إن ازدهار الاقتصاد مرهون بوجود دولة قوية تدعمه، والاقتصاد وسيلة من الوسائل الضرورية لتحقيق الغرض من وجود الدولة، لكنه ليس سببًا لوجودها، والدولة التي تجعله كذلك ليس لها ما لبقية الدول من مقومات البقاء. إن ازدهار الاقتصاد ينتج من ارتفاع النفوذ السياسي في المجال الدولي، وسأطرح بعض النقاط – وإن كان البعض يراها معقدة قليلا- إلا أنها واجبة الحدوث لتحقيق مفهوم الاستقلال في بلادنا العربية وهي:

– تحرير العملة الوطنية من الارتباط بالدولار، فهذه هي المصيدة التي تم الإيقاع بنا فيها عن طريق استبدال الاحتياطي الذهبي بآخر ورقي الأمر الذي أدى إلى الإغراق في الديون من خلال الاقتراض.

– تحجيم سياسة البنك المركزي ودوره في عملية إصدار العملة، وإسنادها إلى وزارة المالية.

– فيما يتعلق بمسألة التعامل بالجنيه المصري في مصادر الدخل الحيوية كقناة السويس، فهو شيء محوري جداً في سعر صرف العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، لكن يجب التأني في اتخاذ مثل هذه الخطوة إلى حين التحول من دولة مُستهلكة إلى دولة مُنتجة. إذ أننا ما دمنا مُستهلكين فسنكون بحاجة دائما إلى العملة الأجنبية للاستيراد، والبند العاشر من اتفاقية القسطنطينية  1888 الخاصة بحرية الملاحة في قناة السويس ينص على “أن أحكام المواد لا تتعارض مع التدابير التي قد تتخذها مصر للدفاع وصيانة الأمن العام”.

– هناك نقطة يجب التخلص من قيودها مهما كانت النتائج وهي “المعونة الأمريكية”. فعلى المستوى الاقتصادي تصُب شروط برنامج المعونة غالبًا في مصلحة دعم الاقتصاد الأمريكي، فيشترط برنامج الاستيراد السلعي مثلًا الحصول على السلع التي يمولها المشروع من الشركات الأمريكية. أضف إلى ذلك أن هذه السلع والخامات ربما يتم توريدها بسعر أعلى من السعر العالمي، ما يعني استرداد الشركات جزءًا كبيرًا من قيمة المعونة على هيئة أرباح إضافية غير الأرباح الأساسية التي يقدمها سعر السوق العالمي. ويأتي برنامج الحاصلات الزراعية مشابهًا، فهو يدعم كثيرًا الفلاح الأمريكي ويفتح له أسواقًا خارجية، إضافة إلى كون هذه السلع لا تمثل للولايات المتحدة أكثر من فائض سلعي ربما لا يحقق منفعة كبيرة، كما تشترط المعونة حصول الولايات المتحدة على حصة عادلة من أي زيادة في مشتريات التجارة الزراعية للدول التي تأخذ المعونة، ما يعني إهدارًا لحق الدول العربية في الاختيار بين البدائل المختلفة في السوق واضطرارها لشراء منتجات أمريكية أعلى سعرًا من نظيراتها. وللعلم فإن المعونة كلها لا تمثل أكثر من 2  بالمئة من الناتج القومي لمصر على سبيل المثال، لذا فإن التخلي عنها لن يكون له أثر ملحوظ على الوضع الاقتصادي الداخلي.

– التحرر من قيود المنظمات الدولية التي تخدم خططًا سياسية معينة، كالبنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية والسعي لإنشاء أو للانضمام إلى منظمات موازية. كما حدث في “مجموعة بريكس” حيث سعت دول روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا إلى تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية، وبالفعل بدأوا بوضع حجر الأساس عام 2008 وهم الآن على الطريق الصحيح، وقد شرعت بعض الدول بالانضمام إلى هذا النظام العالمي التحرري. أيضا كما حدث في “تحالف الميركوسور” وهو تكتل اقتصادي لبعض دول أمريكا اللاتينية كالبرازيل والأرجنتين والأوروغواي وباراغواي وغيرها من دول القارة، ويعد هذا التحالف ورقة الاقتصاد الرابحة في استقلال أمريكا اللاتينية السياسي. وكما حدث في رابطة دول جنوب شرق آسيا المُتعارف عليه بـ “تحالف آسيان” والذي يضم عشر دول كسنغافورة وماليزيا وتايلاند وغيرها من الدول الآسيوية وتعد الآن أعضاء هذه الرابطة قطبًا اقتصاديًا في تطور متصاعد. أيضا كالصين التي أنشأت عام 2014 “البنك الآسيوي للاستثمار” كبديل عن البنك الدولي، ومن الجيد أخذ العلم بأن من بين الدول المؤسسة لهذا البنك (مصر والسعودية والإمارات والأردن وتركيا وعُمان وباكستان وإيران).

وقد يقول البعض من خلال ما سبق ذكره أن هذا الكلام معناه الانقلاب على النظام الاقتصادي العالمي القائم حاليا ما قد يؤدي إلى مصادمات مع الدول أصحاب المصالح… نعم وهذا ما سيحدث بالفعل، لكني أعاود القول أن هذه الإجراءات واجبة الحدوث وعلى حكام الدول العربية ألا يستمعوا لأي آراء أخرى تدعو إلى الحيد من هذا الطريق، خصوصًا من عملية الغطاء الذهبي للعُملة وإسناد إصدارها إلى وزارة المالية والتحرر من ربطها بالدولار.

كي نوضح مدى أهمية هذه النقطة، لنرجع في التاريخ قليلا… تحديدًا إلى عام 1944 حين عُقد مؤتمر “بريتون وودز” تحت إشراف دول التحالف، ووُضع خلاله الإطار للنظام المالي العالمي، وفي مُحصلة المؤتمر أسفرت إتفاقية بريتون وودز عن تحول الدولار إلى وسيلة عالمية للمعاملات وتقرر أن تؤسس في أمريكا المكاتب الرئيسية للمؤسستين الجديدتين على الصعيد الدولي (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) اللتين أخذتا على عاتقهما دور الرقيب على أداء البنوك المركزية في الدول التي قبلت شروط اللعبة، ومع ارتباط العملات الوطنية بالدولار وتقدير العملات الوطنية نسبة إلى الدولار بحيث يجب أن تُغطى أي كمية من العملة المطبوعة لديها بما يعادلها بالدولار، تصبح بالنتيجة هذه الدول تابعة لأمريكا وأشبه بمستعمرات مالية، وهذا ما اتضح خلال أزمة العقارات في أمريكا إذ انعكست هذه الأزمة على الدول الأخرى المنخرطة في نظام بريتون وودز بقوة أكبر من أمريكا نفسها على الرغم من أن الأزمة كانت قد حدثت في أمريكا!

وهذا ما يفسر سبب رفض ستالين زعيم الإتحاد السوفيتي حينئذ التوقيع على هذه المعاهدة حتى لا تصبح بلاده مُستعمرة اقتصاديا من الولايات المتحدة، واستمر هذا حتى نهاية الحقبة السوفيتية. لكن باقي الدول خصوصا الأوروبية وافقت عليها لأنها كانت مُدمرة كليا ولم تكن تملك خيارا آخر، فأصبحت مدينة لأمريكا مقابل الإمدادات الضخمة التي حصلت عليها كقروض خلال الحرب. وفي مطلع التسعينيات وافقت روسيا الاتحادية على الانخراط في هذا النظام تحت اسم جديد “منظومة جاميكا المالية” وقُبلت رسميا في عضوية صندوق النقد الدولي، بعد الانضمام أصبحت مجرد مُستعمرة لتوريد الخامات وأخذت تفقد من سيادتها السياسية والمالية النقدية حتى بدأت تفيق مرة أخرى في الأعوام الفائتة وما زالت تحاول التحرر من شباك هذه المصيدة.

بعد فترة وجيزة من مؤتمر بريتون وودز راح الأمريكيون يطبعون الدولارات من دون مراعاة التغطية الذهبية، وتوقفوا عن مراعاة التناسب بين الدولار الورقي وما يعادله بالذهب، فكانت نسبة التغطية في البداية 40 بالمئة ثم انخفضت إلى 25 بالمئة، بعدها فُصل الارتباط نهائيا. وهكذا أخذت الطابعات الأمريكية تُغرق العالم تدريجيا بالأوراق الخضراء غير الحقيقية.

وهناك حوار شهير بين وزير المالية الفرنسي جوزيف كايو وشارل ديغول يعكس طبيعة ما حدث، حين شرح الوزير للجنرال طبيعة عمل نظام بريتون وودز بالشكل الآتي: لنفرض أنه طُرحت للبيع في المزاد العالمي لوحة من اللوحات، والزبون العربي عرض نفطا مقابل اللوحة، والروسي عرض ذهبا والأمريكي عرض رُزمة من الأوراق النقدية من فئة المئة دولار واشترى التحفة الفنية بعشرة آلاف، فسأل ديجول وماذا في الأمر؟ أجابه الوزير المسألة أن الأمريكي أشترى اللوحة بثلاثة دولارات فقط لأن طباعة الورقة النقدية من فئة المئة دولار تكلف ثلاثة سنتات فقط، أي أن كل ثروات العالم تُبادل بأوراق خضراء قيمتها الحقيقية تُعادل تكلفة طباعتها فقط أي ثمن الورق والحبر.

وقال الملياردير الشهير جورج سوروس إنه ليس عبثا أن تجد الفئة المالكة للمصارف هي نفسها المالكة لوسائل الإعلام، لأن الإيحاء بكيفية التصرف للشعوب من خلال الدعاية الإعلامية يجب أن يسير بالتوازي مع عمل المنظومة المصرفية العالمية، إذ لابد من إقناع الناس باستمرار بأن ذلك هو الطريق الصحيح الوحيد ولا يمكن العيش إلا بموجبه.

هناك كلمة للرئيس الأمريكي جيفرسون، يجب أن يضعها الحاكم نصب عينيه، بخصوص موضوع الاقتصاد الداخلي للدولة حينما حصلت محاولات إنشاء أول بنك مركزي في أمريكا (1801 – 1809) و كان رافضا لهذه الخطوة، قال “للحفاظ على استقلالنا علينا ألا نسمح لحُكامنا بتحميلنا أعباء الديون المستديمة، يجب أن نختار إما الاقتصاد والحرية وإما الوفرة والعبودية، أضع الاقتصاد ضمن أول الفضائل الجمهورية وأهمها والدين العام هو أكبر المخاطر التي علينا أن نخشاها، يتحتم على كل جيل أن يُسدد ديونه بنفسه و إن سمح الأمريكون للبنوك الخاصة بالتحكم بإصدار نقودهم أولا عبر التضخم المالي ثم بالانكماش المالي، فإن البنوك والشركات التي ستنمو وتلتف حولها ستحرم الناس من ممتلكاتهم حتى يستيقظ أطفالهم ويجدوا أنفسهم مُشردين في القارة التي استعمرها آباؤهم”.

لكن المصرفيين انتظروا الوقت المناسب عند وجود متعاون معهم في منصب الرئاسة لتأسيس البنك المركزي الذي سيعتقد الناس أنه ملك لهم بعد تسميته (بنك الاحتياطي الفدرالي)، وهو فعلا ما حدث حينما تولى الرئيس ويلسون الرئاسة، وأصبح البنك الفدرالي هو الذي يطبع النقود و يقرضها للحكومة وللبنوك الأخرى بنسب فائدة، لكن مرة أخرى تحديدا عام 1963 حارب الرئيس الأمريكي جون كيندي سلطة بنك الاحتياطي الفدرالي وقال في أحد خطاباته (إننا نواجه في أنحاء العالم مؤامرة مُحكمة وقاسية تعتمد في الأساس على الأساليب السرية لتوسيع نطاق نفوذها)، وفي 4 حزيران/ يونيو 1963 و قع الرئيس كيندي الأمر الرئاسي 11110 الذي يُمكّن وزارة المالية من إصدار نقود حقيقية من دون الاستعانة ببنك الاحتياطي الفدرالي، وكانت خطة كيندي لتفكيك آلة بنك الاحتياطي الفدرالي قد بدأت، لكن بعدها بـ 6 أشهر اغتيل في دالاس وكان هو آخر رئيس يواجه بنك الاحتياطي الفدرالي. وفور تولي الرئيس جونسون الرئاسة كان من أولى قراراته إلغاء أمر كيندي الرئاسي بخصوص إصدار العملة، ومنذ ذلك الحين لم يتجرأ أحد على مواجهة سلطة بنك الاحتياطي الفدرالي الذي يعد بمنزلة مسمار العجلة في نظامىي بريتون وودز وجاميكا الماليين.

إن النظام المالي الحالي هش وقد بدأ بالانهيار فعلًا، تجلى هذا خلال تداعيات فيروس كورونا، والدول المرتبطة بالدولار سوف تتأثر بشدة عند سقوط الاقتصاد الأمريكي. وعليه، يجب أن تنفك هذه السلسلة من حول أعناقنا قبل أن تجرنا معها إلى القاع.

 

قد يهمكم أيضاً  الثروة البترولية والأمن الاقتصادي العربي

اقرؤوا أيضاً  فيروس كورونا والتحولات الجيوسياسية في العالم

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #البنك_الفيدرالي_الأمريكي #الاقتصاد_العالمي #الاقتصاد_العربي #الاستقلال_الاقتصادي_العربي #الدولار #النظام_المالي_العالمي #إتفاقية_بريتون_وودز