مقدمـة:

بدأت فكرة المشروع النهضوي العربي في التَّبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية والتركيبية) وطرحت توصياتُهُ – في جملةِ ما طرحت – الحاجة إلى مشروعٍ نهضوي[1]. وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادةَ المشروع النهضوي كمسائلَ فكرية ذاتِ أولوية في برامج النشر والندوات من أجل توفير مادة علمية يُبْنَى عليها لبلورة رؤيةٍ نهضوية. في الأثناء، كلّف المركز بعض أصدقائه الباحثين بتقديمَ مقترحات حول تصوُّر المشروع ومخطَّطه، وتوصَّل لمجموعةٍ منها عُرِضت على مناقشات داخلية في عام 1996. وفي أيار/مايو 1997، عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست على مدى يومين مخطط المشروع الأوّلي، وأدخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط الأوّلي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي.

وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد على المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثُها ومناقشاتُها – على مدار أربعة أيام – القضايا النهضوية الست التي تشكل أهداف المشروع وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدُّد الحضاري. ونشر المركز الوقائع الكاملة للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه[2].

وشكَّل المركز، عقب الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع، في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها، وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلَّف المركز باحثيْن بإعداد مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عُقِد الاجتماع هذا في بيت مِرِي بلبنان في تموز/يوليو 2001، وتناول – خلال يومين من المداولات – مواد المخطط الأوّلي بالدرس والتدقيق، منتهياً إلى إقرار صيغةٍ شبه نهائية له، ما لبث المركز أن أقرَّها في صيغةٍ نهائية في آب/أغسطس 2001، مشكِّلاً فريقاً لتحرير فصوله من أعضاء لجنة الصياغة.

وقد أعدَّتِ اللجنةُ الأوراقَ الثماني الخلْفية لنصّ المشروع، في ضوء حصيلة ندوة فاس ومُرفقاتٍ أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمَّى المركز أحد أعضاء لجنة الصياغة منسقاً، وكلّفه في صيف عام 2004 بتحرير المسوَّدة الأولى لنصّ المشروع اعتماداً على أوراقه وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. وبعد إنجاز المسوَّدة الأولى، دعا المركز إلى عقد اجتماع للجنة الصياغة في القاهرة (تموز/يوليو 2005) لمناقشة المسوّدة حضرهُ خمسَة عشر عضواً من أعضائها الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أُحيلت الملاحظات إلى منسق التحرير قصد إدخال التعديلات اللازمة على النصّ. ثم دعيَت لجنةُ الصياغة إلى الاجتماع ثانيةً في القاهرة في تموز/يوليو 2006 لمناقشة المسوَّدة الثانية. غير أن العدوان الصهيوني على لبنان (في حرب تموز/يوليو 2006) وإغلاق المطار والحصار الذي ضُرِبَ على لبنان حال دون سفر خمسة من أعضائها إلى القاهرة، ممّا اضطر إلى تأجيله لينعقد في شكل ندوة موسّعة في بيروت في تشرين الثاني/نوفمبر 2006، دُعيَ إلى المشاركة فيها باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم أدخلَ منسقُ التحرير ثانية التعديلات على مسوَّدة النص لتُعرض المسوَّدة الثالثة بعد ذلك بأشهر على المؤتمر القومي العربي (2007)، وترسل إلى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الإلكتروني للمركز لعموم القرّاء العرب، للغاية نفسها.

وبعد أن تجمّعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء المفكرين والباحثين والخبراء، كُلّف أحد أعضاء لجنة الصياغة بإدخال التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت لجنة الصياغة اجتماعاً نهائياً في بيروت في2009 لإبداء الرأي في المسودة لإدخال آخر تعديلات عليها.

لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله على هذا المشروع، على مشاركة التيارات الفكرية كافة في إنجازه (من قوميين وإسلاميين ويساريين وليبراليين) حتى يأتي ممثِّلاً لنظرةَ الأطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه مشروعاً للأمة جمعاء لا لفريقٍ منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركاً في المراحل كافة: من إعداد المقترحات والتصورات، إلى فرق العمل التي ناقشت المخطط وأقرَّته، إلى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، إلى أعضاء لجنة الصياغة وفريق التحرير. وها هو المركز يطرح “المشروع النهضوي العربي” في صورته النهائية على الأمة، واثقاً من أنه سوف يكون دافعاً قوياً لنضالها من أجل تجسيد أهدافه الستة في الواقع العربي، وناظماً فعّالاً لهذا النضال.

 

الفصل الأول

 

في ضرورة النهضة

 

قد تُصاب أمةٌ في لحظةٍ من تاريخها بالكَبْو، فتنتكس حركةُ التراكم والتقدم فيها وربّما تنقلب على الأعقاب، فَتَذْوِي فيها روحُ الإبداع وتسقُط حركتُها في الاجترار، بعد إذْ كانت في قلب صنّاع الحضارة والمدنية والتاريخ. ذلك ما حصل للأمة العربية ومشروعها الإسلامي في تواريخ مختلفة من العصر الوسيط: انقسام الدولة إلى أربعة مراكز (خلافة عباسية في العراق، خلافة فاطمية في مصر، خلافة أموية في الأندلس، خلافة مرابطية في المغرب)، سقوط الخلافة في بغداد، سقوط الأندلس، سيطرة العثمانيين على العالم العربي الوسيط. وقد تُزْمِن لحظةُ الكبو والانتكاس طويلاً فتستغرق عشراتٍ من أجيالها تتباعد الصلةُ بينهم وبين معطيات الحضارة التي تنتسب إليها، فلا تكاد تَعْرِفُ عنها إلاّ اليسير. وذلك أيضاً ما حصل للعرب الذين امتدَّ بهم زمنُ الانحطاط طويلاً إلى حدود القرن التاسع عشر.

لكن الفكرة العليا التي صنعتِ الأمةَ وصنعت لها حضارةً وسلطاناً في التاريخ تظل – مع ذلك كلّه – حيّةً في أذهان قسمٍ ولو قليل من أبنائها، فتدفعه إلى استدعائها باستمرارٍ وإلى الحنين إلى ثمراتها. ثم تدفعه إلى التوسُّل بها مادةً يبني عليها وبها طموحاً أو مشروعاً للنهوض من جديد من أجل اللَّحاق بغيره ممّن اقتحم آفاق التاريخ وذهب بعيداً في خيار التقدم والبناء الحضاري. وتلك كانت سيرة جيلين من النهضويين العرب في القرن التاسع عشر: من رجال الدولة (منذ محمد علي) ومن المفكرين (منذ رفاعة رافع الطهطاوي)، بَدَتْ لهم أوضاعُ التأخر التاريخي العربي وتحدي المدنية الأوروبية الزاحفة في ركاب الاستعمار بيئةً لإثارة سؤال النهضة في وعيهم. وهو عين ما عبّر مشروعُهم الفكري الإصلاحي والتحديثي عنه بجلاء. ثم ما لبث الطموح النهضوي أن أطلَّ مجدَّداً – بعد عثرةٍ في النصف الأول من القرن العشرين – من أرض الكنانة، حين أعلنت ثورة تموز/يوليو1952 مبادءَها الستة، واشتبكت مع الأحلاف الأجنبية و”إسرائيل”، وأطلقت مشروعها التنموي في الداخل، ومشروعها القومي الوحدوي في المحيط العربي، قبل أن تنال منه معطيات حقبة ما بعد حرب العام 1967.

ونحن اليوم، بعد الضربة الموجعة التي أصابت المشروع النهضوي العربي منذ 1967، وبعد احتلال العراق في2003، نجد أنفسنا أمام الأوضاع ذاتها التي عاشتها الأمة غداة الاحتلال الاستعماري لأوطاننا في القرن التاسع عشر وبعد الحرب العالمية الأولى. وإذا كان زحف جيوش نابليون على مصر، واحتلال المشرق العربي وتجزئته، وقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، قد أطلق ثلاثة ردود فكرية وسياسية نهضوية بحجم تلك الأحداث/المنعطفات هي: المشروع الإصلاحي النهضوي في القرن التاسع عشر، والفكر القومي المعاصر بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ثم المشروع القومي الناصري في النصف الثاني من القرن نفسه، فإن لحظة التراجع العربي العام، التي بلغت ذروتها منذ احتلال العراق، ستكون البيئة الموضوعية الطبيعية لمعاودة التطلع إلى الردّ عليها بمشروع نهضوي تستأنف به الأمة مسيرتها نحو الانتماء إلى حركة التاريخ. مشروعٌ تبني فيه على ما سبق من مكتسبات المراحل السابقة، وتضيف إليه أجوبةً تاريخية عن المعضلات الجديدة التي طرحها التطور المعاصر وتحوّلاته الدراماتيكية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي وسنوات العقد الأول من هذا القرن.

 

أولاً: تراجعٌ عربيّ يدعو إلى استنهاض

دخل الوطن العربي، في العقود الثلاثة الأخيرة، طور تراجعٍ عامّ طال مستوياته كافة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية. وقد تفاقمت معطيات ذلك التراجع على نحوٍ لا سابق له، بَدَا معه الوضع العربي وكأنه جانحٌ نحو السقوط. مظاهر عديدة تشهد على ذلك التدهور والتراجع:

1- مظهر تداعيات الهزائم العسكرية أمام الأعداء الخارجيين في السياسات الرسمية العربية، وبناء هذه السياسات على قاعدة التسليم بتلك الهزائم كأمر واقع، لا على قاعدة التخطيط لمواجهة آثارها، ومَحْو تلك الآثار. وإلى تلك التداعيات يعود تفسير ظواهر سياسية سلبية وبالغة الخطورة في نتائجها مثل التنازل عن الثوابت، والتفريط في الحقوق، واللهاث وراء التسويات المجحفة مع العدو، وإسقاط الخيار الدفاعي، والتمسك الأعمى بالحل الأمريكي لقضايا الصراع العربي – الصهيوني. إن هذا النزوع التفريطي الانهزامي هو الذي قاد الأمة إلى “اتفاقية كامب ديفيد”، و”مؤتمر مدريد”، و”اتفاق أوسلو”، و”اتفاق وادي عربة”، واتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني، والتسليم بالاحتلال الأمريكي للعراق، والاعتراف بالمؤسسات غير الشرعية التي أقامها وفرضها على العراقيين، وترك الشعب الفلسطيني وحده يواجه القمع الصهيوني والاستيطان والتهويد. ولقد أخذ هذا المنحى السياسةَ العربية الرسمية إلى إسقاط التزاماتها القومية كاملة والتشرنق على فكرة “السلام” مع حسبانه “خياراً استراتيجيّاً وحيداً”!

ومن الجدير بالذكر أن القوى الحيّة في الأمة قد تمكّنت، غير مرة، من تلقين هؤلاء الأعداء الخارجيين دروساً قاسية، بدءاً بحرب الاستنزاف وحرب تشرين الأول/أكتوبر1973. وإذا كانت النخب العربية الحاكمة قد تكفّلت، لاحقاً، بتحويل الإنجازات التي تحققت في هاتين الحربين إلى هزيمة سياسية، فإن القوى الحيّة في الأمة قد واصلت نهجها المقاوم، وتمكّنت من تحقيق انتصارات عسكرية لافتة، كما في إفشال المشروع الصهيوني في لبنان في أعقاب احتلاله في 1982، وانتفاضة الحجارة الفلسطينية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وتمكّن المقاومة اللبنانية من طرد بقايا القوات الصهيونية عام2000 من الشريط الجنوبي المحتل منذ1978، وإجبار المقاومة الفلسطينية الحكومة الإسرائيلية على إخلاء قطاع غزة وتفكيك مستوطناته في2005، وإلحاق المقاومة اللبنانية للمرة الثانية هزيمة نكراء بالكيان الصهيوني إبان عدوانه على لبنان في2006، وتمكّن المقاومة العراقية من تعويق المشروع الأمريكي في العراق والمنطقة بل وتغيير المعادلة السياسية في الساحة الأمريكية، وإجبار المحتل على وضع جدول زمني للانسحاب من العراق.

وإذا كانت هذه الإنجازات كافة تعني أن قوى المقاومة الحية في الأمة ما زالت قادرة على صدّ موجات التراجع فإنه من الضروري الاعتراف بأن تخلّي النظام العربي الرسمي عنها تماماً وتورطه في مواقف سياسية تعزّز التراجع ولا تصدّه، والانقسامات داخل صفوف المقاومة العربية وانهماكها في معارك سياسية لا تخدم غاياتها النهائية، وقوة الفعل المضاد من قوى الهيمنة لهذه المقاومة عوامل أفضت كلّها إلى تعويق ترجمة هذه الانتصارات إلى مدّ قومي شامل يقضي على الهجمة العدوانية التي تتعرض لها الأمة.

2- مظهر التدهور المروّع في معدَّلات النموّ الناجم، أولاً، عن فساد السياسات الاقتصادية الرسمية، وعن الانتقال من الاقتصاد الموجَّه إلى الاقتصاد الحرّ دون ضوابط، وما استتبعه ونجم عنه من بيع ممتلكات الدولة والشعب إلى أفراد خرج أكثرُهُم من رحم بعض فساد القطاع العام والنهب المنظم للثروة وللمالية العامة…، والناجم، ثانياً، عن سياسات الاستدانة وتبعاتها الخطيرة على مالية الدولة، والانصراف المتزايد عن القطاعات الإنتاجية إلى قطاع التجارة والخدمات ومجمل أشكال الاقتصاد الطفيلي، ثالثاً، والناجم، رابعاً، عن سوء التدبير للفجوة المتزايدة بين الموارد والسكان، وسوء تدبير المال العام، والإنفاق على برامج التنمية وهدر الموارد، وسوء تدبير برامج تنمية الأسرة.

وكان لذلك التدهور المروّع كلفته الاجتماعية الكبيرة: البطالة المتزايدة، والتهميش الاجتماعي، والفقر المتفاقم، وتدهور مركز الطبقة الوسطى في المجتمع، وإفراغ الأرياف من ساكنيها وترييف المدن، ثم ما تولَّد عن ذلك من ظواهر كالعنف الاجتماعي، والعنف السياسي، وتحلُّل منظومة القيم، وتفكُّك الأسرة، وخراب النظام التعليمي.

لقد انهار الأمن الاقتصادي والغذائي في الوطن العربي بنتيجة ذلك كلِّه. وفي امتداد انهياره، زحف الفقر ليشمل قطاعاتٍ عريضةً من السكان، وازدادت الفوارق الطبقية بشكل فاحش ومخيف، وارتفعت درجة الاحتقان الاجتماعي الداخلي، وباتت البلاد العربية مرتعاً لأنواعٍ من التناقضات والصراعات الاجتماعية، تهدّد بزعزعة استقرارها وتعريض أمنها الاجتماعي للخطر.

3- مظهر تزايد وتائر الاستبداد والتسلط في النظم السياسية العربية، وانعكاسهما إهداراً متعاظماً للحريات العامة وحقوق الإنسان. إذ تعاني الحياة السياسية العربية اليوم انسدادٍاً خطيراً قادت إليه سياسات التسلط، واحتكار السياسة والسلطة من قبل نخبةٍ ضيقة، أو عائلة، أو طائفة، أو حزب حاكم، وتهميشََ سائر التعبيرات السياسية الأخرى، وإطلاقً قوى الأمن والاستخبارات في الشؤون العامة، وانتهاكَ القانون والدستور (إن وُجِد)، وتزويرَ إرادة الشعب في الانتخابات، وخرقَ استقلالية القضاء وإخضاعَه للسلطة التنفيذية، وتكميمَ الصحافة بتسليط سيف الرقابة عليها، واحتكارَ الإعلام السمعيّ – البصري، وفرضَ أحكام الطوارئ والقوانين الاستثنائية، وإنشاءَ محاكم غير قانونية لمحاكمة سجناء الرأي، وتجريدَ المعتقلين من حقوق الدفاع ومن الضمانات القانونية والدستورية للمحاكمة العادلة، والتضييقًَ على حرية البحث العلمي، وانتهاكَ أبسط الحقوق المدنية كالحق في السفر والتنقل، وحرمانَ المرأة من حقوقها الطبيعية، وتجاهلَ مطالب المجتمع والمنظمات المدنية والمعارضة ومواجهتها – في معظم الأحيان – بقسوة. وقد ذهبت الأزمة بالنظام السياسي للدولة العربية إلى حدود تحويل الدولة إلى جزء من أملاك الحاكم، على نحو ما تعبّر عنه سياسة التوريث وتحويل الجمهوريات إلى ملكيات جديدة مطلقة!

4- مظهر تضخُّمُ حالة الانكفاء الكياني للدولة القطرية العربية وتضاؤل أحجام ومستويات الصلة بين الدول العربية. لقد وأدت الدولة القطرية العربية فكرةَ الوحدة العربية، لأن المصالح السياسية والطبقية التي يستند إليها النظام السياسيّ فيها، والنخب الحاكمة فيه، تنامت وترسّخت إلى الدرجة التي بات الدفاع عنها، هو الهدف الاستراتيجي الأول لتلك النخب! في المقابل، لم تكن صادقة في صناعة شراكة إقليمية تعاونية – حتى دون مستوى الوحدة – في إطار جامعة الدول العربية، لأن درجة حساسيتها تجاه مسألة السيادة ظلّت عالية جدّاً، فَمَنَعَتْها من رؤية خيار التعاون والشراكة رؤيةً صحيحة. وإذا كان ما يسمّى بالنظام الإقليمي العربي قد بلغ اليوم نهاية نفقه المسدود مراوحاً مكانه، فإن الأنكى والأدهى أن علاقات الدول العربية ببعضها البعض انحدرت إلى دَرَكٍ مخيف: في السياسة كما في الاقتصاد والتجارة، إلى حدٍّ نَكَاد لا نعثر فيه على حالة جوارٍ واحدةٍ حَسَنَة بين دولة ودولة. فَمِنْ مشاكل الحدود، إلى إيواء المعارضين من الطرفين، إلى خوف الواحدة منها من تَحَالُفِ الأخرى مع قوى خارجية، إلى غير ذلك من أسباب ذلك التدهور المطَّرد في العلاقات العربية – العربية الذي يدفع بعضها أحياناً إلى القطيعة السياسية والدبلوماسية، بل إلى المجابهة العسكرية!

لكن أخطر ما انتهت إليه أوضاع النظام القطري العربي لم يكن ترسُّخُه وانغلاقُه، بل تَحَلُّلُه وتفتته وبداية انفراط عقده على نحو ما نُعَانيُه في حالات الصومال والعراق والسودان ولبنان، على تفاوتٍ بينها في الدرجة. إن القوى الاستعمارية التي مزّقت المشرق العربي إلى دويلات قطرية، باتت تستكثر على العرب حتى تلك الدويلات نفسها، متطلعة إلى إعادة تمزيقها وتفصيلها من جديد على مقاس الطوائف والمذاهب والعشائر والجماعات الإثنية الصغرى، وليس النفخ الخارجي في النزاعات الأهلية الداخلية وتنمية العصبيات المحلية وتعزيز الانقسام المذهبي، إلا محاولات لدق الإسفين بين القوى الداخلية المكوّنة للجماعة الوطنية، قصد دفعها إلى الاقتتال مَعْبَراً نحو تقسيمٍ وتجزئةٍ جديديْن!

5- مظهر الانهيار المروّع للأمن القومي نتيجة عجز القدرة الدفاعية العربية عن صونه وحمايته. كان اختلال التوازن العسكري بين الدول العربية و”إسرائيل” – لصالح الأخيرة – بدايةَ ذلك الانهيار، خاصة بعد إسقاط النخب العربية الحاكمة للخيار العسكري وجنوحها المعيب للتسوية. إِذِ اسْتُبِيحَ الأمنُ القومي في هذا السياق، وبات في وسع إسرائيل أن تزحف بجيوشها إلى لبنان، وأن تقصف المراكز العلمية والصناعية العربية (مفاعل تموز العراقي)، وأن تضرب طائراتُها مقر منظمة التحرير في العمق التونسي، وتُنْزِلَ في ذلك العمق فرق اغتيالٍ لتصفية قادة الثورة الفلسطينية (اغتيال الشهيد خليل الوزير: “أبو جهاد”)، وأن تمرح طائراتُها وبوارجها في الأجواء والمياه اللبنانية، وأن تضرب مراكز القوات السورية في لبنان، بل وتقصف العمق السوري…، دون أن تلقى ردّاً. لكن الدرجة الأعلى في ذلك الانهيار، الذي أصاب الأمن القومي العربي، هو التدفق العسكري الواسع للقوات الأمريكية على الجزيرة العربية والخليج منذ التحضير لضرب العراق في العام 1991، وصولاً إلى تدميره والاستقرار في دول منطقة الخليج العربي، انتهاء باحتلال العراق، والتطلع إلى الإخضاع الكامل لسائر دول الدائرة العربية حتى تلك التي تقبل منها بفكرة الأمن المستورد بدل الأمن القومي العربي. ولم يكن ليعدِّل من هذا الانهيار نسبيّاً سوى النجاح في إلحاق ضربات موجعة بالقوى المعادية على نحو ما سبقت الإشارة إليه.

*    *    *

تلك ظواهر تشهد بالمدى البعيد الذي بلغه التراجع في أداء الوطن العربي في العقود الأخيرة، وسياقاتها العربية التي جرى فيها. لكن هذه السياقات مشدودة بمعطياتٍ دولية وإقليمية تفرض أحكامَها على مجمل الواقع العربي، وتفرض التدهور حالاً متماديةَ الفعل والتأثير في حركة تطوُّره المعاصر.

 

ثانياً: السياق العالمي والإقليمي للتدهور

1- على الصعيد العالمي

في أعقاب الانتكاسة التي منيت بها محاولة النهوض العربي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته بفعل العدوان الإسرائيلي في1967 بدا، لوهلة، أن النظام العالمي باقٍٍ على نموذجه السائد في ذلك الحين، بل لقد بدا في عقد السبعينيات أن القوة الأمريكية آخذة في التراجع بفعل الهزيمة العسكرية القاسية في فيتنام وفقدان مواقع مهمة للتأثير والنفوذ، كما حدث بعد نجاح الثورة الإيرانية في1979. غير أن السياسة الهجومية للإدارة الأميركية اليمينية الجديدة منذ مطلع الثمانينيات استطاعت أن تستعيد تدريجياً القدرة الأمريكية على التأثير في الساحة العالمية، وذلك في الوقت الذي بدأت فيه عوامل الوهن الداخلي في الاتحاد السوفياتي تحدث آثارها في كيان القوة العظمى الثانية في قيادة النظام العالمي. وعندما تولى جورباتشوف قيادة الاتحاد السوفياتي في1985 راهن كثير من المحللين على قدرته على وقف تراجع القوة السوفياتية، غير أن خيوط اللعبة أفلتت تماماً من يديه (إذا استبعدنا ما يصرّ عليه البعض من أنه كان شريكاً في مؤامرة على الاتحاد السوفياتي)، وانتهى الأمر باختفاء الاتحاد السوفياتي من خريطة العالم في كانون الأول/ديسمبر1991، وحلول خمس عشرة جمهورية مستقلة محلّه، هي كلّ ما كان الكيان السوفياتي يضمّه من جمهوريات فيدرالية. ولقد ورثت روسيا القوة النووية السوفياتية ومعظم عناصر القوة في الكيان المتفكّك، غير أن استسلامها التام للمعسكر الرأسمالي، في ظلّ رئاسة يلتسين، أفقدها أيّ تأثير أو نفوذ بالمعايير العالمية، وساعد ذلك، دون شك، على بلورة وضع عالمي جديد تمثّلت أهم معالمه في بروز القيادة الأمريكية الأحادية للنظام العالمي، وفقدت الدول المتوسطة والصغرى بذلك عالم القطبية الثنائية الذي وفّر لمن يملك الإرادة منها قدراً من حرية الحركة في الساحة الدولية، وأصبح عليها إما أن تقنع بالتبعية المطلقة للولايات المتحدة، أو تحاول الحفاظ على استقلالها، أو على الأقل على قدر منه في ظل ظروف عالمية بالغة التعقيد، تهدد بضرب كلّ من يتجاسر على تحدّي الإرادة الأمريكية. وكان للدول العربية بطبيعة الحال نصيبها الخاص من هذه التداعيات السلبية بسبب ضخامة المصالح الأمريكية في الوطن العربي، وعلى رأسها المصالح النفطية.

ولقد ساد في حينه جدل داخل الوطن العربي وخارجه حول طبيعة تلك التحولات، وانقسمت الآراء في هذا الصدد، فرأى فريق أنها قد أفضت إلى نظام عالمي جديد أحادي القطبية، سوف يُقدر له أن يسود التفاعلات الدولية لمرحلة كاملة من مراحل تطور العلاقات الدولية، وذلك بالنظر إلى التفوق الواضح للقوة الأمريكية، ووجود مشروع متبلور لقيادة العالم لدى نخبتها الحاكمة، والسلوك الأمريكي التدخلي في القضايا الدولية الذي يجعل هذه القيادة أمراً واقعاً. غير أن فريقاً آخر رأى في هذه التحولات وضعاً مؤقتاً، لأن ثمة تنامياً متزايداً لأقطاب عالمية جديدة لعلّ الصين أبرزها، ولأن المشروع الأمريكي لقيادة العالم القائم على الهيمنة هو في حد ذاته مصدر تآكل للقطبية الأحادية بقدر الممانعة الدولية له، ولأن السلوك الأمريكي في الشؤون الدولية أحدث من الارتباك والفوضى أكثر مما أوجد من التماسك والاستقرار.

مع ذلك، فإن الفريقين لم يختلفا على أن اللحظة كانت تشير إلى انفراد أمريكي ظاهر بمقاليد القرار في الشؤون العالمية، وفي تلك الظروف وقع احتلال العراق في2003، وبدا لوهلة أن الولايات المتحدة تشقّ طريقها بثبات نحو تحقيق الهيمنة على الوطن العربي. غير أن المقاومة العراقية والأوضاع الاقتصادية المتدهورة في الولايات المتحدة أوقفت تقدم المشروع الأمريكي، وبدأت عوامل عالمية أخرى في التبلور على النحو الذي يؤيد وجهة النظر التي تنبأت بعودة قيادة النظام العالمي إلى نموذج التعدّدية، فواصلت القوة الصينية تقدمها بثبات، واستعادت روسيا الاتحادية في ظل قيادة بوتين مقومات قوتها العسكرية، وتجاوزت محنتها الاقتصادية، وبدأت في تبني سياسة تعكس مصالحها الوطنية، بما أفضى إليه ذلك من تعقيدات في العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة بصفة خاصة. يضاف إلى ذلك عودة اليسار إلى السلطة في بلدان أمريكا اللاتينية، عبر صناديق الاقتراع. وإذ رفعت هذه العودة العزلة عن كوبا وفنزويلا، أذنت بتحجيم النفوذ الأمريكي في القارة اللاتينية التي كانت حديقة شبه خلفية لذلك النفوذ، وبكسر حلقة الإطباق الأمريكي على مصائر شعوب وبلدان العالم الثالث، وتوسعة رقعة الممانعة الدولية للسياسات العدوانية الأمريكية في العالم.

ولا شك أن مجيء الإدارة الأمريكية الجديدة في مطلع 2009، وخطابها السياسي التصالحي، وبعض مبادراتها تجاه بعض الخصوم، قد أفضى إلى تراجع التوتر في عدد من الساحات التي شهدت أقصى درجات العدوانية الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن. ومع ذلك، فإن إمعان النظر يظهر أن المحصلة النهائية لهذه التطورات لم تمسّ جوهر السياسات الأمريكية، ناهيك عن التمسك بالتصعيد في أفغانستان، الأمر الذي يؤكد من جديد أن مفتاح التغيير إلى الأفضل بيد العرب وحدهم.

ولا يمكن أن يكتمل تحليل السياق العالمي دون الإشارة إلى التغيرات الكبرى التي حدثت في بنية المجتمع العالمي، التي تبلورت في ظاهرة العولمة، التي أصبحت تؤثر بشكل مباشر في سياسات الدول في كافة المجالات. وبناءً على ذلك يمكن القول إن صانع القرار القطري قد فقد حرية الحركة النسبية التي كانت له قبل بزوغ عصر العولمة، الذي ساد على وجه الخصوص بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.

 وإذا كان صحيحاً أن العولمة الراهنة تكشف عن ذروة من ذرى تطور النظام الرأسمالي العالمي، فإن التاريخ سيتجاوز هذه اللحظة، وسيكشف المستقبل المنظور عن أن العولمة ستتجاوز شروط نشأتها لتصبح عملية عالمية واسعة المدى، ستنقل الإنسانية كلها إلى آفاق عليا من التطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والسياسي والاجتماعي. وبعبارة أخرى ستحدث آثاراً إيجابية لم تكن متصورة لدى من صمموا عملية العولمة، بل ستتجاوز هذه الآثار مخططاتهم التي كانت تهدف إلى الهيمنة والسيطرة على النظام العالمي، وسيثبت التاريخ أنه لن يتاح لدولة واحدة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو حتى لمجموعة من الدول، أن تهيمن هيمنة كاملة على العالم اقتصادياً وسياسياً وتكنولوجياً وعلمياً، وإلا حكمنا على شعوب الأرض جميعاً بالعقم وعدم الفاعلية.

 وفي هذا الإطار، ثمة حاجة ملحّة إلى منهج صحيح للتعامل مع ظاهرة العولمة بكل أبعادها، فالعولمة عملية تاريخية غير قابلة للارتداد، وبذلك يعد منطقاً متهافتاً ما يدعو إليه البعض من ضرورة محاربتها، لاستحالة الوقوف أمام نهر متدفق، هو عبارة عن حصاد تقدم إنساني، تمّ عبر القرون الماضية، وأسهمت فيه شعوب وحضارات شتى، وإنما الأجدى هو تحليل تأثيرات العولمة في الوطن العربي، وما تفرضه من تحديات، يتعين علينا العمل على التوصل إلى السبل المثلى لمواجهتها.

 لا شك أن للعولمة تجليات اقتصادية وثقافية يمكن في سياقها تحليل تلك التأثيرات. فبالنسبة إلى التجليات الاقتصادية للعولمة تتضح معالمها في تزايد الاعتماد المتبادل بين اقتصادات الدول على مستوى العالم، ووحدة الأسواق المالية والنقدية، وفتح الحدود أمام التجارة الحرة بلا قيود، إلا أن أبرز رمز معاصر للعولمة الاقتصادية يظل تأسيس منظمة التجارة العالمية. وإذا كانت غالبية الدول العربية قد وافقت على المعاهدة الخاصة بإنشاء هذه المنظمة التي أخذت على عاتقها فتح الحدود لحرية التجارة، وإزالة كافة القيود وأنماط الدعم التي تفضلها بعض الدول، فإن أخطر ما يرتبط بها أنه بعد نهاية فترة السماح التي أعطيت لبعض الدول سوف يفتح المجال واسعاً عريضاً أمام حقبة التنافس بغير قيود، ويفترض التنافس العالمي أن كافة الدول، غنيّها وفقيرها، ستكون على قدم المساواة، ومن هنا ينبغي أن تلتفت الدول العربية إلى أهمية الارتقاء إلى مستوى المنافسة العالمية.

 ويخطئ صناع القرار العرب لو ظنوا أن تحديات عصر المنافسة العالمية هي تحديات اقتصادية بحتة تتصل بزيادة الصادرات أو رفع معدل الإنتاج، أو الارتقاء بمستوى الجودة. ذلك أن أخطر التحديات في هذا المجال بالذات هو التحدي الثقافي، وهنا تتعين الإشارة، على وجه الخصوص، إلى الارتفاع الخطير في معدلات الأمية في الوطن العربي، التي تصل في بعض التقديرات إلى 60%، وهو ما يعني أن 60% من الشعب العربي لن يكونوا قادرين على التعامل بكفاءة مع عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، ومع حقبة ثورة الاتصالات الكبرى، ونشوء مجتمع المعلومات العالمي. وهكذا يمكن القول إن الوطن العربي يحتاج إلى ثورة تعليمية كاملة لا تقضي على الأمية فحسب، وإنما تعيد بناء مؤسسات التعليم العام من حيث الشكل والمضمون، وترفع مستوى الأداء في المؤسسة الجامعية، وفي المراكز البحثية.

أما بالنسبة إلى التجليات السياسية للعولمة فإنه يمكن القول إنها تتركز في رفع شعارات الديمقراطية أو التعددية الفكرية والسياسية، واحترام حقوق الإنسان. وفي مواجهة كل شعار من هذه الشعارات تجابه الدول العربية جميعاً تحديات خطيرة، فقد قطع بعض الدول العربية خطوات في طريق الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية والتعددية السياسية، إلا أن هذه التعددية السياسية مازالت مقيدة، كما إن عدداً لا بأس به من الدول العربية لم يخط الخطوة الأولى في طريق الديمقراطية. ومن المشكلات المثارة في هذا المجال ما يطرح حول: أي نظرية ديمقراطية يمكن تطبيقها في الوطن العربي؟ فهناك أنصار الديمقراطية الغربية الذين يرون ضرورة تطبيقها بحذافيرها، وهناك معارضون لهذا التوجه يدافعون عن الخصوصية الثقافية في هذا المجال، ويرفعون شعار الشورى في مواجهة الديمقراطية الغربية، أو يطالبون بتأسيس ديمقراطية عربية تتفق مع الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع العربي.

 أما حقوق الإنسان، فهي تمثل تحدياً للممارسات السياسية في كثير من أقطار الوطن العربي، لأن بعض الدول العربية لا يريد أن يطبق المعايير الدولية لحقوق الإنسان، زعماً بأنها تتعارض مع سمات الخصوصية الثقافية. وعلى الدول العربية أن تستعد لخوض حرب شرسة في هذا المجال مع الهيئات الدولية والمنظمات غير الحكومية التي تضغط لتطبيق المعايير العالمية لحقوق الإنسان.

 ويمكن القول إن من أخطر تحديات العولمة السياسية ما برز في ميدان العلاقات الدولية، فقد أصبح حق التدخل يُفرض فرضاً على بعض الدول أساساً من خلال تحكم الولايات المتحدة وسيطرتها على مجلس الأمن الدولي. وهكذا، وإعمالاً لهذا الحق الذي يستند –كما يقال- إلى الشرعية الدولية حوصرت شعوب عربية لأسباب مختلفة. ويعتبر حق التدخل من أخطر التحديات الجديدة التي تواجه الوطن العربي، وهو ما يدعو دوله إلى بذل جهد متصل في مجالين:

أولهما، تعديل الأوضاع التي أدت إلى فرض هذه العقوبات تعديلاً جذرياً، بحيث تنتهي العوامل المرتبطة باستمرار فرضها بشكل واضح.

وثانيهما، جهد سياسي وفكري يقع على عاتق رجال الدبلوماسية والقانون الدولي والمفكرين، في تقديم مبادرات دولية تناقش على المستوى العالمي لتقنين حق التدخل، ومنع الازدواجية، خاصة ما يتعلق بإخلاء ساحة إسرائيل في هذا المجال، وعدم تطبيق أية عقوبات عليها رغم جرائمها اليومية ضد الشعب الفلسطيني.

وأخيراً، فإن القضية المطروحة في إطار تحليل التجليات الثقافية للعولمة هي الدعوة إلى بناء ثقافة كونية تتضمن نسقاً متكاملاً من القيم والمعايير لفرضها على كافة الشعوب، مما قد يؤثر في الخصوصية الثقافية للشعب العربي. وهكذا يمكن القول إن تحديات العولمة للوطن العربي متعددة، ومعقدة، وهي – كما تمّت الإشارة – ذات أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية، تحتاج إلى جهد كبير من قبل صناع القرار العربي، والجامعات ومراكز الدراسات العربية للتعامل معها، لأن الطريق الوحيد أمامنا هو التفاعل الإيجابي الخلاق مع المتغيرات العالمية الجديدة.   

 

2- على الصعيد الإقليمي

لا شك أن الكيان الصهيوني قد لعب دوره في التدهور الذي ألمّ بمحاولة النهضة العربية، فقد كان هو الأداة التي وجّهت الضربة العسكرية للدولة القائدة لهذه المحاولة في1967، واستطاع هذا الكيان، على الرّغم من الإنجاز العربي في حرب الاستنزاف عقب عدوان 1967، وحرب 1973، أن يثابر على سياسته العنصرية التوسعية بسند أمريكي مطلق، وفي هذا الإطار حدث الاختراق الإسرائيلي الكبير للأمة العربية بتوقيع معاهدة السلام مع مصر في 1979 والأردن في 1994، وما تبع ذلك من هرولة، غير مبررة، من قبل عدد من الدول العربية باتجاه إسرائيل، الأمر الذي عزّز الانقسام العربي بشأن سبل المواجهة مع إسرائيل. وعلى الرغم من أن المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية قد حققتا انتصارات لافتة في هذه المواجهة، وبصفة خاصة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فإن غياب ظهير عربي قوي لهما، واستشراء الانقسام الداخلي بين فصائل المقاومة الفلسطينية قد مثّلا قيداً واضحاً على هذه المقاومة.

في السياق الإقليمي أيضا،ً أخفق النظام العربي في التوصل إلى معادلة صحيحة للعلاقة مع جارتيه الآسيويتين الكبيرتين إيران وتركيا. في البدء كانت إيران الشاهنشاهية جزءاً لا يتجزأ من المشروع الأمريكي المناهض لآمال الأمة وغاياتها، وعندما نجحت الثورة الإيرانية في 1979 تبادلت إيران الأدوار مع عرب المدّ القومي في ستينيات القرن العشرين، غير أن التشدد القومي الواضح للثورة الإيرانية والتناقض بين مشروعها “الإسلامي” والنظم العربية عامة، والخليجية خاصة، أوجد احتقاناً في العلاقات العربية – الإيرانية بلغ ذروته بانفجار الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988) لتكون أطول حرب نظامية يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد كان لتلك الحرب أسوأ الآثار في تدمير مقومات القوة العربية، وتعثر مسيرة الأمة على طريق التنمية. وبين دور إيراني في العراق مرفوض عربياً، وإمكانات عمل عربي – إيراني مشترك لمواجهة محاولات الهيمنة الصهيو – أمريكية، ما زال النظام العربي غير قادر على أن يجد المعادلة الصحيحة لعلاقته بإيران على النحو الذي يعظم القواسم المشتركة، ويحفظ المصالح العربية في آن واحد.

وبالنسبة إلى تركيا، فشل النموذج التركي الذي أيّده الغرب، وبصفة خاصة الولايات المتحدة، لتحقيق نهضة إقليمية في الشرق الأوسط في أن يحصل على قبول من جانب النخب السياسية في الوطن العربي لأسباب كثيرة، منها العامل التاريخي، ومنها أيضاً طبيعة العلاقة بين تركيا، كدولة أطلنطية، والولايات المتحدة التي لعبت دوراً رئيسياً في وأد مشروع النهضة العربية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. ويضاف إلى ذلك عوامل التوتر في العلاقات العربية – التركية بخصوص قضايا حيوية كالمياه ولواء الاسكندرونة والعلاقات التركية-الإسرائيلية، ومع ذلك فإن التطورات الداخلية في تركيا في العقود الأخيرة، وانكشاف حقيقة الرغبة الغربية في عدم قبول تركيا دولة ناهضة في مجتمع الدول الغربية المتقدمة قد ولّدا توجهات جديدة في السياسة التركية تجاه الوطن العربي فتحت آفاقاً رحبة لتطوير العلاقات العربية – التركية، وبصفة خاصة في ضوء التطورات الإيجابية في الموقف التركي تجاه الصراع العربي – الإسرائيلي، وبالذات منذ العدوان الإسرائيلي على غزة (2008/2009).

وعلى صعيد القارة الأفريقية، أخفق النظام العربي في تحقيق علاقات تعاونية مستقرة مع الجانب الأفريقي تجعل من الطرفين حليفين في السعي نحو النهضة والتصدي لمحاولات الهيمنة. كان للنظام العربي في مرحلة المد القومي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته دوره الفاعل في معارك التحرر الأفريقية، غير أن هذا الدور واجه دوماً عقبة التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا. وعلى الرغم مما بدا أن التعاون العربي – الأفريقي قد بلغ ذروته بعقد القمة العربية – الأفريقية في آذار/مارس 1977 إلا أن الآمال المعقودة على هذا التعاون سرعان ما انحسرت مع بداية الانقسام العربي حول التسوية مع إسرائيل في السنة نفسها، ومع تفاقم الانقسام العربي، واستمرار النشاط الإسرائيلي، ودخول قوى عالمية جديدة على رأسها الولايات المتحدة والصين إلى ساحة التنافس داخل القارة الأفريقية، بدا أن الحضور العربي في أفريقيا أضعف من أن يولّد تعاضداً عربياً – أفريقياً من أجل نهضة شاملة.

*    *    *

ويعني ما سبق أن السياق العالمي والإقليمي لمحاولات النهضة العربية لم يكن دوماً مواتياً أو غير مواتٍ، فقد بقي قدر من حرية الحركة في النظام العالمي عقب هزيمة 1967، لكن النظام العربي لم يحسن استغلاله دوماً. وعندما تحولت قيادة النظام العالمي إلى نموذج الأحادية القطبية واجه النظام العربي واحدة من أسوأ مراحله، ويكفي أن احتلال العراق قد تم أثناءها، غير أن هذا النظام بسبب عوامل الضعف الداخلي فيه بدا حتى الآن غير قادر على الاستفادة من التطورات العالمية المواتية التي بدأت قسماتها تتضح في أعقاب احتلال العراق والصحوة الروسية والتقدم الصيني المطّرد. ويعني هذا أنه ما لم تحدث تحوّلات داخلية مواتية في النظام العربي فإن التطورات العالمية باتجاه العودة إلى تعددية القيادة في النظام العالمي لن يكون لها أثر يذكر في مسيرة نهضته، والأمر نفسه ينطبق على السياق الإقليمي، فقد كان بمقدور النظام العربي أن يستثمر على نحو أفضل ما حققه من إنجازات في صراعه مع الكيان الصهيوني، والقواسم المشتركة مع الثورة الإيرانية والسياسة التركية والبلدان الأفريقية، غير أن هذا النظام ظل غير قادر على إيجاد المعادلة الصحيحة في مجمل علاقاته الإقليمية.

 

ثالثاً: غياب مشروع نهضوي معاصر

تلك سمات البيئة الإقليمية والدولية، والفرص والهوامش المتاحة أمام الشعوب غير الغربية للنهضة والتقدم. فما الذي يمنع الوطن العربي من استثمار تلك الفرص وتوقي المخاطر؟ الجوابُ هو غياب مشروعٍ نهضويٍّ عربيٍّ معاصر يتطلع إلى إنجاز حلقات التوحيد القومي والتنمية والاستقلال والتقدم. أما أسباب هذا الغياب، فَلَها تاريخ.

بدأ العرب مشروعَ نهضتهم الفكرية والسياسية مبكراً نسبيّاً. أدركوا المغزى العميق لحملة بونابرت واحتلال الجزائر: نهايةُ مَدَنِيَّةٍ وبدايةُ أخرى. ولم يتأخروا في الردّ على تحدّي ذلك التحوُّل الجديد الذي أَحْدَثَهُ قيام المدنيَّة الأوروبية الحديثة، فجاء الردّ استجابةً. نعم، قاوموا الغزوة الكولونيالية بإباء، لكنهم تنبَّهوا إلى ما في أوروبا من مصادر قوة: العلم والصناعة والتنظيم العقلاني للإدارة والدولة والقوة العسكرية الحديثة… إلخ، واجتهدوا في الأخذ بأسبابها وفي تأصيلها.

1- تجربة النهضة الأولى

بدأ محمد علي باشا تجربته في الإصلاحات متأثراً بفرنسا. كان ذلك قبل أن تبدأ الدولة العثمانية تجربة “التنظيمات” بعقود. ولقد طبعت محاولاتُه تلك سائرَ المحاولات الإصلاحية التي أعقبت الأولى في القرن التاسع عشر. ومََنْ يستعد اليوم معطيات التجربة الإصلاحية العربية على ذلك العهد – مع محمد علي وإبراهيم باشا في مصر، وأحمد الباي في تونس، ومحمد الرابع والحسن الأول في المغرب – يَلْحَظ ما بينها من جوامعَ ومُشْتَرَكَات على صعيد “جدول أعمالها”: تحديث الجيش وتطوير هيكله النّظاميّ، الإصلاح المالي والجبائي، الإصلاح الإداري، تطوير النظم التعليمية وإرسال بِعْثَاتِ الطلبة إلى أوروبا للتكوين، إصلاح نظام العلوم الدينية في جامعات الأزهر والزيتونة والقرويين، إقامة أَنْوِيَةِ صناعاتٍ وطنية… إلخ. وربَّما تفرَّدتْ مصر منها بهاجسٍ صناعيّ أكبر. جسّده تصدي محمد علي لمنافسة الصناعة الأوروبية وإنشائه نظاماً احتكارياً موّل من عائده إنشاء صناعة حديثة لهذا الغرض، فاستورد الآلات والفنيين من أوروبا، وأنشأ معامل عديدة، وأرسل البعوث الفنية والعملية إلى أوروبا للتزوّد بالمعارف الحديثة، وأصاب في هذا كلّه نجاحاً لافتاً.

كان لهذا المشروع النهضوي وجْهٌ فكري رافَقَ المشروع السياسي وأسَّسَ له شرعيته. وهو كناية عن التراث الفكري الإصلاحي الإسلامي والتراث التنويري الحداثي في القرن التاسع عشر: التراث الذي دارت موضوعاته حول التّرقي والتّمدن والإصلاح والحرية، وساهم في صَوْغِ نصوصه الكبرى مفكرون كثر من التيارين الإسلامي والليبرالي (الطهطاوي، خير الدين التونسي، محمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، عبد الله النديم، أحمد فارس الشدياق، أديب إسحق، فرح أنطون…). وليس من شك في أن وجود مشروع سياسيٍّ نهضويٍّ حينَها وفَّرَ شرطاً تاريخيّاً لنمّو هذا التراث الفكريّ النهضويّ؛ وكما أن وجود الأول حينها كان في حاجة إلى الثاني: يبرره ويؤسس له المشروعية، فإن الثاني كان بحاجة إلى الأول ليستلهمه فيما يدعو إليه، ولم يكن عبثاً أن طلباً متزايداً على النخبة الإصلاحية ارتفع كثيراً بارتفاع معدَّل الانغماس السياسي في عملية الإصلاح، وأن بعض رموز النهضة الفكرية أُوكِلَتْ إليهم وظائف كبيرة في الدولة.

 

2- تجربة النهضة الثانية

ولقد دَشَّنَتِ الثورةُ المصرية (23 تموز/يوليو 1952) طوراً نهضويّاً جديداً حين أطلقت مبادئها الستة ومشروعَها التنمويَّ والاستقلاليَّ والوحدويّ. فقد أحدثت مكتسباتُها استنهاضاً، لا سابق له، لكلّ قوى الأمة وطموحاتها التحررية والقومية. ومَنْ يستعد اليوم معطيات البرنامج الناصري، والمكتسبات التي تحققت في إطاره، يدرك إلى أيّ مدًى شقَّ ذلك المشروع طريقه إلى النهضة. وتقتضي الأمانة أن يقال إن هذا البرنامج قد نهل من برامجَ سابقة عليه لمفكرين عروبيين وقوى سياسية قومية عربية رائدة.

استند المشروع الناصري إلى رؤية برنامجية لعملية النهوض الوطني والقومي شملت المجالات كافة: توجهت في الداخل المصري إلى تحقيق الإصلاح الزراعي وإعادة تحديد ملكية الأرض وتوزيعها على الفلاحين الصغار، وتحديد الإيجارات للأراضي الزراعية واستصلاح الأراضي وتنمية مساحاتها، وإعادة تنظيم تدفق الثروة المائية وتوزيعها ببناء السدّ العالي. وتوجّهت إلى التصنيع الثقيل وإنتاج أدوات الإنتاج، فضلاً على تنمية صناعة النسيج. وأمَّمت شركة قناة السويس والبنوك والمصارف والشركات الكبرى المملوكة للأجانب أو لقوى الرأسمال الخاص وأخضعتها لملكية الدولة، ونمَّت القطاع العام. ثم قدمت مساهمةً رائدة في تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والحدّ من الفوارق بين الطبقات بإنصاف فئات الكادحين في حقوقهم الاجتماعية، وبخاصة في مجال الحق في المسكن والصحة والتعليم. وقبل ذلك كلّه، أنجزت مهمة الاستقلال الوطني الكامل من خلال حمل بريطانيا على الجلاء.

أما على الصعيد القوميّ، فقادت مصر الناصرية المعركة ضد الأحلاف الأجنبية، ووضعت قضية فلسطين والصراع العربي – الصهيوني في قلب أولويات سياستها الخارجية، فخاضت حربين ضدّ إسرائيل، ورعت مشروع إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، ودعمت فصائل المقاومة بالمال والسلاح، وفكّت طوق الحصار والقتل عن مقاتليها في الأردن صيف عام 1970، وقدمت الدعم للحركات الوطنية في المغرب العربي وللثورة الجزائرية خاصة، ناهيك عن اليمن، وأطلقت أول تجربة وحدوية عربية (الوحدة المصرية – السورية). وأسَّست فكرة التضامن العربي، في إطار جامعة الدول العربية، على قاعدة التمسك بالثوابت القومية وعدم التفريط فيها. وامتد دعمها لحركة التحرر الوطني في أفريقيا، ورعت ميلاد حركة عدم الانحياز في العالم الثالث، واضطلعت بدور قيادي بارز فيها.

ولقد كانت لهذا المشروع النهضويّ الذي حملته الناصرية في النطاقين الوطنيّ والقوميّ وقطعت فيه أشواطاً، تأثيراتٌ بالغةٌ في مجمل الوضعِ العربيِّ: الشعبيِّ والرسميّ. فبقدر ما حَمَل الفكرةَ القوميَّةَ النهضويَّةَ إلى الآفاق الرحبة وكرَّسها في الرأي العام واسْتَوْلَدَ جمهورَها العربيّ، بقدر ما قدَّم مثالاً مرجعيّاً لتجارب عربية أخرى في الجزائر والعراق وسورية جرَّبت أن تنسج على منواله.

لكن هذه اللحظة النهضوية الثانية، التي أطلقتها الناصرية في فجر النصف الثاني من القرن الماضي، سرعان ما تعرضت للانتكاس ابتداء من حرب عام 1967، وخاصة بعد رحيل عبد الناصر والانقلاب على مشروعه في مصر وبَقية البلاد العربية منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي.

 

رابعاً: من أجل البناء على مكتسبات مشاريع النهضة السابقة وتراكماتها

إذا كانت فكرةُ النهضة قد وُئِدَتْ وأجْهِضَتْ تجربتان منها (في مطلع القرن العشرين وفي نصفه الثاني)، فليس ذلك خاتمةُ المطاف. بل من الواجب التحرر من النظرة العدمية وإعادة قراءة التجربتين في ممكناتهما التاريخية، وفي أفق البناء على ما أنجزتاه من مكتسباتٍ للانطلاق بمشروعٍ نهضويٍّ جديد يستأنف ما بدأته التجاربُ السابقة. ونقطةُ الانطلاق في هذا الجَهْد هي النظر بعين النقد لمجمل العوامل والأسباب التي أخذت تجربتيْ النهضة العربية إلى الإخفاق.

1- تحليل أسباب وعوامل إخفاق مشاريع النهضة السابقة

أ- لقد انتهت تجربة النهضة الأولى، التي انطلقت منذ محمد علي وحتى “الثورة العربية” أثناء الحرب العالمية الأولى، إلى ما انتهت إليه من إخفاق نتيجة جملةٍ من العوامل السياسية والفكرية، نرصد منها ثلاثة رئيسَة:

(1) أول هذه العوامل هو فشل فكرة “الثورة العربية” وتجربتها، واصطدامها بزيف الوعود البريطانية بدعم قيام الدولة العربية في حال تحالفت الحركة العربية مع بريطانيا في الحرب ضد تركيا. وبدل أن تقوم الدولة العربية، سقطت الأقاليم العربية في المشرق العربي – الواحد منها تلو الآخر – في قبضة الاحتلال الاستعماري: البريطاني والفرنسي. قبلها، كانت أقطارٌ عربية كبيرة قد سقطت تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي: الجزائر في مطلع ثلاثينيات القرن الـتاسع عشر، مصر وتونس في مطلع ثمانينيات القرن نفسه، وليبيا في عام 1911، والمغرب في عام 1912. ولقد أنهى احتلال هذه البلدان تجربة النهضة التي بدأها محمد علي والباي ومحمد الرابع إلى حين، وأعاد المحاولة إلى نقطة الصفر.

 

(2) وثانيها ما أعقب سقوط المنطقة في قبضة الاحتلال الأجنبيِّ من عملية تمزيقٍ كيانيٍّ لأوصالها الجغرافية والبشرية على نحوٍ قاد إلى تجزئتها وإلى استيلاد دويلاتٍ قطرية قوامُها تكويناتٍ عصبوية: طائفية ومذهبية وعشائرية مُنْتَزَعَة من بنية الجماعة الوطنية الجامعة ومقذوفاً بها إلى علاقاتٍ أخرى اجتماعية – سياسية لا ترى نفسها فيها إلا بوصفها أقليات منغلقة على عصبياتها. وهكذا انتقلت المنطقة من طُوبى النهضة والتقدم، التي بَدَأَتْها في القرن التاسع عشر، إلى حيث تعيش مسألةً كيانية أسوأَ حتى من تلك التي عاشتها إبَّان سياسة التتريك حين انْفَلَتَت النزعةُ الطُّورانية من عِقَالها.

 

(3) وثالثها تراجُعُ الفكر الاجتهادي الإصلاحي، منذ مطلع القرن العشرين، بعد غياب محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وانقلاب محمد رشيد رضا على الإصلاحية الإسلامية، في عشرينيات القرن الماضي، مع بداية تنظيره لدولة الخلافة على حساب الدولة الوطنية. ولقد طال هذا التراجع الفكر الليبراليَّ ذاتَه أمام هجوم الفكر المحافظ: وتعد محاكمة كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي، وكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرَّازق مثالاً على ذلك الهجوم.

 

لم يكن المنحى العام الانحداري الذي شهدته السياسة والثقافة في البلاد العربية، بين الحربين، ليُسقِط من الاعتبار حقائقَ أخرى من قبيل انبعاث بعض مظاهر التفكير الإصلاحي مع عبد الحميد بن باديس وعلال الفاسي والشيخ الثعالبي وعبد الرزاق السنهوري ومحمود شلتوت، ومن قبيل توحيد مناطق عربية في دولة موحَّدة كما فعل ذلك الملك عبد العزيز آل سعود حين وَحَّد أقاليم الجزيرة العربية وأسَّس المملكة العربية السعودية، كما من قبيل قيام حركات وطنية استقلالية في معظم البلاد العربية ردّاً على الغزوة الكولونيالية الخارجية. لكن المناخ العام كان مناخ تراجعٍ لفكرة النهضة وإرادتها.

*    *    *

ب- أما المشروع النهضوي الثاني – الذي قادته مصر الناصرية – فتعرَّض للانتكاس لجملة أسبابٍ وعوامل لعلّ أهمها:

أولها أنه جُوبِهَ مجابهةً حادة من طرف القوى الامبريالية والصهيونية التي نجحت في إلحاق ضربتين موجعتين به، هما: الانفصال في أيلول/سبتمبر 1961، وعدوان حزيران/يونيو1967. وهو في هذا يشبه مشروع محمد علي وإبراهيم باشا. كلاهما لم يبدأ سقوطه من الداخل (وإن كان ذلك الداخل غيرَ مُجَهَّزٍ بمؤسسات تحميه)، وإنما بضربة عسكرية من الخارج: من فرنسا وبريطانيا المتحالفتين مع غريمهما العثماني في حالة محمد علي، ومن أمريكا و”إسرائيل” في حالة عبد الناصر.

وثانيها تأجيلُه مطلب الديمقراطية، واعتبارها دون قضية التنمية أولوية، وبالتالي استبعادُهُ قطاعاتٍ واسعةً من الشعب من المشاركة السياسية وإدارة المشروع نفسه.

وثالثها قيامُه على كاريزما الزعيم وغياب نظام المؤسسات، الأمر الذي ذهب بالمشروع بعد رحيل صاحبه وسهَّل الانقلاب عليه، بل لقد سهّل حدوث انتكاسات مهمة حتى قبل ذلك الرحيل، كما في تجربة الوحدة المصرية – السورية (1958-1961).

ورابعها الدعم الكثيف الذي تلقته قوى الثورة المضادة والنخب الرجعية من أمريكا للانقضاض على ذلك الميراث النهضوي وإعادة جدولة الأولويات: الصلح مع أمريكا و”إسرائيل”، والرأسمالية المتوحشة العالمية وقواها في الداخل، والتمسك بالدولة القطرية كمقدَّس سياسي. والأنكى أن بعض تلك القوى والنخب خرج من رحم الثورة نفسها!

وخامسها أن الصراع الذي نشب بين المشروع الناصري وبين قوى الإسلام السياسي واليسار لم يُمكِّن من استيلادِ تحالفٍ عريض يضم سائر القوى ذات التمثيل الأصيل والفعالية السياسية  تحمل ذلك المشروع وتنهض بمهمة تحقيقه.

لقد أرهقت المشروع تناقضاتُه الداخلية، لا شك. لكن الضربة القاضية التي أطاحت به كانت من الخارج. وهو عينُه ما تكرَّر مع العراق بعد قرابة ثلث القرن. وفي ذلك ما يعني أن القوى الامبريالية والصهيونية تقف مترصدة كلّ محاولة عربية للنهضة وتجهِّز النفس لإسقاطها في المهد، مستعملةً لذلك الوسائل كافة.

 

2- تعظيم عوامل القوة في تلك المشاريع وإعادة تثميرها

إن المآلات التي آلت إليها تجارب النهضة السابقة لا ينبغي أن تحجب عنّا ما راكمته من مكتسبات، وما كان فيها من عوامل قوة تحتاج اليوم إلى استعادةٍ وتطوير، وإلى تضمينها في مشروع جديد. إن أحداً لا يملك اليوم أن يجحد حقيقة أن الحقبة الليبرالية بين الحربين نَبَّهَتْنَا –ولو في وقت متأخر– إلى أهمية مسائل مثل الحرية والدستور والتمثيل النيابي، وأن الحقبة القومية تمثلت تمثُّلاً خلاَّقاً مطالب الوحدة القومية والاستقلال الوطني والقومي والتنمية المستقلة، وأن التيار اليساري قدَّم مساهمة رائدة في بناء رؤية نظرية لمسألة الاشتراكية والتوزيع العادل للثروة، وأن التيار الإسلامي قدَّم رديفاً لها في تشديده على مسائل الهوية والثقافة والجماعة والتنبيه إلى أهميتها. والمطلوب اليوم هو تعظيم تلك المكتسبات من خلال تطويرها ودمجها في مشروع نهضوي واحد يُعيد إقامة علاقات التلازم والترابط بينها بدل علاقات التنافر والتضاد.

 

خامساً: في المشروع النهضوي العربي الذي نريدُه

المشروع النهضوي الذي تتطلع إليه الأمة اليوم هو المشروع الذي ترى في مرآتِه مسْتَقْبَلَها. وهو إذ يُفْصِح عن تطلعاتها إلى واقعٍ تكون فيه مشارِكةً في التاريخ وذاتَ دورٍ فيه مناسبٍ لصورتها عن نفسها كأمّةٍ ذات رصيد تاريخيّ، فهو يستوعب كافة الأهداف والمطالب التي حملتها ستة أجيال عربية – في العهد الحديث والمعاصر – وناضلت من أجل إنجازها (فنجحت في بعضها وأخفقت في أغلبها)؛ لكنه يعيد بناء الصلات والعلائق بينها بشكل جديد.

1- طبيعةُ المشروع النهضوي وأهدافُه

يبرّرُ فكرةَ مشروعٍ نهضوي عربي ما تعانيه الأمّة ضَعْفٍاً ووهناً في أوضاعها، وتشوهاً في الرؤية بفعل ما ينهمر عليها من نكبات وتراجعات. وحين تكون الأمة بهذا الحجم من التراجع والضياع والتِّيه، على الرغم ممّا تضمّه من قوى حيّة، فإنها تحتاج إلى بوصلة تهتدي بها وترشِّد بها فاعليتََها. وليس غير مشروعٍ شاملٍ واستراتيجي، مثل المشروع النهضوي، يقدم لها – وللقوى الحية فيها – مثل تلك البوصلة.

يمثل المشروع النهضوي هذا ردّاً على معضلات ستّ فرضت نفسها على الواقع العربي وعلى العقل العربي منذ قرنين: الاحتلال، والتجزئة، والتخلّف، والاستغلال، والاستبداد، والتأخر التاريخي.

الاستقلال الوطني والقومي هو الجواب التاريخي عن حالة الاحتلال. والوحدة القومية هي الردّّ الاستراتيجي على التجزئة الكيانية التي باتت هي الأخرى مهددة بتجزئة دون قطرية. والتنمية المستقلة هي بديل التخلّف والتنمية القاصرة في ظل العولمة. والعدالة الاجتماعية هي نقيض الاستغلال والفوارق الطبقية الضخمة التي تعمّقت في ظلّ محاولات فرض نموذج ليبرالي بدعوى تحقيق الكفاءة الاقتصادية. والديمقراطية هي السبيل الوحيد لمشاركة الأمة في صنع مستقبلها. والتجدّد الحضاري هو الحلّ لمعضلة التأخُّر التاريخي والانحطاط. هي أهدافٌ ستة – إذن – تلك التي تؤسّس المشروع النهضوي العربي وتَحْمل على الحاجة إليه.

ومن النافل القول إنها ليست أهدافاً جديدة، ولا بدأ الانتباه إليها مع ميلاد فكرة المشروع النهضوي اليوم. بل لاَزَمَتْ مسيرة الفكر السياسي والعمل السياسي العربيَّيْن منذ القرن التاسع عشر، وخاصة منذ الحرب العالمية الأولى. لكنها – أبداً – لم تتبلور كأهداف كاملة مترابطة إلا في المشروع النهضوي، وإن كانت الأمانة تقتضي الاعتراف بأن شكلاً من أشكال الترابط بينها تَبَلْوَرَ في برنامج الثورة المصرية على نحو ما عبَّر عنه الميثاق أبلغ تعبير، فقبل المشروع النهضوي كانت كل نخبة فكرية وسياسية تشتغل تحت عنوانِ هدفٍ بعينه دون سواه: كانت الوحدة الهدف الأساسي للنخب القومية (ثم أضاف عبد الناصر الاستقلال والتنمية). وكانت العدالة الاجتماعية الهدف الرئيس للنخب اليساريـة. والحريـة (الديمقراطية) هدف النخب الليبرالية. وحفظ الهوية من التبديد هدف النخب الإسلامية. وكلّ واحدة من هذه النخب تحسب الهدفَ، الذي أقامتْ عليه مشروعَهَا الفكريَّ والسياسيَّ، المفتاحَ الوحيد للجواب عن معضلات الواقع العربي غير آبهةٍ بغيره من الأهداف.

لم تكن جميعُها على خطأ في تبنّيها تلك الأهداف، فهي أهداف صحيحة وموضوعية تفرضها أحوال الواقع العربي. لكن الخطأ كان في التعامل معها كأهداف متمايزة ومنفصلة   ومتعارضة. وعلى ذلك، يمثل المشروع النهضوي العربي تصحيحاً وتصويباً لتلك الرؤية وإعادةَ بناءٍ وصياغةٍ للعلاقة بين تلك الأهداف.

 

2- شكل العلاقة بين عناصر المشروع النهضوي

المشروع النهضوي، الذي نريدهُ، منظومةٌ مترابطةٌ من الأهداف، تتصل الواحدةُ منها بالأخرى اتصالَ تلازُمٍ وتَمَاهٍ. وكما في كل منظومة، لا يَقْبَلُ العنصُر الواحد من المشروع النهضوي عزلاً أو فصلاً أو مركزيةً دون تغيير مجمل المنظومة والمعنى العميق الذي يؤسِّسُها. فالعناصر جميعُها مترابطة ويقوم بينها تحديدٌ متبادَل، ولا يمكن إدراكُها إلاّ في منظوميَّتِها. وترجَمةُ هذه الرؤية سياسيّاً أن المشروع النهضوي هذا لا يَقْبَل النَظرَ إليه بمنطق الأولويات، لأن هذا المنطق هو – بالذات – الذي كان مسؤولاً، في ما مضى، عن اعتماد هدفٍ معيّن أو أهدافٍ بعينها على حساب أخرى.

تعني منظوميّةُ المشروع النهضوي احترامَ كُلّيته، والإعراضَ عن كل مقاربةٍ له بمقتضى فكرة الأفضلية، وعدم المقايضة بين عناصره وأهدافه: تلك المقايضة التي أوقعت مشاريع النهضة السابقة في تناقضاتٍ ذاتية ذهبت بوهجها الثوري وأساءت – في بعض الأحيان – إلى صورتها وشرعيتها. إنه المشروع الذي ينبغي إدراكه بوصفه هدفاً واحداً لا يقبل التجزئة، وإن كان يقبل التمرحل الموضوعي. وفي هذا السياق ينبغي أن تتكاتف جهود كافة القوى الحية المؤمنة به للنضال من أجله في إطار حلفٍ عريض (“كتلة تاريخية”) يكون المشروعُ النهضوي برنامجَها ومرجعَها.

*   *   *

فَلْتَخُضِ الأمةُ إذن، وقواها الاجتماعيةُ والسياسيةُ والثقافيةُ الحيّةُ، معركةَ تحقيق هذا المشروع النهضويّ العربيِّ وأهدافه التاريخية الكبرى، بعزيمةٍ على قدرِ مستوى التحدّي: مستلهمةً ميراثَها الحضاريّ العظيم وسوابق التاريخ وتراكماته. وهذه رؤية للنهضة نضعها تحت تصرُّف معركة الأمة من أجل ذلك الهدف الكبير.

*   *   *

 

الفصل الثاني

 

التَّجدُّد الحضاري

 

حصل للحضارة العربية – الإسلامية الظهور والتألق والتفوق في العصر الوسيط بفعل الديناميات العميقة التي حركت فيها إرادة البناء والتقدم والخروج إلى العالمية. كانت دعوة الإسلام واحدة من تلك الديناميات التي حوّلت نشر عقيدة التوحيد إلى رسالةٍ حملها العرب الفاتحون إلى الآفاق. وكان تشبُّع العرب الفاتحين بثقافات الشعوب، التي فُتِحت أراضيها – عنوةً أو صُلْحاً – واحْتُكَّ بها احتكاكاً، واحداً من الأسباب التي تغذّت منها حضارة العرب والمسلمين وأطلقت فيها دينامية البناء والتقدم. ثم كان التراكم الثقافي والعلميّ الهائل، وحركة التدوين والترجمة، وتطوُّر الصنائع والحرف، وتوسُّع نطاق التجارة بعيدة المدى مع العالم الخارجي، عوامل أعادت إنتاج حركة التطور الحضاري. وإذا كان ثمة ما ميَّز الحضارة العربية – الإسلامية في عهدها، وسمح لها بالبقاء فترة طويلة من الزمن، فهو قدرتُها على التجدُّد الذاتي بالعوامل نفسِها التي ذكرنا، وخاصة منها انفتاحها على غيرها من الحضارات، والأخذ منها دونما شعورٍ بالنقص أو الدونية. ولم تبدأ حركة النهضة والحضارة في التراجع إلا بعد أن انكفأت إلى الداخل بفعل الضغط الخارجي على مركز الدولة، وبفعل الانقسام الداخلي وصراعات السلطة، وانهيار مركز الخلافة، وقيام الإمارات، وما أعقب ذلك ونَجَم عنه من انكفاءٍ ثقافي إلى أفكار السلف وإلى ثقافة الحواشي والمختصرات، ومن تشديد الخناق على تيارات العقل والاجتهاد والإبداع.

ولقد استفاق العرب قبل قرنين – ومنذ غزوة بونابرت لمصر – على حقيقة ما يفصلهم من بون شاسع عن المدنية الحديثة، وعلى حقيقة ما انتهت إليه أوضاعهم من تدهورٍ وانحطاط. وكانت نخبهم النهضوية، منذ القرن التاسع عشر، تنبّه إلى ظاهرة التأخر المزدوج الذي يعانيه العرب والمسلمون: التأخر عن العصر والمدنية الحديثة، والتأخر عن الحضارة العربية – الإسلامية وما بلغته في عصرها. ثم كان يرتسم طريق الخروج من الانحطاط والتأخر في شكل استلهامٍ للنموذج النهضوي الأوروبي وللنموذج النهضوي العربي الوسيط، أو لنموذج نهضوي تنصهر فيه قيم الحداثة والأصالة معاً لم يتوقف النهضويون عن الدفاع عنه إلا بعد أن سقطت الدولة العثمانية وسقط معها الاستقلال الوطني للبلاد العربية. واليوم ما يزال مشروع النهضة والتجدُّد الحضاري يفرض نفسه على الأمة ويدعوها إليه سبيلاً وحيداً إلى التحرر من أصفاد التأخر والانحطاط.

 

أولاً: في معنى التجدُّد الحضاري وضرورته

إذا كان معنى التجدُّد الحضاري هو أن يكتسب العربُ، اليوم، وسيلةً لإطلاق ديناميات التقدم والتجدُّد في عمرانهم الاجتماعي والثقافي على النحو الذي يؤهلهم لِلَّحاق بغيرهم من الأمم المعاصرة التي أخذت بحظٍّ من المدنية والكونية، وعلى النحو الذي يحفظ لهم خصوصيتهم الثقافية والقيمية، فإن ضرورة هذا التجدُّد تأتي بالذات من الحاجة إليه، ومن الحاجة إلى التحرُّر من الأسباب التي تمنع العرب من تحقيقه. وهناك سببان، على الأقل، يبرران الحاجة إلى التجدُّد الحضاري:

أولهما ما يعانيه الوطن العربي تأخّراً فادحٍاً في البنى الثقافية والاجتماعية نتيجة تراكمات حالة الانحطاط المزمنة فيه والمنحدرة منذ قرون. إن سيادةَ الجمود الفكري والتكلس العقلي وتراجع العقل الاجتهادي، وسيطرةَ الثقافة النَّصية والأفكار التي تدعو إلى الانكفاء إلى الأصول – مفهومةً بوصفها حقائق مطلقة – وتقديسَ التراث، وهيمنةَ الخرافة والنزعات التواكلية، ورفضَ الآخر، والانكماشَ الذاتي والتشرنقَ على الهوية – مفهومة بوصفها ماهية مطلقة لا تغتني ولا تتطور – … إلخ؛ وهيمنةَ القيم القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية على حساب القيم الوطنية والمعنى العصريّ للأمة، واحتقارَ العمل، والميلَ إلى الدَّعَةِ والكسل، والعلاقةَ المائعة بالزمن وبالنظام، وعدمَ التشبع بروح المسؤولية…، كلها ظواهر تشي بمقدار ما أصاب العمران الثقافي والاجتماعي العربيّ من خرابٍ هائل. وكلها تَسْتَحِثُّ إرادة النهضة، لدى النهضويين اليوم جميعاً، على العمل الصابر المثابر من أجل إعادة إعمار هذا العمران المدمَّر من مدخل التجدُّد الحضاري.

وثانيهما ما يعانيه الوطن العربي أشكالٍاً بائسة من الحداثة الرثّة في البُنَى نفْسِها (الثقافية والاجتماعية) نتيجة اصطدامه بالغرب، وما أحدثه ذلك الاصطدام من ظواهر شوهاء في بُناه. إن سيادةَ نزعةِ التقليد الثقافيِّ الرَّثِّ للغرب، وتقديسَ الوافد واحتقارَ الموروث، والتغريبَ، والتبشيرَ غير المشروط بثقافة الآخر، والدعوةَ إلى التحديث القسري، وجَلْدَ الذات والهوية، والتماهي مع الغرب والفناء فيه، والهجومَ على الدين والمشاعر الدينية للمؤمنين، والعدميةَ في النظر إلى الثقافة العربية، والترحُّلَ الدائم بين النظريات الفكرية في الغرب، وتسوُّلَ أجوبةٍ ثقافية غربية على معضلات مجتمعاتنا دون وعي الفارق في البُنى والتاريخ… إلخ؛ وهيمنةَ القيم الاستهلاكية تشبّهاً بالمجتمعات الغربية، وتفشّي النزعات المادية الغرائزية، والفردانيةَ المفرطة في انعزالها عن العلاقات المجتمعية الطبيعية (كالأسرة مثلاً)، والتحلُّلَ المتزايد لمنظومة القيم…، كلها ظواهر تُنْبِئ بدرجة التشوُّه الذي أصاب الحياة الثقافية والاجتماعية العربية المعاصرة نتيجة تلقِّي جرعاتٍ من الحداثة غيرِ مهضومة، أو نتيجة إدراكٍ قاصر لمعنى الحداثة. وهي أيضاً مما يَسْتَحِثُّ النهضويين اليوم على مواجهتها وتصحيحها سعياً وراء تأسيس حداثةٍ جديدة لا تطيح بالشخصية القومية أو تمسخُها، ولا تُكْرِهُ المجتمعَ والناس على الفناء في المثال الحضاري للآخر.

 

ثانياً: المداخل والوسائل

إن تجدُّداً حضاريّاً يعيد استلهام كلَّ ما هو نيِّرٌ وعظيمٌ ومفيد في خبرتنا التاريخية الحضارية من جهة، ويعيد تأصيل كلّ ما هو متقدّم وناجع وباعث على الانتهاض في المدنية الغربية الحديثة من جهة ثانية، كي يكوّن منهما نموذجاً حضاريّاً متوازناً – على نحو ما فعلت اليابان والصين مثلاً – يحتاج، في جملة ما يحتاج إليه، إلى تحقيق أربعة أهداف:

أوّلها ممارسة نقدٍ مزدوج لسلطتين مرجعيتين تَحْكُمَان الوعي العربي منذ قرنين، وتمارسان عليه تأثيراً هائلاً، إلى الحدّ الذي تشلاَّن قدرته على التجديد أو التأصيل، هما: التراث والغرب. إن النقد المطلوب هنا هو نقد النظرة إلى كلٍّ منهما بوصفه “مستودع حقائق” يكفي التوسل به للجواب عن كل مشكلات الراهن العربي! إن التراث لا ينطوي على حقائق مطلقة فوق الزمان والمكان، كما يدّعي خطاب الأصالة. كما أن الغرب ليس مستودع تلك الحقائق المطلقة، كما يدّعي خطاب المعاصرة. التراث والغرب مجالان ثقافيان نسبيان ومشروطان بالزمان والمكان ومعطيات التاريخ. والنظرُ النقديُّ إليهما ينبغي أن ينصرف إلى إدراك هذا النسبيِّ الذي يؤسّس كلاًّ منهما. فلقد كان النقد من أسلحة الأقدمين من أسلافنا. مارسوه بجرأة دفاعاً عن جديدٍ أنشأوه أو تخطئةً لقديمٍ أو معاصر لهم لم يروا فيه وجْهَ صواب. كما أن الغرب ما فَتِئ يمارس نقده لنفسه، كما تفعل اليوم تيارات ما بعد الحداثة التي تعيد النظر في كل التراث الغربي الحديث والمعاصر. إن تقديس التراث هو مرادفُ تقديسِ الغرب في المقدمات والروح وإن اختلفتِ النتائج. وهو التقديس الذي أرهق الوعي العربي في صراع الأصالة والحداثة العقيم، منذ قرنين، والذي بات يهددنا اليوم بحرب أهلية فكرية وثقافية تستنزف العقل والوجدان!

وثانيها عدم السقوط في نظرة عدميةٍ إلى التراث وإلى الغرب معاً بدعوى نقدهما. إذا لم يكن التراث والغرب مستودعيْن للحقائق المطلقة، فليس يعني ذلك إسقاط مرجعيتيْهما من الأساس، وإنما إعادةُ وعيهما بعيداً عن فرضية تفوّقِ أيٍّ منهما عن الآخر في تقديم موادّ لفكرنا ولمجتمعنا اليوم. إن الرؤية النهضوية إلى هذه المسألة تنطلق من التشديد على حاجتنا إلى فهم التراث والغرب فهماً علميّاً رصيناً دون انتقائية أيديولوجية، والبحث عن أفضل السبل إلى بناء علاقة صحيحة وصحّية بكل منهما. وفي هذا السياق، ينبغي أن يقع تواصُلٌ مستمر مع التراث من أجل معرفة منظومته وإدراكها في سياق أسئلتها التاريخية، والاستفادة من الخبرة الماضية في مجابهة مشكلاتً عرضت نفسَها على العقل والحضارة دون استنساخها؛ مثلما ينبغي أن يقع اتصالٌ مستمر مع الغرب والثقافة الغربية من أجل المزيد من معرفة منظومتهما وإدراك ما هو خاصّ فيها يرتبط بأوضاع المجتمعات الغربية وتاريخها وبُناها، وما هو عامٌّ وكونيّ يمكن اعتمادُه. وفي الحالين، إن حاجتنا كبيرة إلى تواصلٍ مجتهد مع التراث وإلى انفتاح متوازن على الحداثة. ومن المهمّ أن ندرك أن هذه المسألة شديدة الاتصال بهدف النهضة الثقافية. فلا نهضة ثقافية ممكنة دون إعادة تمثُّل التراث والحداثة تمثُّلاً علميّاً صحيحاً، ودون إعادة بناء صلتنا بهما على نحوٍ صحِّيٍّ ومتوازن دون تقديسٍ أو إنكار. وغنيٌّ عن البيان أن الترجمة والتعريب أداة فعّالة في أيِّ مسعًى نحو النهضة الثقافية. فبواسطتها تمتلك الثقافة العربية إمكانية الاغتناء بثقافات المجتمعات والأمم الأخرى. ولذلك فالنهوض بها يقع اليوم – كما حصل في الماضي – في قلب الأولويات الثقافية المطروحة على هذه الثقافة.

وثالثُها إنهاء حالة النزاع داخل المجتمع العربي، وفي أوساط نخبه، بين العروبة والإسلام وإعادة إدراك الهوية في بعدها التركيبيّ الجامع للحدَّيْن على قاعدة أن الإسلام – بتراثه العَقدي والحضاري – شكَّلَ محتوىً للعروبة والقومية العربية. لقد أنتج ذلك النزاع صراعاتٍ ثقافيةً وسياسيّةً كان المجتمع العربي في غنًى عنها، لأنها مزّقتْ نسيجَه ودقّت الأسافين بين تياراته. كما أنه لم يكن لها من مسوِّغ تاريخي لو حصلتْ مقاربتُها على نحوٍ صحيحٍ متحرِّرٍ من مطالب السياسة والتعبئة والتجييش لدى أطراف ذلك النزاع. إن الإسلام هو الذي زوَّد العرب بمشروعٍ تاريخيّ منذ الدعوة، وهو الذي قادهم إلى تأسيس دولة وحضارة كبيرتيْن، والعرب هم الذين حملوا الإسلام إلى العالم فبات كونيّاً. وهي حقيقة يعيها حتى غير المسلمين من العرب ممن يعتنقون عقيدةً أخرى (المسيحيون العرب مثلاً)، إذ يسلمون بأن الإسلام جزءً أصيل من حضارتهم العربية، ويذهب قسمٌ منهم إلى اعتبار نفسِه مسلماً بالمعنى الحضاري. واليوم، ما أحوج العروبة إلى تلك الطاقة الروحية الهائلة التي يحتويها الإسلام في المعركة المفتوحة من أجل التحرر الوطني والاستقلال القومي. وما أحوج الإسلام إلى دور تؤديه العروبة مشروعاً تحرريّاً وإنسانيّاً من أجل التعايش مع العالم والحوار وتعظيم القيم الإنسانية المشتركة.

ورابُعها حمايةٌ ما في الأمة من تنوُّعٍ ثقافيٍّ مصدرُهُ روافد ثقافية شعبية متنوعة في المجتمع العربي، واعتبار هذا التنوُّع عامِلَ إخصابٍ وإغناءٍ للثقافة العربية ينبغي استثمارُهُ، لا عامِلَ انقسامٍ وتهديد ينبغي وأْدُهُ باسم الوحدة الثقافية وذلك دون إخلال بضرورة العمل على تعظيم القواسم الثقافية العربية المشتركة.

 

ثالثاً: من أجل نسقِ قيمٍ نهضوي

إن نسق القيم النهضوي الذي نعنيه، هنا، هو ذاك الذي يترجم معنى التجدُّد الحضاري الوارد أعلاه؛ أي النسق الذي يعبّر عن تلك الحالة من التوازن المطلوب بين المواريث والمكتسبات، بين الخصوصية والكونية، المتمسك بشخصيته والمنفتح على العالم. وهكذا فإن نسق القيم النهضوي لا بدّ أن يكون في الآن نفسه معبِّراً عن الشخصية العربية – الإسلامية، متمسكاً بالقيم الكبيرة فيها المستمدة من التراكم الاجتماعي والثقافي والديني (قيم التمسك بالعائلة، وأخلاق المروءة، والصدق، والإيثار على النفس، والتراحم، والتوادد، والتضامن، والإنصاف والعدل…)، ومنفتحاً على العصر، منتهلاً منه أرقى ما في قيمه ومتمسكاً بها، مستدمجاً إياها في منظومته (ومنها قيم الحرية، والتسامح، والاختلاف، والمسؤولية، والاستقلال الذاتي للشخصية، والإنتاج…).

وقد يكون من تحصيل الحاصل القول إن الهوية – أية هوية – ليست معطىً ثابتاً ونهائيّاً، وإنما هي حصيلة ما يكتسبه الأفراد والجماعات من قيم جديدة تصبح جزءاً من تكوين الهوية. إن الإسلام أضاف إلى العرب قيماً جديدة على قيم الشجاعة والمروءة والكرم والتضامن التي كانت لديهم قبل الإسلام، التي اعترف لهم الإسلام بها باعتبارها من “مكارم الأخلاق” (كما ورد في الحديث النبوي: “إنَّما بُعِثْتُ لأتَمِّمَ مكارم الأخلاق”)، ولم تلبث قيم الإسلام أن أصبحت قيم العرب. ثم إن كثيراً من القيم الحديثة التي كانت مرفوضة، قبل قرنين، من العرب والمسلمين (حرية المرأة، والاختلاط بين الجنسين، والترفيه أو الترويح عن النفس، والاقتداء بغير المسلمين في المأكل والملبس…)، باتت اليوم جزءاً من قيمهم وعاداتهم وتقاليدهم لا يسألون عن مدى شرعيتها أو مدى الأصالةِ فيها.

وإذا كان من الثابت أن نسق القيم النهضوي الذي ندعو إليه يجافي قيم التواكل والاعتماد على الغير، في قيمنا الموروثة، ويجافي القيم الغرائزية الشاذة والقيم الذرائعية والفردانية الأنانية في القيم الحديثة والمعاصرة، فمن تحصيل الحاصل القول إنه نسق القيم الذي لا يمكنه أن يرى النور إلا من خلال إعادة تأهيل مؤسسات التربية كافة – من أسرة ومدرسة وإعلام – وتزويدها برسالة اجتماعية نهضوية تقوم بها. وهذه مهمة ملقاة على عاتق النخب الفكرية والاجتماعية اليوم في الوطن العربي، في المقام الأول، دون إعفاء الدولة من مسؤوليتها في ذلك.

ولعلّ قوى المشروع النهضويّ العربيّ مدعوَّة إلى الاغتراف من دوائر حضارية أخرى غير الغرب، وقراءة تجربتها التاريخية المعاصرة، وخاصة تجربتها في توفير أجوبة خلاقة عن إشكالية الخصوصية والكونية، والهوية والحداثة، في مجتمعاتها. ولعلّ بلداناً من الدائرة الآسيوية، مثل اليابان والصين والهند، تقدّم مثالاً لتلك الأجوبة الخلاّقة. وأهميتها تأتي بالذات من كونها مكتنزةً بالتاريخ ومواريثه، وبثقل العمق الحضاريِّ فيها، مثل المجتمع العربي، وبثراء نسق “القيم الآسيوية”. أما إذا كان لا بدَّ من نماذج لمجتمعاتٍ أقرب إلى مناخنا الحضاري والديني والثقافي، ففي ماليزيا المثال الذي يستحق القراءة والاستفادة.

 

الفصل الثالث

 

الوحدة

 

لكلِّ أمَّة، في أيّ مرحلةٍ من تاريخها، قضية كبيرة في الأهمية يتجه اهتمامها إليها وتتطلع إلى تحقيق الهدف المتَّصل بها. وتكون أهميتُها عادةً حصيلةَ مشاعر الناس وتفكير النخب وإيحاء الظروف المحيطة. ولقد كانت قضية الأمة العربية، منذ ميلاد الوعي القومي المشتبك مع حركة التتريك، وإلى حدّ الآن، هي تحقيق هدف التوحيد القومي.

وبعد مرور عقود على ظهور المشروع القومي – الذي كرَّسها قضيةً رئيسَة – طرأت على الأوضاع في الوطن العربي وفي العالم تحوُّلاتٍ كبيرةً كان من الطبيعي أن تُلْقِيَ بتأثيراتها الكبيرة على القضية هذه: فَهْماً لها وطرائقَ ومناهجَ وأساليبَ في العمل من أجلها. وهي التحولات التي تفرض الحاجة إلى إعادة وعي مسألة الوحدة في ضوء معطياتها وتحدياتها، واشتقاق الصيغ والأساليب المناسبة لتحقيقها.

فلقد نجحت القوى الاستعمارية في تكريس التجزئة، ونجحت معها القوى المحافظة – الموجودة على رأس السلطة في الدولة القطرية – في تنمية هذه الدولة وتقويتها وترسيخها في مرحلةٍ أولى، ثم أدى أداؤها وتبعيتها ومصالحها إلى إضعافها وتعريضها للتفتيت في مرحلةٍ ثانية. وأتى ذلك كلُّه مترافقاً مع تدخُّلٍ خارجيّ معادٍ لمشروع التوحيد القومي، ومع تكريسٍ للمشروع الصهيوني في قلب الوطن العربي. ولم تستطع جامعة الدول العربية أن تخترق السقفَ السياسيَّ الذي رسمتْهُ لها السياساتُ العربية المحكومة بخلفياتها المحلية، ولا أن تُطْلق آلياتٍ توحيديةً تتخطى عقبة السيادة والأمن في حدودهما القطرية إلى توليد فضاءٍ قوميٍّ أرحب للعلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية. كما لم تنجح تجربة الوحدة المصرية – السورية في البقاء طويلاً إلى الحدّ الذي تطلق فيه آليات للتوحيد في مجمل أقاليم الوطن العربي. وأعقبتها محاولات أخرى فاشلة للوحدة بين بلديْن أو أكثر لم تكن مزوَّدة برؤية قومية أو إرادة سياسية. ثم بَدَا كما لو أن الميْل الوحدوي بدأ يتجه نحو صيغة التجمعات الإقليمية الفرعية، بدل الفضاء العربي الجامع، قبل أن يعلن ذلك الميْل عن حدوده المتواضعة وخاصة في أعقاب أزمة الخليج وحربه (1990 – 1991).

ولقد كان يمكن أن تتحول التجمعات الفرعية العربية الثلاثة (“مجلس التعاون لدول الخليج العربية”، و”مجلس التعاون العربي”، و”اتحاد المغرب العربي”) إلى نواة كبيرة لعملية التوحيد القومي لو قامت على أمرها نخب سياسية مؤمنة بفكرة الوحدة – مثلما كان يمكنها أن تتحول إلى أطر للتعاون والتكامل الاقتصادي والتجاري والمالي تسهّل سيرورة الاندماج أو الاعتماد المتبادل. والواقع أن العلاقات البنيوية داخل هذه التجمعات لم تكن تمثل حالة أرقى من مثيلتها على صعيد النظام العربي ككل، ناهيك عن أن أحدها كان منغلقاً على أعضائه فيما كان تجمع ثانٍ منفتحاً على العضوية من خارج النظام العربي بما يقضي على فكرة أن يكون آلية للتوحيد القومي الشامل، وعموماً فقد انتهت إلى الإخفاق عند أول امتحان سياسي (“مجلس التعاون العربي”، “اتحاد المغرب العربي”) فيما يُخشى أن يُمْعن “مجلس التعاون الخليجي” في انكفائه الإقليمي أكثر فأكثر.

وإذ نجحت تجاربُ في توحيد الكيان الوطني في دولة، على نحو ما حصل في المملكة العربية السعودية، وليبيا، والإمارات العربية المتحدة، واليمن، فقد تعرَّضت بلدان عربية أخرى لخطر التمزيق وبرزت فيها حركات انفصالية أو مشاريع فيدرالية وتقسيم هددتْ وحدتَها (لبنان، المغرب، السودان، العراق، الصومال، اليمن). ولم تلبث محاولات الانقضاض على النظام الإقليميِّ العربيِّ أن أخذت جرعةً أعلى، في سياق زحف حركة العولمة، فأطلَّت بصيغ مختلفة مثل “النظام الشرق أوسطي”، و”النظام المتوسطي”، واتفاقات الشراكة العربية – الأوروبية أو مناطق التجارة الحُرّة مع الولايات المتحدة…، هادفة إلى فك الرابطة القومية والإقليمية بين البلدان العربية، وإعادة ربط هذه بمراكز إقليمية أو خارجية وتزوير هويتها.

وثمة جدل حول ما إذا كان زحف العولمةِ حَمَل معه تحدياتٍ قد تكونُ دافعةً نحو أشكالٍ جديدةٍ من الممانعة والتوحيد في مناطقَ مختلفةٍ من العالم، وخاصة في المراكز الصناعية والرأسمالية المتقدمة. فقد وُلِدَ في أحشائه “الاتحاد الأوروبي“، الذي أخذ في التوسع شرقاً، ونشأت بالتوازي معه تجمعات إقليمية ضخمة مثل اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا “النافتا”، ومجموعة دول جنوب شرق آسيا “الآسيان”. ولم تلبث أمريكا اللاتينية أن شهدت أشكالاً من هذه الدينامية التوحيدية بين مجتمعاتها. وهو ما قد يرتب اعتقاداً بأن العولمة إذ تطيحُ بحصون الأوطان والحدود وسياداتها، وتميل إلى استلحاق الهوامش بالمراكز، تفتح الباب – في الوقت نفسه – أمام خيار التجمُّع والتوحيد بحسبانه الخيار الوحيد الذي تبقَّى في حوزة الدول والمجتمعات لكفّ الآثار السلبية للعولمة وتأهيل نفسها للبقاء وللمنافسة. ومع ذلك فإن حصيلة السعي إلى تجسيد هذا الخيار على الصعيد العالمي تبدو محدودة، وهو ما يشير إلى الصعوبات التي تكتنف هذه العملية، ناهيك عن السياق العربي الذي تنشط فيه قوى الهيمنة العالمية سعياً إلى تمزيق النظام العربي أو إلحاقه بأطر أوسع غير عربية.

إن حقائق التراكم الذي حققه النضال من أجل الوحدة، وتجارب الإخفاق أو الانتكاس التي تعرَّض لها، والتحديات الكونية الجديدة التي تفرض نفسها عليه، تؤسّس الحاجة مجدَّداً إلى إعادة صوغ مطلب الوحدة في ضوء دروس الماضي ومتطلبات المستقبل، وذلك من خلال تجاوز الأسباب الذاتية التي أعاقت بناء المشروع القوميّ الوحدويّ على أسس صحيحة وواقعية، والاستفادة من دروسها في عملية إعادة البناء. إن المبدأ الذي يؤسّس هذه الرؤيةِ على مركزية الوحدة العربية في مشروع النهضة العربية هو أن لا نهضة للأمة من دون وحدتها القومية. وهو ليس مبدأً نظرياً نستفيده بعملية استنباط ذهنيّ، بقدر ما هو ترجمةٌ مادّيّةٌ – وحصيلةٌ موضوعية – للسيرورة التاريخية التي قطعتها مجتمعاتٌ وأممٌ في سبيل تحقيق نهضتها، التي أتى إنجازُها وحداتِها القوميةَ المدخلَ إليه والرافعةَ السياسية التي عليها قام.

 

أولاً: في ضرورة الوحدة العربية

ويرتبطُ بهذا المبدأ القول إن الوحدة ضرورة حيوية ووجودية للأمة العربية. وليس مصدر هذه الضرورة ما يقوم بين العرب – على اختلاف أقطارهم وطبقاتهم – من عوامل الاشتراك في اللغة والقيم الثقافية والموروث التاريخي والحضاري فحسب، بل تفرضها عليهم  المصلحة المشتركة: تحديات الحاضر والمستقبل في ميادين التنمية الاقتصادية والعلمية والتقانية والأمن القومي وضرورات البقاء؛ مثلما يرتبط به القولُ إن الوحدة القومية حقٌّ شرعيٌّ ومشروع للأمة العربية، لأنها تعرضت للتجزئة الاستعمارية، وجرى تقسيم وحدتها الجغرافية والبشرية بالعنف. وهي حين تناضل من أجل حقها في التوحيد القومي، فهي تفعل ذلك أُسْوَةً بغيرها من الأمم التي أنجزت وحدتها القومية. إن الوحدة العربية ليست ضرورية فقط لأننا أمة لها عوامل توحيدية من مواريث تاريخها، بل أيضاً لأننا نحتاج إليها من أجل التنمية ورفع مستوى المعيشة للمواطن، ومن أجل حماية الوطن والشعب والدفاع عن الوجود القومي والمصالح المشروعة، خاصة في عالم تتزايد فيه التكتلات الكبيرة كضرورة للمنافسة والبقاء.

وكما أن الوحدة العربية ضرورية للأسباب البديهية التي ذكرنا، فهي ضرورية لسببين لا سبيل إلى إنكار ما ينجم عن فعلهما من آثار بالغة السوء بالنسبة إلى مستقبل الوطن العربي ومصير الأمة:

أوّلهما الفشل الذريع الذي منيت به الدولة القطرية في الجواب عن معضلات التنمية والأمن والتقدم الاجتماعي. وهو فشلٌ ناجمٌ عن هشاشة تكوينها، وعن محدودية مواردها الاقتصادية وقواها البشرية، وعن انغلاقها الكيانيّ على نفسها مخافة تأثيرات علاقاتها بمحيطها العربي. فلقد باتت الدولة القطرية عَالَةً على نفسها نتيجة ما حصَّلته من نتائج، وبات خروجُها من مَحْبِسِها الذاتيّ الخانق نحو علاقةٍ أفقية عميقة بنظيراتها في الوطن العربي شرطاً لخروجها من حال الاندحار. على أن يكون واضحاً أن هذه العلاقة لن تؤتي ثمارها المرجوة ما لم تحكم “الدولة القومية” بواسطة نظام صالح.

وثانيهما الوطأة الشديدة للتحديات الجديدة التي أطلقها زحف العولمة على العالم، وفي قلبها تحدّي الإطاحة بالحدود والأوطان وإلحاق اقتصادات العالم بالمراكز الرأسمالية الغربية إلحاقَ أذْنَاب، وإفقاد تلك الاقتصادات دفاعاتها الذاتية ضد الاستباحة الخارجية أو قدراتها على المنافسة. وليس أمام الوطن العربي لكفّ آثار ذلك الزحف الجارف للعولمة سوى الوحدة أفقاً وحيداً وآليةً دفاعية للبقاء.

إذا كانت الوحدة ضرورية لكل هذه الأسباب، فإن أوّل ما يطرح نفسه على حركة النضال من أجلها أن تعيد وعيَ العلاقةِ للثنائية الأساس الحاكمة للوعي الوحدوي العربي: ثنائية القومي/القطري، بما يبدّد الكثير من التباساتها التي لم يستفد منها نضالُنا القومي.

 

ثانياً: في العلاقة بين القوميّ والقطري

لقد أثبَتت التجربة التاريخية أن الدولة القطرية (أو الدولة الوطنية) لا يمكن أن تزول من الوجود لمجرَّد أن معظمها نشأ نشأة غير شرعية كحصيلةٍ لفعل التجزئة، ولا لمجرد وجود إرادة وحدوية في زوالها. ذلك أن هذه الدولة نجحت – عبر أجيال ثلاثة – في بناء بعضٍ من شرعيتها (شرعية الأمر الواقع) التي تمدها اليوم بأسباب البقاء، خاصة في ظل تأييد القوى الدولية والداخلية المتضررة من المشروع الوحدوي العربي، بما في ذلك العمل على منع أية أشكال وحدوية تتعارض مع مصالح تلك القوى، مثلما أثبتت التجربة أن خوف الدولة القطرية على نفسها من الزوال بعملية توحيدٍ قوميّ لا يزيدها إلا استنهاضاً لفاعلياتها الدفاعية والانكفائية في وجه الفكرة القومية والمشروع الوحدوي. ثم إن الفكرة القومية التقليدية عن الوحدة العربية: الذاهبة إلى استهداف الدولة القطرية والمتطلعة إلى زوالها، لم تقدم شيئاً للمشروع التوحيدي، ولا فتحت أفقاً أمام تحقيقه. ولقد آن الأوان لإعادة النظر في ذلك الموقف التقليدي من الدولة القطرية على قاعدةِ الاعتراف بها والمصالحة معها ككيانٍ واقعي، والانطلاق في العمل الوحدوي منها كخامة أو كمادة وليس على أنقاضها. مثلما آن الآوان للتسليم بقاعدة جديدة في المشروع القومي التوحيدي مقتضاها أن وحدة الكيان القطري (الوطني) مدخلٌ نحو الوحدة العربية وليس العكس.

إن المبدأ الذي يؤسس هذه الرؤية على مسألة الوحدة هو أنه كلَّما أحرزت الدولة القطرية (الوطنية) تقدُّماً في توحيد كيانها الوطني، وفي تحقيق التنمية الاقتصادية والعلمية، وفي توزيع الثروة توزيعاً عادلاً، وفي بناء أسس حياة ديمقراطية، وفي حفظ أمنها الوطني وتنمية قدراتها الدفاعية من أجل ذلك، توافرت لمشروع الوحدة العربية مقدماته التحتية الضرورية. ويرتبط بهذا القول بأنه كلما نجحت الدولة القطرية (الوطنية) في تحقيق الاندماج الاجتماعي الداخلي بين الجماعات المختلفة المكوِّنة للكيان، انفتحت الطريق أمام تحقيق الاندماج القومي. وفي الحالين، تشكل الدولة القطرية مختبر فكرة الوحدة وعيِّنَتَها التمثيلية التي تدُلُّ عليها سلباً أو إيجاباً.

وفي هذا السياق، من الواضح أن الوحدة العربية تواجه الآن واحداً من أخطر تحدياتها والمتمثل في الخطر الداهم الذي يحدق بالوحدة الوطنية أو القطرية في عديد من الأقطار العربية سواء كان ذلك بسبب هشاشة بنية الدولة والمجتمع أو التدخلات الخارجية المباشرة وغير المباشرة، ولذلك فإن النضال الوحدوي يتعيّن عليه في الظرف الراهن أن يعطي أولوية لتمتين الوحدة الوطنية أو القطرية في داخل كل دولة عربية دون أن يتعارض ذلك مع ضرورة التحرك السريع لدفع قضية الوحدة إلى صدارة اهتمامات الجيل العربي الراهن.

 

ثالثاً: في المضمون الاجتماعي والديمقراطي للوحدة

لا تكون الوحدة هدفاً مطلوباً لدى الأمة إلا متى وجدت هذه مصلحتها فيها. فحين تكون الوحدة إطاراً لتحقيق السوق القومي، وتعظيم الثروة، وتحسين شروط المعيشة للمواطن، وتوفير الحقوق المدنية والسياسية وكفالتها، وتحقيق المشاركة السياسية، وتوزيع الثروة توزيعاً عادلاً بين الطبقات والفئات والمناطق، وتعزيز الأمن القومي…، تكون حينها قد قدَّمت جواباً عن معضلات المجتمع العربي، وتكرَّست هدفاً تناضل من أجله الأمة جمعاء.

وليس يعني ذلك أن الوحدة لا تقوم إلا إذا تلازمت مع الاشتراكية، أو كانت ذات مضمون اشتراكيّ كما نُظِر إلى ذلك سابقاً. فالوحدة ليست مطلب الطبقات الاجتماعية الكادحة والمثقفين الثوريين فحسب، وإنما يفترض أن تكون مطلب أغلب طبقات المجتمع. فقد تجد قوى الرأسمالية الوطنية مصلحتها فيها، بل قد تنهض بدورٍ رئيسٍ فيها على نحو ما فعلت في الأعمّ الأغلب من تجارب التوحيد القومي. كما قد تنطوي دولة الوحدة في البداية على دول ذات نظم اقتصادية–اجتماعية متباينة على مثال ما يقوم في الصين اليوم بعد استعادتها هونغ كونغ إلى الوطن الأم. ولذلك، ينبغي عدم إقامة رابطٍ تلازميّ مطلق بين الوحدة القومية كهدفٍ مشترك وجامع، وطبيعة النظام الاقتصادي–الاجتماعي الذي هو حصيلةُ توازنِ القوى داخل المجتمع وموضوعُ منافسةٍ سياسية وطبقية فيه، على ألا يخل هذا بأي حال باعتبارات العدالة الاجتماعية باعتبارها ركناً أصيلاً من أركان المشروع النهضوي العربي.

لكن الوحدة التي نتطلع إليها – من منظورٍ نهضوي – لا يمكن إلا أن تقترن بالديمقراطية من وجهَيْن: من حيث تقوم بواسطة الرضا الشعبي ومن خلال الاختيار الحُرّ الديمقراطي (عبر الاقتراع أو الاستفتاء)، فلا تأتي بصورة فوقية أو انقلابية أو عن طريق الإلحاق القسريّ؛ ثم من حيث تنطوي في تكوينها على مضمون ديمقراطيّ تَقُومُ فيه المؤسسات الدستورية المنتخبة مقام الفرد/الزعيم، ويعبّر من خلالها المواطنون عن إرادتهم بحريّة، ويشاركون في صناعة القرار وفي الرقابة على أجهزة السلطة. إن الديمقراطية هي النظام الكفيل بتحقيق مبدإ المواطنة والمساواة الكاملة في الحقوق السياسية، بما يسمح بتحقيق الاندماج الاجتماعيّ والقوميّ وتنمية ولاء المواطنين للوطن الجامع وللكيان القومي. وهي، في الوقت عينِه، النظام الذي يؤمِّن إمكانية حلٍّ قوميّ لمسائل الاندماج لدى الجماعات الإثنية في الوطن العربي داخل دولة الوحدة.

 

رابعاً: في نمط بناء الوحدة

تقدِّمُ تجربةُ النضال من أجل الوحدة العربية، والمحاولات التي بذلت في سبيل ذلك، والمراجعات الفكرية التي جرت في إطار الفكر القومي حول جدليات العلاقة بين الوطنيّ (القطريّ) والقوميّ، درساً سياسيّاً غنيّاً في مسألة الوحدة العربية مَفَادُه أن إطارها الكياني والدستوريّ الأنسب لن يكون صيغة الدولة القومية الاندماجية، وإنما صيغة الدولة القومية الاتحادية. إن الدولة الاندماجية قد توحي بأنها تفترض إلغاءً كاملاً للكيانات القطرية. وهذه حالة لا تبدو شروطُها ممكنةً في الأفق، وقد لا يُقَيَّض لها النجاح أو البقاء إن قامت. أما الدولة الاتحادية، فتقوم من اجتماع الكيانات العربية القائمة وتراضيها على مؤسساتٍ اتحاديةٍ مشتركة تنتقل إليها السلطة الجامعة مع استمرار سلطاتها المحلية. وفي الأحوال كافة، لا بدَّ من أن يكون الإطار الاتحادي القوميّ محلَّ تراضٍ وتوافق بين الكيانات والقوى العربية كافة.

*    *    *

إن الرؤية النهضوية لهدف التوحيد القومي تضعنا أمام جملةٍ من الحقائق لا سبيل إلى تجاهلها أو القفز عليها، وهي:

– إن تحقيق الوحدة العربية ليس نتيجة حتمية تصل إليها الأمة العربية تلقائيّاً. وإنما هو رهنٌ بتوافُر إرادةٍ ومشروع سياسيٍّ يعملان من أجل ذلك، ويعبئان كافة الموارد والإمكانات التي تهيئ الشروط لذلك.

– إن تحقيق الوحدة العربية مشروع طويل الأمد يجري إنجازُه بالتدرُّج: خطوة خطوة وعن طريق التراكم. ويفترض ذلك أن يقع تَنَاوُلُ مسألة التوحيد القومي على مقتضى نظرة واقعية سياسية تتسلح بفكرة الممكن دون أن تتخلى عن فكرة الواجب.

– إن كافة المداخل إلى الوحدة ممكنة: الاقتصادية والسياسية والأمنية بحسب ما تفرضه الظروف والتطورات وديناميات العلاقات العربية – العربية. لكنها، في مطلق الأحوال، تحتاج إلى مدخل تعاونيّ عربيّ بَيْنيّ يؤسّس للترابط والتداخل بين البنى الإنتاجية والاقتصادية والأمنية والسياسية العربية ويطلق ديناميات التفاعل التراكميّ بينها.

– إن النظرة الواقعية إلى الوحدة تقوم على أساس التعدد في الوسائل والأساليب. إذ لا يوجد قانون واحد لمعالجة قضية كبرى مثل التوحيد القومي. وتعدُّد الوسائل والأساليب يعني التعامل مع معطيات الواقع حالةً حالة وابتداع الوسيلة المناسبة لكل حالة من دون أفكار مسبقة أو تعصُّبٍ أو تبسيط، وذلك في إطار التمسك بديمقراطية وسائل تحقيق التوحيد القومي وأساليبه بطبيعة الحال.

– إن الوحدة هدف للأمة: بمعظم طبقاتها وفئاتها، وبمعظم أحزابها ونقاباتها وجمعياتها وتياراتها الفكرية المختلفة. وهذه جميعُها القوى المدعوة إلى النهوض بعبء النضال من أجل تحقيق هذا الهدف، وليس لفريقٍ دون آخر الحق في احتكار هذه القضية أو استبعاد غيره تحت أي عنوان سياسيّ أو أيديولوجي.

– إن تحقيق الوحدة العربية يواجه مهمَّة ملحَّة هي حلّ المعضلات الموضوعية والذاتية التي تواجه ذلك التحقيق: معضلة التباين في درجة التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين الأقطار العربية التي ستصبح شريكاً في الوحدة؛ ومعضلة المؤسَّسيَّة الناجمة عن هشاشة فكرة المؤسسة في الوطن العربي وعن تضخم قوة الفرد على حساب المؤسسة؛ ومعضلة عدم التوازن في القوة (البشرية، الاقتصادية، العسكرية…) بين أطراف كبرى وأطراف صغرى عربية، والحاجة إلى حلّها بما يضمن حقوق كل طرف – خاصة الصغرى – في الشراكة الوحدوية؛ ومعضلة الخلاف بين الفصائل القومية وتشرذمها؛ ثم معضلة التدخل الخارجي المعيق، باستمرار، لمشروع التوحيد القومي.

– إن الاتحاد الفدرالي العربي لا يشترط انضمام جميع الأقطار العربية ابتداءً، بل يمكن أن يبدأ من اتحاد بعضها ممَّن أبدى جَهُوزيته للاتحاد أو توافرت فيه شروطه؛ على أن نجاح تجربة الاتحاد الجزئي، والفوائد المادية الناجمة عنه، سيكون – من دون شك – حافزاً للأقطار الأخرى للانضمام إليه أو محاكاته، وبقدر قوة المجموعة النواة ونجاح تجربتها الوحدوية سوف يمكن إقناع القوى الجديدة الراغبة في الانضمام إليها بتلبية المتطلبات السياسية والاقتصادية لهذا الانضمام.

إن مشروع التوحيد القومي ممتنع عن التحقق دون أن يتوسّل بالوسائل الشعبية والديمقراطية نهجاً لتحقُّقه، بغض النظر عن أن التوسل بهذه الوسائل لم يكن دائماً في حكم النواميس والقوانين التي جرت تجارب التوحيد القومي بمقتضاها في التاريخ الحديث والمعاصر. كذلك فإن مما لا يجب أن يرقى إليه شك أن سائر الأهداف النهضوية العربية من تنمية، واستقلال، وعدالة، وأمن، وتقدّم… إلخ ممتنعة عن التحقيق، بل مستحيلة، دون توحيدٍ قوميّ.

 

الفصل الرابع

 

الديمقراطية

 

إذا كان للمشروع النهضوي العربي الجديد ما يميزه من سواه، من مشاريع النهضة التي سبقته منذ القرن التاسع عشر، فهو في مضمونه الديمقراطي الذي يقوم عليه، أي في حسبانه الديمقراطية ركناً مكيناً من أركان النهضة ورافعةً من رافعاتها. كان يمكن القول، في ما مضى، إن النهضة تتحقق بمقدار ما ينجح مجتمعٌ أو أمةٌ في إنجاز التصنيع، ونشر التعليم، وبناء الجيش الحديث، وتعظيم الثروة. وقد يصحّ ذلك إلى حدٍّ بعيد. لكن الذي ثبت بالدليل التاريخي أن الطريق إلى ذلك كلِّه هي الديمقراطية بما هي النظامُ الذي يحرِّر مواطنيه من العبودية السياسية والخوف، ويطلق الطاقات الاجتماعية للإنتاج والإبداع والتنافس وتحقيق التراكم: الماديّ والمعنوي، ويعزز اللحمة الوطنية والقومية استناداً إلى رابطة المواطنة. وما أحوج الأمة العربية، التي يعطِّلُ الاستبدادُ طاقات أبنائها ويستبْعِدُهُم من المشاركة في صنع مصيرهم، إلى الديمقراطية وسيلةً لطلب التقدم ونظاماً لتحقيق الآمال النهضوية المعلَّقة منذ قرنين من الزمان، وذلك دون السقوط في شرك الوهم بأن الديمقراطية وحدها كفيلة بمواجهة كافة العقبات التي تعترض تجسيد المشروع النهضوي الجديد في الواقع العربي، فالديمقراطية شرط ضرورة وليس شرط كفاية.

 

أولاً: في ضرورة الديمقراطية

حاجةُ الوطن العربي إلى الديمقراطية حاجةٌ حيوية لا غنًى عنها حتى تستقيم أوضاعُه وتنفتح أمامه سُبُل الخروج من أصفاد الكبت السياسي والاستبداد، ويتحَصَّل أبناؤهُ حقوقاً لهم أهدرتْها حِقَبُ القمع؛ فكيف إذا كان الهدف بناء نهضة: هذه التي لا طريق إليها سوى طريق التطور الديمقراطي. الديمقراطية – إذن – ضرورة تاريخية وسياسية بالمعاني الثلاثة التالية:

1- إنها ضرورة، ابتداءً، لكونها حقّاً عامّاً للشعب والأمة. فهي ليست ترفاً سياسيّاً يطلبه المواطنون العرب لهم، بل حاجةٌ أساسية لهم. إنها في جملة ما لهم من حقوق أُسوةً بغيرهم من شعوب الأرض. وهي حقوق ليست قابلة للحجب أو للانتقاص تحت أي عنوان آخر، والمساس بها في مقام العدوان عليها. وهي ليست مِنَّةً من حاكمٍ يقدّمها بالتقسيط، بل استحقاقٌ تفرضه المواطنةُ وعائداتُها السياسية على من يُفْتَرَض أنهم مواطنون يتمتعون بحقوق المواطنة. إنها “الضريبة السياسية” التي على الدولة أن تدفعها للمواطنين – مثل الأمن تماماً – لقاء الضرائب التي يدفعها المواطنون للدولة.

 

2- وهي ضرورةٌ، ثانياً، لأنها الوسيلةُ الأمثل لإطلاق طاقات المجتمع والشعب، وتحريرها من السلبية والتواكل، والزجّ بها في معركة البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. فالمجتمع العربي – كغيره من المجتمعات البشرية – لا يملك أن يكسب معركة التنمية أو يجابه تحدياتها المتلاحقة دون تسخير طاقاته البشرية كافة. ولا يكون ذلك إلا بفك قيد العبودية السياسية عنها وتحرير إرادتها المُصَادَرَة، وتمتيعها بفرص المشاركة في صنع المستقبل والمصير وطنيّاً وقوميّاً.

 

3- ثم إنها ضرورةٌ – ثالثاً – لأنها القاعدة التي تُبْنَى عليها العلاقة بين الدولة والمجتمع في المجتمعات الحديثة، التي ينبغي – بالتالي – أن تقوم عليها العلاقةُ إياها في الوطن العربي. حين لا تستقيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، فيشعر المواطنون بأنهم محضُ رعيةٍ للسلطان، وتنشأ أسباب الاحتقان والاضطراب والحَرَاك النازع نحو العنف. وحين تقوم على قاعدة الديمقراطية، يكون المجتمع في صدارة من يحمي الدولةَ ويدافع عنها على خلفية شعوره بأنها دولته. وما أكثر التحديات التي تتعرض لها الدولة في الوطن العربي اليوم وتهدّدها في وحدتها السياسية. وما أكثر حاجة الدولة اليوم إلى شعب يحميها ويَذُودُ عن بقائها. ولو أمكن أن تنتظم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والشعب، على مقتضىً ديمقراطيٍّ، لأمكن تحصينُ جبهة الوطن الداخلية في وجه أي خطر خارجيّ أو داخليّ. وإن الحاجة إلى الديمقراطية في علاقةً الدولة بالمجتمع هي عينُها الحاجةُ إليها لبناء العلاقة بين الكيانات العربية صوناً لوحدتها وتعزيزاً لتماسكها الجماعي في مواجهة التحديات المشتركة.

 

ثانياً: الشورى والديمقراطية

مهما قيل إن الديمقراطية نظام سياسيّ حديث أرستْه الثورات الاجتماعية العاصفة، المتشبعة بفكر الأنوار، ضد الأنظمة الإقطاعية والملكيات المطلقة المستبدة، ورسخَّتْه الثورات الاجتماعية اللاحقة في القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن مما لا شك فيه أن حضارتنا العربية – الإسلامية وتعاليم الدين الإسلاميِّ الحنيف زوَّدتنا بمبادئَ ترتبط في محتواها بالمبادئ عينِها التي قام عليها النظامُ الديمقراطيّ: سلطةُ الأمة ومرجعيتُها والرقابة على الحاكم. وهي التي عبَّر عنها مفهوم الشورى الإسلامي: في دلالته القرآنية وفي بعض التطبيق التاريخي، وخاصة في عهد الخلافة الراشدة.

إن مقتضى الشورى، مفهوماً، أن أَمْرَ السياسة والحكم متروك للجماعة تتوافق عليه. وتطبيقُها أن السلطة في المسلمين تقوم من خلال اختيار الحاكم، لا بالتعيين أو بالتوريث؛ وأن الاختيار يقع بمقتضى عقد (المبايعة) يشترط على الحاكم شروطاً عليه التزامُها وإلاّ انْتَقَضَت بيعتُه. كما أن الجماعة التي اختارته تملك حق الاحتساب (الرقابة) عليه، وتملك حقّ خلْعِهِ إن نقض ميثاق التولية. وأمام محاولات “الخلفاء” الالتفاف على مبدأ الشورى وإفراغه من محتواهُ القرآني، قرّر المجتهدون من فقهاء المسلمين الأقدمين ومن مفكريهم في العصر الحديث أن الشورى ذات طابع إلزاميّ لا يقبل التحلُّل منه، فهي مُلْزِمة وليست مُعْلِمَة.

وقد يقال إن الشورى لم تتسع في تطبيقها التاريخي لإمكانية مشاركة الأمة والجماعة كافة في اختيار الحاكم وممارسة الحسبة، وإنما حُصِرت في “أهل الحل والعقد”، وهو ما يخالف النظام الديمقراطي الذي يُوَفِّر حق الاختيار للعموم من خلال الانتخاب والاقتراع. غير أنه وُجد من مفكري الإسلام المحدثين، منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، مَنْ اعتبر “أهل الحلّّ والعقد” هم نواب الأمة في المجلس النيابي اليوم. وفي الأحوال جميعاً، من المهم الانصراف عن عقد مقارنات غير تاريخية بين شكلين من النظام السياسي، والانصراف إلى التشديد على الجامع والمُشْتَرَك بينهما وهو: سلطة الأمة على نفسها واختيارها من يحكُمها وحقها في ممارسة الاحتساب على من يقوم على أمرها.

إن من يحاول دقّ إسفين بين الديمقراطية والشورى وفك الارتباط بين معنَييْهما بدعوى الاختلاف بينهما في الفلسفة الضمنية المؤسِّسة لكلّ منهما، أو بدعوى برّانيةِ الديمقراطية عن الإسلام وتلازمها مع العلمانية، لا يخدم النضال من أجل الديمقراطية في شيء.

 

ثالثاً: الديمقراطية نظام شاملٌ للحكم

إن الديمقراطية نظامٌ شامل للحكم لا تَقْبَلُ تجزئة عناصرها أو انتقاء بعضها دون آخر؛ ولا يوصف نظامٌ سياسيٌّ ما بأنه ديمقراطي إلا متى اجتمعت فيه المبادئ والقواعد كافة التي تقوم عليها الديمقراطية كنظامٍ سياسيّ. وثمة عناصر/مبادئ سبعة كبرى تؤسّس هذا النظام وتمنحه ماهيته:

أولها، الحرية: حرية الرأي والتعبير والنشر والتنظيم…؛ أي جملة ما يجعل الأفراد مواطنين: يمارسون حقهم في مواطنتهم، من دون قيدٍ على حرياتهم إلا ما يفرضه احترامُ حريات الآخرين، ومن دون رقابةٍ على أفكارهم إلا ما كان يدعو منها إلى تهديد نظام الحريات والديمقراطية ويحرِّض على العنف السياسيّ الأهلي، ومن دون انتقاصٍ من الحق في التنظيم وتشكيل الجمعيات السياسية إلا ما كان يقوم منها على أساسٍ عرقي أو طائفي أو مذهبي أو عشائري…

وثانيها، التعدّدية السياسية والحق في المشاركة، أي إقامة السياسة على مقتضى الحق العام أو الإقرار بأنها حق عام لطبقات المجتمع وفئاته ونخبه؛ بما يعني منع أي شكل من أشكال احتكار التمثيل السياسي من قِبَلِ حزب حاكم واحد، أو حزبٍ قائد لجبهةِ أحزابٍ “حاكمة”، وأيّ شكل من أشكال مُصَادَرَةِ الحياة السياسية وإسقاط نظام الحزبية بدعوى عدم تمزيق وحدة الشعب! ولا يكفي إقرار التعددية السياسية إن لم يُكفل حق كافة الأحزاب والمنظمات في المشاركة السياسية وفي التنافس المشروع على التمثيل السياسي وكسب الرأي العام بالوسائل الديمقراطية.

وثالثها، النظام التمثيلي (المحليّ والنيابي) المشمول بالضمانات القانونية والدستورية التي تكفل:

حرية الاقتراع لكل المواطنين البالغين حق التصويت والمسجَّلين في القوائم الانتخابية، وإحاطة العملية الانتخابية بأسباب الشفافية والنزاهة، ومنع أي شكلٍ من أشكال مصادرة الإرادة الشعبية وتزوير التمثيل، إمّا من خلال التدخل غير المشروع للإدارة في نتائج الانتخابات، وإمّا من خلال استعمال المال السياسي لشراء الأصوات والذمم والضمائر والتحكم في اتجاهات اختيار الناخبين.

حق الرقابة على السلطة وممارستها من خلال وسائط الرقابة كافة: المُسَاءَلَة النيابية للسلطة التنفيذية، والرقابة على صرف المال العام، والرقابة الشعبية على إدارة السلطة.

إن النظامَ التمثيليَّ في الديمقراطيات الحديثة هو الشكل المؤسَّسيُّ للتعبير عن مبدأٍ السيادة الشعبية أو عن المبدأ القائل بأن الشعب مصدر السلطة: يمارسها عبر ممثلين ينتخبهم بحرية.

ورابعها، إقامة النظام السياسي على قاعدة الفصل بين السُّلْطات واحترام استقلالية القضاء.

وخامسها، التداول الديمقراطي للسلطة وإقرار مبدأ حق الأكثرية السياسية التي أفرزتها الانتخابات النزيهة في تشكيل السلطة التنفيذية وإدارتها عملاً بمبدأ أن السلطة حق عام للشعب والأمة، وليست حقاً خاصّاً لحزبٍ أو فئةٍ أو أسرةٍ أو فرد.

وسادسُها، الذي تتوقف عليه سائر المبادئ المذكورة، هو النظام الدستوري الذي يمثل النظام الأساس للدولة، وينظِّم سلطاتها كافة والعلاقات بين أجهزتها والحقوق المدنية والسياسية لمواطنيها. وهو النظام الذي ينبغي أن توكَلَ كتابتُه إلى هيئة تأسيسية منتخبَة ويجري إقرارُهُ بواسطة الاستفتاء الشعبيّ عليه.

وسابعها، نظام اجتماعي اقتصادي عادل يتمتع فيه المواطنون بحقوق متساوية، وفرص متكافئة على النحو الذي يوفّر لهم الحماية ضد انتهاك إرادتهم السياسية، وحريتهم في التعبير عن آرائهم، واختيار من يرونه الأصلح لتمثيلهم.

إن تطبيق مبدأ من هذه المبادئ دون آخر يُسْقِط عن النظام ماهيته الديمقراطية، فالديمقراطية نظام شامل وكُلٌّ لا يَقْبَل التجزئة.

 

رابعاً: آليات تحقيق الديمقراطية وتعزيزها

ولتحقيق الديمقراطية، ثمة آليات من شأنها أن تهيّئ الشروط التحتية لإشاعة الثقافة والقيم الديمقراطية في المجتمع العربي، وأن تسرِّع من وتائر الضغط الشعبي في اتجاه تحقيق عملية الانتقال الديمقراطي، وأن تساهم في توحيد الجهد النضالي من أجل الديمقراطية على الصعيد القومي؛ ومن أهمّ هذه الآليات:

1- نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان وتعزيزها وطنيّاً وقوميّاً، من خلال إقرار موادّها في المقررات المدرسية وفي معاهد تكوين الشرطة وأجهزة الأمن، كما من خلال تسخير وسائل الإعلام المكتوب والسمعي – البصري لهذا الغرض.

 

2- تفعيل حركة حقوق الإنسان داخل كل بلدٍ عربي وعلى الصعيد القومي، وتوحيد جهدها النضالي وبرامج عملها على نحوٍ يتعاظم فيه تأثيرُها في مجال إنتاج رأيٍ عام ديمقراطي، وفي مجال الضغط على النخب الحاكمة من أجل إقرار حقوق الإنسان بمعاييرها الكونية واحترامها.

 

3- إحداث آليات للعمل الديمقراطي على الصعيد القومي وإطلاق مؤسساته من قبيل إنشاء منظمة عربية لحقوق المرأة، ومنظمة عربية لحقوق الطفل، ومنظمة عربية لحماية البيئة، ولجنة حقوقية عربية موحّدة لمراقبة نزاهة الانتخابات، ومجلس دستوري عربي، ومجلس أعلى للقضاة العرب، وبرلمان شعبيٍ عربي، وما شاكل ذلك من مؤسسات قومية للعمل الديمقراطي.

 

خامساً: الديمقراطية كنظامٍ اجتماعي

ليست الديمقراطيةُ نظاماً سياسيّاً أو نظاماً للدولة فحسب، وإنما هي أيضاً نظامٌ اجتماعيّ أو نظام للمجتمع. ولا يكفي، من منظور المشروع النهضوي، أن ينصرف النضال من أجل الديمقراطية إلى النضال من أجل “ديمقراطية” الدولة فحسب، بل ينبغي أن ينصرف في الوقت نفسه إلى النضال من أجل “ديمقراطيةالمجتمع. وقد يكون من الأَوْلى أن يقال، في هذا الباب، إنه كلّما تقدمت العلاقات الديمقراطية داخل المجتمع، تعاظمت فرص قيام النظام السياسي الديمقراطي. وفي الحديث عن الديمقراطية بوصفها نظاماً اجتماعيّاً، ينبغي التشديد على الوظائف الاجتماعية الأربع للديمقراطية.

أولها، أن الديمقراطية إذْ تؤسِّس علاقة المواطنة، بوصفها علاقةً تَشُدُّ أفراد المجتمع إلى ولاءٍ عام للدولة يعلو على علاقاتهم الأهلية وولاءاتهم الفرعية، ويقيم المساواة بينهم في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن الدين والجنس والعرق، تقدِّم – في الوقت نفسه – قاعدةً لحلّ مسألة الاندماج الاجتماعي التي تعانيها المجتمعات العربية نتيجة هشاشةِ النسيج الاجتماعي وثِقْلِ الموروث العصبويّ والتفاوت في مستوى مشاركة الجماعات الاجتماعية في السلطة. وهكذا، كلّما ترسّخت الديمقراطية وسادت علاقةُ المواطنة، أُعِيدَ صَوْغُ النسيج الاجتماعي على نحوٍ تتضاءل فيه الانقسامات العمودية الموروثة، وتَتَّسِعُ وشائجُ الترابط والاندماج الاجتماعيَّيْن. وكلّما اتسع نطاق الاندماج الاجتماعي، توطَّدت أركان الديمقراطية ورسخت علاقاتُها في الدولة والنظام السياسي.

وثانيها، أن الديمقراطية السياسية لا تستقيم في الوطن العربي إلاّ متى أمكن للمرأةِ أن تَخْرُجَ من هامشيتها أو تهميشها واستبعادها لكي تشارك مشاركة فعّالة في الحياة السياسية أُسوةً بالرجل. ولا يمكن لذلك أن يتم إلا بمقاومة ثقل التقليد الذُّكوريّ في المجتمع العربي، وإقرار علاقة المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والفرص كافة، دون تمييزٍ أو انتقاص. إن الديمقراطية في العلاقة بين الرجل والمرأة هي رافعة للديمقراطية في المجتمع والدولة على السواء.

وثالثُها، أن الديمقراطية السياسية لا تستقيم بغير إعادة تأهيل النظام الأسري والنظام التربوي على القيم الديمقراطية بحيث تسود فيه، وينتظم بها أمْرُ العلاقة بين الآباء والأبناء، بين المُرَبِّين والمتعلمين، وبحيث تصبح الأسرة والمدرسة مؤسستيْن للتنشئة والتربية على القيم الديمقراطية من أجل خلق المواطن الديمقراطي في وطننا العربي.

أمّا رابعها، فهو أن إقامة النظام السياسي الديمقراطي ممتنعةٌ عن التحقُّق إن لم تكن أدواتُ النضال الديمقراطي نفسُها ديمقراطيةً. إن المبدأ القائل إنه لا ديمقراطيةَ من دون ديمقراطيين صحيح من غير شك. وعليه، إذا لم يكن في وسع المؤسسات الحزبية والنقابية والمنظمات الشعبية في الوطن العربي أن ترسيَ العلاقات الديمقراطية في عملها العام وفي أطرها التنظيمية، وأن ترسّخ القيم المؤسَّسِيَّة فيها، وتفتح مواقع المسؤولية فيها أمام مبدإ التداول، فكيف سيكون في إمكانها أن تناضل من أجل دولةٍ ديمقراطية، ومن أجل تداولٍ ديمقراطيٍّ للسلطة؟ بل أيةُ صدْقية ستبقى لمطالبها الديمقراطية أمام جمهورٍ يُعَايِِنُ غياب الديمقراطية فيها؟ إن تصحيحاً ديمقراطيّاً لأوضاع المؤسسات الشعبية في الوطن العربي، هو المدخل الذي لا مدخَلَ سواه إلى ترشيد النضال الشعبي العربي من أجل الديمقراطية.

يفترض المشروع النهضويُّ العربيُّ أن المعركة من أجل النهضة تمرُّ من بوَّابة المعركة من أجل الديمقراطية، وبناء دولة الحق والقانون. لكن هذه أيضاً تتلازم في الوقت نفسه مع النضال من أجل الديمقراطية في المجتمع: في الأسرة والمدرسة والنقابة والحزب والجمعية، وفي العلاقة بين الجنسَيْن. أما التشديد على مبدإ التلازم بين المعركتيْن، فَمَردُّهُ إلى أن كلّ واحدةٍ منهما تستدعي الأخرى وتتغذى من نتائجها. أمَّا الفصل بينهما بدعوى أولوية السياسيِّ على المجتمعيِّ أو العكس، فلن تكسب منه المعركة من أجل الديمقراطية سوى تَبَعْثُر الصفوف وفقدان البوصلة التي تسترشد بها.

 

الفصل الخامس

 

التنمية المستقلة

 

أولاً: ضرورة التنمية المستقلة

يعاني الاقتصاد العربي تخلفاً اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً بكافة المعايير، نتيجة للسياسات الاقتصادية المطبّقة خلال العقود الثلاثة الماضية، من ناحية، ونتيجة علاقات التبعية التي انتهكت سيادة الدولة القطرية وأخضعتها لإملاءات القوى المالية والاقتصادية الدولية، من ناحية أخرى. وهو ما ترتبت عليه آثار سلبية ضخمة في نمط تكوين واستخدام الفائض الاقتصادي، وتوجهات تراكم رأس المال، ومن ثم في مسارات التنمية في المجتمع العربي.

وفضلاً على ذلك، ازداد الاعتماد على النفط ومشتقاته زيادة كبيرة، ممّا عمّق من الطبيعة الريعية للاقتصاد العربي. لقد تحوّل الاقتصاد العربي تدريجياً إلى اقتصاد ريعي يقوم على المضاربات العقارية والمالية، وتراجعت القطاعات المنتجة الزراعية والصناعية تراجعاً ملموساً؛ وهو ما أسفر عن تزايد الانكشاف على الخارج إلى مستويات خطيرة. كما أدى نمط توزيع الريع وإعادة تدويره في المجتمع العربي إلى مزيد من البطالة والفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي لفئات واسعة من سكان الوطن العربي.

وفي ضوء ما تقدّم تعتبر “التنمية المستقلة” ضرورة تاريخية لتصحيح المسار التنموي، حيث إنها تردّ الاعتبار إلى مفهوم الدولة التنموية التي غابت عن الوطن العربي، وغاب معها دورها الريادي والتوجيهي الضروري للخروج من التخلّف والتبعية. والتنمية المستقلة ضرورة اقتصادية واجتماعية لضبط اتجاهات التراكم الإنتاجي والتطور التكنولوجي في القطاعين العام والخاص من جهة، ولتأمين عدالة توزيع ثمار النمو الاقتصادي من جهة أخرى.  وفضلاً على ذلك، فإن التنمية المستقلّة ضرورة سياسية لحماية القرار الوطني وصيانة استقلاليته، على الصعيدين القطري والقومي.

وحتى لا ينظر البعض إلى مقولة التنمية المستقلة على أنها مجرد حنين إلى الماضي، أو على أنها تشبّث بمثاليات لم يعد هناك مجال لتحقيقها في زمن العولمة، فسوف نلقي فيما يلي المزيد من الأضواء على مفهوم التنمية المستقلة، وعلى المبادئ التي يجسّدها، والركائز التي يقوم عليها، التي يمكن الاهتداء بها، فيما لو انعقد العزم على تحقيق التنمية المستقلة في الوطن العربي.

 

ثانياً: مفهوم التنمية المستقلة

من الخطأ الاعتقاد بأن الحديث عن التنمية المستقلة في عصر العولمة يمثّل ضرباً من الخلط النظري، أو نوعاً من الحَنين غير العقلاني إلى عهدٍ مضى. وهذا الخطأ ناجمٌ عن فرضيتين مغلوطتين عن التنمية المستقلة: أولاهما، افتراض أن التنمية المستقلة تعني الاكتفاء الذاتي أو الانقطاع عن العالم. وهو ما لم يَقُل به أحدٌ ممّن دافعوا عنها في الماضي وفي الحاضر. وثانيتُهما، افتراض أن إدماج الاقتصادات النامية في السوق العالمي بالشكل المطلق الذي فرضته القوى الاقتصادية المهيمنة، يمكن أن يؤدي إلى تنمية حق. وإذْ يجانب فهم المشروع النهضوي العربي للتنمية المستقلة هذين الفهميْن الخاطئيْن لها، فإن المضمون الحقيقي لهذا المفهوم سوف يزداد وضوحاً بتناول ثلاث نقاط في غاية الأهمية، وذلك على النحو التالي:

1- الاستقلال والاعتماد الذاتي صنوان

       إن استقلالية التنمية لا تعني العزلة أو القطيعة الكاملة مع العالم الخارجي، والانكفاء على الذات أو “الاكتفاء الذاتي المطلق”. فليس هذا من الأمور الممكنة في العالم المعاصر، فضلاً على أنه يجافي المنطق الاقتصادي السليم. وإنما جوهر استقلالية التنمية هو توفير أكبر قدر من حرية الفعل للإرادة الوطنية المستندة إلى تأييد شعبي حقيقي، في مواجهة عوامل الضغط التي تفرزها آليات الرأسمالية، وفي مواجهة القيود التي تفرضها المؤسسات الراعية والحارسة للنظام الرأسمالي العالمي، ومن ثم توافر القدرة على التعامل مع الأوضاع الخارجية بما يصون المصالح الوطنية.

إن الاستقلال في عالم اليوم هو أمر نسبي بالضرورة. والمراد به هو تأمين مستوى معقول من السيطرة الاجتماعية على شروط تجدّد الإنتاج وتسخير العلاقات الخارجية لخدمة مصالح التطور الداخلي، مع استهداف إشباع الحاجات الأساسية للسكان، وبناء هيكل اقتصادي متطور ذي تشابكات قوية فيما بين قطاعاته المختلفة.

ولمّا كان الاستقلال نقيض التبعية والاعتماد على الخارج، فإن استقلالية التنمية تعني ـ ضمن ما تعني ـ اعتماد التنمية على القوى الذاتية للمجتمع في المقام الأول. وفى مقدمة هذه القوى القدرات البشرية والمدّخرات الوطنية، وذلك دون استبعاد اللجوء إلى الخارج للحصول على معونات أو قروض أو استثمارات أو تكنولوجيا، وذلك بشروط مؤاتية، ودونما قيود تجور على حرية الإرادة الوطنية، وباعتبارها عوامل ثانوية تكمل الجهد الوطني وتعزّزه، ولكنها لا تحلّ محله ولا تغني عنه.

 

2التعامل الصحيح مع العولمة

إن العولمة ليست كتاباً مقدساً، إمّا أن يؤخذ كلّه، وإمّا أن يترك كلّه. ذلك أن تباين مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي للدول يستوجب أن يكون لديها مجال للانتقاء والاختيار من مكوّنات العولمة، فتأخذ كلّ منها ما يتلاءم مع ظروفها ومستوى تطورها. وليس هناك ما يحول دون تفكيك حزمة العولمة، وإفساح المجال أمام الدول النامية لاختيار ما يناسب أوضاعها.

ولقد تعاملت الدول الغنية مع العولمة على أنها حزمة قابلة للتفكيك، وفكّكتها فعلاً، وانتقت منها ما يوافق مصالحها. ولكنها لا ترغب في إتاحة مثل هذه الفرصة للدول النامية، بل إنها تمارس ضغوطاً شتّى عليها كي تلتزم بالتحرير المتعجل والشامل لتجارتها، وكي تلغي الدعم عن صناعاتها الناشئة، وكي تزيل القيود على دخول الاستثمارات الأجنبية إليها، وتلتزم التزاماً أعمى  بجميع اتفاقات منظمة التجارة العالمية، وكي تدخل في “مناطق حرة” أو “شراكات” مع الدول المتقدمة. وإن الرسالة التي يمكن استخلاصها من تجارب التنمية الناجحة هي أن على البلد المعني السعي إلى تنمية نفسه بنفسه اعتماداً على قدراته الذاتية، مع الاستفادة المحدّدة من بعض جوانب العولمة، مثل التقدم في المعلوماتية والاتصالات، والاستثمار الأجنبي، وأسواق المال الدولية.

 

3- المبادئ الناظمة للتنمية المستقلة

إن مفهوم التنمية المستقلة في المشروع النهضوي العربي يستند إلى مبادئ خمسة ناظمة تؤسِّسُه وتُميِّزه:

المبدأ الأول، هو تحرير القرار التنموي القطري والقومي من السيطرة الأجنبية، دون أن يعني ذلك الانقطاعَ عن أفضل منجزات البشرية في العالم المعاصر. ويتطلب ذلك تعبئة الموارد الذاتية للأمة وتنميتها وتوظيفها بأقصى كفاءةٍ ممكنة.

والمبدأ الثاني، هو اعتماد مفهومٍ واسع للرفاه الإنساني – كغاية تنموية – يتجاوز التعريفات الضيّقة المقتصرة على الوفاء بالحاجات المادية للبشر إلى التمتع بالمكوّنات المعنوية للتَّنَعّم الإنساني مثل الحرية (حرية الفرد والمجتمع والوطن)، والمعرفة، والجمال.

والمبدأ الثالث، هو أن المعرفة مصدر أساسي للقيمة في العالم المعاصر، وذلك بالطبع إلى جانب تراكم الأصول الإنتاجية. ولذا، فإن إقامة “مجتمع المعرفة” صارت عنصراً من العناصر الجوهرية للتنمية الحقيقية.

والمبدأ الرابع، هو إنشاءُ نسقٍ مؤسَّسيّ فعّال موجَّه نحو التكامل القومي، وصولاً إلى ما يمكن تسميته “منطقة مواطنة حرّة عربية”. ومن المهم هنا التمييز بين مرحلتين: أولاهما مرحلة التنمية التكاملية التي يتولاها كلّ قطر لتحقيق تكامل داخله وفيما بين الأقطار، والثانية مرحلة تكامل إنمائي يتولّى فيه الكيان التكاملي تسيير دفّة التنمية. وتتوافق المرحلة الأولى مع مرحلة بناء المشروع النهضوي، بينما تتوافق المرحلة الثانية مع مرحلة تسييره.

والمبدأ الخامس، هو الانفتاح الإيجابي على العالم المعاصر، بغرض الاستفادة من أفضل منجزات البشرية، كما سيرد لاحقاً.

وانطلاقاً من هذه المبادئ تتحدّد ركائز المشروع النهضوي للتنمية المستقلة، على النحو الآتي.

 

ثالثاً: ركائز التنمية المستقلة

يقوم بنيان التنمية المستقلة على سبع ركائز أساسية:

الركيزة الأولى: تسليح الاقتصاد بأكبر قدر من قوة الدفع الذاتي وتمكينه من مواجهة الصدمات الخارجية

تسعى التنمية المستقلة إلى بناء أكبر قدر من قوة الدفع في الاقتصاد. والمقصود بهذا هو أن تكون عمليات التنمية متمركزة حول نفسها. ويقاس ذلك بقوة علاقات التشابك وعلاقات الترابط الأمامية والخلفية في بنية الإنتاج في الاقتصاد العربي، على الصعيدين القطري والقومي. ويمكن تحديد تلك الدرجة من التماسك للهيكل الإنتاجي، من خلال تحديد تلك “النواة” الصلبة التي تشمل مجموعة السلع والخدمات الرئيسية التي تعتمد عليها أنشطة الاقتصاد العربي بصفة مباشرة أو غير مباشرة. فبقدر ما تكون تلك النواة متماسكة قطرياً وقومياً، بقدر ما يتمكن الاقتصاد العربي من امتلاك مقوّمات الاستقلال الذاتي. وبإيجاز فإن التنمية المستقلة تستدعي انتقال الاقتصاد العربي من الحالة “الريعية” السائدة حالياً إلى الحالة “الإنتاجية”.

ومن المهم تقوية قدرات الاقتصاد العربي على مقاومة الصدمات الخارجية، وذلك من خلال وسائل مختلفة، من أبرزها الوسائل الثلاث التالية:

تخفيض الاعتماد المفرط على الاستيراد السلعي والخدمي، ولا سيما في مجال الحبوب الغذائية والسلع الوسيطة والرأسمالية، والمعارف الإنتاجية، والخدمات العلمية التكنولوجية. ويجب أن تحظى مسألة تحقيق أكبر قدر من الأمن الغذائي والمائي بأولوية عليا. وفي هذا الصدد يجب أن تتضافر جهود التنمية من أجل توسيع الاستثمار في قطاع الزراعة بشكل عام، وفي إنتاج الحبوب بشكل خاص (ولا سيّما القمح)، وذلك في الأقطار العربية ذات المزايا النسبية في زراعة الحبوب، والتعاون في تنفيذ البرامج والمشروعات اللازمة للوفاء بمتطلبات الأمن الغذائي العربي، وتقليص الاعتماد المفرط على استيراد الحبوب. ويرتبط بذلك تطوير المصادر التقليدية وغير التقليدية للمياه، سعياً إلى تحقيق أكبر قدر من الأمن المائي على صعيد الوطن العربي.

تنويع سلّة الصادرات السلعية والخدمية للاقتصاد العربي، وتحسين نوعية المنتجات أيضاً، إذ إن تنويع وتطوير سلّة الصادرات – بما يقلّل من الاعتماد المفرط على النفط ومشتقاته – يعتبر ضرورة لحماية الاقتصاد العربي من التقلبات الدورية للنظام الاقتصادي العالمي، والتدهور في “شروط التبادل”.

حصر حجم الدين العام الخارجي – إن كان هناك ما يدعو إليه أصلاً – وأعباء خدمته، في حدود السلامة والأمان، وذلك لمقاومة الضغوط الخارجية، ولتفادي ابتزاز الدائنين لصنّاع القرارات العربية.

 

الركيزة الثانية: الاعتماد على الذات مادياً وبشرياً

لمّا كان اعتماد التنمية على القوى الذاتية للمجتمع يعني في الأساس الاعتماد على القدرات البشرية وعلى المدّخرات الوطنية، فإن عناية خاصة ينبغي أن توجّه إلى النهوض بهذين العنصرين، وذلك على النحو التالي:

تقوية رصيد رأس المال البشري

يتطلب هذا العنصر تطوير نُظُم التعليم والتدريب، على الصعيدين القطري والعربي، والارتقاء بالتركيب المهاري لقوة العمل العربية، بما يجعل الاعتماد على الخبرة الأجنبية في أضيق الحدود. ويقتضي ذلك، الشروع في عملية التعميق التكنولوجي، ودفع “أنشطة البحوث والتطوير”، وتطوير الإنتاج القائم على المعرفة، باعتبارها شروطاً ضروريةً لإحداث زيادة ملموسة في مستويات الإنتاجية في مختلف فروع النشاط الاقتصادي، وجعل الاقتصاد العربي أكثر قوة ومنعة، وخاصة على صعيد التنافسية في المستويين الإقليمي والدولي.

وتنطلق نظرة المشروع النهضوي العربي إلى دور المعرفة في التنمية المستقلة من توجهات استراتيجية ثلاثة:

 يتمثل التوجُّه الأول في بناء رأسمالٍ بشريٍّ راقِيِ النوعية، عن طريق تعميم التعليم الأساسي وإطالة مدته الإلزامية إلى عشر سنواتٍ على الأقل، وإحداث نَسَقٍ مؤسَّسيّ لتعليم الكبار مستمرّ مدى الحياة، وإدخال وسائل داخل مراحل التعليم كافة تكفل الترقية المستمرة لنوعية التعليم. ولا شك في أن ذلك يستوجب أن توفّر البلدان العربية موارد أضخم للتعليم، وأن تزيد من كفاءة استغلالها.

ويتمثل التوجُّه الثاني في صوْغ علاقة تضافر قوية بين التعليم والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية على النحو الذي يترابط فيه التعليم مع التنمية، ويتحوَّل إلى أولوية في عمل الدولة وقطاع الأعمال والمجتمع المدني. غير أنه من الضروري أن تصاغ العلاقة بين التعليم والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية بحيث لا تقف عند جعل التعليم مطلباً لرفع مستوى الإنتاجية، بل تعتبر التعليم ركناً أساسياً من أركان نوعية راقية للحياة، والإسهام في بناء نهضة حضارية متجدّدة.

والتوجُّه الثالث يتمثل في إقامة برنامجٍ لتطوير التعليم على الصعيد العربي يقوم على أساس شراكةٍ قوية بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، إذ إن الحاجة أضحت ماسَّة اليوم إلى قيام سلطة تعليمية فوق – قطرية وفعّالة على الصعيد العربي. وسوف يكون من المهام الأولى لهذه السلطة مواجهة الاختراقات الأجنبية لمنظومة التعليم التي من خلالها تتوارى اللغة العربية، وتفرض قيم مجتمعية غربية نفسها على المجتمعات العربية.

إن هذه التوجّهات الاستراتيجية هي عينُها التي تحكُمُ الرؤية إلى قطاع البحث العلمي والتقاني ودوره المركزي في عملية التنمية، والحاجة إلى تطوير هذا القطاع على الصعيد الوطني، وعلى الصعيد العربي لسدّ احتياجات الوطن العربي، والحدّ من اللجوء إلى استيراد ما يمكن توفيرُهُ ذاتيّاً من خبرة علمية ومن تقانة.

وربما يمكن سدّ جانب من العجز الذي يعانيه الوطن العربي في مجال رأس المال البشري العالي النوعية، وبوجه خاص في قطاع البحث العلمي، فضلاًً على رؤوس الأموال، من خلال الاستعانة بالعقول والأموال العربية في الخارج، وهو ما يقتضي تقوية الأواصر بين الكفاءات المهاجرة وأوطانها، وتنفيذ برامج تحقق الاستفادة من خبرة هذه الكفاءات حتى مع استمرار عملها في الخارج، ودعم البلدان العربية لتنظيمات الكفاءات المهاجرة حتى تصبح شكلاً مؤسَّسيّاً لعلاقةٍ ذات اتجاهين تقوم بين المهاجرين وأوطانهم. على أن هذه السياسة ينبغي أن توازيها سياسة أخرى عمادُها العمل على الحدّ من هجرة الكفاءات إلى الخارج، وذلك من خلال تعطيل الآليات التي تؤدي إلى نشوء ظاهرة هجرة الكفاءات، وتوفير المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي المناسب الذي يؤمِّن لها فرص العمل الكريم ويشجعها على البقاء في أوطانها.

– إحداث زيادة ضخمة في المدّخرات الوطنية

إن إحداث زيادة ضخمة في معدل الادخار المحلى شرط لا غنى عنه لاستقلالية التنمية واطرادها، مهما ترتب على ذلك من تضحيات ومشاق، ذلك أن التنمية التي قُدّر لها الاستمرار والتواصل في الزمن الحديث هي تلك التي قامت على المدّخرات الوطنية وتراكم رأس المال. ولا مجال هنا لتكرار نمط الاستهلاك الغربي المسـرف والمبدّد للموارد.

كما أنه من الخطأ تصوّر أن التنمية يمكن أن تحدث على نطاق يُعتدّ به، اعتماداً على أن المعونات الأجنبية والاستثمار الأجنبي يمكن أن يحلا محلّ الادخار المحلى في إنجاز التنمية. وفي الحقيقة أن الاستثمار الأجنبي المباشر على المستوى العالمي، لم يتدفق بغزارة، بشكل عام، إلا على البلدان التي نجحت في الارتفاع بمعدلات ادخارها المحلية ارتفاعاً كبيراً.

ومن جهة أخرى، وفيما يتعلق برأس المال العربي، والقادم من الدول العربية المنتجة للنفط أساساً، فإنه ينبغي تصويب حركته نحو الداخل العربي، والحدّ من تدفقه نحو الخارج، ضماناً لحسن الاستفادة منه في عملية التنمية على المستوى العربي.

 

الركيزة الثالثة: الدولة التنموية والتخطيط الشامل

إن خبرات التنمية في العالم المعاصر تشير إلى أن الدولة كان لها دور محوري في تحريك قوى التنمية، وفي تأمين اطرادها.

وإن دور الدولة لا يكون تنموياً بحق إذا اقتصر على التوجيه والتحفيز، وعلى تهيئة المناخ الاستثماري وتحسين البنية الأساسية، بل يلزم أن يضاف إلى هذه المهام ثلاث مهام، لا غنى عنها:

المهمة الأولى، السيطرة على الفائض الاقتصادي ومركزته، وذلك من خلال العمل على ترشيد الاستهلاك والاستيراد بغية رفع معدل الادخار المحلى رفعاً محسوساً، والسعي إلى تحويل أكبر قدر من الفائض الاقتصادي المحتمل إلى فائض اقتصادي فعلي.

المهمة الثانية، الاشتراك المباشر للدولة في مجال الإنتاج والاستثمار الإنتاجي، حيث تقصر السوق والرأسماليات المحلية والاستثمار الأجنبي عن تنفيذ برنامج متكامل للتصنيع والتنمية الشاملة. واتصالاً بهذه المهمة، فإن التصدّي لمشكلات القطاع العام لا يكون بالخصخصة في حدّ ذاتها، وإنما بتوفير سبل العلاج الفني والإداري والمالي والتسويقي لهذا القطاع، وبمحاربة الفساد فيه، وفي المجتمع ككل.

المهمة الثالثة، النهوض بالقدرات العلمية والتكنولوجية الوطنية، وتأمين تكامل النشاطات العلمية والتكنولوجية الوطنية مع متطلبات البرنامج المتكامل للتصنيع والتنمية الشاملة.

وإن أداء هذه المهام لا يستقيم ما لم تحتوِها وتنسّق بينها خطة للتنمية الشاملة. والقول بذلك لا يعني استبعاد آليات السوق كلياً، وإنما يعني أن يُنظر إلى التخطيط كأداة أساسية ورئيسية لتوجيه حركة الاقتصاد والمجتمع، وأن يُنظر إلى السوق كأداة مساعدة تعمل في الحدود التي ترسمها الخطة الشاملة.

وكما يُعهد إلى التخطيط بمهمة التوجيه الاقتصادي، دونما استبعاد لقوى السوق، تفترض التنمية المستقلة أن تتولى الدولة – من خلال قطاع عام كفء – عجلة القيادة الاقتصادية الحقيقية، وذلك مع إتاحة المجال لنشاط للقطاع الخاص الوطني المنتج، الذي تتكامل نشاطاته مع الخطة، لا مع توجّهات الشركات الدولية.

 

الركيزة الرابعة: عدالة توزيع الدخل والثروة

من المتفق عليه، أنه كلما ازداد تمركز توزيع الدخل والثروة في أيدي أقلية مترفة في قمة التوزيع، ساعد ذلك على إضعاف تماسك النسيج الاجتماعي، إذ إن غياب العدالة في توزيع الدخل والثروة على مدار الزمن يوسّع الهوّة بين نخبة اقتصادية واجتماعية متنفذّة من ناحية، وأغلبية من السكان من الفئات الوسطى ومحدودة الدخل والقدرة من ناحية أخرى. ولذا، فإن التنمية المستقلة تستوجب التوزيع العادل للدخل ولثمار النمو، وذلك على النحو المبيّن في الفصل الخاص بالعدالة الاجتماعية من هذه الوثيقة.

إن التوزيع العادل للدخل والثروة يشكل قوة مقاومة للأمة في مواجهة المحن والأزمات، وذلك بفضل ما يتولّد عنه من شعور بالتماسك والتضامن والتكافل. وعلى العكس من ذلك، فإن التفاوتات الواسعة في توزيع الدخل والثروة تضعف الانتماء إلى الأمة، وتنشر الإحباط، وتزيد من نزيف العقول والمهارات إلى الخارج.

وفضلاً على ما تقدم، فإن لعدالة توزيع الدخل والثروة دوراً إيجابياً مهماً في النمو الاقتصادي، وذلك بفعل ما ينتج منها من تحسين في القدرات البشرية والإمكانيات الإنتاجية وإشباع الاحتياجات الاستهلاكية للعاملين في المجتمع.

وثمة أهمية قصوى أيضاً لتضييق الفوارق الاجتماعية من حيث الدخل والثروة، من منظور تشييد ركيزة أخرى من ركائز التنمية المستقلة، وهي الديمقراطية التشاركية أو ديمقراطية المشاركة، التي نتناولها في البند التالي.

 

الركيزة الخامسة: “الديمقراطية التشاركية”، ومكافحة الفساد

ترتبط التنمية المستقلة بمسألة التحوّل الديمقراطي في البلدان العربية، بما له من دلالات إزاء توجّهات السلطة العامة. ونشير هنا، بصفة خاصة، إلى ضرورة تحرير القرار القطري والقومي من السيطرة الأجنبية، ممّا يستوجب وجود سلطة سياسية ونخب قيادية في المجتمع ترتبط عضوياً بمصالح شعوبها وتطلّعاتها.

والمشاركة السياسية للمواطن العربي حق من الحقوق الأساسية للإنسان، التي تحتل مكانة مرموقة في نهج التنمية المستقلة. كما إن المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات ومتابعة تنفيذها هي المدخل الصحيح إلى توليد الطاقة المعنوية والروحية التي لا تتحقق التنمية في غيابها. والحق أن المشاركة الفعّالة يجب أن تتجاوز “الديمقراطية التمثيلية” التي تقوم على علاقة غير مباشرة بين المواطنين والدولة من خلال المجالس المنتخبة، إلى “الديمقراطية التشاركية” التي تضيف إلى التمثيل النيابي، روابط أكثر مباشرة بين المواطنين والدولة؛ مثلاً من خلال إتاحة فرص مشاركة المواطنين في مجالس إدارة المرافق العامة ووحدات الإنتاج.

إن الديمقراطية التشاركية هي صمّام الأمان ضد الفساد، وهي الوسيلة الناجعة لمكافحته.  ولعله من المستقر الآن أن استشراء الفساد وتغلغله في دوائر الحكم والأعمال في الوطن العربي، يضعف من فرص استقلالية القرار على المستويين القطري والقومي. كما إنه يؤدي إلى ضعف المناعة المجتمعية وتآكلها. ولذا، فلا بد من تقوية آليات المكاشفة والرقابة والمساءلة، حتى يمكن كشف الفساد وتصفية جيوبه قبل أن يستفحل، حمايةً لمسيرة التنمية المستقلة.

 

الركيزة السادسة: الانفتاح الإيجابي وضبط العلاقات الاقتصادية مع الخارج

على خلاف ما يذهب إليه أنصار العولمة الرأسمالية والليبرالية الاقتصادية الجديدة من أن مجرد تحرير التجارة وفتح الاقتصادات وتوجّهها نحو الخارج يحفز النمو الاقتصادي، يذهب أنصار التنمية المستقلة إلى أن النمو هو قاطرة التجارة، لا العكس، وأن ما يجذب الاستثمار الأجنبي هو توافر إمكانات حقيقية للنمو في الاقتصاد الوطني من خلال معدل مرتفع للادخار والاستثمار، وأن “تحرير” حركة الاقتصاد قبل إحراز تقدم ملموس في بناء الطاقات الإنتاجية للدولة، وتكوين مزايا تنافسية يعتدّ بها، يمكن أن يقوّض فرص التنمية .

وليس معنى هذا أن انفتاح الاقتصاد الوطني على الاقتصاد العالمي مرفوض من حيث المبدأ، وإنما المقصود هو أن يكون مثل هذا الانفتاح متدرّجاً وانتقائياً ومحسوباً في كل الأحوال، في ضوء الشوط الذي قطعته كل دولة على طريق التقدم؛ وهذا هو “الانفتاح الإيجابي”.

 

الركيزة السابعة: التكامل الاقتصادي العربي والتعاون مع دول الجنوب

تستوجب التحدّيات المشتركة التي تجبه الدول العربية وسائر دول الجنوب في سعيها إلى التنمية في الظروف العالمية الراهنة أن تتعاون هذه الدول فيما بينها إلى أقصى حدّ ممكن. فالقدرة على مواجهة هذه التحديات جماعياً ستكون أكبر، بلا شك، من قدرة كل دولة منفردة على مواجهتها.

وإذا كان التعاون فيما بين دول الجنوب واجباً، فإن التعاون فيما بين الدول العربية أوجب لأسباب كثيرة باتت في حكم البديهيات، من فرط تكرار الحديث عنها. وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى الأهمية التنموية للتعاون والتكامل العربيين. إن حجم الاقتصادات القطرية يشكّل قيداً مهماً يعوق إمكانات التنمية المستقلة. فكلما صغر حجم الاقتصاد القطري، ازدادت صعوبة تحقيق التنمية المستقلة زيادة قد تصل إلى حدّ الاستحالة، وذلك مهما حسنت أو صدقت النوايا. وهكذا، فإن هناك حجماً أدنى للفضاء الاقتصادي الذي يسمح بتحقيق “وفورات النطاق” اللازمة لتحقيق مستوى ملموساً من التنمية. ولذا، فإن خلق منطقة تكاملية اقتصادية عربية تعتبر ضرورة اليوم أكثر من أي وقت مضى. فمن خلال هذه المنطقة يمكن فتح الأسواق القطرية ودمجها، وإقامة صناعات حديثة وأنشطة خدمية وتكنولوجية متطورة، يكون لها مردود اقتصادي وعائد إنمائي وتكاملي ملموس. كما إن إنشاء مثل هذه المنطقة يساعد في تطوير إطار عربي للتفاوض مع الشركات الدولية النشاط والمؤسسات المالية الدولية، من أجل تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر للاقتصاد العربي.

وأخيراً، إن تحقيق شروط الحدّ الأدنى للحجم يساعد على تشكيل الكتلة الحرجة الضرورية لتحقيق حدّ أدنى من مقوّمات التنمية المستقلة على الصعيد العربي، الأمر الذي يشكّل أساساً موضوعياً لاكتمال عناصر القوة الاقتصادية للأمة العربية.

 

 الفصل السادس

 

العدالة الاجتماعية

 

العدالة الاجتماعية من القيم الإنسانية الكبرى، وشدَّدَتْ عليها الثقافةُ العربية الإسلامية في العهد الوسيط. وهي أيضاً من أهداف النهضة ومن مقوِّماتها. فليس لمجتمعٍ أن ينهض من دون أن تكون العدالةُ الاجتماعية أساساً للنظامُ الاجتماعيُّ فيه. وهي كنايةٌ عن تكافؤ الفرص في توزيع الدَّخْل والثروة، ومقاومةِ كافة أشكال التفاوت الطبقيّ والاستغلال والفقر والتهميش، وتنميةِ علاقات التضامن والتكافل بين أبناء الوطن. وقد توارت العدالة الاجتماعية مؤخراً في ظل تطبيق النموذج الاقتصادي الليبرالي، وأصبحت مطروحة لمجرد تصحيح أخطائه فتصبح بذلك حامية لليبرالية ومسكناً للتمرد عليها، ولذلك فمن الأهمية بمكان أن نتعمق في خصائص النظم التي تفضي إلى تراجع “العدالة الاجتماعية” والممارسات المجتمعية التي تعزز هذا التراجع كي لا تكون نظرتنا إلى مسألة العدالة الاجتماعية نظرة مثالية.

وفي النظر إلى العدالة الاجتماعية من منظورِ المشروع النهضوي لابد من بنية ملائمة لملكية وسائل الإنتاج، ومنظومة سياسات يتعين اتباعها، والتفكير في آليات تسهل تجسيد العدالة الاجتماعية في الواقع العربي وتعززه.

 

أولاً: ملكية وسائل الإنتاج في منظومة العدالة الاجتماعية

لا يمكن للعدالة الاجتماعية، من منظورٍ نهضوي، أن تتحقَّق إلاّ إذا أعيد للدولة اعتبارُها في الميدان الاقتصادي والاجتماعي، وتدخُّلها الحاسم في وضع سقُوف لملكية وسائل وأدوات الإنتاج لاتصالِ ذلك بالعدالة في تلبية الحقوق الاجتماعية. وفي هذا الصدد أكد “ميثاق العمل الوطني” في مصر (1961):

“إن سيطرة الشعب على كلّ أدوات الإنتاج لا تستلزم تأميم كلّ وسائل الإنتاج، ولا تلغي الملكية الخاصة، ولا تمس حق الإرث الشرعي المترتب عليها”، ويمكن الوصول إلى ذلك بطريقتيْن:

أولاهما: خلق قطاع عام قوي وقادر يقود التقدم والتحديث في جميع المجالات، ويتحمل المسؤولية الرئيسية في خطة التنمية.

 

وثانيتهما: وجود قطاع خاص وطني يشارك في عملية التنمية في إطار الخطة الشاملة للدولة دون استغلال للعاملين والمستهلكين.

كذلك يجب أن تكون المرافق الرئيسية المساندة لعملية الإنتاج، كالسكك الحديدية والطرق والموانئ والمطارات وطاقات القوى المحركة والسدود، وغيرها من المرافق العامة، في نطاق الملكية العامة للشعب” (أي القطاع العام).

ولذا ينبغي أن توضَع سقوفٌ للملكيات الزراعية والعقارية، وحدٌ أقصى لتمركز رؤوس الأموال الصناعية والتجارية والخدمية الخاصة، وذلك منعاً لِتكوُّن مراكز احتكارية في الاقتصاد العربي. على أن يُطَبَّق هذا المبدأ بقدر عالٍ من المرونة، ووفق نوعية النشاط الاقتصادي وطبيعته، دون المساس بالملكية الخاصة للمشروعات الصّغيرة ومتوسطة الحجم. كما ينبغي تحريك تلك السقوف مع مرور الزمن، وكلما دعت الحاجة والتطورات الاقتصادية إلى ذلك.

وقد أدى النكوص عن هذه الرؤية في ظل سياسات “التكيّف الهيكلي” التي طبقت في معظم الأقطار العربية منذ بداية التسعينات إلى سلب الشعب حقوقه التي رعتها الملكية العامة، وتقليص الموارد المخصصة لأغراض الإنفاق على الخدمات الأساسية الذي تستلزمه العدالة الاجتماعية. كما أفضى اللهث وراء الاستثمار الأجنبي المباشر إلى تصاعد نسبة الملكية الأجنبية على النحو الذي أضاف لقضية العدالة الاجتماعية بعداً وطنياً وقومياً.

 

ثانياً: منظومة سياسات العدالة الاجتماعية

إذا كان وجود بنية معينة لملكية وسائل الإنتاج على النحو السابق بيانه يعد متطلباً أساسياً للعدالة الاجتماعية فإن تجسيدها على أرض الواقع غير ممكن بدون منظومة سياسات يأتي على رأسها ما يلي:

1- سياسات الإنتاج السلعي الرأسمالي والاستهلاكي بما فيه المنتجات الثقافية وتسعيرها، وتشمل تحديد دائرة السلع العامة المطلوبة، وذلك بهدف إمداد الجمهور بالسلع والخدمات الأساس، وعلى وجه التحديد: الاحتياجات الغذائية الأساس والخدمات التعليمية، والخدمات الصحية، والإسكان اللائق، والمواصلات العامة، والثقافة والترفيه.

2- سياسات الأجور والأسعار وتقوم أساساً على تأمين حق العيش الكريم على مقتضى مبدأ “الخبز مع الكرامة” ومنه الحق في الحصول على عمل منتج، والحق في أجر عادل لقوة العمل بما يمنع استغلالها، ويضمن حداً أدنى للأجور يدفع عنها على الأقل غائلة التضخم. وبالمقابل لابد من سياسات للأسعار في مجال الاستهلاك الضروري تحقق التناسب في منظومة الأجور والأسعار، وبصفة خاصة لدى ذوي الدخل المحدود، وتضمن منع استغلال المستهلكين، وتضع حداً لممارسات التسعير الاحتكاري في فروع النشاط الاقتصادي كافة. ولابد في هذا السياق من تقوية المالية العامة للدولة بحيث تصبح قادرة على توفير جانب كبير من السلع الأساسية للطبقات الوسطى ومحدودة الدخل بأسعار تتناسب وقدرتها الشرائية.

3- إعادة توزيع الدخول في المجتمع العربي من خلال السياسات المالية والاجتماعية المناسبة بما يحد من الاستقطاب الطبقي فيه. والواقع أن الفجوة في الدخول في الأقطار العربية قد تفاقمت إلى حدٍ بات يهدد الاستقرار الاجتماعي ومن ثم السياسي، وذلك نتيجة الولوج غير الرشيد في نهج ما يسمى بسياسات التحرير الاقتصادي والخصخصة، واستباحة المال العام في غياب الرقابة الديمقراطية وشيوع الفساد.

 

ويتطلب العمل على إعادة توزيع الدخل عدداً من الإجراءات من أهمها:

(أ) إعادة هيكلة النفقات العامة، حيث تقوم هذه بدورٍ هام في إعادة توزيع الدخل، ولا سيما النفقات التحويلية التي تستمد أهميتها من تأثيرها في إعادة توزيع الدخل القومي. ويقع في قلب النفقات العامة المطلوبة دعم الدولة للسلع والخدمات، وخاصة تلك التي يستهلكها السواد الأعظم من المواطنين.

 

(ب) التدخل لتنظيم العلاقات الإيجارية بين المُلاَّك والمستأجرين في الريف والمدينة بما يضمن تأمين حق السكن في إطار من العدالة والأمان للمستأجرين.

 

(ج) توفير الحقوق التأمينية ضد البطالة، وحوادث العمل، والعجز الكلي أو الجزئي بحسبانها من حقوق الإنسان الأساس. وتقوم صناديق التأمين والضمان الاجتماعي بدورٍ هام في تأمين الإنسان ضد مخاطر الحياة والخوف من المستقبل. ولذا، فإن شمول التغطية التأمينية لكافة المخاطر المرتبطة بمجريات الحياة اليومية من ناحية، ومخاطر المستقبل من ناحية أخرى، يعتبر من أهم عناصر منظومة العدالة الاجتماعية، التي تشكل الأساس المادي والمعنوي لمفهوم الأمان الاجتماعي والإنساني.

 

(د) إعادة تكييف السياسات الضريبية بحيث تتجه إلى تقليص الفوارق بين الدخول والثروات في المجتمع العربي، وإلى الحد من الفوارق الطبقية.

 

(هـ) إحياء دور الحركة التعاونية التي لعبت بشقَّيْها الإنتاجي والاستهلاكي دوراً كبيراً في الماضي خاصة في بداية القرن العشرين.

 

(و) التشديد على ضرورة التزام السياسات التعليمية بضمان عدالة الفرص أمام المواطنين في مجال التعليم والتوظيف على اختلاف أوضاعهم الاجتماعية ومواقعهم الطبقية، باعتبار ذلك الالتزام ضرورة لا غنى عنها لضمان الحراك الاجتماعي على أساس عادل.

 

(ز) امتداد مفهوم العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة على أساس “النوع”، وذلك بوضع استراتيجية قومية للنهوض بالمرأة العربية في جميع المجالات، والعمل على تطوير قانون عربي للأسرة يضمن الحقوق الكاملة لكل مكوّناتها. وكذلك امتداد مفهوم العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة بين أقاليم الدولة، قطرية كانت أم قومية، بما في ذلك “التجمعات الإقليمية” على النحو الذي يوفر قاعدة للتماسك الاجتماعي والعدالة الإقليمية.

 

ثالثاً: بعض آليات لتعزيز العدالة الاجتماعية

لا شك أن البنية المؤاتية لملكية وسائل الإنتاج ومنظومة السياسات المتكاملة التي أشير إليها سلفاً سوف تضمن توفير المقومات الأساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية على النحو الذي نبتغيه في المشروع النهضوي العربي، وثمة آليات تعزيزية يمكن اللجوء إليها في هذا الصدد منها:

1- إحداث صناديق لمكافحة الفقر على الصعيديْن الوطني والقومي، وذلك لمنع إعادة إنتاج الفقر بين الفئات والطبقات والمناطق الفقيرة.

 

2- تفعيل دور “صناديق الزكاة” و”مؤسسة الوقف في إطار المجتمع الأهلي، في ضوء ما أكدته الخبرة العربية الإسلامية بما يحقق درجة أكبر من الرعاية والتكافل بين المواطنين، ويعزّز دورهما في مواجهة غائلة الحاجة.

*   *   *

 

الفصل السابع

 

الاستقلال الوطني والقومي

 

يُعَدُّ الوطن العربي أكثر مناطق العالم احتكاكاً بالعالم الخارجي، وتأثُّراً بالعوامل الخارجية، لعدة أسباب، منها موقعه الجغرافي الذي يتوسط العالم، ويتحكم في أهم خطوط مواصلاته، ومكانتُه الثقافية والحضارية باعتباره مهداً للديانات السماوية الثلاث، ولعدد من أهم الحضارات القديمة، كما لأهميته الاستراتيجية والاقتصادية كمستودع لأكبر مخزون لاحتياطيات النفط المؤكدة في العالم. ولقد كانت هذه العوامل والمعطيات تضيف إلى الوطن العربي، في مراحل صعوده، وتدعم مكانته على المسرح الدولي. لكنها كانت تشكّل أيضاً عبئاً ثقيلاً عليه في مراحل التراجع والانكسار، بمقدار ما تغري القوى الخارجية بالتدخل فيه أو بسط السيطرة عليه وإفقاده استقلاله.

لقد كان الاستقلال الوطني والقومي – وما زال – شرطاً بديهياً من شروط النهضة، وركيزةً أساساً من ركائزها، إذ لا يمكن لأي شعب أن ينهض ويتقدم إذا كان فاقداً لإرادته، أو كانت إرادتُه مقيَّدة، كما لا يمكنه أن يحمي استقلالية إرادته وقراره إن لم ينجح في حماية أمنه الوطني أو القومي. ولأن أيَّ مشروعٍ للنهضة هو، في جوهره، مشروعٌ للاستقلال والأمن في آنٍ معاً، فمن الطبيعيّ أن يصبح الأمن أحد أهم أهداف المشروع النهضوي العربي.

وللوطن العربي اليوم خصوصية يتعذر في إطارها إحداث فصلٍ كامل بين البعد الوطني والبعد القومي لقضيتَي الاستقلال والأمن. ومع أن مفهوم الاستقلال الوطني يبدو أقرب إلى واقع الحالة العربية الراهنة من مفهوم الاستقلال القومي – لأن الموجود فعلاً دولٌ وطنية “مستقلة” أو معْتَرفٌ لها بالاستقلالية من منظور القانون الدولي وليس دولة عربية قومية جامعة ومستقلة – إلا أن الاستقلال الوطنيَّ نفسَه ما زال يعاني النقص والانتقاص الشديدَيْن. فإلى جانب أن مفهوم الاستقلال الوطني يشمل استقلالية القرار الوطني، ويفترض الأمنَ الاقتصاديَّ والغذائيَّ من مقوِّماته، وهذا مما ليس متحققاً، فإن قسماً غيرَ قليلٍ من البلدان العربية ما زالت أراضيه رازحة تحت الاحتلال: كلاًّ أو بعضاً، وما زالت سيادتُه متراوحةً بين الفقدان الكامل والفقدان الجزئي والاستباحة الدائمة! فإلى فلسطين المحتلة منذ عام 1948 من قبل الحركة الصهيونية، انضاف احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وحليفاتهما في2003؛ بينما ظل الجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية قيد الاحتلال الصهيوني، وظلت مدينتا سبتة ومليلية والجزر الجعفرية المغربية محتلة منذ مئات السنين من طرف إسبانيا، وجزر “طنب الكبرى” و”طنب الصغرى” و”أبو موسى” الإماراتية محتلة من قبل إيران منذ سبعينات القرن الماضي، وخضع جزء من أراضي الصومال لتدخل إثيوبي مسلح منذ2006. هذا فضلاً على أراضٍ عربية أخرى تمّ الاستيلاء عليها ولم تعد الدول العربية المعنية تطالب بها.

إن خطورة مسألة الاستقلال الوطني والقومي، والأمن الوطني والقومي استطراداً، تدفعها إلى موقع الأولوية من ضمن أولويات أخرى في المشروع النهضوي، وتفرض الحاجة إلى صوغ استراتيجية عمل شاملة لتناولها في وجهيْها المترابطين: الاستقلال والأمن، لاتصال ذلك بتأمين القاعدة الارتكازية لتحقيق سائر عناصر المشروع النهضوي العربي وأهدافه الأخرى. وتتزايد الحاجة إلى هذه الاستراتيجية في ضوء الخبرة التاريخية التي أثبتت أنه كلما أخفق الوطن العربي في صناعة أمنه القومي وحماية استقلال إرادته وقراره، أخفق في صون أمنه وحماية أراضيه وسيادته من الأطماع الأجنبية بل من جيوش الغزاة الزاحفين عليها. وكان فشلُهُ في تسوية نزاعاته الداخلية – ومنها النزاعات الحدودية بين دوله – مدخلاً إلى تمكين القوى الأجنبية المعادية من التدخل في شؤونه والنيل من سيادته، كذلك أصبح احتلال هذه القوى المعادية لأراضيه، وبصفة خاصة الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاحتلال الأمريكي للعراق، مدخلاً إلى إعادة تمزيق كياناته الوطنية من خلال دقّ الإسفين بين الجماعات المختلفة المكوّنة للجماعة الوطنية، وتوظيف تمايزاتُها الثقافية أو الإثنية في توليد انقسامات سياسية وإنتاج فتن طائفية وحروب أهلية ترهن الوطن برمته لسياسات الدول الاستعمارية وإدارتها.

 

أولاً: استراتيجية الاستقلال الوطني والقومي

يَقع ضمن هذه الاستراتيجية تحقيق أهداف خمسة: تحرير الأرض من الاحتلال، مواجهة المشروع الصهيوني، تصفية القواعد العسكرية الأجنبية، مقاومة الهيمنة الأجنبية، بناء القدرة الاستراتيجية الذاتية.

1- تحرير الأرض العربية

لا يستقيمُ استقلالٌ وطنيٌّ أو قوميٌّ ولا يكتمُل إلا ببسط السيادة على كامل الأرض العربية وتحريرها من أيِّ احتلالٍ أجنبي. ومن أجل هذا الهدف، يتعين استخدام كافة الوسائل المتاحة، وفي مقدمتها المقاومة بكل أشكالها ومستوياتها لاسيما العسكرية، الشعبية منها والنظامية حيث أمكن.

لقد أثبتت تجارب الأمة السابقة والمعاصرة سلامة خيار المقاومة لتحرير الأرض واستعادة الحقوق، وأكدت أن المقاومة معركة إثر معركة، ومرحلة بعد مرحلة، بدأت تتحول إلى عامل حاسم في صيانة الأمن القومي، وإلحاق الهزيمة بمشاريع أعداء الأمة، الأمر الذي يتطلب انكباباً عربياً شاملاً، شعبياً ورسمياً، على دعم المقاومة واحتضان فصائلها ومناضليها، وإبراز أبعادها الاستراتيجية والسياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والتربوية، والسعي إلى توحيد فصائلها على مستوى القطر، وعلى مستوى الأمة، من أجل تعزيز فعاليتها وتسريع إنجازاتها في تحرير الأرض وطرد المحتل.

إن تنامي الاعتماد على المقاومة، سلاحاً وخياراً، في مواجهة أعداء الأمة، يتطلب أيضاً من حركات المقاومة تطوير أدائها وخطابها، وتعميق علاقاتها الوطنية والقومية والدولية، بما يعزز الوحدة على مستوى الأقطار وعلى مستوى الأمة، ويحول دون استدراجها إلى حالات انقسامية أو ممارسات فئوية تبعدها عن هدفها الرئيسي.

 

2- تصفية القواعد العسكرية الأجنبية

إن وجود أية قاعدة عسكرية أجنبية على أية بقعةٍ من الأرض العربية مظهرٌ خطير من مظاهر فقدان الأمن والاستقلال والسيادة. وقد ناضلت الحركة القومية العربية، في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، من أجل تصفية القواعد الأجنبية وإلغاء التسهيلات العسكرية الممنوحة لقوىً أو لأحلافٍ خارجية. ولقد أتتْ هذه القواعد تُطِل برأسها من جديد على منطقتنا بعد التحولات التي طرأت في النظامين العالمي والإقليمي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي والحرب الأطلسية على العراق في مطالع التسعينيات من القرن الماضي. واليوم، تعُج أجزاءٌ كثيرة من الوطن العربي بقواعدَ وتسهيلات عسكرية أصبحت تتجاوز مجرَّد فرض القيد على القرار والإرادة والاستقلال إلى تهديد أمن الوطن العربي وسلامته.

إن تصفية هذه القواعد، وإلغاء هذه الامتيازات والتسهيلات العسكرية الممنوحة للقوات الأجنبية، تقع في مقدمة الأهداف التي على حركة النضال العربي، المسترشدة بالرؤية النهضوية الشاملة، العمل من أجل تحقيقها صوناً لأمن الوطن وسلامة أبنائه، وحمايةً لإرادته واستقلالية قراره. وإن نجاح قوى المشروع النهضوي العربي في تصفية هذه القواعد سيرتبط – من ضمن ما سيرتبط به – بمدى نجاحها في استيلاد آليات فعّالة لتسوية المنازعات العربية – العربية بالوسائل السلمية من جهة، وإيجاد نظامٍ فعّال للأمنِ الجماعيِّ القوميّ يَدْرَأُ التهديدات الخارجية، ويدفع الأخطار المحدقة بالوطن العربي.

 

3- مواجهة المشروع الصهيوني

بات يَتَعَيَّن على الأمة العربية ونخبها وقواها الحية أن تستعيد إدراكَها لخطورة المشروع الصهيوني على مستقبل الوطن العربي ومصيره – وضمنه مستقبل فلسطين ومصيرها – وأن تُطْلِقَ برنامجاً قومياً للمواجهة طويلة الأمد مرتكزاً إلى العناصر والأسس التالية:

(أ) تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه وحقوقه كاملة، وتقديم الدعم الماديّ والسياسيّ له عبر إحداث صندوق خاص لهذا الغرض يَفِي بسائر احتياجاته الحياتية والمدنية، ويرفع عنه ضائقة الحاجة والفقر والتهميش، ويضمن للاجئين من أبنائه في البلدان العربية حقوقهم المدنية والسياسية كافة، مع التمسك برفض مبدأ التوطين باعتباره آلية لتصفية حق العودة.

 

(ب) التشديد على إفلاس نهج التسوية مع إسرائيل، وتقديم الدعم والإسناد للمقاومة وللمؤسسات الوطنية في فلسطين، ورعاية حوار دائم بينها من أجل تعزيز الوحدة الوطنية ووحدة قوى المقاومة، وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، بما يواكب التغير في الخريطة السياسية الفلسطينية.

 

(ج) التمسك العربي بالثوابت القومية المتمثلة في عدم التفريط بأي حق من حقوق الأمة العربية في فلسطين، وفي عدم الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، أو التنازل له، أو عقد اتفاقات معه؛ والتمسك بمبدأ مقاطعته اقتصادياً ومقاطعة المؤسسات المتعاملة معه.

 

(د) الضغط من أجل تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، وتبنِّي استراتيجية دفاعية لمواجهة خطر المشروع الصهيوني تُسَخَّر لها – وفيها – كافة الموارد العسكرية والمالية والسياسية المطلوبة والمناسبة.

 

(هـ) أن يؤخذ بعين الاعتبار في رسم السياسات الخارجية العربية تجاه القوى الدولية والإقليمية موقفها من الصراع العربي–الصهيوني ومن الحقوق الوطنية الفلسطينية والحقوق القومية العربية، واستعمال العرب أوراق الضغط التي في حوزتهم، وبصفة خاصة النفط، والأرصدة المالية لدفع القوى الحليفة للكيان الصهيوني إلى مراجعة مواقف الانحياز لديها.

 

4- مقاومة الهيمنة الأجنبية بأشكالها كافة

ولقد زادت وطأة هذه الهيمنة بعد زوال الحرب الباردة وانهيار التوازن الدولي وانفراد القطب الواحد الأمريكي بإدارة شؤون العالم، ثم بانهمار وقائع العولمة وما في جوفها من تحوّلات باعدتِ الفجوة بين الأقوياء والمستضعفين في العالم. وإذا كان دفْع تحديات الهيمنة والعولمة يحتاج إلى ترتيب الداخل العربي من خلال إجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطلوبة، قصد التكيف مع عالمٍ أصبح ينهض فيه العلم والتقانة والمعلومات بدورٍ حاسم في تشكيل معايير القوة ومحدّداتها ومؤشراتها، وقصد كفِّ الأشكال المختلفة من الاستباحة التي يتعرض لها الوطن العربي للاستيلاء على موارده وثرواته أو لمصادرة حرية قراره وفرض شروطٍ أو صفقات غير متكافئة عليه…، فإن نهوضه بأمر مواجهة تلك التحديات قد يتجاوز قدرته وإمكانياته الذاتية وحده إن لم ينخرط في علاقاتٍ من التعاون والتنسيق مع كافة الأمم والدول والقوى المتضررة من فعل قوى الهيمنة العالمية، والمُنَاهِضَة للعولمة المُجْحفة أو المطالِبة بعولمةٍ أكثر إنسانية، والداعية إلى قيام نظامٍ عالمي متعدد ومتوازن القوى والمصالح.

 

5- بناء القدرة الاستراتيجية الذاتية

إن الوطن العربي لا يملك حماية استقلاله وأمنه ومكتسباته دون حيازة قدرة استراتيجية ذاتية: دفاعية وتنموية وعلمية وتقانية، يتحصن بها الاستقلال والأمن. إنه في حاجة إلى انتهاج استراتيجية تستهدف الاستخدام الأمثل للموارد والقدرات المتاحة بشكل منهجي ومدروس وتجنيدها في سياسات تنموية قادرة على توفير أجوبة للحاجات الاقتصادية والاجتماعية للوطن والمواطنين. وهو في حاجة إلى تنميةٍ علمية يتغذى منها المجال المعرفي وتتغذى منها التنمية الاقتصادية. وهو في حاجة إلى إعادة توطين التقانة وصولاً إلى إنتاجها. ثم إنه في حاجة إلى تطوير منظومته الدفاعية بتطوير البحث العلمي في المجال الدفاعي وبناء صناعة عسكرية عربية مشتركة متقدمة وعصرية لتحرير القرار الدفاعي العربي من شروط وإملاءات القوى المتحكمة في سوق السلاح. وليس في وسع أية دولةٍ عربية بمفردها أن تنهض بذلك لأن مواردها المحدودة لا تسمح به. وعليه، لا مناص من إطلاق استراتيجية قومية عربية للتنمية تعتمد التكامل والاندماج من أجل تعظيم القوة وبلوغ هدف حيازة القدرة الاستراتيجية الذاتية.

ولكي تضمن استراتيجية حماية الاستقلال الوطني والأمن القومي العربي النجاح في مواجهة التحديات والضغوط الخارجية، وبصفة خاصة الصهيونية والأمريكية، لا مَحيدَ لها عن أن تكون جزءاً من استراتيجية ممانَعَةٍ كونية بين القوى المتضررة من الهيمنة الأمريكية على مصير العالم، والرافضة لتلك الهيمنة، في أفق تصحيح حال الخلل القائمة في التوازن الدولي، وإصلاح مؤسسات الأمم المتحدة على مقتضى العدالة والديمقراطية والمشاركة المتوازنة في صناعة القرار، وبما يضمن مصالح الإنسانية جمعاء، وخاصة شعوب “العالم الثالث”، من أجل بناء نظام عالمي جديدٍ حقّاً للأمن والسِّلم والتعاون والفرص المتكافئة. ولا شك أن القوى التي تجمعنا بها قواسم حضارية مشتركة تأتي في مقدمة القوى المؤهلة لأن تكون حليفة للعرب في مسعاهم من أجل بناء هذه الاستراتيجية.

 

ثانياً: استراتيجية الأمن الوطني والقومي

إن نقطة الانطلاق في تصحيح وضعية الاستباحة للأمن العربي بشقيه الوطني والقومي تكمن في صياغة مفهوم عربي مشترك يستند إلى المصلحة القومية، ويضع المصالح القطرية في اعتباره، مع التشديد على أن هذه المصالح لا يجب أن تشكل أدنى تهديد للأمن العربي ككل.

1- استراتيجية الرّدع

وتقوم على مبدإ تنمية المقومات والعناصر اللازمة لردع العدو عن القيام بأي عمل عسكري ضدّ أية بقعة من بقاع الوطن العربي. وهذا يتطلب بناء منظومة دفاعية من قوات بحرية وجوية وبرية عصرية مجهزة بأحدث المعدات ومدرَّبة على أحدث فنون القتال وبأعداد كبيرة، ومن نظام معلومات ورصد واستخبار عسكريّ متطور. ومن دون قيام صناعة عسكرية عربية متقدمة تلبي احتياجات الجيوش، سيظل استيراد السلاح قيداً على استراتيجية الردع، كما إنه من دون حيازة قوة ردع استراتيجية مثل السلاح النووي -إذا ما تعذر إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية – لن يكون في وسع الوطن العربي ردّ الأخطار التي تُحدق بأمنه واستقلاله. وهذا ما أدركتْه، في السابق، دول مثل الصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية، فكان حافزاً لها على الانصراف إلى إقامة صناعة عسكرية تلبي احتياجاتها، وإلى بناء منظومة ردع نووي تقيها الأخطار الخارجية.

 

2- مواجهة التهديدات غير العسكرية

وفي مقدمتها الأطماع الغربية التي لم تتوقف منذ اتفاقية سايكس بيكو، تلك التي قسمت الوطن العربي إلى مناطق نفوذ. فقد ظلت الدول الغربية حتى في مرحلة ما بعد الاستقلال حريصة على ربط الوطن العربي من خلال سلسلة من المشروعات استهدفت تكريس تجزئته، وضمان استمرار تبعيته. كان آخرها مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الموسع، وغيرها من المشروعات المماثلة، التي تعاقبت موجاتها خلال الحقب المختلفة. ولن يستطيع الوطن العربي الفكاك من إسار التبعية ومواجهة محاولات اختراقه من الخارج إلا إذا تصدى بنجاح لهذه المشروعات، واتخذ منها موقفاً موحداً، وتبنى منهجاً جماعياً في التعامل معها.

ولأن مصادر تهديد الأمن القومي العربي لا تقتصر على الأطماع الخارجية واحتمالات غزوه واحتلاله عسكرياً، وإنما تتسع لتشمل مصادر أخرى غير عسكرية تتعدد أوجهها وأبعادها، فمن الأهمية بمكان أن يتبنى النظام العربي مفهوماً شاملاً للأمن يتضمن بالإضافة إلى البعد العسكري والسياسي-الاستراتيجي، أبعاداً أخرى تشمل:

 

أ- الأمن الغذائي

حيث يواجه الوطن العربي انكشافاً غذائياً خطيراً بسبب عدم قدرته على تحقيق الاكتفاء الغذائي في السلع الأساسية، إذ إنه يعاني عجزاً غذائياً أخذ يتزايد في السنوات الأخيرة على نحو خطير بسبب الزيادة السكانية وعوامل التصحر وشحّ المياه وتدهور الإنتاجية الزراعية في عدد من البلدان العربية، ممّا يعرّضه للرضوخ للضغوط الخارجية، ويهدد استقراره الاجتماعي. لذا يتعيّن على الوطن العربي أن يشرع فوراً في وضع المخططات اللازمة لسد الفجوة الغذائية من خلال زيادة الاستثمارات وتحقيق التكامل في السياسات الزراعية.

 

ب- الأمن المائي

يواجه العالم وضعاً حرجاً بسبب تناقص الموارد المائية المتاحة واللازمة لسد احتياجاته المتزايدة، خاصة في مجالات النشاط الإنتاجي كالزراعة والصناعة وغيرها. ونظراً إلى الخلل الشديد في توزيع الموارد المائية المتاحة على صعيد الوطن العربي تبدو الحاجة ماسة إلى بلورة خطط لتنمية الموارد المائية وترشيد استهلاك المياه وتحقيق التكامل المائي على مستوى الوطن العربي ككل، وضمان حقوقه المائية التي يكفلها له القانون الدولي تجاه الدول المحيطة التي تأتي منها النسبة الأكبر من الموارد المائية السطحية العربية.

 

ج- الأمن البيئي

مع تزايد المخاطر البيئية التي يتعرض لها كوكب الأرض، خاصة بسبب التغيرات المناخية والارتفاع المستمر في درجة الحرارة وما سيصاحبهما من ظواهر عديدة، سوف تتعرض مناطق كثيرة داخل الوطن العربي للغرق أو التصحر أو الجفاف، مما يفرض عليه إنشاء معاهد رصد، وإجراء البحوث اللازمة لدراسة التأثيرات البيئية والتحسب للمخاطر الناجمة عنها، ووضع الخطط والبرامج الكفيلة بمواجهة هذه المخاطر وتداعياتها.

 

د- الأمن الاجتماعي

تواجه مناطق كثيرة في الوطن العربي، خاصة في الدول النفطية قليلة السكان، ظواهر اجتماعية خطيرة في مقدمتها ظاهرة العمالة الأجنبية الوافدة التي ازدادت بشكل لافت للنظر خلال السنوات الأخيرة إلى درجة أن نسبة عدد المواطنين إلى الأجانب أصبحت في بعض الأحيان أقل من 1 : 5، ولا يخفي ما لهذه الظاهرة من آثار سلبية في الهوية الوطنية والقومية، وفي الاستقرار السياسي والاجتماعي. ومع التشديد على ضرورة حصول العمالة الوافدة للدول العربية على حقوقها الاقتصادية والاجتماعية، فإنه يتعين في الوقت نفسه وضع استراتيجية قومية للعمالة والتوظيف تستهدف على المدى الطويل تصحيح الخلل القائم، والمحافظة على الهويات الوطنية والقومية لمختلف الأقطار العربية.

 

الفصل الثامن

 

آليات تحقيق المشروع

 

يحتاج كل مشروع إلى آلية عمل للتحقيق تتناسب مع قواهُ الاجتماعية وتَلْحَظُ مواطن القوة ومواردها في المجتمع، وهذا ما ينطبق على المشروع النهضوي العربي حيث آلية تحقيقه تفترض أخذ المعطيات التالية في الحسبان.

 

أولاً: القوى الاجتماعية والسياسية والوسائل النضالية

في أي تصوُّرٍ للقوى الاجتماعية والسياسية العربية التي قد تكون الحامل التاريخي للمشروع النهضوي؛ وفي أي تقديرٍ للوسائل النضالية المفترض أنها الأنسب للاستعمال من أجل تحقيق ذلك المشروع، لا بدّ من التشديد على الموضوعات النظرية والسياسية التالية:

1- إن أخطر ما قد يتعرض له المشروع النهضوي، عند  تصوُّره آليات تحقيقه، هو النظر إليه بما هو كُلٌّ لا ينتظر سوى التحقُّقَ دفعة واحدة، بدلاً من النظر إليه بما هو سلسلة من المسارات المختلفة والمتفاوتة، وسلسلة من التراكمات المحكومة بقانون التفاوت في التطور.

 

2- لا شك أن المشروع النهضوي العربي يستند إلى قاعدة عريضة من القوى صاحبة المصلحة فيه، ومع ذلك لابد من الانتباه إلى أن القوى الاجتماعية العربية في حالةِ حَرَاكٍ شديد وسيولةٍ في وقائع التحول. ولذلك، فإن كل تعيينٍ مبدئي لقوى افتراضية (قوى الشعب العاملة، الأمة، النخبة، الكتلة التاريخية… إلخ) قد يصطدم بوقائع اجتماعية معاكسة أو قد يُسْقط من الحسبان قوًى جديدة أو صاعدة ربّما يرشحها الواقع لأدوار كبيرة. ولذلك، فإن أهداف المشروع النهضوي وقضاياه ستظل تنتج قواها الاجتماعية التي تحملها حين تجد مصلحة فيها. ومن الضروري في هذا السياق ضمان مساندة الجماهير العربية للمشروع بحيث تحرص تلقائياً ودوماً على جوهره وتمنع أية قوى غير مؤمنة به أو ببعض جوانبه الأساسية من تعويق مسيرة النضال من أجل تجسيده وتوجيهها جهة أخرى. ويقتضي هذا أن تستمد من المقاصد النهائية للمشروع قائمة من المعايير والمؤشرات لتقييم عناصر القوة ومواطن الضعف، التي تنفذ منها التحديات، وتقدير القوى المضادة لمسيرته سواء في الداخل أو من الخارج والتحالفات بينها، وكيفية التعامل معها. وهنا يجب أن تحظى العوامل الآنية والمستقبلية وليس التاريخية بالاهتمام، مما يستدعي إيضاح التكاليف والمنافع لكل من شرائح المجتمع، في كل من الأجل القصير والطويل، والتنبيه إلى الآليات التي يمكن أن تلجأ إليها القوى المضادة، خاصة خلال المراحل الأولى التي يعظم حجم التغيير الذي يصيب الأوضاع القائمة للوطن العربي وشرائحه المختلفة.

وانطلاقاً من ذلك يتعيّن على منظري المشروع النهضوي أن يلحظوا مكانة كل فئات الشعب العربي وقواه، بما في ذلك تلك التي قد يضرّ المشروع بمصالحها في مراحله الأولى. فعلى الرغم من أن القوى السياسية الذاتية للمشروع هي القوى التي ترتضي العمل بمبادئه، ويفترض أن تكون الأكثرية، فمن المؤكد وقوف فئات أخرى في المجتمع ضده. فئات قد أدت بها الظروف المحلية والدولية، والأثرة السلبية، إلى ربط نفسها ارتباطاً نفعياً بالأجنبي، وخلق المتعاونين المحليين الذين ييسرون تنفيذ مآرب هذا الأجنبي ويجنون من ذلك المنافع ضد إرادة معظم فئات الأمة ومصالحها، ومع مضي مشروع الوحدة العربية قدماً في حيز التنفيذ وبروز محاسنه وجني ثماره يزداد المقتنعون بجدواه ويتحولون إلى منادين به ومنضوين تحت لواء تنفيذه. ويلقى السائرون في ركب الأجنبي مصير سابقيهم.

 

3- على الرغم من المسئولية التاريخية للفصائل القومية العربية تجاه المشروع النهضوي العربي الجديد، ومن ثم ضرورة خروجها من حالة التشرذم والانقسام التي تعانيها، فإن القوى السياسية للمشروع النهضوي ليست معطاة سلفاً، وإنما هي قوى قيد التكوين مع نموّ تناقضات الأنظمة الحاكمة، دون أن يعني ذلك تجاهل أدوار التيارات المتولدة عن الفترة السابقة: أي القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية. ويجب توقُّع أفقَيْن اثنيْن على الأقل: الأفق الأول هو توقُّع ما يمكن أن تولِّده التحوُّلات المعتملة الآن داخل التيارات الأربعة الرئيسَة المذكورة من تركيبات متجددة، بل متغيرة. أما الأفق الثاني، فهو توقُّع نشوء حركات جديدة، علماً بأن بعضها نشأ أصلاً، ومنه تلك الحركات المشمولة بتسمية الحركات الاجتماعية الجديدة أو حركات المجتمع المدني.

 

4- تحتاج فكرة الطليعة، بمعناها التقليدي الموروث، إلى تمحيصٍ نقديّ، لأنها بُنِيَت على فكرة الحزب العقائدي صاحب الرسالة التنويرية، أو على تنزُّل النخبة “الواعية” بمنزلة من ينوب عن الجمهور. إن أيَّ تصوُّرٍ للعمل الحزبي – بأفق نهضوي – ينبغي أن ينطلق من الحاجة إلى استبدال الأحزاب الشعبية (العقائدية النخبوية) بالأحزاب الطليعية، أي استيلاد الأحزاب – الوسائل بدلاً من الأحزاب التي هي أهدافٌ بذاتها، ولا بدّ من إعادة بناء الصلة بين الحزب والناس على نحوٍ تصبح فيه المرجعية في العمل الحزبي للناس، لا إلى النصّ (العقائدي – الإيديولوجي)، وعلى نحوٍ يصبح فيه مبدأ تمثيل الناس والاحتكام إلى الرأي العام – داخل الأحزاب وخارجها – مقياساً لصواب رؤاها وبرامجها والسياسات. نعم، للأحزاب دور تربويّ في المجتمع وفي أوساط جمهورها. لكنه لا ينبغي أن يكون تلقينياً، بل أن يكون قائماً على حوار. ولا ينبغي أن يتصور نفسه دورَ هدايةٍ للناس إلى الحقّ المطلق. وفي مطلق الأحوال، لا يمكن فرض التغيير على الناس فرضاً بدعوى وجود مصلحةٍ لهم فيه لا يَعُونَها. بل يجب أن يأتي ثمرة اختيارهم الحرّ واقتناعهم الواعي. والاحتكام إلى الرأي العام هو المقياس الأول والأخير في تغليب خيارٍ مجتمعيٍّ على آخر.

 

5- ينبغي عدم الخلط بين الدولة والسلطة حين الحديث عن المجتمع المدني وقوى التغيير الاجتماعية. إن الفكرة النيوليبرالية التي تضع المجتمع في وجه الدولة وتعتبر كل إضعاف للثانية قوةً للأولِ تُسهم في توسيع فضاءات التعدُّد والحرية، فكرةٌ خطيرة. إن الدولة – بما هي إطار السيادة على الأرض والناس والثروات ومنظومة التشريعات الشاملة للجميع وجملة المؤسسات التمثيلية والتنفيذية والقضائية – عنصرٌ أساسٌ، بل حاسمٌ، في البناء الوطني والقومي، وجهازٌ لا غنًى عنه في إدارة الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع. ومن النّفاق غيرِ المجدي الادّعاء بأن لا دور للدولة ممكناً في الاقتصاد والاجتماع الحديثين. ومن المنطقي أن يكون هذا الدور حيويّاً في بلادنا لحداثة تجربة الدولة فيها، وهشاشة وحداتها الداخلية، وضرورة بناء وحدتها القومية. إن التمييز القاطع بين إضعاف الدولة وبين التحرُّر من الأنظمة والمؤسسات السلطوية الاستبدادية ضروري هنا. ذلك أن إضعاف الدولة من كافة النواحي العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية قد يفضي إلى إضعاف الوحدة الوطنية، بل ربما أسهم أحياناً في تفجيرها. ناهيك بأن من المستحيل تصوُّرُ أي تقدّم نحو بناء الوحدة القومية دون الأخذ في الاعتبار الدور الحاسم الذي يمكن – ويجب – أن تنهض به الدولة في هذا المجال.

 

6- ينبغي، في مضمار الحديث عن موقع المنظمات غير الحكومية في المشروع النهضوي العربي ومساهمتها فيه، الاعتراف بأن قيامها آذَنَ بتَمَلْمُلٍ وتحرُّكٍ عميقيْن في المجتمعات العربية المعاصرة؛ وأن ممّا يُحْسَب لها في خانة الإيجابيات مساهمتها في تعريف قطاعات واسعة من المواطنين العرب بحقوقهم الأساسية، ونجاحها أحياناً في التخفيف من الآلام والحرمان لدى فئات من شعبنا، وفي فرض تشريعات أكثر احتراماً لحقوق الإنسان والبيئة والمرأة، ثم نجاحها في الزجّ بمئات الألوف من الشباب العربي في الشأن العام وإتاحة فرصة اتصال قطاعات منهم – من الطبقتين الوسطى والعليا – بأوساط شعبية لم تتح لهذه القطاعات من قبل فرصة الاتصال بها والتعرف على مشكلاتها. لكن تقدير ما يمكن أن تساهم به في المشروع النهضوي لا يكفي أن يستند إلى تلك الأدوار الإيجابية، بل ينبغي استكمال صورته باستحضار الأوجه السلبية في عملها وأبرزها:

أ- إن قسماً كبيراً من المنظمات غير الحكومية في الوطن العربي لا تنطبق عليه التسمية ذاتها. فبعضها أنشأتْه أطرافٌ في السلطة، أو لم يكن مستقلاً عن هذا الجناح أو ذاك من السلطة، وبعضها الآخر له انتماؤه الحزبي.

 

ب- إن قسماً كبيراً منها مرتهن لمصادر التمويل الخارجية وما تمليه من شروط وتوجهات وأولويات، غالباً ما تكون مشدودة إلى المركز الإمبراطوري الأمريكي والمنظمات الدولية التابعة له.

 

ج- نادراً ما شكلت المنظمات غير الحكومية مدارس ناجحة في الديمقراطية على الرغم من إعلاء معظمها الديمقراطية فوق سائر أهدافها.

 

د- جزأت المنظمات غير الحكومية المطالب الشعبية والمجتمعية إلى اختصاصات مختلفة (نساء، بيئة، حقوق إنسان، تنمية، تمويل… إلخ).

 

7- في العلاقة بين المنظمات غير الحكومية والأحزاب السياسية، تبدو الأولى وكأنها تنافس الثانية، معتمدة في تجنيدها الشباب على نفور هؤلاء من الأحزاب لأسباب شتى. لكن الذي ينبغي أن نَلْحَظَهُ هو أن المنظمات غير الحكومية تتجه حثيثاً إلى النشاطات القطاعية أو الموضعية، ولا تؤدي الأدوار المفتَرض بالأجهزة الحزبية تأديتها: في تكتيل المصالح والمطالب وفق رؤىً وبرامجَ مشتركة، وتأمين انتقال الحركة والنضالات الجماهيرية والاجتماعية من المستوى المناطقي أو القطاعي إلى المستوى الوطني، ومن المستوى المطلبي والنقابي إلى المستوى السياسي.

 

8- يستدعي تحقيق المشروع النهضوي عملاً سياسيّاً عربيّاً مشتركاً. وقد عرفت العقود المنصرمة تجارب عدة في بناء أحزاب عاملة على المستوى القومي. وسيكون من المفيد والضروري، عند أي تجربة مستقبلية من العمل السياسي العربي الموحّد، الاستفادة من الأخطاء التي انطوت عليها التجارب السابقة، وبالذات تلك التي سمحت بتسخير نضالات فروع الحزب في سائر الأقطار لخدمة نظامٍ بعينه تحت عنوان خدمة الحزب.

 

9- تكتسب أجهزة الإعلام، السّمعيّ – البصري خاصة، أهمية خطيرة في تكوين الرأي العام كما في التلاعب به أو تزييفه، ويتوقف نوع الأدوار التي تقوم بها على نوع الوظائف الاجتماعية التي تنهض بها ونوع المضامين التي تحملها، وعلى مصادر التمويل التي تتحكم في توجهاتها. ومع أن بعض الفضائيات العربية أتاح هوامش أمام تكوين رأي عام مشغول بقضايا المجتمع والوطن، وأفسح مساحاتٍ – ولو ضيقةً – أمام التعبير عن المواقف الملتزمة بالقضايا الوطنية والقومية والاجتماعية، التي غيّبتها فضائيات التجهيل والتمييع المملوكة لأصحاب رؤوس الأموال الرَّيعية، فإنه لا معنى للبحث في فاعلية الدعوة والدعاية للمشروع النهضوي العربي دون البحث في انتقالهما من الحيِّزيْن الشفويّ والكتابي إلى الحيّز الإعلامي: المرئي والمسموع. وسيظل مطروحاً على قوى المشروع النهضوي حيازة أداته الإعلامية الفضائية المستقلة.

 

10- ينبغي لقوى المشروع النهضوي العربي الاستفادة القصوى من الإمكانات المذهلة التي تُوَفِّرها وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة، لتنظيم الاتصال بين أطرافها، وتوصيل دعوتها إلى الرأي العام.

 

11- يجب النظر إلى آليات تحقيق المشروع النهضوي العربي بالدرجة الأولى من خلال المنظور الديمقراطي. ويشتمل هذا المنظور، ليس فقط، على منظومة آليات للتمثيل والسيادة الشعبيين، وإنما أيضاً على عدد من الوسائل الراقية تحقق التوسيع الدائم لآفاق الحرية، وتأمين التسويات السلمية للنزاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وسواها. وإن استلهام المنظور الديمقراطي يعني في المقام الأول السعي إلى التنافس على كسب الرأي العام بواسطة الانتخابات المحلية والوطنية واحترام جدل الأكثرية والأقلية والتداول السلمي للسلطة.

 

إن كل فكرة مهما تكن سامية ومهما يكن عمق اقتناع حامليها بأنها لمصلحة الشعب والأمة، لا يجوز فرضها بالقوة أو العنف. إن محل جدوى أي مشروع مجتمعي وفاعليته هو تبني الرأي العام له معبَّرا عنه بواسطة الاستفتاءات أو الانتخابات أو الوسائل الأخرى لرصد اتجاهات الرأي العام.

ولما كان تحقيق المشروع النهضوي يفترض تغييرات جذرية في المجتمع والسلطة والعلاقة بين الدول العربية ذاتها والأمة العربية والعالم، تتزايد أهمية إيلاء الأولوية في التغيير للتغيير الديمقراطي السلمي.

 

ثانياً: نحو تجسيد المشروع

يجمع بين المشروع النهضوي العربي اليوم والمشروع النهضوي الحديث الذي انطلق في القرن التاسع عشر، واستأنف نفسه في خمسينيات القرن العشرين الماضي، جامعٌ مشترك هو: إرادة النهضة. وغير خاف أن الإرادة النهضوية لدى الأمم – كما لدى النخب – عملية مركبة يتداخل فيها المخزون الروحي والحضاري، مع التراكم المعرفي والثقافي، مع الوعي العميق بمسار حركة التاريخ وقوانينها، مع الاستعداد للتقدم والرغبة فيه. وهي اليوم – جميعُها – متوفرة كإمكانية لدى قطاع حيّ كبير من الأمة العربية وتحتاج إلى استنهاض. وترتبط إرادة النهضة بتعميم ثقافة النهضة داخل الأمة لإخراج مشروع النهضة من رؤية فوقية نخبوية إلى ثقافة جماهيرية. وهي ثقافة ترسخ أكثر كلما تهيأت لها أسبابُها التحتية العميقة بالتربية: العائلية والمدرسية والجامعية والمؤسَّسيّة.

 

1- آليات النهضة ومؤسساتها

أ- إن المقاومة، من حيث هي تعبيرٌ ماديّ عن إرادة التحرُّر من الاحتلال، آليةٌ دافعة في عملية النهضة. وهي ليست ضرورة للمشروع النهضوي من زاوية الحاجة إلى التصدي للمطامع والمخططات الأجنبية فحسب، بل لأن مشروعاً نهضويّاً لا تكون المقاومةُ مضموناً له هو مشروعٌ هش وقابل للانكسار. وكلما كانت روح المقاومة متّقدة في الأمة، كانت إرادتها في النهضة عالية. وأخطر ما يمكن أن يدمّر إرادة النهضة إنما هي روح اليأس والإحباط والهزيمة النفسية.

 

ب- مهما كانت إرادة النهضة قوية، وثقافة النهضة متسعة، فإن نهوض الأمم لا يتحقق بمجرد الرغبة في تحقيقه، بل بواسطة عملٍ عقلانيٍّ دؤوب في إطار مؤسسات تحمل المشروع النهضوي وتجسّدُه.

 

ج- قد تكون المؤسسات السياسية، من أحزاب وجبهات وتجمعات، هي العمود الفقري لسائر المؤسسات الأخرى، لكن عملية النهضة أشمل من أن تنحصر في عمل سياسيّ مؤسَّسيّ، بل تحتاج إلى مؤسسات تغطي المجال الاجتماعيّ برمَّته.

 

د- إن المؤسَّسية ثقافة، في المقام الأول، وليست هيكلاً إدرايّاً فحسب، ولذلك فهي تفترض عقلاً مؤسَّسيّاً تتحرر به المؤسسات الأهلية العربية – المفتَرَض بأن تنهض بحمل المشروع النهضوي – من ظواهر الفردية واحتكار الرأي والقرار وانعدام تقاليد التداول على المسؤولية والسلطة ممّا تزخر به المؤسسات الرسمية العربية التي تفتقر إلى روح العمل الجماعي.

 

2- كيف نجسّد المشروع النهضوي

هذا المشروع هو الوعاء الاجتماعي الأكبر الذي يحتوي في داخله كل الأوعية الاجتماعية والسياسية في وطننا الكبير. فما من فرد أو مؤسسة اجتماعية، أو سياسية عربية، بما في ذلك الأحزاب، أكبر منه. فهمومه هي هموم الجميع. ولا يمكن أن يكون تجسيده عملية سرية أو حكرًا على فرد أو منظمة سياسية أو اجتماعية. ولابد من أن يضطلع أشخاص ذوو مكانة علمية ودينية واجتماعية واقتصادية راقية من شتى أقطار الوطن العربي بمسئولية قيادية في هذا الصدد، وهم يؤمنون بداهة إيماناً لا يتزعزع بالمشروع بحيث يشكلون هيئة حكماء الأمة المتسامين فوق الفئات والطبقات والمصالح الخاصة أو الفئوية الحزبية أو العرقية أو العقائدية.

 وتضع هذه الهيئة برنامج عمل يمكن متابعته وتقييمه بوسائل تقييم مقبولة، مستفيدة بهذا من مراكز الأبحاث العربية ذات التوجه القومي ومن أنصار المشروع في كل قطر عربي.

ومن المفروض أن يكون هذا المشروع القاسم المشترك بين الأحزاب القومية وكافة المؤسسات العروبية الثقافية والفكرية والاقتصادية، وأن تسعى إلى تحقيقه بتفانٍ عظيم، وأن تقيم أقوى العلاقات والتنسيق في ما بينها لتحقيق هذا المشروع.

ويقتضي وضع المشروع القومي الوحدوي موضع التنفيذ:

– وجود دعاةٍ مؤمنين به، يحملونه إلى الآفاق رؤيةً يَتَمَثَّلُهَا أوسع قطاعٍ من الرأي العام العربي. وينبغي أن يتحلّى هؤلاء بمؤهّلاتٍ فكرية، ومناقب عالية، وصدْقيَّة لدى الناس، وانصرافٍ كامل عن إغراءات السلطة وصراعاتها، ونَفَسٍ وحدويّ وحِوَاريٍّ للتواصل مع القوى والتيارات كافة.

 

– تنظيم حلقات حوار موسَّعة يشارك فيها المثقفون، وصانعو القرار، ومراكز الأبحاث والدراسات، والأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، حتى يتحوَّل إلى قضية عامة.

 

– تكريس فكرة النهضة كهاجس وجعلها موضوعاً للتفكير والدراسة في الجامعات وللتأليف والكتابة لدى المثقفين ليتَّسع نطاق رؤيته وتغذية تلك الرؤية بمعطيات فكرية جديدة.

 

– فتح المؤسسات الإعلامية لمنابرها أمام مناقشات موسَّعة للمشروع قصد إنضاج فكرته لدى الرأي العام.

 

– آليات خاصة لمتابعة التنفيذ كتشكيل “جماعات تفكير وتأمل” تتركز مهمتها في تنظيم لقاءات حوارية معمَّقة حول قضاياه التفصيلية، أو كإقامة “مرصد خاص” بهذا المشروع لمتابعة المجريات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية المتعلقة بالمشروع.

*   *   *

لم تَعُد الأمة العربية أمام ترف الاختيار بين ممكنات عديدة. إنها أمام أحد خياريْن لا ثالث لهما: إما أن تنهض وتتقدَّم وتنفض عنها حالة التأخر والتقهقر، وإما ستزيد عُرْوتُها تفكُّكاً ونسيجُها تمزُّقاً وفكرتُها العربية الجامعة اندثاراً. إن النهضة اليوم أكثر من خيار، هي فريضة وجودية دون القيام بها سقوطٌ وانحلال. وإذا كان للقوى الحيّة في الأمة ما تقدمه لمشروع النهضة من رأيٍ وتخطيط وتنظيمٍ وتوعيةٍ وتعبئةٍ، فإن قابلةَ النهضة التي ستقوم باستيلادها هي جماهير الأمة الواعية لمصلحتها، المدركة لما يُحدق بمصير الوطن والأمة من دون مستقبلٍ نهضوي.