجل تقييد حركته السياسية وتضييق البدائل والخيارات المتاحة أمامه لحين خروجه من السلطة، مع الحرص في الوقت ذاته على تحاشي الصدام مع الرئيس. كما تمّ إلقاء الضوء على المشهد الإيراني قبل الانتخابات الرئاسية، وعقب هذه الانتخابات التي جاءت برئيس جديد كان مدعوماً من جانب الأقطاب الإصلاحية في البلاد، على الرغم من عدم تصنيفه كمرشح للمعارضة بالمطلق. لكن هذا الفوز الساحق للمرشح المدعوم من المعارضة، الشيخ حسن روحاني، عزز من تماسك الساحة الداخلية الإيرانية بعدما كانت هذه الساحة قد شهدت تصدعاً حاداً نتيجة الأحداث التي شهدتها إيران عقب الانتخابات الثانية للرئيس محمود أحمدي نجاد عام 2009، الذي أحدثت طريقة إدارته لبعض ملفات السياسة الخارجية ولبعض الملفات الداخلية، وبخاصة الاقتصادية منها، شرخاً واسعاً بين الأقطاب المختلفة في المجتمع الإيراني.

أما عن التفاعلات الإقليمية، فقد تمّ تناول العلاقات مع دول الخليج، وهي العلاقات التي استمر توترها بل زاد بفعل عدة عوامل، على رأسها موقف إيران المؤيد لاحتجاجات البحرين، وكذا الموقف الخليجي المؤيد للثورة السورية في حين تدعم إيران النظام السوري، فضلاً عن تصاعد حدة القلق الإيراني من احتمال تأسيس نظام درع صاروخي أمريكي في منطقة الخليج لاعتراض صواريخها. كما تناول التقرير العلاقات الإيرانية مع العراق، وكيفية ثأثير الدعم الإيراني للنظام السوري في الوضع اللبناني. لكن الرئيس المنتخب حسن روحاني بعث عقب فوزه في الانتخابات بعدة رسائل توحي بنوع من الطمأنة على المستويين الخليجي والدولي، وبخاصة في ما يتعلق بالملف النووي، الذي وعد بمزيد من الشفافية في طريقة إدارته، على الرغم من تمسكه بالثوابت الأساسية في السياسة الخارجية الإيرانية، وبخاصة حق إيران في امتلاك التقانة النووية السلمية، ووقوفها الثابت إلى جانب سورية وحزب الله.

هذا فضلاً عن العلاقات المتذبذبة مع مصر، وتصاعد التوتر مع اليمن على خلفية الاتهامات اليمنية المتكررة لإيران بدعم الحوثيين والحراك الجنوبي، وبداية تحسن العلاقات مع السودان.

أما بالنسبة إلى تركيا، فلقد ركز التقرير بشكل خاص على الموقف التركي من الوطن العربي من خلال عدة محاور، المحور الأوّل يتناول رؤية العرب والأتراك كلّ منهما للآخر حيث يُعْزى الانخراط التركي المستجد في شؤون الشرق الأوسط إلى محركين رئيسين هما: أولاً، رؤية حزب العدالة والتنمية لكيفية إدارة العلاقات التركية مع العالم الإسلامي وبخاصة مع الشرق الأوسط، وهذا ما تعبر عنه كتابات وزير الخارجية الحالي أحمد داود أوغلو فيما يُطلق عليه «العثمانية الجديدة». وثانياً، «التحدي الكردي» الذي سيظل في قلب السياسة الأمنية الإقليمية التركية.

أما المحور الثاني فيدور حول علاقة تركيا بالوطن العربي بعد دخوله مرحلة الثورات والاحتجاجات الشعبية، ومن خلاله تمّ التأكيد على أنه نتيجة نهاية الحرب الباردة، وحربي العراق الأولى والثانية، والصراع في أفغانستان، والأزمة مع إيران، والأزمة المالية العالمية فضلاً عن الثورات العربية، التي أخذت توحي بإمكان أن تسفر هذه الثورات عن دخول الوطن العربي في حقبة حكم الإسلاميين، حدث تغير في السياسة الخارجية التركية، مما هيّأها للانتقال من سياسة «صفر مشاكل» إلى السعي لإقامة «نظام إقليمي متناسق» على أنغام إيقاعات الحركات الإسلامية في المنطقة، وبخاصة جماعة الإخوان المسلمين وردفاؤها. فالدور التركي تعززه الشخصية الكاريزمية لرئيس الوزراء التركي، في حين تتمثل أهم كوابح هذا الدور بالضغط الذي تمارسه الدول الغربية على تركيا لدعم مصالحها في المنطقة مقابل تسهيل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، مع حاجة تركيا إلى الموازنة بين علاقاتها العربية وعلاقاتها الإسرائيلية بشكل دقيق، والقلق العربي من تزايد الاختراق الإقليمي ممثلاً بالدور الإيراني والتركي. وكذا تمّ التعرّض للعلاقات الاقتصادية التي تربط تركيا بالدول العربية عموماً بعد الربيع العربي، وبخاصة دول «الاعتدال».

أما المحور الثالث فقد تناول العلاقات التركية مع سورية وإسرائيل، وبالنسبة إلى سورية فقد برزت تركيا بوصفها الدولة الإقليمية غير العربية الأكثر تأثيراً في مسار الأزمة السورية، وبخاصة في ظل ما تمتلكه من حدود برية طويلة مع سورية (نحو 820 كم)، وفرت لها هامشاً واسعاً من القدرة على التحكم في طرق الإمداد الرئيسية وبالتالي في سير الأحداث الميدانية على الساحة السورية بعد تطور المواجهات العسكرية بين النظام وبعض فصائل المعارضة. وقد استضافت تركيا اثنين من مؤتمرات أصدقاء سورية الخمسة، واعترفت بالمجلس الوطني المعارض كممثل وحيد للشعب السوري، لكن على صعيد آخر التزمت بدرجة عالية من ضبط النفس ولم تسمح لمنظمات الإغاثة الدولية بدور أكبر في معسكرات اللاجئين السوريين. ويبدو أن تحول تركيا من حليف قوي لسورية إلى هذا الموقف السلبي والعدائي سببه تغيير أساسي في السياسة الخارجية التركية، إذ يبدو أنه كان هناك توجه، بمبادرة تركية، إلى إنشاء تكتل يضم تركيا والولايات المتحدة، يتبنى تيار الإسلام السياسي في الوطن العربي، وبخاصة الإخوان المسلمون، وتشارك في هذا التوجه «دولة» قطر. وهذا ما يفسر موقف تركيا وقطر من سورية بعد اندلاع «الانتفاضة» فيها. لكن عقب التحولات التي شهدتها مصر في 30 حزيران/ يونيو 2013، يبدو أن هناك بداية فشل لهذا المحور وتوجهه الذي تعارضه بلدان الخليج العربية (ما عدا قطر)، وهو ما برز من خلال المساعدات الخليجية (السعودية والإمارات والكويت) السخية التي تدفقت على مصر بعد تلك التحولات، وهو ما تمثّل أيضاً بخروج قطر من ذلك المحور، وهو خروج توّجه «الانقلاب الناعم» الذي شهدته دولة قطر، والذي أسفر عن تسلّم الشيخ تميم السلطة مكان والده الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الذي ترك الحكم مع كل فريقه، وبخاصة الرجل الأقوى في عهده رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم.

وفي ما يخص إسرائيل التي كانت قد شهدت علاقات تركيا معها أزمة حادة عقب الهجوم الإسرائيلي على سفينة مرمرة التركية عام 2010، فإن عام 2013 قد شهد استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

ـ 3 ـ 

ويحلل الجزء الثالث من التقرير أوضاع النظام العربي على مدار عام 2012 والنصف الأوّل من عام 2013، وذلك من خلال مجموعة من النقاط الأساسية. النقطة الأولى تثير التساؤل حول آفاق التغيير في الوطن العربي واحتمالات امتداد ظاهرة الربيع العربي إلى باقي وحدات النظام الإقليمي العربي في ضوء نظرية الدومينو. وتجيب عليه بأنه حتّى في أوج المدّ القومي العربي في فترة الزعيم جمال عبد الناصر لم يستطع مشروعه تجاوز نطاق معين، الأمر الذي يفرض قيوداً معينة على سيناريو الدومينو في حالة الثورات العربية، سواء بسبب تباين مراحل النمو الاقتصادي، أو درجة التماسك المجتمعي، أو طبيعة التأثيرات الخارجية، هذا فضلاً عما آل إليه الحال في بلدان الثورات العربية من انفصال بين سلطة الثورة من جهة وجماهيرها من جهة أخرى. ويتوقّف التقرير ملياً أمام هذه الظاهرة ويحللها تفصيلاً في كلٍّ من مصر وتونس وليبيا واليمن.

النقطة الثانية تستعرض الأنماط الجديدة للتحالفات العربية، وترصد عدم قيام محور لدول الثورات العربية يحلّ بديلاً لمعسكر الممانعة ويقود إلى تقلص عدد دول معسكر الاعتدال. بل إن العلاقات بين دول الربيع العربي تبدو إما عادية كما هو الحال في العلاقات المصرية ـ التونسية، أو متأزمة كما هو الحال في العلاقات المصرية ـ الليبية، أو لم تشهد أصلاً أي تطور كما في حالة العلاقات المصرية ـ اليمنية. أكثر من ذلك يلاحظ أن دول الربيع العربي غير راغبة في إحداث تغيير في نمط علاقتها الخارجية سواء مع إسرائيل (بالنسبة إلى مصر بالذات) أو مع الولايات المتحدة.

وفي المقابل تسجّل هذه النقطة تبلور تحالف جديد بين إيران وسورية والعراق وحزب الله، وهو تحالف ركيزته إيران التي تحتفظ بعلاقة أكثر من مؤثرة بمختلف أطرافه، في حين أن علاقة سورية بالعراق مثلاً كانت بالغة السوء قبيل اندلاع الثورة السورية، كما يلاحظ خروج فصائل المقاومة الفلسطينية من هذا التحالف، وبخاصة حركة حماس، على خلفية رهانها على انتصار مشروع «أَخوَنَة» النظام العربي، وهو ما دفعها إلى اتخاذ موقف (غير معلن) داعم لـ «الثورة» السورية بأفقها الإخواني، ناقلة في إثر ذلك مقر قيادتها من دمشق، عاصمة «الممانعة»، إلى الدوحة، عاصمة «الاعتدال».

النقطة الثالثة ترصد الأزمات التي تعرّض لها النظام العربي وتمحورها في أزمة العلاقات المصرية ـ الليبية بفعل مجموعة مركبة من العوامل تتعلّق بموقف النظام المصري من عناصر النظام الليبي السابق، ومشكلة العمالة المصرية والزوبعة التي أثيرت حول النشاط التبشيري لأقباط مصريين في ليبيا، وقضية تدفق السلاح الليبي إلى مصر عبر الحدود. ويستخلص التقرير من هذه الجزئية أن العلاقة بين النظم الثورية قد تكون علاقة صراعية كما تشهد بذلك فترة المدّ القومي (1955 ـ 1967).

ثمّ هناك أزمة العلاقات المصرية ـ الإماراتية التي تفجرت على خلفية اتهام بعض أفراد الجالية المصرية في الإمارات بممارسة أنشطة غير مشروعة بهدف استقطاب مواطنين إماراتيين إلى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، والذي تغير بعد أحداث 30 حزيران/يونيو 2013 وتقديم الإمارات مساعدات سخية إلى مصر في إثرها. ويرى التقرير أن هذه الأزمة في حقيقتها إنّما هي بين دولة الإمارات وجماعة الإخوان المسلمين وليست بينها وبين مصر الدولة والشعب، ويستعرض أساليب النظام المصري في إدارتها من منظور نقدي.

النقطة الرابعة تتناول مستقبل مجلس التعاون الخليجي، وتلاحظ عدم حدوث تقدّم في تفعيل الدعوة التي تقدّم بها عاهل السعودية الملك عبد الله، والمتمثلة بتحويل المجلس إلى اتحاد خليجي، وذلك على الرغم من الترحيب الذي قوبلت به تلك الدعوة والموافقة عليها وإحالتها إلى لجنة لدراسة التفاصيل. ويرجع التقرير تجميد الفكرة إلى عدد من المعضلات الداخلية والخارجية المركبة التي تعترض تطبيقها.

النقطة ما قبل الأخيرة تتوقف أمام قمة الرياض الاقتصادية والتنموية الاجتماعية، وتحلل الأثر الناجم عن اعتمادها على القطاع الخاص في العملية التنموية بما له وما عليه، وتستشرف مصير القرارات التي توصلت إليها في كلٍّ من مجالات الطاقة المتجددة، والاتفاقية الموحّدة المعدلة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في البلدان العربية، والخطّة التنموية في الألفية، والتصدي للأمراض المزمنة، وذلك في ضوء الخبرة السابقة مع القمتين الاقتصاديتين والاجتماعيتين الأولى والثانية.

أما النقطة السادسة والأخيرة فترصد الأداء العاجز للنظام العربي في قمة الدوحة 2013، وذلك بتكرار نهج اتخاذ القرارات ذاته الذي يخلو من الإشارة إلى إجراءات عملية محددة لتنفيذها، ويستمرّ في المعالجة الشاملة لكلّ من القضايا العربية دون استثناء على نحو يفقد تلك المعالجة أي عمق، وعدم تغير جوهر الموقف من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فضلاً عن تعقيد الأزمة السورية بإعطاء مقعد الدولة للائتلاف الوطني السوري المعارض الذي لا يوجد ثمة اتفاق على تمثيلة عموم أطياف المعارضة وقواها السياسية والعسكرية.

ـ 4 ـ 

يختص الجزء الرابع من التقرير بمناقشة معضلة التطور الديمقراطي في الوطن العربي، ويقسم البلدان العربية من منظور هذا التطور إلى فئتين أساسيتين، الفئة الأولى هي البلدان التي شملتها الموجة الثورية الأولى، وتتمثل بتونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، والفئة الثانية هي البلدان التي لم تشملها تلك الثورة لكنّها شهدت تطورات مهمة يمحورها التقرير حول خمسة متغيرات أساسية.

في الفئة الأولى، يلحظ التقرير أن مصر التي كانت أسرع بلدان هذه الفئة في إنجاز الانتخابات البرلمانية للغرفتين على التوالي ومن بعدها الانتخابات الرئاسية، ثمّ في وضع دستور جديد للبلاد، صارت هي الدولة الأكثر عرضة للتقلبات السياسية نتيجة سوء إدارة المرحلة الانتقالية على ما فصله تقرير العام الماضي. وهكذا حُلَت الغرفة الأولى للبرلمان بحكم قضائي، وصدر حكم آخر ببطلان الغرفة الثانية مع تمديد عملها إلى حين انتخاب الغرفة الأولى، وتسبب الدستور الجديد في استقطاب سياسي لا أعنف منه وطُرِحَت مسألة تعديله فور الاستفتاء عليه بالإيجاب، أما رئيس الدولة نفسه فبعد عام واحد على انتخابه يكاد يزيد عدد التوقيعات على الاستمارات الداعية إلى إقالته على عدد أصوات ناخبيه؛ وهو ما حدث في حركة «تمرد» في 30 حزيران/يونيو وما بعدها، حيث تم عزل رئيس الجمهورية واعتماد «خطة طريق» جديدة تتضمن تعيين رئيس جديد موقت لمصر، وهو رئيس المحكمة الدستورية العليا، وإعداد دستور جديد، وإجراء استفتاء عليه، وحل مجلس الشورى وانتخاب مجلس جديد.

أما في تونس وعلى الرغم من أنها بدت أكثر استقراراً في التطور مقارنة بشقيقتها مصر، إلا أن تجربة الترويكا سرعان ما ظهرت مثالبها وبدأت الخلافات بين أطرافها الثلاثة، خصوصاً بين رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه في ظلّ جدل واستقطاب سياسي بين الإسلاميين وغير الإسلاميين على هامش مدّ فترة المجلس التأسيسي المنتخب لمدّة عام آخر بعدما تعذر وضع دستور جديد للبلاد خلال المدّة المحددة. كما لم تسلم تونس أيضاً من حوادث العنف السياسي والمواجهات المضطردة بين الشرطة والمتظاهرين، وفي واحد من تداعيات هذا العنف أطيح بالحكومة القائمة وترتب على الخلاف حول طبيعة الحكومة الجديدة تعذر تكليف رئيسها بمهمة إعادة التشكيل. على صعيد آخر، شهدت تونس بعد مصر نمواً في ظاهرة الصعود السلفي، وأضفى الصراع في مالي أبعاداً جديدة على هذه الظاهرة في إطار ما تردد عن مساعي تكوين مثلث ذهبي جزائري ـ ليبي ـ تونسي يكون مرتكزاً لدولة الخلافة الإسلامية. كما اتخذ هذا العنف منحىً جديداً لم تعرفة الساحة التونسية من قبل، وهو منحى الاغتيال السياسي، الذي كان ضحيته الأولى المعارض السياسي شكري بلعيد الذي اغتيل في شباط/ فبراير 2013 (تبع ذلك اغتيال المعارض السياسي محمد البراهمي في 25 تموز/ يوليو 2013).

وفي ليبيا، واجهت البلاد في عام ٢٠١٢ والنصف الأوّل من عام 2013 تحديات جمة في ظلّ تجفيف تام كان قد طاول جميع مؤسسات الدولة خلال فترة حكم العقيد. وعلى الرغم من الصعوبات التي ولدها الخلاف الواضح حول شكل الدولة الجديدة، أولاً لجهة الاستقطاب بين الشرق المليء بالبترول والغرب المميز تاريخياً بحكم إقامة القذافي فيه، وثانياً لجهة غياب جيش أو شرطة بالمعنى المؤسسي للكلمة فيما ينتشر السلاح والميليشيات، إلا أن ليبيا نجحت في إجراء انتخابات المؤتمر الوطني (السلطة التشريعية) منهية بذلك فترة حكم المجلس الانتقالي، كما شكلت حكومة تضطلع بالمهمات التنفيذية، وأرست قواعد إنشاء الجمعية التأسيسية التي ستقوم بوضع دستور دائم للبلاد. ومثلما حدث في مصر وتونس تماماً، عانت ليبيا من حوادث العنف السياسي أبرزها اغتيال السفير الأمريكي، فضلاً عن عدد من حوادث الاغتيال السياسي الأخرى التي جرت داخل البلاد وخارجها. ومثلهما أيضاً شكل قانون العزل السياسي في ليبيا مادة للتجاذب الحاد، خاصة أنه الأوسع نطاقاً من حيث الفئات التي استهدفها والتي طالت حتّى رؤساء الهيئات الأكاديمية من جامعات وكليات.

أما اليمن، فقد شهد تفعيلاً للمبادرة الخليجية التي خرج في إثرها الرئيس السابق علي عبد الله صالح من الحكم وتولّى نائبه عبد ربه منصور هادي قيادة البلاد لفترة انتقالية تمتد عامين، فيما حصل صالح على حصانة قضائية تحميه هو وعائلته من الملاحقات، وإن خرج عدد من أقاربه ومواليه تباعاً من المراكز القيادية في الجيش والشرطة في إطار عملية إعادة الهيكلة التي أجراها هادي. وبدوره شهد اليمن استقطاباً بين الإسلاميين وغير الإسلاميين، وحوادث للعنف السياسي، وأزمات ترتبط بقضيتي الحوثيين والحراك الجنوبي، تلك الأزمات التي كانت في خلفية الدعوة الرئاسية للحوار الوطني.

وفي سورية استمرت دائرة العنف والعنف المضاد، وكان هذا في حدّ ذاته أحد أسباب إفشال جهود التسوية السياسية، فضلاً عن تضارب مصالح القوى الإقليمية والدولية في ما يخص أسلوب التعاطي مع الأزمة السورية. وأدى العدوان الإسرائيلي على سورية وارتباطات بعض التنظيمات المسلّحة بتنظيم القاعدة إلى مزيد من تعقيد الصورة وحرف مطالب الثورة عن مسارها على نحو لا يجعل ثمة تسوية منظورة في الأفق القريب، وبخاصة بعد التحولات الميدانية التي غيرت موازين القوى العسكرية على الأرض بين قوات الجيش السوري النظامي وقوات المعارضة المسلحة، عقب دخول حزب الله على خط القتال هناك وتحقيقه إلى جانب الجيش السوري إنجازات عسكرية دراماتيكية على بعض الجبهات، كالقصير وريف دمشق، غيرت موازين القوى لمصلحة النظام.

على صعيد آخر، يتوقف التقرير أمام بعض إشكاليات التطور الديمقراطي في البلدان العربية التي لم تشملها الموجة الثورية الأولى، ويمحورها حول مجموعة من المتغيرات الأساسية.

أحد هذه المتغيرات يتعلق بالعلاقة بين السلطات، حيث يعالج التقرير التجاذب السياسي حول القوانين الانتخابية الحاكمة لتشكيل المؤسسات التشريعية وموضع المعارضة من هذه الأخيرة، كما يتطرق إلى التعديلات الدستورية التي استهدفت إعادة ترسيم الحدود والصلاحيات لكلٍ من السلطتين التشريعية والتنفيذية. بقول آخر، فإن هذا المتغير يسلط الضوء على النصوص القانونية والدستورية، سواء فيما يخص بناء السلطات أو في ما يخص تفاعلها مع بعضها البعض، وهذا ما يفتح الباب لمعالجة التطورات التي شهدتها بلدان كالكويت والأردن والبحرين.

المتغير الثاني يتعلق بارتدادات التطورات الإقليمية على المسار الديمقراطي، ويشكل لبنان نموذجاً لتجسيد هذا المتغير بامتياز، فعلى الرغم من أن واجهة الاستقطاب السياسي الداخلي في لبنان تتمحور حول قانون انتخاب مجلس النواب، ثمّ تشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة نجيب ميقاتي، إلا أنه لا يمكن إدراج لبنان في إطار التعاطي مع المتغير الأوّل كون التجاذبات اللبنانية في جوهرها ليست إلا انعكاساً للتطورات التي شهدها الصراع السوري في عام 2012 والنصف الأوّل من عام 2013. فمع تقدير أهمية التأثيرات الخارجية إقليمية ودولية في التطورات الداخلية في عموم البلدان العربية، إلا أن تلك التأثيرات أوضح بما لا يقاس في حالة لبنان.

المتغير الثالث يرتبط بإشكالية الفراغ السياسي الذي يتهدد الجزائر في مرحلة ما بعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، فمع أن الجزائر كانت على موعد مع استحقاقات انتخابية تشريعية وبلدية في عام 2012 والربع الأوّل من عام 2013، إلا أن الاستحقاق الأهم يظل هو الاستحقاق الرئاسي المنتظر مع استمرار مركزية دور الرئيس في النظام السياسي الجزائري، وعدم وجود منافس قوي للرئاسة ووجود الجيش بدوره السياسي التاريخي في خلفية المشهد يراقب وينتظر، وبخاصة بعد عودة بوتفليقة إلى الجزائر من رحلته العلاجية في فرنسا.

المتغير الرابع يتعلق بصعود الإسلاميين خارج بلدان الثورات العربية وذلك في إطار سياسي يجمع بين الاستمرارية والتغيير المحسوب ويحاول ضبط مسار الحراك الشعبي والتحكم في وجهته في ضوء خبرة العامين الماضيين منذ أحداث ولاية سيدي بوزيد في تونس وحتّى تاريخه. وتمثل الحالة المغربية نموذجاً لتجسيد هذه الظاهرة بامتياز وتطرح الإشكاليات نفسها التي تطرح تجارب الحكم الإسلامي في بلدان الثورات، وفي مقدمتها إشكالية الشراكة السياسية، وبخاصة في ضوء النكسة التي تعرضت لها تجربة حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر.

المتغير الخامس والأخير هو الخاص بوضع المرأة التي فجرت وثيقة العنف ضدها والتي وقعت في نيويورك جدلاً مجتمعياً صاخباً حولها ولم يهدأ بعد الجدل الذي استبق وضع مسودات الدساتير وعاصرها وتلاها في بلدان الثورات العربية. ومن المفارقات الخاصة بمشهد المرأة أن دولة كالمملكة العربية السعودية سمحت لأول مرة للنساء بدخول مجلس شوراها فيما يتبنى التيار السلفي المصري الذي تكوَّن في المملكة رؤية شديدة التخلّف لحقوق المرأة بوجه عام وفي القلب منها حقوقها السياسية. ومع أن مجلس شورى المملكة له وظيفة شكلية استشارية في إطار النظام السياسي السعودي، إلا أن إدخال المرأة إلى عضوية المجلس في ضوء حساسية تلك القضية في المجتمع السعودي لأسباب مفهومة، إنّما يمثل خطوة إصلاحية مهمة.

ـ 5 ـ 

يتوقف الجزء الخامس من التقرير أمام القضية الفلسطينية على مدار عام 2012 والنصف الأوّل من عام 2013، ويقارب تطورها في خمسة عناصر أساسية.

العنصر الأوّل عن المصالحة الفلسطينية ومدى انعكاس الربيع العربي عليها، وبخاصة أحداث 30 حزيران/يونيو في مصر وانعكاساتها على حماس، وكذلك محاولة استئناف المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية بوساطة أمريكية. وهنا يلحظ التقرير أن بعض فعاليات هذا الربيع امتدت إلى حدّ التظاهر والاعتصام في الأراضي الفلسطينية، لكنه يلحظ في الوقت نفسه أن ثمة تهميشاً للقضية الفلسطينية على المستوى العربي في غمرة الاهتمام بماجريات التحولات السياسية الداخلية. ومثل هذا التطور يثير التساؤل عما إذا كان الفلسطينيون يحتاجون اليوم إلى صحوة قريبة الشبه بتلك التي أفضت إلى أحياء الوطنية الفلسطينية وتبلورت عملياً بنشوء منظمة التحرير الفلسطينية. وفي سياق متصل يرصد التقرير توالي الدعوات الفلسطينية على امتداد عام 2012 من أجل إنجاز مصالحة وطنية هي شرط ضروري لاستقطاب الدعم العربي وأيضاً غير العربي، لكن من دون تحقيق إنجاز مللموس في هذا الاتجاه.

والعنصر الثاني عن معركة الأمعاء الخاوية التي استندت إلى إضراب مفتوح عن الطعام في ربيع عام 2012، وهي المعركة التي مثلت معلماً مهماً من معالم نضال المعتقلين والأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ولا سيّما أنه كان الإضراب الأضخم في نوعه في سجون إسرائيل. ويتوقف التقرير أمام المطالب الثمانية للمضربين التي تبدأ بإنهاء سياسة الاعتقال الإداري والعزل الانفرادي وتنتهي بوقف العقوبات الفردية والجماعية بحقّ الأسرى. كما أنه يحلل ردود الأفعال العربية والدولية إزاء الإضراب الذي مثل لحظة من لحظات توحد الفصائل المختلفة تمييزاً للتناقض الرئيس مع إسرائيل عن التناقضات الثانوية.

والعنصر الثالث عن الاستيطان الذي شهد زيادة كبيرة وسرعة ملحوظة في أعماله وكأن الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية تسابق الزمن من أجل «أسرلة» الضفة وفرض أمر واقع على الأرض، مستغلة في ذلك جمود عملية التسوية من جهة وتعثر عملية المصالحة الوطنية من جهة أخرى. ويرصد التقرير ردود الأفعال الخارجية ذات الصلة، بالذات لجهة ما تسبب فيه التبجح في السلوك الاستيطاني الإسرائيلي من استهجان دولي عام، وقرار الاتحاد الأوروبي استثناء المستعمرات الصهيونية في الضفة الغربية من اتفاقياته مع إسرائيل وعدم شمولها بالمزايا التي تتمتع إسرائيل لها وفق تلك الاتفاقيات.

والعنصر الرابع عن فلسطين والأمم المتحدة، والتطور الذي روجت له الدبلوماسية الفلسطينية، وتحقق بتصويت الجمعية العامة على قبول الطلب الفلسطيني باعتبار فلسطين دولة غير عضو بالأمم المتحدة، وتثبيت القرار حقوقاً فلسطينية أخرى بخصوص اللاجئين والاستيطان والعودة إلى حدود ما قبل 5 حزيران/يونيو 1967. ويعلق التقرير على هذا التطور كونه يتضمن تسليماً بحدود 1967 التي لا تتجاوز 22 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية، ولا تتعدى 50 بالمئة من المساحة التي أقرها قرار التقسيم بكلّ ما يترتب على ذلك من إشكاليات.

أما العنصر الأخير فإنه عن الضجة التي صاحبت تصريح رئيس لجنة متابعة مبادرة السلام العربية في لقاء اللجنة مع وزير الخارجية الأمريكي، وذلك حول مبدأ تبادل الأراضي. وهنا يعود التقرير إلى جذور طرح هذا المبدأ في المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية، مع التنويه بالاختلاف المتحقق عام 2013 من خلال طرح المبدأ بواسطة رئيس لجنة المتابعة. كما يحلل التقرير هذا المبدأ من منظور نقدي كونه يمثل حلقة جديدة من حلقات التراجع المستمر عن حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، ويحقق سقف التنازلات العربية.

ـ 6 ـ 

ومع أن القضية السورية سبقت معالجة بعض أبعادها في الشقّ الخاص بالطور الديمقراطي داخل التقرير، إلا أن ديناميات الصراع السياسي وأيضاً العسكري في سورية استدعت اختصاصها بتحليل مستقل ينهض به الجزء السادس من التقرير.

وفي هذا السياق يتم تحليل المشهد السياسي عبر نقطتين أساسيتين، النقطة الأولى هي خريطة المعارضة السياسية الشديدة التشرذم والتعقيد في الوقت نفسه، مع التوقف أمام ثلاثة مكونات رئيسة لتلك الخريطة هي الممثلة في هيئة التنسيق الوطنية والائتلاف الوطني والمعارضة الكردية بأطيافها المختلفة. أما النقطة الثانية فهي المتعلّقة بالحكومة المؤقتة وتعثر جهود تشكيلها، خاصة في ضوء الخلاف حول شخص رئيس الوزراء المقترح، سواء لجهة ابتعاده عن الواقع السوري بحكم إقامته الطويلة في المنفى، أو لجهة انتمائه السياسي. هذا وقد حدثت تطورات وتغييرات في قيادات ما يسمى «الائتلاف الوطني» في اجتماعه الأخير في تركيا مع انضمام بعض الأطراف إليه.

ومن المشهد السياسي ينتقل التقرير إلى تحليل المشهد العسكري أيضاً من خلال نقطتين، النقطة الأولى خريطة المعارضة المسلّحة التي لا تقل تشرذماً عن خريطة المعارضة السياسية، وذلك مع توقف التقرير أمام بعض مكونات تلك الخريطة من قبل الجيش السوري الحرّ، وجبهة النصرة، وتنظيم لواء الأمة، وأحرار الشام، فضلاً عن آلاف المقاتلين الأجانب ذوي المنحى التكفيري الذين تستقطبهم الدعوات إلى «الجهاد» في سبيل إقامة دولة الخلافة في سورية. والنقطة الثانية عن تطور الصراع المسلّح وتوازن القوى بين الجيش العربي السوري من جهة والفصائل السورية (وغير السورية) المسلّحة من جهة أخرى، حيث يرصد التقرير تغير التوازن على الأرض لصالح الجيش النظامي بعد التقدّم الذي سبق أن أحرزته الفصائل المسلّحة وأدى إلى استيلائها على مواقع استراتيجية واصابتها أهدافاً حيوية داخل معاقل أمن النظام. ويحلل أسباب هذا التغير ويعزوه إلى تغير الاستراتيجية العسكرية للقوات النظامية، ودخول قوى عسكرية أخرى داعمة للجيش في حروب المدن وحروب العصابات الطاغية على الأوضاع القتالية في سورية، وبخاصة قوات حزب الله، واللجان الشعبية التي ساعد النظام وحلفاؤه على تنظيمها في الفترة الأخيرة.

ثمّ ينتقل التقرير بعد ذلك ليناقش جدلية الحسم العسكري/التسوية السياسية التي فرضت نفسها على أطراف الصراع فضلاً عن القوى الإقليمية والدولية ذات الصلة، ويرصد في هذا الخصوص أهم جهود التسوية التي قامت بها جامعة الدول العربية والعقبات التي اعترضتها، ثمّ يعرج على خطّة كوفي أنان بنقاطها الست وعلى مؤتمر جنيف 1 وآفاق عقد جنيف 2 في ضوء التفاهم الأمريكي ـ الروسي على أنه لا حلّ عسكرياً للقضية السورية. لكن مجموعة عوامل لا تزال تعيق تحقيق الانطلاق في خيار التسوية السياسية للصراع في سورية، أبرزها تخبُّط السياسة الأمريكية وعدم استقرارها على رؤية واضحة تجاه سورية وغيرها من ملفات المنطقة، ثم موقف بعض القوى الإقليمية، المصرة على دعم تدفق السلاح والمقاتلين الأجانب وبعض الفصائل التكفيرية، الذين تقع أي تسوية سياسية للصراع خارج أجندتهم «الجهادية».

ـ 7 ـ 

ويعنى الجزء السابع من التقرير بمناقشة القضية العراقية، وذلك من خلال نقاط ثلاث رئيسة. تهتم النقطة الأولى بتحليل الوضع السياسي وترصد اندلاع ثلاث أزمات سياسية هزت شرعية الحكومة العراقية وعززتها تظاهرات الربيع العراقي التي اندلعت في بعض المحافظات. كانت أولى الأزمات تتعلّق بشرعية الحكومة في ضوء الجدل الذي دار حول تشكيل المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية، وتلويح القوى المعارضة بسحب الثقة من المالكي نتيجة استهدافه المباشر قيادات القائمة العراقية، ويعتبر التقرير أن طرح قضية شرعية الحكومة على هذا النحو يثير الاستفهام حول آفاق منطق الشراكة الذي وضعته الولايات المتحدة خصوصاً مع التحوّل في موقف الأكراد من الحكومة.

وكانت الأزمة الثانية تتعلّق بتزايد أهمية قوى الشارع معبراً عنها بتزايد وتيرة الحركات الاحتجاجية، وهو ما واجهته حكومة المالكي بجملة من السياسات أثرت في توقيت انتخابات المحافظات. ومن جانب آخر، حرص المالكي على تشويه المتظاهرين وألقى بمسؤولية حراكهم على مجلس النواب الذي تخلف عن تلبية المطالب الشعبية. وفي إطار التعامل مع التظاهرات الاحتجاجية، يميز التقرير بين ما قبل الهجوم على متظاهري الحويجة وما بعده كونه اتسم بالعنف المفرط وأعاد قضية الأقاليم إلى بؤرة الحوار الوطني.

الأزمة الثالثة ترتبط بمسألة الأقاليم التي تدخل في إطار فكرة أعم تتعلّق بحدود فدرالية الدولة العراقية وتحول المحافظات إلى أقاليم استناداً للمادة 115 من الدستور العراقي. فمن جهة أدى شعور «السنّة» بالتهميش واستياؤهم من تعاطي المالكي مع تظاهراتهم الاحتجاجية إلى إثارة بعضهم فكرة تشكيل إقليم يجمع المحافظات السنّية على شاكلة إقليم كردستان؛ وهو مطلب ما لبثوا أن تخلوا عنه لاحقاً، بعد صدور قانون المحافظات الجديد وإعطاء صلاحيات أمنية للمحافظات. ومن جهة أخرى دفعت مخاوف الأكراد من الانتقاص من امتيازاتهم ومن موقف المالكي من المناطق المتنازع عليها، دفعت بهم إلى التهديد بإعلان تقرير المصير والانفصال الفعلي عن العراق.

أما النقطة الثانية من الجزء السابع فتحلل الوضع الأمني وتصفه بالهشاشة خلال الفترة التي يغطيها التقرير، ويربط التقرير تدني مستوى الأمن باستمرار القصور الهيكلي ومحور الخلاف السياسي على إدارة الدولة، ويرى أن استعادة الأمن تتوقف على ثلاثة متغيرات، أولها رفع كفاءة القوات العراقية، وثانيها مواجهة مشكلة الجماعات المسلّحة السنية منها والشيعية، وثالثها إيجاد حلّ لمشكلة دمج الصحوات.

النقطة الثالثة تتعلّق بتأثير الثورات العربية في علاقات العراق الإقليمية، وهنا يناقش التقرير أثر انعكاس الأزمة السورية في التطور في علاقة المالكي مع القوى السياسية الأخرى، وكذلك أثر تطور موقف العراق من الأزمة السورية في علاقاته مع بلدان مجلس التعاون الخليجي. هذا من جهة. ومن جهة أخرى يناقش التقرير أثر التنافس التركي ـ الإيراني في النفوذ (الاقتصادي أساساً) في العراق ومدى تأثر هذا التنافس نفسه بموقفي الدولتين من الأزمة السورية. وبناء على هذا التحليل يختتم الجزء السابع استشرافه للمستقبل بالقول إن تطورات الأوضاع السورية هي التي ستحدد بدرجة كبيرة مستوى الاستقرار السياسي والأمن في العراق خلال الفترة المقبلة.

ـ 8 ـ 

يسلط الجزء الثامن من التقرير الضوء على السودان، ويحلل واقعه في مرحلة ما بعد انفصال الجنوب من خلال خمسة محاور أساسية. المحور الأوّل عن الأوضاع الداخلية وتمسك النظام بالاستئثار بالسلطة بدلاً من السعي إلى تمتين الجبهة الداخلية من خلال وفاق وطني. ومثل هذا الاستئثار هو المسؤول عن إفشال مختلف دعوات الحوار، كما أنه المسؤول عن زيادة اعتماد النظام على جهاز الأمن الذي نجح في اختراق أحزاب المعارضة، وإن ظلت الأوساط الطلابية والشبابية عصية على هذا الاختراق.

والمحور الثاني خاص بالدستور. ولم تكن أزمة وضع دستور جديد للبلاد بعد انتهاء صلاحية الدستور الانتقالي لعام 2005، لم تكن بعيدة من مثيلاتها في البلدان العربية الأخرى. ففي حين رفضت قوى الإجماع الوطني المعارضة دعوة الرئيس عمر البشير للتشاور حول وضع دستور جديد على أساس عدم فعالية مثل هذا الاجتماع التشاوري، لبّى الدعوة أكثر من سبعين فرداً يمثلون أحزاباً وتنظيمات مختلفة. وعلى صعيد ثالث أقدمت جبهة الدستور الإسلامي المشكلة من عشر جماعات إسلامية على الدعوة إلى وضع دستور يستند إلى الشريعة الإسلامية بالمطلق، وكان من المفارقة أن تلك الجبهة تلقت نقداً لاذعاً من حزب حسن الترابي، أي حزب المؤتمر الشعبي.

أما المحور الثالث فقد اختص ببؤر النزاعات المسلّحة حيث يشير التقرير إلى استمرار أزمة دارفور كبؤرة متفجرة يتأصل فيها العنف ويتجذر وتتعدد أشكاله على الرغم من تراجع وتيرة الحرب فيها. فعلى الرغم من مرور أكثر من عام على الجدول الزمني لتنفيذ اتفاق دارفور إلا أن التنفيذ لم يتجاوز 50 بالمئة من بنودها، ويعزو بعض المحللين هذا التلكؤ إلى أن البشير يرى الحلّ في استمرار الحرب بهدف إضعاف الحركات المسلّحة.

وانصب المحور الرابع على الأزمة الاقتصادية بمؤشراتها المختلفة من ارتفاع أسعار وتضخم، في الوقت الذي تتناقص موارد الدولة بفعل خسارة احتياطيات النفط نتيجة الانفصال. ويتطرق هذا المحور إلى سياسة الحكومة في الاقتراض من الخارج بما يفرضه ذلك من أعباء على الأجيال المقبلة، وفي الحالة السودانية كما في الحالة المصرية تمّ تطويع رفض الاقتراض الربوي لقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، ووقع اتفاق قرض بقيمة 1.5 مليار دولار من بنك صيني بضمان شركة البترول الوطنية الصينية.

أما المحور الخامس والأخير فيتعلق بالعلاقات الخارجية للنظام السوداني، وهي العلاقات التي تميزت بوجه عام بعدم الودية مع المجتمع الدولي.

ـ 9 ـ 

أخيراً يأتي الجزء التاسع من التقرير عن التداعيات الاقتصادية للربيع العربي، وهو موضوع تتم مناقشته من خلال عدة زوايا أساسية: الزاوية الأولى عن النمو الإجمالي للاقتصادات العربية، حيث يشير التقرير إلى تراجع الإنتاج والاستثمارات الأجنبية في بلدان الثورات العربية بفعل تقلباتها السياسية. ومع أن بلداناً أخرى لم تشهد تلك الثورات إلا أن اقتصادها لم يكن أقل تراجعاً بفعل ارتباطها بالاقتصاد الأوروبي. وبذلك تكون البلدان النفطية وحدها هي التي سجلت معدلات نمو مرتفعة.

والزاوية الثانية تخص الهيكل القطاعي، حيث يتبين أن الصناعات الاستخراجية عززت مساهمتها في الناتج الداخلي بفعل ارتفاع أسعار النفط، فيما تراجعت معظم القطاعات الإنتاجية بشكل ملموس، ويلاحظ أن ما سبق يرتبط بدور الريع في الاقتصاد العربي، هو الدور الذي يفصل فيه التقرير.

والزاوية الثالثة هي المتعلّقة بمعدلات البطالة التي بلغت في المتوسط 16 بالمئة في عام 2011 وهو ما يمثل 6 بالمئة من عدد العاطلين من العمل على مستوى العالم، ويرجع ذلك إلى تأثير الاحتجاجات الشعبية والتقلبات السياسية. ومع أن ثمة إجراءات للحدّ من البطالة ولا سيّما في الدول الخليجية إلا أنها تظل محدودة الأثر. واتصالاً بهذه الظاهرة يعرج التقرير على توزيع الأيدي العاملة على البلدان العربية، ويتوقف أمام عمالة الأطفال ومستوى تشغيل النساء.

أما الزاوية الرابعة الخاصة بتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، فإنه مع اختلاف حجم التدفق من بلد عربي إلى آخر، لكن بوجه عام انخفض معدل التدفق في عام 2011 مقارنة بعام 2010 بواقع 37.4 بالمئة، علماً أن الولايات المتحدة كانت المستثمر الأجنبي الأكبر.

وعلى الرغم من المؤشرات السابقة كافة التي من شأنها زيادة حدة الفقر في البلدان العربية، إلا أن بعض التقارير تفيد أن البلدان العربية تعمل على خفض نسبة اللامساواة في توزيع الدخل مع تمايزات بين بلد وآخر في هذا الخصوص.

 

قد يهمكم أيضاً  الاستقرار الدولي والأمن الإنساني في عام 2017