شهد العقد الماضي تدهوراً ملحوظاً للأمن العالمي؛ فارتفع عدد النزاعات المسلحّة‏[1]؛ ووقع عنف متمادٍ وصادم في أنحاء واسعة من الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا. ومثّل ضمّ روسيا للقرم في عام 2014 ودعم القوى الانفصالية في شرق أوكرانيا نقطة خلاف محورية وسط جوّ عامّ يعمّق المواجهة بين روسيا والغرب. وازدادت عمليات النقل الدولي للأسلحة الرئيسة، واستقرّ الإنفاق العسكري العالمي عند قمّة عالية – فوق المستوى الذي بلغته إبان السنين الأخيرة للحرب الباردة‏[2]. كما ارتفع عدد الدول الحائزة أسلحة نووية، رغم استمرار انخفاض عدد الرؤوس الحربية النووية المنتشرة‏[3]. غير أن التدابير التي حقّقت هذه الانخفاضات تتعرّض للخطر.

علّقت الفصول التمهيدية في الإصدارين الأخيرين من كتاب سيبري السنوي على تراجع ظروف الاستقرار الدولي والأمن الإنساني في عامَي 2015 و2016‏[4]. وعلى الرغم من تكاثر النزاعات والحوادث العنيفة في كثير من الشرق الأوسط وأنحاء من أفريقيا وجنوب آسيا، فإن إطار المؤسسات الدولية المتعدّدة الأطراف واصل أداءه الجيّد، فأنتج خطة التنمية المستدامة لعام 2030 واتفاق باريس بشأن تغيّر المناخ في عام 2015‏[5]. وفي عام 2016، استمرّ تراجع العديد من مؤشّرات السلام والأمن، رغم تقدّم العمل لتنفيذ هذين الاتفاقين العالميين، إذ ارتفع الإنفاق العسكري وعمليات نقل الأسلحة والنزاع العنيف. وأثارت هذه التطوّرات أسئلة محرجة مثل، هل انعكست المكاسب في العلاقات السلمية منذ نهاية الحرب الباردة؟ وهل الهيكل الأمني الدولي متين؟ وهل يمكن أن يعرقل التنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى إدارة مخاطر النزاع المتزايدة‏[6]؟ ومن مصادر عدم القدرة على التوقّع الأخرى المحتملة في نهاية عام 2016 أثر الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب.

وفي عام 2017، استمرّت أسئلة السنة الماضية المحرجة من دون الحصول على إجابات حاسمة. فمع أن بعض المخاطر على الاستقرار العالمي والأمن الإنساني اشتدّت، فإن مخاطر أخرى تدار إدارة فعّالة. ولتقديم عرض عامّ لهذا المجال، تنظر هذه المقدّمة في تطوّرات الاستقرار العالمي، مركّزة على تحديد الأسلحة، بما في ذلك معاهدة حظر الأسلحة النووية لعام 2017. وتناقش بعد ذلك التوتّرات بين القوى الكبرى، ثم تستعرض بعض مسائل الأمن الإنساني الأشدّ إلحاحاً في العالم – مركّزة على العنف، وانعدام الأمن الغذائي، وتغيّر المناخ. وتختتم ببعض التأمّلات بشأن آفاق المؤسسات الدولية.

I الأسلحة النووية في السياسة الدولية

تحديد الأسلحة النووية

في أثناء الحرب الباردة، كانت مفاوضات تحديد الأسلحة النووية سمة رئيسة من سمات الانفراج السوفياتي الأمريكي. وعندما تدهورت العلاقات، تعثّر تحديد الأسلحة وأصبح أمراً مثيراً للانزعاج. لكن مع حدوث التغيّر في الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، أحدث تحديد الأسلحة وخفضها تغيّراً جذرياً في الساحة الدولية. على الجبهة النووية، شكّلت معاهدتان بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة قدوة تحتذى: معاهدة إزالة القذائف ذات المدى المتوسط والأقصر لعام 1987 (معاهدة إزالة القوات النووية المتوسطة المدى) أزالت كل القذائف النووية والتقليدية التي تنطلق من البرّ (وقاذفاتها) من أي مدى بين 500 و5500 كم‏[7]. ومعاهدة خفض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية والحدّ منها لعام 1991 (ستارت 1) خفّضت مخزون كل جانب إلى 6000 رأس حربي نووي استراتيجي على 1600 مركبة إيصال كحدٍ أقصى (طائرات قاذفة وقذائف). وجاءت مزيد من التخفيضات بموجب المبادرات النووية الرئاسية في أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 1991 التي أجرت خفضاً كبيراً لعدد الأسلحة النووية التكتيكية (المستعملة في ساحة المعركة) لدى الجانبين‏[8]. واستغرقت المفاوضات بشأن معاهدة متابعة عقدين من الزمن تقريباً. وعندما انسحبت الولايات المتحدة من معاهدة الحدّ من منظومات القذائف المضادة للقذائف البالستية لعام 1972، وهي من أوائل إنجازات تحديد الأسلحة النووية السوفياتية الأمريكية، جاء الردّ الروسي هادئاً، ربما بسبب معاهدة خفض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية (سورت، معاهدة موسكو) التي اتفق عليها في السنة نفسها‏[9]. ففي عام 2010، وقّعت روسيا والولايات المتحدة المعاهدة المتعلقة بالمزيد من خفض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية والحدّ منها (ستارت الجديدة)، التي تحدّد لكل جانب 1550 رأساً حربياً نووياً منتشرة على 700 نظام إيصال استراتيجي. وعلى العموم، انخفض عدد الأسلحة النووية في العالم من 65,000 – 70,000 في ذروته في أواسط ثمانينيات القرن العشرين إلى 14,470 في نهاية عام 2017.

وكان تحديد الأسلحة التقليدية كبيراً بالقدر نفسه. فقد حدّدت معاهدة القوات المسلّحة التقليدية في أوروبا لعام 1990 مستويات قصوى متساوية لعدد الأسلحة الثقيلة المنتشر بين المحيط الأطلسي وجبال الأورال لدى الأعضاء في منظمة معاهدة شمال الأطلسي (حلف الناتو) ومنظمة معاهدة وارسو (حلف وارسو) في ذلك الوقت‏[10]. وظلّت حدود هذه المعاهدة تطبّق على الدول الأخيرة، حتى بعدما تفكّك حلف وارسو نفسه وانضمّ عدد من أعضائه إلى حلف الناتو.

ومن المعالم البارزة الأخرى لتحديد الأسلحة في تلك الفترة اتفاقية الأسلحة الكيميائية لعام 1993، ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية لعام 1996، واتفاقية حظر الألغام المضادّة للأفراد لعام 1997، وفي وقت لاحق اتفاقية الذخائر العنقودية لعام 2008، ومعاهدة تجارة الأسلحة لعام‏[11].

المشهد مختلف كثيراً اليوم. لم تصبح معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية نافذة‏[12]. وتتهم روسيا والولايات المتحدة إحداهما الأخرى بانتهاك معاهدة القوات المسلّحة التقليدية في أوروبا، وعلى الرغم من تنفيذ معاهدة ستارت الجديدة، فإنها تنتهي في شباط/فبراير 2021، وليس هناك محادثات اليوم بشأن تمديدها أو استبدالها‏[13].

الأفق ملبّد أيضاً في حالة الأسلحة التقليدية. فقد علّقت روسيا مشاركتها في معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا في عملية ممتدّة انتهت في عام 2015‏[14]. ويستند جوهر الحجّة الروسية إلى أن توسيع حلف الناتو عنى فقدان التساوي في السقوف الأصلية. وعلى الرغم من الجهود المتكرّرة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فإنه لم يحدث تقدّم في تدابير بناء الثقة والأمن ولم تُجرَ إلا قليل من المحادثات الفاعلة بشأنها.

جاء ما يعدّه البعض أكبر فشل مؤخّراً وأكبر نجاح مؤخّراً في تحديد الأسلحة خارج نطاق ساحة المفاوضات العادية. فمن ناحية، انضمّت جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية (كوريا الشمالية) إلى صفوف الدول الحائزة أسلحة نووية، على الرغم من الجهود الدولية الكبرى لمنع ذلك. ومن ناحية أخرى، تعدّ خطة العمل الشاملة المشتركة التي اتفق عليها مع إيران ناجحة، حتى الآن، مع أنها تتعرّض للضغط.

على الرغم من الجزاءات التي فرضتها تسعة قرارات لمجلس الأمن الدولي، فإن برامج تطوير القذائف البالستية والأسلحة النووية الكورية الشمالية أحبطت مسعى دولياً رئيساً لمنع الانتشار‏[15]. وربما تمتلك كوريا الشمالية ترسانة من 10 إلى 20 رأساً حربياً نووياً يمكن نشرها، والقدرة على ضرب القوى الإقليمية بقذائف بالستية‏[16]. وتشير كل الأدلة إلى أنها تتطلّع إلى امتلاك قذائف نووية بالستية قادرة على ضرب أهداف في الولايات المتحدة، وستمتلكها. وبعد أن وصلت كوريا الشمالية إلى هذا المركز، قدّمت بعض التلميحات إلى رغبتها في الانخراط في دبلوماسية موضوعية بشأن المسائل الأمنية في أثناء زيارة قام بها وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية، جفري فلتمان، إلى بيونغيانغ في كانون الأول/ديسمبر 2017‏[17]. وفي 1 كانون الثاني/يناير 2018، قدّم الزعيم الكوري الشمالي، كيم يونغ أون، عروضاً دبلوماسية إلى جمهورية كوريا (كوريا الجنوبية) في خطاب ذكر فيه صراحة أنه يتحدّث الآن من موقع قوة وأمن‏[18]. واقترح أن تتخذ الدولتان خطوات لتخفيف المواجهة في شبه الجزيرة الكورية وتحسين العلاقات بينهما.

خلافاً لكوريا الشمالية، لم تعترف إيران بأنها تمتلك برنامجاً لتطوير الأسلحة النووية ولم يثبت أنها تمتلك هذا البرنامج. مع ذلك، يمكن اعتبار خطة العمل الشاملة المشتركة تدبيراً لتحديد الأسلحة؛ فإضافة إلى تقييد برنامج إيران لتخصيب اليورانيوم والمسار المحتمل نحو الأسلحة النووية حتى عام 2030، أدخلت الخطة مزيداً من تدابير المراقبة والشفافية التي يستمرّ العمل بها بعد وقت طويل من ذلك التاريخ‏[19]. وعلى الرغم من نجاح تنفيذ الخطة حتى الآن، فقد خضعت لضغط من الولايات المتحدة منذ بداية عام 2018. وهدّد الرئيس ترامب بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق ما لم تُصحّح ما أسماها «عيوب» الاتفاق – ولا سيّما أن خطة العمل الشاملة غير دائمة ولا تشمل البرنامج الإيراني للقذائف البالستية‏[20]. بينما رفضت إيران إدخال أي تغيير على الخطة‏[21]. ربما يبدو من المفارقة أنه بينما يعدّ تحديد الأسلحة أداة ضعيفة نسبياً لتعزيز الأمن العالمي، فإن أحد أطراف خطة العمل يقوّض واحداً من إنجازاتها لأسباب خارجة عنها.

«حظر» الأسلحة النووية: لحظة حاسمة أو تشتيت للانتباه؟

على الرغم من الانخفاضات بعد الحرب الباردة في مخزون الأسلحة النووية العالمي، فإن نفاد الصبر من احتفاظ عدد من الدول بالأسلحة النووية واستمرار بروز هذه الأسلحة في العقائد العسكرية ينمو باطّراد منذ ما يزيد على عقد من الزمن في أوساط كثير من الدول غير الحائزة أسلحة نووية. وثمة مقايضة مهمّة ذات أهمية مركزية في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لعام 1968: في حين وافقت الدول غير الحائزة أسلحة نووية على عدم السعي للحصول على أسلحة نووية، فإن الدول الحائزة تلك الأسلحة وافقت بموجب المادة السادسة على اتخاذ إجراءات للتخلّص من أسلحتها النووية‏[22]. غير أن الخفوض الكبرى في الترسانتين الروسية والأمريكية لم تفضِ إلى علامات على الاستعداد للتخلّص التامّ من الأسلحة النووية، باستثناء خطابات بين الحين والآخر، كخطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في براغ في عام 2009‏[23]. وكرّر الرئيس ترامب باقتضاب الإعراب عن الحلم بعالم خالٍ من الأسلحة النووية، لكنه في غضون ذلك، مثله مثل سلفه في البيت الأبيض وزعماء الدول الأخرى الحائزة أسلحة نووية، اختار استمرار المشاركة بنشاط في تطوير الأسلحة النووية‏[24]. وتقوم كل الدول الحائزة أسلحة نووية بتحديث أسلحتها النووية ومنظومات إيصالها والبنى التحتية ذات الصلة، إضافة إلى تطوير منظومات أسلحة جديدة أو نشرها‏[25].

بدا إحباط الدول غير الحائزة أسلحة نووية من استمرار حيازة الأسلحة النووية واضحاً في مؤتمر استعراض معاهدة عدم الانتشار في عام 2015. فقد برزت انقسامات حادّة بشأن نزع الأسلحة. وكان من قضايا الخلاف الرئيسة عدم تنفيذ الخطة التي اتفق عليها في مؤتمر الاستعراض في عام 2010 بشأن عقد مؤتمر لإقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. وفي بعض الحالات، كانت الانقسامات بين الدول الحائزة أسلحة نووية (إلى جانب حلفائها) والدول غير الحائزة أسلحة نووية حادّة جداً بحيث يمكن أن يصبح مؤتمر المراجعة المقبل في عام 2020 لحظة حرجة لمعاهدة عدم الانتشار.

ومع أن أزمة معاهدة عدم الانتشار التي تتفاقم ببطء ربما لا تكون ظاهرة لمعظم غير الخبراء، فإن المخاوف العامّة ارتفعت في السنوات الأخيرة بسبب تزايد بروز المخاطر النووية. وفي تعبير رمزي عن إدراك المخاطر العالمية، قدّمت نشرة علماء الذرّة (Bulletin of the Atomic Scientists) عقارب ساعة يوم القيامة «دقيقتين قبل منصف الليل»، وذلك هو أقرب وقت إلى منتصف الليل منذ عام 1959‏[26]. وفي حين يسترشد ذلك التقييم بقضايا تزيد على مخاطر الحرب النووية – ومن أبرزها تغيّر المناخ – ويمكن على أي حال التشكيك فيها ومناقشة دقّتها، فإنه يعكس قلقاً عاماً متزايداً في الظاهر‏[27].

يمكن القول في إطار هذه التطوّرات المجتمعة إنه ليس مفاجئاً أن يكتسب الاتجاه المعارض تأييداً متنامياً. وتكمن الخلفية في وجهة النظر الإنسانية إلى الأسلحة النووية. وفي حين أن لجنة الصليب الأحمر الدولية دعت سابقاً إلى تطبيق منظور القانون الإنساني الدولي على الأسلحة النووية، فإن هذه الفكرة ارتبطت لأول مرة بمعاهدة عدم الانتشار في مؤتمر استعراض المعاهدة في عام 2010. وأدّى ذلك إلى سلسلة من ثلاثة مؤتمرات حكومية دولية (في أوسلو في عام 2013، وفي ناياريت بالمكسيك في عام 2014، وفي فيينا في عام 2014) أبرزت العواقب الكارثية لاستخدام الأسلحة النووية ومخاطر الاستخدام غير المتعمّد. وأنتج مؤتمر فيينا أيضاً «تعهّداً إنسانياً» تبنّته النمسا يدعو إلى تعاون دولي «لملء الفجوة القانونية لحظر الأسلحة النووية وإزالتها»‏[28]. لقي هذا النهج، الذي حظي بدعم حركات المجتمع المدني، إضافة إلى العديد من الدول غير الحائزة أسلحة نووية، اهتماماً في الأمم المتحدة؛ فأنشئ فريق عمل في أواخر عام 2015 «لمناقشة التدابير المحدّدة القانونية والفعّالة، والأحكام والقواعد القانونية التي يجب إبرامها للتوصّل إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية والمحافظة عليه»‏[29]. وأنتج اتفاقاً على أن التوصّل إلى معاهدة حظر، حتى من دون الدول الحائزة أسلحة نووية، هو أفضل الطرق للمضي قدُماً‏[30]. وفي تموز/يوليو 2017، اعتمد مؤتمر الأمم المتحدة معاهدة حظر الأسلحة النووية، بتأييد أصوات 122 دولة غير حائزة الأسلحة النووية. ووقّعتها خمسون دولة يوم فتح باب توقيعها‏[31].

معاهدة حظر الأسلحة النووية هي أول معاهدة متعدّدة الأطراف تحدّد بوضوح أن حيازة الأسلحة النووية أو استخدامها، أو التهديد باستخدامها غير قانوني بموجب القانون الدولي. ومنذ وقت مبكّر في المناقشات الدولية التي أدت إلى صوغ هذه المعاهدة واعتمادها، كان الهدف تطوير أداة لوصم الأسلحة النووية تمهيداً لحظرها وإزالتها‏[32]. والمنطق وراء ذلك هو أن النجاح في وصم الأسلحة النووية سيحمل الدول في النهاية «على اتخاذ إجراء عاجل بشأن نزع الأسلحة»‏[33].

لم يكن مستغرباً أيضاً وجود معارضة كبيرة لمعاهدة حظر الأسلحة النووية والجهود المبذولة للوصم. فقد أصدرت فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بياناً مشتركاً أعلنت فيه معارضتها غير المشروطة للمعاهدة الجديدة بمجرد اعتمادها، بحجة أنها لم «تعالج المخاوف الأمنية التي تستمر في جعل الردع النووي ضرورياً»‏[34]. وكانت روسيا أيضاً واضحة في معارضتها. فوصف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بروز حركة حظر الأسلحة النووية بأنه «اتجاه خطير ومضلّل يتجاهل أهمية تقييم جميع العوامل الحالية التي تؤثّر في الاستقرار الاستراتيجي»‏[35]. وكانت الصين أقل الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي عدم تعاطف في موقفها المعلن من معاهدة حظر الأسلحة النووية، إذ امتنعت عن التصويت بدلاً من التصويت ضدّ مفاوضات المعاهدة في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ووفقاً لبيان صادر عن وزارة الخارجية الصينية في آذار/مارس 2017، فإن هدف الصين الرامي إلى «الحظر الشامل والنهائي للأسلحة النووية وتدميرها بأكملها ينسجم جوهرياً مع أهداف المفاوضات بشأن معاهدة حظر الأسلحة النووية»‏[36].

أما بشأن مؤيّدي معاهدة حظر الأسلحة النووية، فإن المعاهدة تقدّم طريقاً جديداً إلى الأمام، وربما فرصة حاسمة لبدء التقدّم ثانية نحو نزع الأسلحة النووية بأكملها. بينما يرى معارضوها أنها إلهاء لا يعالج حقائق سياسة القوة العالمية والدور الاستراتيجي للأسلحة النووية. ويرى المؤيّدون أن التزام الدول الحائزة أسلحة نووية بالحفاظ على الدور الاستراتيجي للأسلحة النووية في الاتجاه الراهن للسياسة العالمية هو المشكلة التي تحتاج إلى معالجة. في حين يعتبر معارضوها أن تلك الرؤية تُبرز ببساطة الصدام بين واقعيتهم والمثالية الساذجة التي أنجبت المعاهدة. كما أعلن عن أسباب أخرى للقلق بشأن معاهدة حظر الأسلحة النووية، وليس أقلها احتمال أن يؤدي التقيّد بها إلى تقويض فعالية معاهدة عدم الانتشار، على الرغم من أن معاهدة حظر الأسلحة النووية تعترف بمعاهدة عدم الانتشار وتدعمها، فضـلاً عن أنها تفتقر إلى الوضوح بشأن كيفية التحقق من الامتثال للمعاهدة‏[37]. غير أنه يوجد في صلب المناقشات حول قيمة معاهدة حظر الأسلحة النووية اختلافات فلسفية عميقة وقائمة منذ أمد بعيد تتعلّق بالعلاقة بين الأسلحة النووية والأمن الدولي. كما أن العديد من الناقدين النافذين لمعاهدة حظر الأسلحة النووية يرون أن الأسلحة النووية تسهم في أمنها وفي الاستقرار العالمي. وذلك صحيح لا للدول الحائزة أسلحة نووية فحسب، وإنما للدول الأخرى أيضاً التي تقيم سياساتها الأمنية على التأثير الرادع المتصوّر للأسلحة النووية التي يمتلكها حليف، مثل الدول الأعضاء في حلف الناتو التي لا تمتلك أسلحة نووية خاصة بها. في المقابل، يرى مؤيدو معاهدة حظر الأسلحة النووية خطراً يتعذّر استئصاله؛ إذ ما دامت الأسلحة النووية موجودة فإنه يمكن استخدامها، بطريقة مقصودة أو عَرَضية، ويحاجّون بأن عواقبها الوخيمة تجعل أي خطر مرتفعاً جداً.

لن تسوّى هذه القضية بالحجّة الفلسفية لصالح أي من جانبَي القضية، ولكن بالثقل السياسي. والمشكلة التي يواجهها مؤيدو معاهدة حظر الأسلحة النووية هي أنه في حين وقعت 50 دولة غير حائزة الأسلحة النووية المعاهدةَ على الفور، فإنه لم توقّعها إلا 6 دول أخرى لغاية نهاية عام 2017. وعلى الحركة التي تتطلّع إلى تحدي الوضع الراهن أن تحافظ على زخمها وإلا فإنها ربما تتلاشى. ومشكلة الدول الحائزة الأسلحة النووية، وبخاصة الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن، أنها ستظلّ أقلية على الدوام، حتى عند إدراج ​​حلفائها، في هذه القضية في كل منتدى دولي باستثناء مجلس الأمن نفسه.

ستصبح المعاهدة نافذة بعد 90 يوماً من تصديق الدولة الخمسين عليها. وبينما تتابع الدول الموقّعة عمليات التصديق الخاصة بها، وربما بينما توقّع دول إضافية، فإن الحجج الخاصة بمعاهدة حظر الأسلحة النووية ستبدأ بالارتباط بالتحضيرات لمؤتمر استعراض معاهدة عدم الانتشار في عام 2020. وقد مثّلت مؤتمرات الاستعراض السابقة مناسبة لكي تعبّر الدول غير الحائزة أسلحة نووية عن إحباطاتها ولكي تتخذ الدول الحائزة أسلحة نووية موقفاً دفاعياً ومعرقـلاً. لكن من المنعش أن يمثّل مؤتمر عام 2020 استثناءً بهذا الخصوص. فيمكن على سبيل المثال اتخاذ خطوات لزيادة خفض عدد الرؤوس النووية وتعزيز السلامة النووية. وربما يجد معارضو معاهدة حظر الأسلحة النووية ومؤيدوها أنفسهم وهم يتقاسمون على غير المتوقّع هدف حماية صكّ عدم الانتشار الرئيسي في العالم – معاهدة عدم الانتشار نفسها – من خطر التقويض، الذي يرى كل طرف أن الطرف الآخر يمثله.

II التوتّرات الدولية وديناميات القوة المتغيّرة

 

روسيا والولايات المتحدة والغرب

تشمل خلفية توقّف تحديد الأسلحة النووية منذ توقيع معاهدة ستارت الجديدة في عام 2010 تراجع العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة. وقد تطوّرت هذه المشكلة ببطء. فقبل وقت طويل من ضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، كانت إدارة أوباما تريد إعادة تصحيح العلاقات مع روسيا، التي توتّرت بعد القتال بين جورجيا وروسيا في آب/أغسطس 2008‏[38]. بل حتى قبل ذلك، كانت المصاعب تلوح في أفق تحديد الأسلحة الروسية – الأمريكية. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن روسيا تسعى للعودة إلى موقع قوة عالمية وتنظر إلى الكثير من اتفاقات تحديد الأسلحة، التي كانت تقيّدها في ذلك الوقت، بوصفها منتجات للضعف الروسي السابق. وكانت هناك أيضاً مشكلات في مجال التسلّح وتحديد الأسلحة نفسه. فعقب انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الحدّ من منظومات القذائف المضادة للقذائف البالستية في عام 2002، رأت روسيا أن قيام الولايات المتحدة بتطوير منظومات دفاعية مضادّة للقذائف يشكّل عقبة رئيسة أمام خفض الأسلحة النووية، إذ إن هذه الأنظمة ستزعزع استقرار علاقة الردع إذا أصبحت فعّالة. وأثارت روسيا هذه المخاوف ولا سيَّما منذ عام 2007، وبخاصة في ما يتعلق بمعاهدة إزالة القذائف المتوسطة والأقصر مدى، بعد الإعلان عن خطط الولايات المتحدة لإقامة دفاعات مضادّة للقذائف البالستية في أوروبا الشرقية‏[39]. وعلى الرغم من أن النقاش في الولايات المتحدة وغيرها من أعضاء حلف الناتو تركّز على الدفاع المضادّ للقذائف الإيرانية المحتملة، فإن المسؤولين الروس كرّروا أن هذا التطوّر سيضعف موقف الردع النووي الروسي. وفي عام 2008، بدأت روسيا اختبار قذائف جوّالة (كروز) تطلق من البرّ ذات نطاق محظور بموجب معاهدة إزالة القذائف المتوسطة والأقصر مدى‏[40]. وفي شباط/فبراير 2017 ذكرت وسائل الإعلام الأمريكية أن روسيا نشرت هذه القذائف الجوّالة التي تطلق من البرّ، وكرّر مسؤول أمريكي رفيع هذا الادعاء في جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي‏[41]. ليس ممكناً إثبات أن روسيا ما كانت لتطوّر قذائف جوّالة تطلق من البرّ جديدة وتختبرها في غياب القدرة الأمريكية للدفاع المضادّ للقذائف. غير أن البيانات الروسية التي تعبّر عن القلق والحاجة إلى الاستجابة كانت مستمرة وواضحة.

إن أسباب الانزعاج الناشئة عن تطوير الأسلحة والوقف الفعلي للحدّ من التسلّح لا تعدو تكون جزءاً من قصة تزايد التوتّرات بين روسيا والولايات المتحدة. ويرجع القلق من المواجهات من قرب بين القوات الروسية وقوات حلف الناتو في الجوّ والبحر إلى ما قبل عدّة سنوات‏[42]. وفي الآونة الأخيرة كانت هناك ادعاءات عن تدخّل روسيا في السياسة الداخلية الغربية، وبخاصة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2016‏[43]. غير أن ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم ومشاركتها في النزاع في شرق أوكرانيا هو الذي شكّل لحظات حاسمة في التدهور الطويل للعلاقة‏[44]. وقد أنهت هذه الأعمال أي احتمال بشأن إمكان تكامل روسيا مع الغرب على المتوسّط، مثلما حاولت أن تفعل في تسعينيات القرن العشرين. بل إن تطوّر استراتيجية روسيا الكبرى أكّد بدلاً من ذلك نهجاً يهدف إلى أن تصبح نقطة الارتكاز الجيوسياسية في أوراسيا‏[45]. وذلك يعني ضمناً أن روسيا تهدف إلى إقامة علاقة متوازنة مع الصين وأنها تقوم بدور رائد في تشكيل البيئة الاستراتيجية السياسية في جوارها، كما يظهر بصورة جلية جداً في القرار الروسي بالتدخل العسكري في سورية منذ أيلول/سبتمبر 2015‏[46]. من ناحية أخرى، تعكس استراتيجية الأمن الوطني الأمريكية، التي أعلن عنها في كانون الأول/ديسمبر 2017، قراءة مشابهة تفيد بأن محاولة التكامل مع روسيا (وكذلك مع الصين) قد فشلت على الأغلب‏[47].

تذكّر هذه التوتّرات بين روسيا والغرب بالحرب الباردة إلى حدّ ما. لكن ينبغي عدم الإفراط في عرض أوجه التشابه، إذ إن جانباً كبيراً من الأهمية الأساسية تغيّر في العقود الثلاثة منذ انتهاء تلك المواجهة. ومن الاختلافات البارزة أن العلاقة الصعبة بين روسيا ومجموعة القوى التي تقودها الولايات المتحدة ليست سوى واحدة من بين عدة مواقع مهمّة للتوتّرات الدولية في عالم السياسة المعاصر.

بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي
والتوتّرات بين الصين والهند

مكّن الجمع بين النموّ الاقتصادي والقوة العسكرية معاً الصين من اتباع سياسة دولية متزايدة القوة، في الجغرافيا السياسية الإقليمية وعلى المسرح العالمي. ولا تزال النزاعات الإقليمية التي لم تحلّ عنصراً رئيساً في علاقات الصين داخل منطقتها. ومن بين هذه النزاعات المركزية النزاعات مع العديد من دول جنوب شرق آسيا بشأن الجزر الصغيرة في بحر الصين الجنوبي ومع اليابان بشأن ثماني جزر صغيرة غير مأهولة في بحر الصين الشرقي‏[48]. وقد اشتدّت هذه النزاعات في عام 2016: رفض التحكيم الدولي ادعاءات الصين في بحر الصين الجنوبي في دعوى رفعتها الفيليبين، وأعلنت اليابان في أواخر عام 2016 أنها ستزيد عمليات انتشار بحريتها في بحر الصين الشرقي‏[49].

غير أن حدّة التوتّر في كل من هذين النزاعين خفّت إلى حدّ ما في عام 2017. وفي حزيران/يونيو، وافقت الصين واليابان على إطلاق آلية اتصال جوي وبحري لتجنّب الاشتباكات في منطقة بحر الصين الشرقي‏[50]. وعلى نحو مماثل، اتفقت رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) والصين في تشرين الثاني/نوفمبر، على بدء مفاوضات بشأن مدوّنة لقواعد السلوك خاصة بالأنشطة البحرية الإقليمية في بحر الصين الجنوبي‏[51].

في المقابل، طفت التوتّرات في العلاقة الصعبة دائماً بين الصين والهند على السطح في أواسط عام 2017، ونتج ذلك في الظاهر من قيام جيش التحرير الصيني بإنشاء طريق في المنطقة التي تطالب بها الصين وبوتان على مقربة من ولاية سيكيم الهندية‏[52]. لم يكن ذلك نزاعاً إقليمياً مباشراً بين الصين والهند، ولكن الهند نشرت وحدات عسكرية نيابة عن بوتان، البلد الوحيد المجاور الذي لا تقيم الصين علاقات دبلوماسية معه. واستمرت المواجهة أكثر من شهرين قبل أن يخرج منها الطرفان. غير أن انعدام الثقة المزمن الذي شكّل أساس تلك الأزمة الصغيرة والمحدودة احتدم ثانية في كانون الأول/ديسمبر 2017، عندما تحطّمت مركبة جوية هندية بلا طيار في الجانب الصيني من الحدود الصينية الهندية مقابل سيكيم‏[53].

احتدام النزاع الهندي – الباكستاني بشأن كشمير

للهند علاقات أكثر اضطراباً مع باكستان. وشكّلت هذه المواجهة التي لم تحلّ – وتخلّلتها أربع حروب وعدد من الاشتباكات الصغيرة – مسألة حاسمة في جنوب آسيا‏[54]. يقع هذا النزاع الإقليمي المستمرّ بشأن كشمير، الذي لم يسوَّ البتة منذ استقلال البلدين في عام 1947، في صميم هذه التوتّرات. فقد اندلعت اشتباكات متعدّدة على خط المراقبة وأوقعت إصابات في كلا الجانبين منذ نزاع كارغيل في عام 1999، رغم وقف إطلاق النار المتفق عليه في عام 2003‏[55]. وفي عام 2017، قُتل ما يزيد على 200 متشدّد، ونحو 80 من أفراد الأمن، وما لا يقلّ عن 57 مدنياً، ما جعلها أشدّ السنوات فتكاً في المنطقة المتنازع عليها في عشر سنين‏[56].

التنافس الجغرافي السياسي بين إيران والسعودية

تخوض إيران والسعودية صراعاً على  النفوذ، يمكن أن يصبح مزمناً، كما هي الحال في علاقات الهند مع الصين وباكستان. فكل منهما قوّة إقليمية، ويواجه أحدهما الآخر من جانبين متعارضين في النزاعات المسلحة في العراق وسورية واليمن. وتشكل نزاعاتهما أحد خطوط الانقسام الرئيسة في الشرق الأوسط، ما جعل بعض المعلّقين يصفون الوضع بأنه حرب باردة إقليمية جديدة‏[57]. وغالباً ما يفسّر التنافس بينهما بأنه نتاج الصراع بين السنّة والشيعة في الإسلام. فللدين دور سياسي حاسم في كلتا الدولتين: الدستور الإيراني يحرص على أن يكون المرشد الأعلى عالماً مسلماً شيعياً، في حين أن للعائلة المالكة في السعودية علاقة طويلة ووثيقة مع التفسير الوهّابي للإسلام السنّي، كما أن المملكة تقوم بخدمة الحرم في مكة. وفي حين أن للعنصر الديني أهمّيته، فإن المنافسة الإيرانية – السعودية الصريحة على القوة الإقليمية لا تقلّ أهمّية، حيث تحدّد الأهداف الاستراتيجية لكل دولة بتفسيرها لمصالحها الوطنية. وللخصائص التاريخية والوطنية لهذه العلاقة أهمّية مماثلة لأنها مسألة بين العرب والفرس بقدر ما هي بين الإسلام السني والإسلام الشيعي.

تشمل مصالح إيران الاستراتيجية في المنطقة دعم احتفاظ الرئيس بشار الأسد بالسلطة في سورية، وتقوية حلفائها في العراق والمحافظة على وحدة أراضي البلد بمعارضة التطلّعات الكردية للاستقلال، ومساندة حزب الله في لبنان، ومساعدة الحوثيين في اليمن. ويعدّ الحرس الثوري الإسلامي الجهة الرئيسة لدعم هذه الأهداف الاستراتيجية التي تسعى إيران لتحقيقها من طريق تقديم المساعدات العسكرية وتجنيد المقاتلين في صفوف الميليشيات الشيعية في العراق وسورية‏[58].

وتسعى السعودية إلى منع تحقيق مزيد من المكاسب في النفوذ الإيراني وتعزيز نفوذها بمساعدة من حلفائها في المنطقة، ولا سيَّما دولة الإمارات العربية المتحدة، وبدعم من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وإسرائيل، بصورة أقل وضوحاً. وقد أدى ذلك إلى سلسلة من المعارك العسكرية والدبلوماسية في المنطقة – في العراق ولبنان وسورية واليمن، ومع قطر – التي تحرّض إيران والسعودية إحداهما على الأخرى. وعندما قطعت المملكة ودولة الإمارات والبحرين العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع قطر لدعمها المزعوم للجماعات الإرهابية، كانت إيران من بين البلدان التي تقدمت لدعمها والاستفادة من تعزيز التجارة معها‏[59].

وفي سورية، تدعم إيران نظام الأسد، في حين تحاول المملكة تقويضه؛ وفي اليمن، تدعم المملكة الحكومة، بينما بدأت إيران بتزويد المتمرّدين ببعض الأسلحة. وعلى الرغم من أن القوات الإيرانية والسعودية لم تقاتل بعضها بعضاً مباشرة، فإن كـلاً منهما قاتل قوات يدعمها الطرف الآخر، كما قاتل وكلاؤهما بعضهم بعضاً. ولم يؤدّ انخراطهما في نزاعات المنطقة إلى حل سلمي لأي منها، على الرغم من النيات المعلنة.

التوتّرات داخل حلف الناتو مع تركيا

إلى جانب التوتّرات بين ثنائيات البلدان المتنافسة أو داخل مناطق جغرافية محددة، ثمة صورة كبيرة لتغيّر العلاقات الجيوسياسية والجيواستراتيجية وديناميات القوى. ولا يفيد النموذج العالمي الثنائي القطب لعصر الحرب الباردة ولا النموذج الأحادي القطب في العقد الأول تقريباً بعد نهاية الحرب الباردة، في تفسير ما يحدث الآن. وفي حين أنه من الواضح أن التغيير قادم، فإن ما ستكون عليه النتيجة غير واضح. وفي ضوء ذلك، قد يكون لتزايد الصعوبات في العلاقة بين معظم أعضاء حلف الناتو وتركيا أهمية على المدى الطويل لا تقلّ عن التحولات في العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة وفي توازن القوى بين الصين والولايات المتحدة.

ليس جديداً أن مكان تركيا في حلف شمال الأطلسي غير مريح في الغالب، على الرغم من أنها دولة عضو منذ أكثر من سبعة عقود وحصن استراتيجي في الجبهة الجنوبية الشرقية للتحالف. على سبيل المثال، شكّلت النزاعات بين اليونان وتركيا بشأن قبرص وبحر إيجة جزءاً من السياسة داخل حلف الناتو منذ انضمامها إلى الحلف في عام 1952. وعلى نطاق أوسع، واجهت علاقة تركيا المعقّدة بالدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي، نتيجة التحامل المعادي لتركيا في بعض الأوساط السياسية الأوروبية، مزيداً من الصعوبات بسبب الحكم العسكري المباشر في الفترتين الممتدَّتين بين عامَي 1960 – 1965 وعامَي 1980 – 1983 والسيطرة العسكرية على السياسة في أعوام 1971 – 1973 و1997. أثارت تلك الفترات مخاوف بشأن حقوق الإنسان التي عادت إلى الظهور مع محاولة الانقلاب العسكري على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تموز/يوليو 2016، ولا سيَّما ردّ فعل الحكومة عليها. فعقب محاولة الانقلاب، طُردت أعداد كبيرة من الموظفين الحكوميين، بمن فيهم كثير من الضباط العسكريين. ويقدّر أن ما بين 110,000 و150,000 موظف حكومي طردوا وأن ما بين 36,000 و50,000 شخص اعتُقلوا، ودخلت عام 2018 بينما لا يزال عدد كبير من المحاكمات مستمراً‏[60]. ومع أن منتقدي الحكومة التركية عبّروا عن مخاوفهم من المساس بالحريات، فإن مخاوف مؤيديها تشمل استمرار إقامة فتح الله غولن، العقل المدبر المزعوم للانقلاب، في الولايات المتحدة‏[61]. وظهرت على السطح في وقت مبكر شكوك بشأن تورّط الولايات المتحدة في ما وصفته تركيا باستمرار بأنه «انقلاب غولني»، ولا يبدو البتة أنها اختفت‏[62]. وظهرت مخاوف كثيرة في عام 2017 بشأن التغييرات الدستورية لمنح الرئاسة التركية سلطات أكبر‏[63].

ثمة تطوّران آخران حديثان وتّرا العلاقات بين تركيا وحلفائها في الناتو: التطوّر المتعلّق بسورية والتطوّر المتعلّق بروسيا.

أولاً، كانت إطاحة الرئيس الأسد هدفاً استراتيجياً وسياسياً لتركيا في سورية، على مدى خمس سنوات منذ عام 2011. وفي عام 2016، تحوّلت أهداف تركيا وضاق نطاق اهتمامها، وأصبحت تهدف إلى: تأمين حدودها؛ وضمان استمرار نفوذها داخل سورية؛ ومواجهة حزب العمال الكردستاني ومنظماته الشقيقة في شمال سورية، وحزب الاتحاد الديمقراطي، ووحدات حماية الشعب؛ وإلحاق الهزيمة بالجماعة التي تسمى الدولة الإسلامية. عنى هذا التحوّل بالضرورة أن تركيا أخذت تنأى بنفسها عن الأهداف الاستراتيجية الأمريكية وعملياتها في سورية. وتفاقم الانشقاق الذي أحدثه هذا التحوّل عندما انضمت تركيا إلى إيران وروسيا في عقد مؤتمر في أستانا بكازاخستان في أواخر عام 2016. نتج من المؤتمر وقف لإطلاق النار في سورية وهُمّشت، في إطار هذه العملية، مساعي صنع السلام الدبلوماسية الأمريكية‏[64]. واستمرّت محادثات أستانا على مدى عام 2017؛ ومع أن إنتاجيتها تراجعت، فقد بعثت على ما يكفي من التفاؤل لاجتذاب الأمم المتحدة إلى المشاركة فيها‏[65]. ظلّت الولايات المتحدة خارج العملية. وفي آب/أغسطس 2016 شنّت تركيا هجمات في شمال تركيا على الدولة الإسلامية والجماعات الكردية‏[66]. ومع أن الولايات كانت تستهدف الدولة الإسلامية أيضاً، فإنها كانت في الوقت نفسه تدعم القوات الكردية التي تعرّضت للهجوم التركي.

ثانياً، بينما كانت علاقة تركيا مع الولايات المتحدة تتدهور في سورية، وقّعت تركيا اتفاقاً مع روسيا لشراء منظومة قذائف سطح جوّ إس 400 الدفاعية‏[67]. ومع تزايد التوتّر بين حلف الناتو وروسيا، يسود قلق في حلف الناتو مما يمكن تفسيره بأنه مسعى تقوم بهم الحكومة التركية للوقوف على جانبي الخط الفاصل. وهناك أيضاً المسألة التقنية التي لا تقلّ أهمية، وهي أن النظام الروسي غير قابل للتشغيل المتبادل مع أنظمة حلف الناتو التي يجري تطويرها حالياً‏[68]. وبينما تطلب تركيا منظومة قذائف سطح جوّ جديدة من روسيا، فإنها تحتفظ بطلبها مقاتلات إف 35 ومنظومات أسلحة أخرى من الولايات المتحدة، التي لا تزال أهمّ مورّدي الأسلحة إلى تركيا من دون منافس‏[69]. كما أن تركيا من بلدان «المشاركة النووية» في حلف الناتو: على الرغم من أنها غير حائزة أسلحة نووية، فإن هناك نحو 50 سلاحاً نووياً أمريكياً مخزوناً في قاعدة إنجرليك الجوية‏[70].

في الخلافات والنزاعات بين تركيا ومختلف حلفائها في الناتو، تغلّبت المصالح الاستراتيجية المتبادلة في التحالف على كل الاعتبارات الأخرى حتى الآن. ولا توجد أدلة كافية للاستنتاج بأن ذلك لن يكون صحيحاً بعد الآن. لكن مع حدوث تغييرات أخرى في أنماط القوة العالمية، فإن حدوث تغيير جوهري في تمركز تركيا الاستراتيجي ليس أمراً مستبعداً. وإذا أعادت التوجّه بعيداً من حلف الناتو وأوروبا والولايات المتحدة – ربما باتجاه دور أكثر تحديداً في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، مع حلفاء جدد وأولويات جديدة – فستهتزّ بعض الافتراضات الاستراتيجية الرئيسة لحلف الناتو وروسيا وبعض القوى الإقليمية في الشرق الأوسط.

III الأمن وانعدام الأمن الإنساني

نزاعات مسلّحة أكثر تعقيداً

ثمة اتجاه عام في هذا العقد حتى الآن نحو تزايد النزاعات المسلحة، مع عودة العدد كل عام إلى مستويات بداية التسعينيات عندما كانت الحرب الباردة توشك على الانتهاء‏[71]. وقد حدث بعض التقدّم؛ ففي كولومبيا على سبيل المثال، صمد اتفاق السلام لسنة 2016 رغم المخاوف في المناطق الحدودية مع الإكوادور وبيرو وفنزويلا‏[72]. واستمرّ بناء السلام أيضاً في نيبال‏[73]. لكن إجراء مسح لبعض النزاعات المسلّحة الرئيسة تكشف عن استعصائها وتكاليفها الإنسانية، التي تقع على السكان المدنيين بالدرجة الأولى‏[74]. ففي هذا العقد، تضاعف عدد وفيات المدنيين في النزاعات العنيفة، وكذلك عدد الوفيات الناجمة عن القتال، وهي تتفاقم دائماً بسبب الآثار الفتّاكة غير المباشرة للنزاع التي تتخذ صورة سوء التغذية والمجاعة، وتلوث إمدادات المياه، وانهيار الخدمات الصحية في البلدان التي تشهد نزاعات‏[75]. ويقدر مفوّض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين أن 28,300 شخص يجبرون على الفرار من ديارهم في كل يوم بسبب النزاعات العنيفة والاضطهاد. ويزيد إجمالي النازحين قسراً على 65 مليون نسمة، وشهد هذا الرقم ارتفاعاً حادّاً في السنوات الأخيرة، ناجماً عن آثار النزاعات العنيفة في المقام الأول‏[76].

يشهد الأمن الإنساني تضاؤلاً في كثير من الأماكن بسبب طبيعة النزاعات المتغيّرة والفوضوية في الغالب. وقد ارتفع عدد الجماعات المسلحة الفاعلة في كل نزاع: ارتفع المتوسّط من 8 في كل نزاع داخلي في عام 1950 إلى 14 في عام 2010‏[77]. والرقم الأخير متواضع جداً مقارنة بتكاثر الجماعات المسلّحة في بعض الحروب: حدّد في سورية أكثر من 1000 ميليشيا منفصلة، وما يصل إلى 2000 في ليبيا‏[78]. وبينما تستمرّ النزاعات، تتغيّر ولاءات هذه الميليشيات، فتقيم تحالفات انتهازية مع قوات أشدّ بأساً أو تنفصل عنها. وثمة جماعات من بينها تصدّر النزاع على نمط هجمات إرهابية. وقد سجّل مكتب الشرطة الأوروبي (يوروبول) تراجعاً بين عامَي 2014 و2016 في عدد محاولات الهجمات الإرهابية في البلدان الأوروبية (من 226 إلى 142، نفّذ ثلثها فحسب)‏[79]. ونجمت معظم الوفيات التي بلغ عددها 142 في هجمات إرهابية في دول الاتحاد الأوروبي في عام 2016 عن أعمال ارتكبتها جماعات أو أفراد يدّعون الولاء لجماعات مقاتلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولا سيّما الدولة الإسلامية‏[80].

يغلّف العنف الإجرامي أنشطة الكثير من الجماعات المسلحة في حالات متعددة. وتُظهر الدراسات عن العلاقة بين الجريمة والنزاع أن المنظمات الإجرامية والسياسية غالباً ما تشغل المجال الاستراتيجي والجغرافي نفسه، متنافسة للسيطرة عليه أحياناً، ومتعاونة في استغلاله في أحيان أخرى‏[81]. ومن الأمثلة على هذه المجالات طرق الاتجار بالمخدرات والبشر والأسلحة والممنوعات مثل التبغ؛ ومواقع التعدين اليدوية غير المشروعة أو غير المحمية؛ والمجتمعات المهمّشة؛ ومناطق في بلد، ووظائف حكومية تغيب عنها السيطرة المركزية للدولة أو تكون محدودة أو فاسدة. وفي مثل هذه الحالات، يصبح التمييز بين ما هو إجرامي وما هو سياسي مسألة تسمية تعسفية في الغالب.

القدرات الفتّاكة للعنف الإجرامي لا تقلّ عما نشهده في الحروب بين الدول. وتشير بعض التقديرات في المكسيك إلى أن جرائم القتل المرتبطة بالجريمة المنظمة تجاوزت 100,000 بين سنتي 2006 و2017؛ وعام 2006 هو الذي تولّى فيه الرئيس فيليبي كالديرون منصبه وبدأت الحكومة المكسيكية حملة كبرى على منظمات الاتجار بالمخدرات في البلد‏[82]. وبعد ارتفاع مستوى العنف بين عامَي 2007 و2011، انخفض معدل جرائم القتل إلى حدّ ما، لكن أفيد عن أنه عاود الارتفاع في عام 2014 ووصل إلى أعلى مستوى له منذ 30 عاماً في عام 2017‏[83]. ويبرز الوضع في المكسيك منذ عام 2006 لارتفاع مستوى العنف الإجرامي ونطاقه، وهو يوضح كيف يمكن أن تصبح المشكلة مدمّرة.

تضاف طبقات أخرى من التعقيد بتدويل ما يبدأ بمنزلة نزاعات داخلية بحتة في الغالب. وتزيد النزاعات المسلحة الحالية المدوّلة على الثلث، مقيسة بمشاركة قوات أجنبية في النزاع، كجهات تقاتل مباشرة أحياناً ولكن ليس دائماً‏[84]. تتأثّر أربعة من النزاعات المسلحة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تأثّراً كبيراً بمشاركة قوات أجنبية – النزاعات في العراق وليبيا وسورية واليمن. ويمكن أيضاً تدويل النزاعات بمعنى أوسع، من طريق الدعم الخارجي – السياسي أو المالي أو التقني مثل التدريب أو التزويد بالمعدات – لواحد أو أكثر من المقاتلين، كما هي الحال في مصر والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي‏[85].

وفي أفريقيا أيضاً، تنشأ النزاعات المسلحة في الظروف الداخلية للبلد، الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والبيئية على نحو متزايد، ثم تصبح مدوّلة على نحو لا يمكن إنكاره. ومن جوانب عملية التدويل في أفريقيا، قيام فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بأنشطة لمكافحة الإرهاب متوازية مع ميل بعض الجماعات المسلحة في أفريقيا إلى الانحياز إلى تنظيم القاعدة أو الدولة الإسلامية‏[86].

عندما تضطلع الجهات الخارجية بدور فاعل في النزاعات الداخلية، يتطوّر لديها في الغالب اهتمام بإطالة أمد النزاع أو التأثير في التسوية التي تضع حدّاً للعنف. وفي كل النزاعات المسلحة الراهنة تقريباً، يجب أخذ المصالح الخارجية في الحسبان بطريقة ما للتوصل إلى تسوية سلمية يمكن تطبيقها.

أثر تغيّر المناخ

ثمة منطقة شاسعة، في منطقة الساحل، تمتد من مالي وحوض بحيرة تشاد شرقاً إلى الصومال، تعاني الآن انعدام أمن مزمناً. فهناك نزاع مسلح في الكاميرون، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وشمال إثيوبيا، ومالي، وشمال نيجيريا، والصومال، وجنوب السودان. وهناك، إضافة إلى ذلك، حالات من الصراع العنيف المحلّي في أنحاء كثيرة من منطقة الساحل، في منازعات لا تنطوي على محاولة جماعة متمرّدة الاستيلاء على سلطة الدولة. تؤدّي هذه الحالات إلى حالة متوطّنة من انعدام الأمن. وفي آذار/مارس 2017، ركّز مجلس الأمن الدولي الاهتمام والسياسات الدولية على منطقة بحيرة تشاد عقب زيارة المنطقة في بداية السنة. وكان قرار مجلس الأمن بالنتيجة جديراً بالملاحظة لاعترافه بدور تغيّر المناخ إلى جانب عوامل أخرى في تفاقم انعدام الأمن البشري‏[87]. غير أن التقرير اللاحق عن المنطقة الذي كلّف الأمين العام للأمم المتحدة بوضعه لم يُشر إلى تغيّر المناخ بوصفه مسألة ذات صلة‏[88]. ويتبيّن من ذلك أنه لا يزال من الصعب إدخال المناخ والعوامل البيئية الأخرى في مناقشات السياسات والإجراءات المتعلقة بالأمن وانعدام الأمن. ومع ذلك، فإن مجموعة متزايدة من الأبحاث تُبرز أدلة على تأثير تغيّر المناخ في إحداث عدم استقرار اجتماعي وسياسي، من طريق المتغيّرات المتداخلة لانعدام الأمن الغذائي والمائي إلى حدّ كبير‏[89].

ومثلما يتفاعل تغيّر المناخ مع عوامل أخرى – كانعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية وعدم فعّالية الحكم أو عدم تحمّله المسؤولية أو فساده – لتهيئة الأوضاع للنزاع العنيف، فإنه يتفاعل مع العنف لإنتاج مزيد من الآثار المدمّرة. وبعد فترة طويلة شهد فيها الجوع في العالم تراجعاً مطَّرداً، فهو عاود الارتفاع مدفوعاً بتغيّر المناخ والنزاع. ويعاني اليوم 815 مليون شخص من جوع مزمن، أي نحو 11 بالمئة من سكان العالم‏[90]. وتتأثر بعض المناطق الأشدّ تضرّراً من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية تأثّراً حاداً بالنزاع وتغيّر المناخ. وقد ضربت المجاعة أجزاء من جنوب السودان عدّة أشهر في أوائل عام 2017. وفي حين دعت الأمم المتحدة إلى زيادة عاجلة في المساعدات الإنسانية هناك، فقد أشارت إلى أن شمال شرق نيجيريا، والصومال واليمن – وكلها مناطق متأثّرة بالنزاع – معرّضة لخطر المجاعة‏[91].

إن تبعات تغيّر المناخ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، من طريق آثاره المترتّبة على الأمن الغذائي، ليست مجرد أمور تثير القلق في المناطق التي تشهد الآثار المباشرة لتغيّر المناخ. فالأمن الغذائي العالمي يتوقّف بشكل متزايد على التجارة الدولية. وإنتاج الحبوب شديد التركّز. فمعظم القمح وفول الصويا والذرة يُزرع في ثلاث مناطق هي: الغرب الأوسط الأمريكي، ومنطقة البحر الأسود والبرازيل‏[92]. وتتضاعف المخاطر السياسية عندما تكون أسعار الغذاء متقلّبة‏[93]. على سبيل المثال، أدى ارتفاع أسعار الغذاء في مصر عام 2008 إلى أعمال شغب، وفي أوائل عام 2011 إلى التعبئة الشعبية التي أطاحت الرئيس حسني مبارك‏[94]. كما توجد مخاطر أخرى في نقاط اختناق التجارة – الأماكن الحرجة على طرق النقل التي يمرّ عبرها مقدار هائل من التجارة. وثمة أربع عشرة نقطة من هذه النقاط ذات أهمية حاسمة للأمن الغذائي العالمي، وقد وجدت دراسة في عام 2017 أن تغيّر المناخ يزيد مخاطر اضطرابها: يسبّب التكرّر المتزايد لحالات الطقس الشديدة إغلاقاً متكرّراً لنقاط الاختناق ويضرّ بالبنية التحتية المادية، بينما يشكّل ارتفاع مستويات البحر خطراً على عمليات الموانئ‏[95]. ويهدّد الصراع وانعدام الأمن أيضاً المرور السلس للتجارة عبر نقاط الاختناق الأربع عشرة ذات الأهمية الحاسمة. باختصار، إن قضية الأمن الغذائي وعلاقتها بتغيّر المناخ والنزاع، من ناحية، والأمن الإنساني والاستقرار السياسي، من ناحية أخرى، مسألة تثير قلقاً عالمياً ولا تقتصر على الدول الفقيرة، أو التي تتأثر تأثّراً مباشراً وحادّاً بتغيّر مناخ، أو الغارقة في النزاعات العنيفة.

IV الاحتمالات الخاصة بالمؤسسات الدولية

في بداية عام 2017، تولت شخصيتان جديدتان أدواراً رئيسة على المسرح العالمي: دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة وأنطونيو غوتيريس أميناً عاماً للأمم المتحدة. وما من شكّ في أن الأول لديه القوة العملية الأعظم، والمسرح الأوسع الذي يمكن اعتلاؤه عليها والمكانة العالمية الأرفع. وقد عبّرت البيانات التي أدلى بها ترامب بوصفه مرشحاً للرئاسة (بل حتى قبل ذلك) عن شكوك عميقة وثابتة في الأمم المتحدة وفي أهمية المؤسسات الدولية للولايات المتحدة‏[96]. كما أكّد خطاب تنصيبه ضمناً على هذا التشكيك، بتكرار حديثه عن «أمريكا أولاً»‏[97]. ويبدو أنه عبّر عن ذلك عملياً عندما أعلن عن نيته سحب الولايات المتحدة من اتفاق باريس بشأن تغيّر المناخ‏[98].

انتخب غوتيريس أميناً عاماً تاسعاً للأمم المتحدة، بعد أن ترشّح بموجب برنامج يمنح منع النزاع العنيف أولوية مركزية في رؤيته السياسية‏[99]. وكما أوضح مضمون هذه المقدمة (والفصول الأخرى في هذا المجلّد)، فإن ذلك ليس الاتجاه الذي يسلكه العالم مؤخراً. ومن الواضح أن مهمة المنع ذات حجم كبير ومعقّدة، وبالتالي تبرز الحاجة إليها أيضاً. مع ذلك، ورغم التحديات الواضحة الكثيرة التي تعترض عمل النظام الدولي بسلاسة لإدارة النزاعات وتعزيز الأمن البشري، فإن هناك دعماً دولياً واسع النطاق للقيام بهذا المسعى. وقد بقي اتفاق باريس بالرغم من التزام الرئيس ترامب بالانسحاب منه بأسرع ما يمكن، إذ ظلّت كل بلدان العالم الأخرى ملتزمة بموجبات ذلك الاتفاق‏[100]. وفي الوقت نفسه، تظل خطة 2030 وأهداف التنمية المستدامة الأهداف التي تحفز جهود التنمية العالمية. وهي تعبّر عن تصميم على تخليص العالم من الفقر المدقع وتحقيق عالم أفضل من اليوم وأكثر سلاماً وأكثر إنصافاً واستدامة بحلول عام 2030‏[101].

ثمة اعتراف متزايد بأن اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل البلدان وفيما بينها يضعف الديمقراطية ويشكّل عامـــلاً دافعاً محتمـــلاً للنزاع‏[102]. ووفقاً لدراسة واحدة في عام 2017، تستند إلى مجموعة جديدة وشاملة من مؤشرات عدم المساواة على مستوى العالم، ازداد بين عامَي 1980 و2016 مجموع ثروات أغنى 1 بالمئة من سكان العالم بمقدار ضعفَي مجموع ثروات أفقر 50 بالمئة‏[103]. وحذّر واضعو التقرير من أن عدم المساواة ارتفع إلى «مستويات قصوى» في بعض البلدان – بما في ذلك البرازيل والهند وروسيا والولايات المتحدة – وبلغ مستويات حادّة جداً في أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط. لذلك فإن ربط أهداف التنمية وبناء السلام، كما هي الحال في أهداف التنمية المستدامة – وبخاصة الهدف 16 من أهداف التنمية المستدامة المتعلق بتحقيق السلام والعدالة ببناء مؤسسات قوية – يحظى بأهمية كبيرة في آفاق الأمن العالمي.

من السابق لأوانه أن نتمكّن من التوصّل إلى استنتاجات بشأن التأثير الذي يمكن أن يحدثه الرئيس الأمريكي، أو الأمين العام للأمم المتحدة، على مدى سنوات ولايتيهما وحجمه. إلى جانب ذلك، هناك أطراف فاعلة أخرى يتزايد نفوذها في السياسة العالمية بينما يستمرّ تغيّر أنماط وديناميات القوة الدولية. وستكون أفعالهم ونفوذهم وتفضيلاتهم جزءاً من مزيج العوامل التي تحدّد إن كان سيصبح العالم أكثر أو أقل سلاماً في السنوات المقبلة، ويخصّص مزيداً أو قليـــلاً من الموارد للاستعدادات العسكرية، ويتحرّك أكثر أو أقلّ في اتجاه نزع السلاح. وسيكون للإصدارات اللاحقة من كتاب سيبري السنوي المزيد مما تقوله في هذا المجال.

 

إطلّعوا أيضاً على  الأمن الدولي والتسلح ونزع السلاح