مقدمة

قبل الانتفاضات والثورات العربية، كثيراً ما قيل عند بحث أي هدف من مشروع نهضوي عربي أن تحقيقه يتطلب توفر الإرادة السياسية لدى الذين يملكون التأثير في المنطقة وتسيير أوضاعها، ولدى النخب الحاكمة العربية، بصورة خاصة، لأنها هي التي تملك مقاليد السلطة، وأنها هي التي تستطيع تحقيق التكامل أو التباعد بين البلدان العربية. هذه النظرة كانت تنطوي على شيء من الصواب، ولكن ليس كلّه، لأن مسألة بهذا الحجم لم تستأثر باهتمام قوة واحدة من القوى المؤثرة في المنطقة، بل كانت موضع صراع بين قوى متعددة، ومنها أو في مقدمتها النخب الحاكمة العربية، إلى جانب أطراف أخرى، داخلية وخارجية، رسمية وغير رسمية، لها مواقف متنوعة ومتباينة تجاه مسألة التكامل العربي؛ فمن هي هذه القوى؟ وما هو موقفها تجاه هذه المسألة؟ وأين يقف المتعاطفون مع التكامل الإقليمي العربي من هذا الصراع؟ وهل يملكون تحسين فرص تحقيقه في المستقبل؟

ينتمي المعنيون بالأقلمة في العالم، وفي المنطقة العربية، إلى مدارس فكرية مختلفة. فهناك المدرسة الواقعية والقومية في السياسة الدولية. ويقول المنتمون إلى هذه المدرسة إنَّ القرارات والمشاريع التي تنفذها الدول، ومنها مشاريع التعاون والتكتّل الإقليمي، تهدف إلى تعزيز أمنها ومصالحها ومكانتها القومية، وإن هذه المشاريع لا تعني الكثير للدولة الترابية، لذلك فإنّها تحرص على إبقاء التعاون مع البلدان الأخرى في مستويات متدنية، بحيث يمكن التخلي عنه متى حان أجله، ولم تعد هناك من حاجة ماسة إليه.

وتتفق المدرسة الوظيفية مع المدرسة الواقعية من حيث اعتبارها أنَّ الحافز القومي هو الذي يدعو «الحكومات التي تعمل بموجب حسابات عقلانية، إلى إنشاء التكتلات الدولية والإقليمية إذا وجدت أنَّ الدولة التي تحكمها باتت عاجزة عن الاضطلاع بالمهام الأمنية والمعيشية المطلوبة منها، كما كان الأمر في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن أنصار هذه المدرسة، مثل دايفيد ميتراني، المؤرخ وعالم السياسة البريطاني الجنسية، اختلفوا مع أنصار المدرسة الواقعية، إذ اعتبروا أنَّ المنظمات الإقليمية والدولية، مثل منظمة العمل الدولية، سوف تكتسب وجوداً مستقلاً عن الدول القومية التي أسستها، بمجرد ظهورها وبدئها العمل. عندئذ تنبأ الوظيفيون بأن هذه المنظمات سوف تنتشر ويتسع نطاق نشاطها، فتتخطى الهياكل القانونية والأطر والحدود القومية من خلال تفاعلها بعضها مع بعض. وخلال زمن قصير، وبحكم الاحتكاك وظروف العمل، سوف تنشأ بين العاملين فيها علاقات تعاون وتفاهم أفقية تتجاوز حكومات الدول التي يتبعونها والهويات القومية التي ينتمون إليها، وتتكوّن عندهم ثقافة ونظرة مشتركة ومتجانسة. ومع مضي الوقت، توقع الوظيفيون أن تنتقل هذه الروحية التي تظلل العاملين في المنظمات الإقليمية والدولية إلى عقول المواطنين العاديين بعد أنْ تدخل هذه المنظمات حياتهم العادية واليومية. وتوقع الوظيفيون أنْ تندمج هذه المنظمات، علاوة على ذلك، وفي نهاية المطاف، في كيان عالمي تذوب معه الدول القومية والتكتلات الإقليمية، فتذهب العولمة بالقومنة وبالأقلمة معاً.

اعتبر بعض الوظيفيين أن هذه التنبؤات تنطوي على ثغرات ومبالغات. لقد اتّفق هؤلاء الذين أطلق عليهم اسم «الوظيفيين الجدد» مع الوظيفيين الكلاسيكيين، حول أثر المنظمات الدولية الإقليمية في العاملين فيها، وحول توقعاتهم بانتقال ولاء المواطنين وتطلعاتهم ومحطّ اهتماماتهم بصورة تدريجية من الدول القومية/الترابية إلى مركز جديد يقع خارج هذه الدول، كما لاحظ إرنست هاس، أحد أبرز مفكري المدرسة الوظيفية الجديدة. إلا أنَّ الوظيفيين الجدد اختلفوا مع الوظيفيين التقليديين من حيث اقتناعهم بأن الاندماج يبدأ وينتهي بالإقليم ولا يتجاوزه إلى الوحدة العالمية[1].

ولتفسير ثبات هذه المنظمات وتطورها، ابتكر الوظيفيون الجدد مفهوم التداعي (Spill Over)، وهو واحد من أهم مفاهيم الأقلمة. وبموجب هذا المفهوم، فإن قطار الأقلمة يبدأ في قطاع محدد، ثمّ لا يلبث أن يصل إلى محطة جديدة، بحيث إنّه إذا دخلها خرج عن مخطّطه الأصلي، واصطدم بحاجز سيادة الدول، وإذا بقي في مكانه أو حاول التراجع، فإنّه يضيع على البلدان المعنية كلّ الجهود البشرية والمادية التي انفقت في تحريك القطار وإيصاله إلى تلك المحطة. عندها تضطر الحكومات إلى التدخل من أجل السماح للأقلمة بالانتقال إلى القطاعات الجديدة، حتّى لا يعاقبها الرأي العام والناخبون لأنّها أهدرت الجهود من دون طائل. وهكذا تتعمق الأقلمة وتترسخ بحيث تتحول مع توالي التداعيات إلى اتحادات وفدراليات.

ومع التداعيات الأخيرة، تصبح الديمقراطية شرطاً لازماً لتعميق التكتّل الإقليمي العربي. فالنظام الديمقراطي هو الذي يفسح في المجال أمام الشفافية والمحاسبة والمساءلة، وبالتالي معاقبة الحكومة إذا حاولت وقف قطار الأقلمة، وتسببت في إهدار المال العام. بالمقارنة، فإن الأنظمة المطلقة التي لا تعبأ كثيراً بالرأي العام، ولا تخشى غضبة الناخب، لا تمانع في القضاء على كلّ ما أنجزته في مجال التعاون مع البلدان الأخرى والتكامل معها، إذا ما شجر الخلاف بينها وبينهم، وبخاصة إذا ما أصاب هذا الخلاف أمن النخبة الحاكمة واستقرارها.

  • الفاعل الإقليمي

من هذا العرض السريع لبعض مدارس الأقلمة في العالم، وبالمقارنة بواقعنا الراهن، نجد أنَّ المنهج الأقرب إلى قراءة واقع العلاقات بين البلدان العربية هو المنهج الذي تتبعه المدرسة الواقعية. فالحكومات العربية، رغم التحولات الأخيرة، لا تزال هي التي تضبط إيقاع العلاقات العربية ـ العربية، وأن نظير الدولة القومية الغربية في المنطقة العربية هو ما يوصف أحياناً بالدولة القطرية الترابية.

أخذاً في الحسبان هذه الملاحظات يمكننا تقسيم القوى المعنية بالعلاقات بين البلدان العربية، وبأقلمة هذه البلدان إلى طرفين رئيسيين:

1 ـ القوى العظمى والكبرى

تفاوتت سياسة القوى العظمى والكبرى تجاه مشاريع الأقلمة العالمية بين التبني والدعم من جهة، والإهمال، وحتّى المعارضة والمحاربة، من جهة أخرى. فالإدارة الأمريكية اضطلعت بدور قاطرة التعاون الأوروبي عندما نفذت مشروع مارشال في الأربعينيات. ويضطلع الاتحاد الأوروبي بموقف إيجابي وفاعل اليوم تجاه سوق أمريكا الجنوبية المشتركة (ميركوسور). في المقابل، اتسم موقف القوى العظمى والكبرى تجاه مشاريع التكتّل الإقليمي العربي، مثل مشروع الحلف العربي في الثلاثينيّات، وجامعة الدول العربية في الأربعينيات، بالسلبية والمعارضة[2]. وكان من مظاهر هذه المعارضة التدخل المسلّح لتدمير أية «قوة عظمى» عربية تشكل قاطرة للتكامل في المنطقة[3].

يتخذ البعض من هذا الموقف الدولي تجاه مسألة الأقلمة العربية مبرراً للجزم بأن هذا الهدف غير واقعي، لأن القوى الكبرى لن تسمح للعرب بتأسيس تكتل إقليمي فاعل. ويعزز أصحاب هذا الاستنتاج رأيهم بالإشارة إلى المصالح الكبرى التي سوف تتعرض للضرر، فيما لو نجح العرب في بناء تكتل إقليمي قوي يملك أهم الموارد النفطية، ويسيطر على قسط مهم من الممار الاستراتيجية في العالم. ولا ريب في أن أصحاب هذا الرأي يملكون الكثير من الوقائع التاريخية التي تدعم وجهة نظرهم. ولكن في المقابل، فإنّه من المستطاع العودة إلى الكثير من الأمثلة المهمة التي تدلّ على أنَّ العرب استطاعوا بالتعاون مع الشعوب الطامحة إلى إقامة نظام دولي عادل، التأثير في الأوضاع الدولية لصالح هذه الشعوب والعرب.

فابتداءً، كانت للعرب علاقات واسعة وممتازة مع كل القوى البازغة في العالم اليوم، كما يشهد تاريخ النضال من أجل تصفية النظام الاستعماري العالمي، وتاريخ حركة عدم الانحياز. ورغم التغير الكبير في سمات النظام الدولي، فإنّ ما هو إيجابي منها اليوم أكثر مما هو سلبي. ومن المرجح أنْ تتمكن القوى العربية المعنية بموضوع التكامل أنْ تحصل على تأييد الكثير من دول العالم لدعم هذا الهدف، وبخاصة دول محور بريكس. هذا لا يعني أنْ يعتبر المعنيون بالأقلمة العربية تأييد هذه القوى أمراً بديهياً، بل أنْ ينظروا إليه باعتباره ممكناً وقابلاً للتحقيق شرط أنْ يعملوا من أجل تحقيق هذه الغاية.

أما القوى العظمى والكبرى في الغرب، فإن التأثير فيها أو تحييدها أيضاً ليس بالمستحيل. لقد نجحت مجموعة الأقطار العربية بقيادة مصر، على سبيل المثال، خلال النصف الأوّل من الأربعينيات بتأسيس جامعة الدول العربية، رغم أن هذا المشروع اصطدم بمعارضة الحكومة البريطانية والولايات المتحدة وحركة فرنسا الحرة خلال الأربعينيات[4].

كذلك تمكنت مجموعة الأقطار العربية، ممثلة بمصر، بالتعاون مع دول أمريكا اللاتينية ممثلة بالبرازيل، من إدخال تعديلات جوهرية على ميثاق هيئة الأمم المتحدة عام 1945 في مؤتمر سان فرانسيسكو، تجلت في إضفاء بُعد اجتماعي واقتصادي على الهيئة، وتأكيد حقّ الدول الأعضاء في تكوين تكتلات إقليمية مستقلة عن سيطرة القوى العظمى والكبرى[5].

إنْ هذه الأمثلة تدلّ على أنْ تغير مواقف القوى العظمى والكبرى أو التأثير فيها ليس مستحيلاً. وقد نكون اليوم أمام فرصة جديدة للتأثير في بعض الدول الأوروبية. ففي الآونة الأخيرة، وبعد المتغيرات العربية الكبرى، تدور مناقشات واسعة داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي وخارجه حول ضرورة مراجعة سياسة الجوار الأوروبية، وبخاصة تجاه الجوار العربي بعد فشل هذه السياسة في تحقيق الأهداف المتوخاة منها[6]. فقبل سنوات دعا يوشكا فيشر، وزير الخارجية الألماني الأسبق، وزعيم حزب الخضر، العرب إلى إقامة اتحاد عربي، قائلاً إنَّ البلدان العربية تحتاج إلى «جان مونيه عربي»[7]. وقبل أشهر نشرت أنباء تقول إن كاترين آشتون، مسؤولة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، نصحت زعماء عرباً في جولتها في المغرب العربي بتنمية التعاون الإقليمي مع دول الجوار العربي، كما نشرت أنباء مماثلة تقول إن ميشال بارنييه، مسؤول الأسواق الداخلية في الاتحاد الأوروبي، اقترح على رئيس الجمهورية اللبناني، خلال زيارة قام بها إلى بيروت في نهاية العام الفائت، العمل على تكوين نواة مع بعض الأقطار العربية لإنشاء سوق عربية مشتركة، مع وعد بتأييد الاتحاد الأوروبي لهذا المسعى[8].

إن هذه التعبيرات والمواقف ليست مؤكّدة ولا نعرف مدى جديتها، فقد تكون من التصريحات العابرة التي لا تحمل دلالات بعيدة المدى. ولكن من الخطأ أن يقف منها المعنيون بتطوير التعاون والتكامل الإقليمي العربي موقف الإهمال، وأن يعتبروا سلفاً أنّها لا تخدم قضيتهم، وأن لا يتقصوا حوافزها وأهدافها.

2 ـ القوى الإقليمية

المقصود هنا هو البلدان التي تمارس تأثيراً على مستوى الإقليم ككلّ. ولقد حدّدت المؤسسة الألمانيّة للدراسات العالمية والمناطقية مواصفات القوى/الدول الإقليمية بدرجة عالية من الدقة، إذ اعتبرت أنّها هي تلك التي تمتلك الخصائص التالية:

أ ـ مزايا قوة إقليمية.

ب ـ طاقات متفوقة عسكرية واقتصادية وديمغرافية وسياسية وعقائدية.

ج ـ تضطلع بدور حاسم في وضع الأجندة الأمنية للإقليم، وفي ترسيم حدوده الجغرافية، وفي صنع عقيدته المسيطرة.

د ـ مندمجة اندماجاً حقيقياً في الإقليم، وتمتلك علاقات جيدة في الإقليم وخارجه.

هـ ـ تعترف القوى الإقليمية في الإقليم وخارجه بمكانتها الإقليمية[9].

وهذه الخصائص تصلح ككاشف لمكانة ولدور كيانات المنطقة التي توصف بأنّها قوى إقليمية، وهي تنطبق على النوعين التاليين من هذه القوى:

أ ـ القوى الإقليمية غير العربية

يطلق هذا الوصف عادة على تركيا وإيران وإسرائيل. وإذا طبّقنا التعريف المشار إليه آنفاً، فإننا نجد أكثر من فارق بين تركيا وإيران من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى. فإسرائيل ليست مندمجة اندماجاً حقيقياً في الإقليم، بل إنّها تملك علاقات وثيقة مع بعض دوله، ولكن من الصعب أنْ تعتبر هذه العلاقات طبيعية ومستقرّة. والنظرة السائدة في البلدان العربية، وفي العديد من بلدان العالم، هي أن إسرائيل جسم غريب عن المنطقة، وأنّها نتاج عدوان عليها واحتلال استيطاني لأراضيها، وأنّها تشكّل خطراً على بلدانها، وليس كياناً يمتلك مكانة خاصة به. وتضطلع إسرائيل بدور كبير في وضع الأجندة الأمنية للإقليم، وفي ترسيم حدوده وصنع عقيدته، ولكن على نحو سلبي، إذ إنَّ النظرة السائدة بين كثيرين من علماء السياسة والعلاقات الدولية، ولدى العديد من الشعوب، بما في ذلك في أوروبا، هي أن إدخال إسرائيل في المنطقة عطل تحويلها إلى منطقة أمان[10]. كذلك ينتشر الشعور بأن إسرائيل هي عدو قومي لأكثر سكان الإقليم، وأن عقيدتها تشكّل خطراً على عقائدهم لأنّها تشحذ التعصب الديني والعرقي في المنطقة.

وبينما ينتشر الشكّ في صحة تنسيب إسرائيل إلى المنطقة، فإن تركيا وإيران تتمتعان بأكثر المواصفات المطلوبة لكي تكونا طرفين في شراكة مع الإقليم العربي، مثل التشابه في المعتقدات الدينية والدنيوية، واعتراف المجتمع الدولي بمكانتهما في منطقة الشرق الأوسط. وتمتلك تركيا مقوّمات عديدة للزعامة الإقليمية، فالاقتصاد التركي يحتل المركز السابع عشر من حيث الحجم في العالم، وهو أسرع الاقتصادات الأوروبية نمواً، وتحتل تركيا المركز الحادي عشر بين بلدان العالم من حيث تقييم القوة العسكرية، أي قبل إسرائيل التي تحتل المركز الثالث عشر[11]. وتمتلك إيران أيضاً ميزات ديمغرافية واقتصادية وعسكرية وبشرية وتاريخية تؤهّلها لكي تكون واحدة من قوى الشرق الأوسط الإقليمية، فهي تحتل المرتبة السادسة عشرة بين بلدان العالم من حيث قوتها العسكرية، وتمتلك ثروات طبيعية كبرى.

وقد أعرب الإيرانيون والأتراك عن رغبتهم في الاشتراك بصفة مراقب في القمة العربية، ووجّهت الدعوات أحياناً إلى زعماء البلدين لحضور مثل هذه المناسبات. لكن هذه المبادرات الآتية من البلدين لا تعبّر بالضرورة عن رغبة في دعم مساعي العرب من أجل تحقيق التكامل الإقليمي العربي. فإيران اليوم مثلها في الأمس، ترى نفسها زعيمة لمنطقة الشرق الأوسط. وتركيا تظهر طموحاً إلى تحقيق الغاية نفسها في ما يدعوه وزير الخارجية التركي، داود أوغلو بـ «الشرق الأوسط: الحديقة التي لا غنى عنها»، إذ إن هذه الحديقة تتمتع من وجهة نظر تركية، بكلّ مقوّمات وخصوصيات الإقليم، بينما تملك تركيا جميع مميزات القوة الإقليمية الكبرى[12].

وكما تؤدي الاعتبارات الواقعية دوراً مهماً في بلورة سياسة القوى العظمى تجاه التكتلات الإقليمية في المنطقة العربية، فإنّها تؤدي دوراً مهماً أيضاً في تحديد خيارات تركيا وإيران تجاه التكامل الإقليمي العربي.

ولعل الاعتبار الواقعي الأكثر أهمية هو أنَّ البلدين يتطلعان إلى صعود سلّم الزعامة الإقليمية في منطقة تعاني فراغاً كبيراً وترزح قواها الإقليمية تحت أعباء كبيرة، وبخاصة في المشرق العربي، حيث تمّ تقليص دور مصر القيادي في المنطقة بعد معاهدة كامب دايفيد، ودمر العراق في الحرب والاحتلال، ويجري تدمير سورية في الحرب الدائرة فيها، وتحيط بالسعودية التحديات من كلّ جانب، هذا فضلاً عن استنزاف المغرب والجزائر في حرب مغاربية باردة. وفي مطلق الحالات، ينبغي أنْ يبتعد الإيرانيون والأتراك عن التصرّف على نحو يشبه سلوك بعض دول البلقان خلال مرحلة اجتياح الجيوش الهتلرية لأراضي تشيكوسلوفاكيا السابقة عام 1938، فعندها حاول التشيكوسلوفاكيون مقاومة الغزو النازي، وتطلعوا إلى جيرانهم في المنطقة لمساعدتهم على الوقوف في وجه الغزاة. ولكن بدلاً من أن تأتي تلك المساعدة، تبيّن للتشيكوسلوفاكيين أن تلك الدول المجاورة كانت تتهيأ لاقتطاع نصيبها من أراضي تشيكوسلوفاكيا وثرواتها بعد أنْ ينال هتلر الحصة الكبرى من الغنيمة.

رغم هذه المحاذير والمخاوف، فإن الحكمة السياسية والتجارب التاريخية تقتضي الافتراض أن إرساء العلاقات العربية مع تركيا وإيران على قواعد الشراكة بين أطراف متعاونة ليس أمراً مستحيلاً. فللعرب كيانهم الإقليمي المتمثل بمؤسسات العمل العربي المشترك، ولإيران ولتركيا تكتلهما الإقليمي المتمثل بمنظمة التعاون الاقتصادي (إيكو) التي ولدت عام 1985، واتّخذت من طهران مقراً لها، وهي تضم البلدين جنباً إلى جنب مع باكستان وأفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى. ويستطيع التكتلان تحقيق درجة عالية من التعاون والتساند في كل المجالات على نحو يعمّق العلاقات بين البلدان المنتمية إليهما.

في المقابل، فإن استغلال وهن وتراجع النظام الإقليمي العربي من أجل بسط الهيمنة على المنطقة العربية يثير ردود فعل سلبية عربية متنامية، ويقود إلى توتر متفاقم في العلاقات بين الأقطار العربية من جهة، والجارين التركي والإيراني من جهة أخرى. هذا فضلاً عن أنَّ التنافس بين الجيران أنفسهم على استغلال الفراغ في المنطقة العربية، وعلى تزعّم الإقليم العربي، سوف يؤدي إلى احتدام الصراع في ما بينهم على نحو يذكّرنا بالعوامل التي أدّت إلى الحربين العالميتين، وبالصراع بين القوى الأوروبية على تقاسم الإمبراطورية العثمانية. إنَّ هذا الواقع جدير بأن ينبّه القيادات الإيرانية والتركية إلى أهمية مراجعة السياسة التي يسلكونها تجاه المنطقة العربية، وإلى أنّه أفضل لهم أن يساندوا المساعي الرامية إلى تحقيق الأقلمة العربية حتّى تستقر المنطقة، ويأمن الجميع شرور الحروب والاجتياحات.

ب ـ القوى العربية الإقليمية

تنقسم هذه القوى إلى نمطين من القوى: القوى الرسمية، وقوى المجتمع المدني. وينطلق هذا التنميط من الاعتقاد الشائع بين العاملين في الحقل العربي العام، بأن لكلّ من هذه القوى موقفها الخاص تجاه التكامل الإقليمي العربي.

(1) القوى الرسمية: تميّز بعض المدارس المعنية بدراسة التكتلات الإقليمية بين النوعين التاليين من هذه القوى:

(أ) النخب الحاكمة: يقارن بعض المعنيين بالأقلمة النظام الإقليمي العربي بنظام الدول الوستفالي الذي نشأ عام 1648 في أوروبا بعد أن توصّل ملوكها إلى اتفاق يؤكّد مبدأ سيادة الدول المطلقة، ويمنع تدخل بعضها في شؤون البعض. فالنظام العربي هو نظام دولتي (State‑centric) بامتياز، وهو يطابق مواصفات الواقعيين للتكتلات الإقليمية. إنَ الغرض الرئيسي منه هو تعزيز التعاون بين الدول، بغرض ترسيخ استقلالها وسلطتها. ولئن عانت الدول العربية، كما يقول باري بوزان، أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد، تبعات الطريقة التي رسم بها الأوروبيون حدودها من جهة، وتحديات التيارين القومي العربي والإسلامي من جهة أخرى، فقد لجأت الحكومات العربية، إزاء هذه التحديات المتقابلة، إلى التشديد على الطابع «الوستفالي» لدولها. ويعتقد بوزان أنَ النخب العربية الحاكمة تمكّنت من تحقيق مرادها، ومن تحويل التحديات العقائدية، في بعض الأحيان، إلى أدوات تستخدمها حكومات المنطقة لحماية الدولة الوستفالية العربية[13].

ولقد ارتكزت النخب الحاكمة العربية على التطورات المهمة التالية التي طرأت على المنطقة:

ـ تحول أكثر دول المنطقة إلى دول ريعية الطابع بعد اكتشاف النفط، وانتشار نموذج الدولة التدخلية الذي لم تضبطه معايير سياسية راشدة واجتماعية عادلة. وهذه التطورات أفسحت في المجال أمام إضعاف الحوافز الاقتصادية إلى بناء السوق العربية الواسعة والاعتماد المتبادل الاقتصادي بين دول المنطقة.

ـ تراجع الحوافز إلى إقامة نظام أمني إقليمي عربي نتيجة سببين: الأوّل، هو توقيع معاهدات السلام وتنفيذ إجراءات التطبيع مع إسرائيل. والثاني، هو انتشار الاقتناع بأن الدولة العربية الترابية الوستفالية لا تحتاج إلى التعاون الإقليمي الأمني، لاعتقاد بعض الحكومات بأنّها في اللحظات الحاسمة التي يتهدد فيها أمنها، تستطيع الاتكال على الحلفاء والأصدقاء الدوليين.

ـ تراجع المشروعية التي كانت تستمدها الدولة العربية الترابية من التزامها بموجبات الانتماء العربي أمام تزايد تأثير مشروعيات أخرى على حساب المشروعية العروبية لدى الرأي العام العربي.

في ظلّ هذه المعطيات، لم تكن لدى الدولة العربية ونخبها الحاكمة الحوافز الكافية للاهتمام بصورة جدّية بمشاريع التكامل العربي، ومن المستبعد أنْ تبدي اهتماماً بعروض المصالحة التي يمكن أن تأتيها من الجماعات المعنية بقضايا الوحدة والتعاون والتكامل بين البلدان العربية، كما اقترح المشروع النهضوي[14].

إن هذه الأوضاع قابلة للتغيّر. ففي المستقبل غير البعيد من المرجح أن تتعرض الدولة العربية الريعية للمنافسة على أسواق النفط، وبخاصة من الولايات المتحدة، الأمر الذي يعرّض مداخيلها العالية إلى الانخفاض. هذا المتغيّر جدير بأن يضعها، مجدداً، أمام الحاجة إلى تنويع اقتصادها وتنمية قطاعاتها الإنتاجية، وإلى تصدير منتجاتها إلى خارج أسواقها الصغيرة. أما الاتكال على مظلة الأمان الحليفة، فلم يعُد مضمون النتائج، كما كان الانطباع السائد قبل السابقة السورية. ويجدر الذكر أنَّ الكثير من السوابق في التاريخ العربي الحديث تفضي إلى النتائج نفسها. ففي عام 1958 طالب الرئيس اللبناني كميل شمعون دول الغرب بإلحاح بالتدخل لإنقاذ نظام حكمه الموالي لها، ولكن دول الغرب رفضت طلبه هذا. لقد جرى التغاضي في أكثر الأحيان عن هذه الأمثلة، ومن ثمّ تجاهل دروسها، ومنها الحاجة إلى نظام أمني إقليمي نابع من المنطقة. غير أن تفاقم الأزمة السورية ومضاعفاتها، وانتشار اللهب إلى البلدان المجاورة، من شأنه أن يؤكّد الحاجة الماسة إلى بناء مثل هذا النظام. وتبقى المشروعية العروبية، على حالها ما دامت تبحث عن حامل اجتماعي وسياسي يعقلنها ويعيد إليها الألق والريادة.

(ب) البيروقراطية الإقليمية: تؤدي البيروقراطية الإقليمية، كما ذكرنا آنفاً، دوراً مهماً في تنمية الأقلمة إلى درجة أنَّ البعض درج على إطلاق وصف «المؤامرة البيروقراطية والتكنوقراطية» على المشروع الأوروبي، فهل يمكن للبيروقراطية التي تضم الأشخاص والمصالح والجماعات العاملة في مؤسسات وشبكات التعاون الإقليمي العربي الاضطلاع بمثل هذا الدور؟ ترشح اللجنة المستقلة لإصلاح جامعة الدول العربية التي شكّلها الأمين العام للجامعة خلال الفترة المنصرمة إلى البيروقراطية الإقليمية المتمثلة بالجهاز الإداري للجامعة والتابع لأمانتها العامة، للاضطلاع ببعض هذا الدور، كما نستنتج من التقرير الذي قدمته مؤخراً إلى الأمانة العامة للجامعة[15].

ومن الضروري الأخذ بعين الاعتبار هنا أنَّ الظروف التي تعمل بها البيروقراطية الإقليمية العربية، حيث تنتشر الأنظمة الأوتوقراطية، تختلف اختلافاً كبيراً عن ظروف عمل البيروقراطية الإقليمية في الديمقراطيات المتقدمة، كما هو الأمر في دول الاتحاد الأوروبي أو في بعض دول أمريكا اللاتينية. ففي الاتحاد الأوروبي، تعززت مؤسسات الاتحاد، مثل الرئاسة، والمفوضية الأوروبية، والبرلمان، وممثل الاتحاد للشؤون الخارجية والأمن، وأصبحت تعمل بصورة مستقلة عن الحكومات، وباتت «بروكسل»، أي عاصمة الاتحاد الأوروبي، تتعرّض للنقد لأنّها تنتهك سيادة الدول الأعضاء أحياناً، وبسبب العجز الديمقراطي الذي يظهر في علاقتها مع هذه الدول أحياناً[16]. أما في مؤسسات العمل العربي المشترك، فإن العاملين فيها مضطرون إلى مراعاة الدول الأعضاء التي تختارهم لتمثيلها في نظام إقليمي دولتي الطابع.

انطلاقاً من هذا الواقع، ولما كانت أكثر الحكومات العربية ترغب في بقاء النظام الإقليمي العربي على وضعه الراهن، فإنّه من المتوقع أن تبقى البيروقراطية الإقليمية العربية فاعلاً محافظاً يعمل على الحفاظ على الوضع الراهن، ولا يسعى إلى إصلاحه. ولكن التجربة الشخصية تؤكد أن قسماً من العاملين في البيروقراطية الإقليمية العربية يتمنى الاضطلاع بدور ملموس في إنهاض مؤسسات العمل العربي المشترك، وفي تحقيق التكامل الإقليمي العربي. ومن الأرجح أنّه لو تغيرت موازين التأثير بين مؤيد الأقلمة ومعارضها للوصول إلى شيء من التكافؤ المفقود بين الطرفين، لأمكن للمتعاطفين مع الأقلمة العربية أن يعزّزوا دورهم في البيروقراطية الإقليمية لصالح القناعات التي يحملونها.

(2) قوى المجتمع المدني: في ظلّ الأوضاع العربية الراهنة، حيث تبرز المفارقة الكبرى بين مشاريع الأقلمة ومؤسساتها التي وصلت إلى أدنى مستوياتها، وفي ظلّ الواقع العربي الحالي، حيث أدّت المتغيرات العربية المهمة في أكثر من بلد عربي إلى فسح المجال أمام قوى المجتمع المدني العربي للتعبير عن نفسها بدرجة ملحوظة من الحرية، تقع على عاتق قوى المجتمع المدني هذه، وعلى عاتق المعنيين بالنهوض العربي، بصورة خاصة، مسؤوليات كبرى واستثنائية في إحياء مشاريع الأقلمة العربية وتفعيلها. فمن هي هذه القوى؟

يقترح المشروع، جواباً عن هذا السؤال، قائمة تضم القوى صاحبة المصلحة في الارتقاء بالعلاقات العربية ـ العربية، أو بتعبير آخر «الأمة في معظم طبقاتها وفئاتها، وفي معظم أحزابها ونقاباتها وجمعياتها وتياراتها الفكرية المختلفة». ويبدو الاندفاع إلى تحقيق الهدف الوحدوي كاسحاً، بحيث لا تعود المشكلة التي تواجه أصحاب المشروع هي كيفية إقناع المواطنين بتبنّي هذا الهدف والعمل من أجله، وإنّما منع الاستحواذ عليه من قبل «المحتكرين والإقصائيين». ولكن لو كانت هذه الحالة صحيحة لما كنا بحاجة، على الأرجح، إلى إدراج مسألة التكامل الإقليمي العربي على جدول الأعمال. ولكن الحالة هي غير هذه، الأمر الذي يفرض علينا العمل على استقصاء مواقف قوى القطاعين الخاص والمدني بدقة. وتسهيلاً لهذا الأمر، نجد أنّه من المفيد التمييز بين نموذجين من هذه القوى: الأوّل هو القوى المنتفعة من تحقيق التكامل، والثاني هو القوى المطالبة به، والفرق بين الاثنين قد يكون شاسعاً إلى درجة التضادّ.

تحت عنوان النفع، تأتي عناوين فرعية كثيرة. هناك النفع الأمني، حيثُ إنَّ جماعات من المواطنين تشعر أن بلادها مهددة، إلا إذا تمكنت من بناء منظومة أمنية إقليمية توفر للدولة الترابية درعاً إقليمية تحميها من العدوان الخارجي، ومن الحروب الإقليمية. وهناك النفع الثقافي الذي تحققه الجماعات الدينية ـ الثقافية أو الإثنية ـ الثقافية، من جراء تطبيق التكامل الإقليمي لأنّه يحقق التوازن بين التنوّع والتوحّد، ويبعد شبح الصهر الثقافي والتطهير الديني من بلدان الإقليم. وهناك النفع السياسي الذي يعود على نخب حاكمة ضمن الإقليم. فتحقيق التكامل يعزز مكانة هذه النخب الدولية، ويقوّي مواقعها التفاوضية مع الحكومات الأخرى. وهناك منافع سياسية تفيد الأقطار الصغيرة، لأن مشاريع الأقلمة جديرة بالحدّ من ميل «الأشقاء الكبار» إلى استخدام الهيمنة في معاملتها للبلدان الأخرى. أخيراً لا آخراً، هناك النفع بمعناه الاقتصادي البحت، ولسوف نتوقف عند هذا النفع حيثُ إنَّ أكثر النقاشات حول مسألة التكامل الإقليمي تنصبّ على الجانب الاقتصادي.

في هذا المجال، تقول مدارس كثيرة إنَّ الطبقة البرجوازية تفيد، بصورة عامة، من التكامل الإقليمي، وإنّها تميل بصورة تلقائية إلى العمل على تحقيقه. وهناك الكثير من الشواهد التي تؤكد هذه النظرة. فلقد كان طلعت حرب، أحد أبرز أعلام الاقتصاد المصري في التاريخ الحديث، رائداً في إرساء أسس التعاون بين مصر وبلدان المشرق العربي، بحيث إنّه أدى دوراً مهماً في تأسيس غرف تجارية في هذه البلدان. وفي أيامنا هذه يؤكّد «الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة العربية» هذه الصفة التي تسم الطبقة البرجوازية كداعم لتوسيع السوق. ونحن لا ننتقص من هذه الحقائق، بل نؤكدها عندما نقول إنّه لا يفيدنا كثيراً أن نعالج مسألة علاقات الطبقات الاجتماعية بقضايا التكامل العربي بالابتسار، ذلك أنّه عند التدقيق، وعند وضع الدراسات الحقيقية حول مسألة التعاون والتكامل الإقليمي العربيين، سوف نجد أنَّ البرجوازية تتشكّل من شرائح قد يقف بعضها إلى جانب الأقلمة، بينما تقف شرائح أخرى ضدها، بل إن فئة برجوازية معينة قد تكون، هي نفسها، مع التعاون في مجال، وضده في مجال آخر.

ما ينطبق على الطبقة البرجوازية ينطبق على العديد من الطبقات والفئات الاجتماعية الأخرى. فالتكامل الإقليمي العربي يفيد المهنيين والعمال العرب، فيعزّز مداخيلهم ويخلق فرص عمل جديدة للملايين من الشباب بمقدار ما يحسن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية العربية. ولكن البعض قد يتضرّر من جراء منافسة مهنيين أو عمال عرب وافدين إلى بلده من أقطار عربية أخرى، عندئذ ينقلب التأييد إلى معارضة ونقمة، وتدفع قضية التكامل الثمن.

ولكن هناك علاجات ومقاربات تكاملية لكلّ من هذه المشاكل. فهناك علاجات تنبع من فكرة أن كلّ مشروع تكاملي يحمل معه خسائر وأرباحاً، وأنّه من واجب السلطات المعنية أن تعوض ما يخسره البعض من الأرباح التي يحققها البعض الآخر عبر الأدوات الضريبية والتعويضية. لولا هذه الآليات والتدابير لثار المزارعون الفرنسيون ضدّ السوق الأوروبية المشتركة بعد سنوات قليلة من قيامها. ولولا هذه الآليات لما دعم صناعيو الأرجنتين والبرازيل سوق أمريكا الجنوبية المشتركة (ميركوسور).

وبمقدار ما تتسع قائمة المستفيدين الموضوعيين من مشاريع الأقلمة العربية، تضيق قائمة المؤيّدين الجدّيين لهذه المشاريع. وحتّى لا نخطئ في تقييم مدى انتشار الطلب على الأقلمة العربية، فإن هذا البحث لا يقلل من حجم التأييد الذي تلقاه فكرة التكامل العربي. فمن الأرجح أنّه لو جرت استفتاءات بهذا الشأن، لكانت النتائج في صالح هذه الفكرة. ولكن هذا التأييد المفترض يبقى مثل الشيك غير القابل للصرف. وحتّى يتمكّن صاحب هذا الشيك من صرفه، فلا بدّ له من إقناع المصرف، أي أصحاب القرار من النخب العربية السياسية، بتحويل مشاريع التكامل إلى واقع حيّ.

لقد اقترح تقرير لجنة الإصلاح المستقلة إشراك منظمات المجتمع المدني في مؤسسات العمل العربي المشترك كشرط من شروط النهوض بها. وازدادت أهمية المشاركة هذه بعد التطورات المهمة التي طرأت على المجتمعات العربية خلال العامين الأخيرين. ومشاركة المؤتمر القومي العربي في النهوض بالأقلمة العربية لا تتطلب قراراً من جامعة الدول العربية، بل تتطلب قراراً من المؤتمر نفسه بإعطاء أولوية لهذا الهدف. ولسوف يقف المؤتمر هنا أمام تحديات كبيرة تتمثل، في الدرجة الأولى، باستعداده للقيام بدور المبادر والعامل بنشاط من أجل ردم الهوة بين أصحاب المصلحة في تحقيق التكامل العربي الإقليمي، والمقتنعين بضرورة تحقيق هذا الهدف، ومن ثمّ تحويلهم إلى مؤيّدين وفاعلين وناشطين وساعين للوصول إلى هذه الغاية، وفي تكوين إطار للعمل المشترك الذي يضم هؤلاء لهذا الغرض، وفي بلورة استراتيجية ترسم الطريق إلى التكامل.

إنَّ القيام بهذا العمل يبدو وكأنه مهمة مستحيلة، أخذاً بعين الاعتبار المحاولات الكثيرة التي شهدتها المنطقة من أجل تحقيق التعاون الإقليمي العربي من دون أن تحقق ولو قصة نجاح واحدة، وحجم القوى الداخلية والخارجية التي عملت على إحباط هذه المشاريع أو على التقليل من أهميتها. ولكن ما يشجع على الاضطلاع بهذه المهمة، وعلى توقع نتائجها الإيجابية، هو أنَّ الدعوة إلى إقامة تكتل إقليمي عربي حقيقي وفاعل ونامٍ، لم تجد حتّى الآن حاملاً سياسياً واجتماعياً يضعها في مقدمة اهتماماته، ويكرّس لها الجهد العملي المطلوب والبذل الفكري الضروري، ويستنبط منها الحلول الناجعة والمرغوبة للعديد من مشاكل الأمة وعثراتها. ولقد سعى هذا البحث لإعطاء صورة متوازنة عن نمط من العقبات والصعوبات التي تعترض هذه الطريق، وعن بعض العلامات الإيجابية التي تسم الواقعين الدولي والعربي من وجهة نظر تكاملية عربية، بحيث نتجنّب التقليل من هذه الصعوبات، والمبالغة في تقييم الإيجابيات، ونسير على الطريق المناسب لتحقيق التكامل العربي الإقليمي. وكمساهمة متواضعة في هذا الجهد، فإنّني أضع عدداً من المقترحات الموجهة آملاً أن تأخذ طريقها إلى النقاش والتبنّي.

  • مقترحات

1 ـ أن يضع المؤتمر مسألة دعم الأقلمة العربية والنهوض بها بين أولوياته وفي مقدمة مهامه.

2 ـ أن تشكّل الأمانة العامة لجنة خاصة تتولى النظر في هذه المسألة ووضع تقرير شامل عنها. وأن يتوخّى التقرير دراسة جوانبها الفكرية والاستراتيجية، وأن يتولى صوغ برنامج عام لتعزيز الأقلمة العربية. وفي صوغ هذا البرنامج يمكن الاستفادة من العديد من المشاريع والمقرّرات الصادرة عن مؤسسات العمل العربي المشترك، وبخاصة مؤتمرات القمة العربية.

3 ـ تنظيم ملتقى فكري لمناقشة هذا التقرير خلال فترة لا تتجاوز الأربعة أشهر، ومن ثمّ لاعتماده كأساس من الأسس الرئيسيّة لعمل المؤتمر.

4 ـ الموافقة على تشكيل مرصد عربي لمراقبة سير الأقلمة الذي تقدّم به معن بشّور، الأمين العام السابق للمؤتمر. ويؤمل ألا يقتصر عمل المرصد على مراقبة موقف الحكومات والجهات الرسمية وأدائها في مجال الأقلمة، بل أن يشمل أيضاً أداء الفاعلين غير الحكوميين.

5 ـ بلورة مؤشرات الأقلمة العربية حتّى تكون أساساً لتقييم مواقف وأداء الحكومات والمنظمات المدنية والأهلية في مجال الأقلمة.

6 ـ تكوين شبكة عربية للتكامل الإقليمي تضم مراكز البحوث والتفكير والثقافة ومعاهد العلم المعنية بمسألة تطوير وتعميق النظام الإقليمي العربي ومؤسسات العمل العربي المشترك، بغرض المساهمة في نشر ثقافة التكامل الإقليمي العربي بين المواطنين والخبرات التقنية الضرورية لبناء مشاريع التكامل.

7 ـ بناء التحالفات الضرورية من أجل تشكيل هيئة مطلبية ديمقراطية عربية عابرة للأقطار، يجتمع فيها مواطنون ومواطنات ينتمون إلى شتى الطبقات الاجتماعية والأحزاب العقائدية والجماعات الثقافية للعمل على تعزيز وتفعيل مشاريع الأقلمة، وبخاصة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى ¨

كتب ذات صلة:

قراءات في المشروع النهضوي العربي

المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية

كتب متاحة للقراءة:

المشروع النهضوي العربي: نداء المستقبل

المشروع النهضوي العربي (عرض وتقييم)