أولاً: مفهوم الأمن الاقتصادي

الأمن الاقتصادي، حسب منظمة الأمم المتحدة، «هو أن يملك المرء الوسائل المادية التي تمكّنه من أن يحيا حياة مستقرة ومشبعة من خلال امتلاك ما يكفي من النقود لإشباع الحاجات الأساسية وهي الغذاء، المأوى اللائق والرعاية الصحية الأساسية والتعليم»[1]؛ أي أن الأمن الاقتصادي يشمل تدابير الحماية والضمان التي تؤهل الإنسان للحصول على حاجاته الأساسية وضمان الحد الأدنى لمستوى المعيشة.

وهناك من عرّف الأمن الاقتصادي بأنه يعني التنمية؛ إذ إن ظاهرتي الأمن الاقتصادي والتنمية مترابطتان بحيث يصعب التمييز بينهما، فكلما تقدمت التنمية تقدم الأمن، وكلما نظم المجتمع أموره الاقتصادية لمدِّ نفسه بما يحتاج إليه فإن درجة مقاومته للمهددات الخارجية سوف تتزايد بدرجة كبيرة. والتنمية – كما هو معروف – مفهوم مركَّب؛ فهي عملية وليست حالة واتجاهاً مستمراً في النمو ولا وضعاً طارئاً. كما إنها آلية، إلى جانب كونها وسيلة لتحقيق أهداف مرحلية ضمن إطار غايات إنسانية وحضارية ذات أبعاد مجتمعية.

أما مؤشراتها المتكاملة والمتداخلة فهي أربعة: أولها، نمو اقتصادي بمعنى تزايد مستمر في إنتاج المجتمع وإنتاجية الفرد؛ ثانيها، تحولات هيكلية تمس كل أوجه التخلف – الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية والثقافية – بهدف تكوين بنى أساسية، وتنمية القدرات، وإطلاق الطاقات الخيِّرة على المستويين الفردي والجماعي؛ وثالثها، تحسن مستدام لنوعية الحياة المادية – من خلال تزايد مطَّرد في متوسط الدخل الحقيقي للفرد عبر فترة طويلة من الزمن – والمعنوية لأفراد المجتمع؛ ورابعها: تطبيق نسق اجتماعي يهدف إلى توسيع الخيارات المتاحة للمواطنين بأجيالهم المتعاقبة.

ثانياً: موقع البلدان العربية من الأمن الاقتصادي

إذا تم إجراء مقارنة موضوعية بين مفهوم الأمن الاقتصادي، الذي سبقت الإشارة إليه، وبين التغيرات الاقتصادية والاجتماعية الفجائية والعشوائية المتقلبة التي تشهدها البلدان العربية في عصر البترول لتبين مدى ابتعاد تلك التغيرات عن نهج الأمن الاقتصادي، بل إن مسار تلك التغيرات أخذ تدريجياً – عبر فترات اليسر والعسر – يقوِّض إمكانات الأمن الاقتصادي الحقيقية. فمسيرة الاقتصادات العربية ترتبط، ومنذ سبعينيات القرن الماضي، بمسيرة البترول في المقام الأول. وقد جمعت البلدان المنتجة ثروات ضخمة تحسَّن على إثرها مستوى المعيشة والمستوى الصحي وانتشر التعليم… لكن تبقى حقيقة تلك التحسنات تمثل حالة سمحت بها الوفرة البترولية، وليست عملية تعكس تحولات في البنى الاقتصادية والاجتماعية وتعبِّر عن اتجاه مستمر في ارتفاع الإنتاجية أو عدالة التوزيع؛ ما يعني أن خدمات الصحة والتعليم والإسكان وغيرها يمكن أن تتراجع تحت ضغط تراجع معدلات الإنفاق العام التي تعكس ظاهرة تآكل ريع البترول. وإذا كان الوضع كذلك بالنسبة إلى البلدان العربية البترولية، فإن البلدان العربية غير البترولية حققت كذلك منافع كبيرة من خلال تقديم الخدمات المتعلقة بالبترول وتحويلات العاملين في البلدان المنتجة والاستثمارات الآتية من بلدان المنطقة ومداخيل السياحة الإقليمية والمعونات على أنواعها. واستمر هذا الوضع طوال مرحلة الوفرة البترولية، ما يعني أن دخل البترول يشكل قوة دفع رئيسية للأمن الاقتصادي العربي. لكن هذا الأمن المرتبط بتقلبات أسواق البترول كان وما زال رهناً بتيارات خارجية المنشأ. والثروة البترولية التي أنعشت البلدان العربية في السبعينيات اضمحلت في الثمانينيات وأوائل التسعينيات بفعل الهبوط الحاد لأسعار البترول في الأسواق العالمية، حيث ارتبط نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلدان العربية منذ الستينيات ارتباطاً شديداً بارتفاع عائدات الصادرات والتي غلبت عليها صادرات البترول. هذا التفاوت في النمو بين مرتفع في السبعينيات وراكد في الثمانينيات وصولاً إلى نمو استثنائي بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان انعكاساً واضحاً للتقلبات الحادة التي عصفت بسوق البترول.

وباعتبار أن نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي لا تعني الكثير قبل الأخذ بعين الاعتبار نسبة نمو السكان، أي ما يمكن أن يناله الفرد الواحد من النمو، فإنه خلال مراحل الانتعاش والركود التي شهدتها فترة الأربعة وعشرين عاماً من 1980 إلى غاية 2004 لم يسجل نصيب الفرد من النمو الاقتصادي في المنطقة العربية أي زيادة على الإطلاق تقريباً، حيث – وفقاً لبيانات البنك الدولي – لم يتجاوز نمو نصيب الفرد الحقيقي من الناتج المحلي الإجمالي في البلدان العربية 6.4 بالمئة أي أقل من 0.5 بالمئة سنوياً، بل تحولت معدلات نمو الدخل الفردي خلال التسعينيات إلى مسار سلبي في أغلب الأحيان. وبهذا فإن البلدان العربية لم يتحقق فيها تزايد مطرد في متوسط الدخل الحقيقي للفرد لأي فترة طويلة من الزمن حيث ظل يتأرجح بين ارتفاع قياسي وهبوط حاد، وذلك تعبيراً عن اتجاهات الطلب العالمي على البترول الخام وانكماش مستويات أسعاره في السوق العالمية التي تحكمها عوامل خارجية.

وهذا التأرجح في متوسط دخل الفرد يؤكد حقيقة ليست في حاجة إلى كثير من الشرح، وهي أن مصدر الناتج المحلي الإجمالي وبالتالي متوسط دخل الفرد في بلدان المنطقة لا علاقة له بإنتاجية الفرد أو العامل كما يتطلب مفهوم النمو الاقتصادي، ولا يعكس تأثير تحولات هيكلية وتغيرات بنائية قادرة على استدامة مستويات الدخل المتحقق كما يتطلب مفهوم التنمية الاقتصادية؛ وإنما اعتمدت مستويات الناتج المحلي الإجمالي ومتوسطات دخل الفرد في المنطقة دائماً على استنزاف ثروة طبيعية غير متجددة (البترول)، كما اعتمدت على مستويات أسعار صادرات البترول الخام إلى السوق العالمية. والحقيقة أن هذا السيناريو لم يتغير مع الفورة البترولية الثالثة التي حدثت مع مطلع القرن الحادي والعشرين حيث ارتفعت أسعار البترول إلى مستويات غير مسبوقة وصلت إلى 147.2 دولار للبرميل في تموز/يوليو 2008، ما جعل الاقتصادات العربية البترولية تجني إيرادات لم تشهد لها مثيل منذ سبعينيات القرن العشرين، لكن وبسبب أزمة الرهن العقاري تم خسارة الكثير من المكاسب في فترة قياسية، ما يعني أن أزمة 2008 أكدت مرة أخرى الطبيعة الريعية للبلدان العربية، وفشل دول المنطقة في بناء قاعدة إنتاجية بديلة للبترول.

عموماً إن النمو المرتكز على البترول خلق عدداً من مواطن الضعف في الأسس البنيوية للاقتصادات العربية وحوّلها بصورة متزايدة إلى اقتصاد قائم على الاستيراد والخدمات مقابل انكماش لقطاع الزراعة والصناعة. وفي ما يلي توضيح لبعض مواطن الضعف العربي:

1 – الخدمات

تقع أنواع الخدمات المتوافرة في البلدان العربية في أدنى سلسلة القيمة المضافة، ولا تضيف إلا القليل إلى تنمية المعرفة على المستوى المحلي وتضع بذلك البلدان العربية في مراتب متدنية في الأسواق الدولية، فرغم تشابه هذه الظاهرة – نمو قطاع الخدمات – بما يحدث في الدول الرأسمالية المتقدمة، إلا أن الفارق يكمن في نوع تلك الخدمات. فنمو القطاع الثالث أو قطاع الخدمات في الدول الرأسمالية مرتبط بنمو الخدمات المصرفية وأعمال التأمين وأعمال التسويق والخدمات الاستشارية وخدمات النقل الدولي والإعلان والاتصالات وقطاع المعلومات، وهي في بلدان العالم الثالث ومنها البلدان العربية تعبير عن تضخم البيروقراطية وشبه الخدمات المنزلية، وانتفاخ أجهزة الأمن والقوات المسلحة وتدني إنتاجية العمل في أعمال التشييد والصيانة وإصلاح السلع المعمرة… إلخ[2]. من هنا فإن استمرار هذا الاتجاه الذي ينمو على حساب الصناعة والزراعة العربية يظل مدعاة للقلق، فنصيب الخدمات من الناتج المحلي الإجمالي يتجاوز 50 بالمئة في كل البلدان العربية غير المنتجة للبترول، بينما تزيد على 65 بالمئة في كل من البحرين والأردن وجيبوتي ولبنان والمغرب، بل إن هذا القطاع يضم أكثر من 50 بالمئة من إجمالي العمالة في معظم البلدان العربية.

2 – الصناعة

إن البلدان العربية قاطبة ليست بلداناً صناعية بالمعنى الحقيقي للكلمة، ففي ظل غياب السياسات التنموية القائمة على توافر عنصر الإرادة الفاعلة والصلبة من أجل إنجاز مهمة التحرر الاقتصادي، وفي ظل احتياج المراكز الرأسمالية العالمية لبلدان الأطراف، فإن الأقطار العربية على ما هي عليه الآن – وحسب تقديرنا – لم ولن تستطيع أن تصبح دولاً صناعية ذات شأن. وإذا تمت إضافة عنصري تعمق التجزئة العربية واستمرار المسار التنموي المعوج والمشوَّه الذي ما زالت الحكومات العربية متمسكة به، فلن يكون مثل هذا القول إجحافاً أو تجنياً على الوقائع أو ميلاً إلى نزعة تشاؤمية. فالاقتصاد العربي عموماً لا يزال يقوم بوظيفته التقليدية بالنسبة إلى التقسيم الدولي للعمل وإلى حد بعيد، حيث ما فتئ يقدم المواد الأولية التي بدأت في النضوب ليستورد في مقابلها سلعاً رأسمالية غذائية واستهلاكية. فالصناعة التي يفترض أنها ستغير من قساوة هذا الوضع وتفتح مجالاً للنمو والتطور أصبحت وسيلة إضافية لإخضاع الاقتصادات العربية للاقتصاد العالمي ولشركاته الاحتكارية متعددة الجنسية، وقصد الاطلاع أكثر على حقائق الأمور نتطرق إلى النقاط التالية:

أ – رغم أن التجارب الصناعية العربية والتي امتدت على مدى أربعة عقود تقريباً أفرطت في الحديث عن الصناعات الثقيلة والاستراتيجية، إلا أن تطور القطاع الصناعي العربي إجمالاً أظهر أن الصناعة الثقيلة عموماً غير ذات وزن يذكر في ما يتعلق بمساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العربي، بل تكشف تلك التطورات عن تخلُّف الصناعة العربية وتبعيتها عموماً وتركيزها بالأساس على الصناعات الاستخراجية والبتروكيمياوية والتحويلية. بلغة الأرقام ظل معدل الارتفاع النسبي لمجموع الصناعات العربية منذ 1995 وإلى غاية نهاية 1996 ما يقارب 8 بالمئة فقط؛ أي حوالى 15.7 مليار دولار. وبذلك تمثل مجموع الصناعات العربية نحو 30 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 1996‏[3] جلّها صناعة استخراجية.

أما بالنسبة إلى الصناعات الكيماوية والبتروكيمياوية فإنه رغم افتخار عدة بلدان بها، ولا سيَّما الدول البترولية، فإن توسع تلك الصناعة في المنطقة العربية في حقبة السبعينيات والثمانينات كان جزءاً من العملية العريضة التي مارستها مجموعة الدول الرأسمالية المتقدمة لنقل الصناعات التي أخذت تفقد ميزتها النسبية داخل الاقتصاد المتقدم ذاته، إما بسبب ارتفاع تكلفة الطاقة أو ارتفاع تكلفة العمل أو بسبب مشكلات التلوث. وبذلك تحقق هذه العملية للاقتصاد الرأسمالي فرصة لتركيز ميزته النسبية في الصناعات الأكثر تطوراً من الناحية التكنولوجية مثل الإلكترونيات الدقيقة، وفوق ذلك فإن الشركات الاحتكارية المنفذة لتلك المشاريع تسيطر على ما يسمى «الحلقة الأولى» أي التنقيب والاستكشاف والتشييد و«الحلقة الأخيرة»؛ أي التسويق للمنتجات من خلال احتكار المعلومات، إذ إن البيانات التسويقية والتكنولوجية – بحسب تلك الشركات – هي من قبيل الأسرار التجارية، ولهذا فإن مسألة نقل الصناعات الكيمياوية والبتروكيمياوية إلى بعض أجزاء المنطقة العربية لم يتبعه نقل حقيقي للتكنولوجيا.

ب – لم يكن غريباً أن تشهد معظم البلدان العربية خلال العقود الأربعة الماضية درجة كبيرة من التباطؤ والانكماش في مجال التصنيع، والحقيقة أنها كانت أقل تصنيعاً في عام 2007 منها في عام 1970، ويصدق ذلك على البلدان ذات الدخل المتوسط والقاعدة الاقتصادية المتنوعة المصادر نسبياً في الستينيات مثل سورية، العراق ومصر. صحيح أن الإمارات والأردن وعمان وتونس والجزائر حققت تقدماً ملحوظاً في مجال التنمية الصناعية، لكن على العموم يبقى نصيب الصناعة من PIB لديها ضعيفاً جداً، حيث يمثل أقل من 11 بالمئة من السلع المصدرة في عام 2006 – 2007، بل يبدو أن فئات البلدان جميعاً تقترب من المعدل الإقليمي المتواضع والذي مثل أقل من 10 بالمئة عام 2007.

ج – إن التصنيع العربي وبدعم الاستثمارات الخارجية وإرشادات ونصائح الشركات متعددة الجنسية، لم يركز على الصناعات الإنتاجية الحقيقية الثقيلة ولا على الصناعات الأكثر وفاء بالحاجات الاجتماعية الأساسية رغم توفير الأموال والطاقة والعمالة والعقول البشرية. فالبلدان العربية لم تزل تستورد «المصانع الجاهزة» بصيغة تسليم المفاتيح مثلاً وتستورد الآلات والمعدات والسلع الهندسية، بل إن هذا التصنيع المزعوم ركز في المقابل على الصناعات الأكثر والأسرع ربحاً بما في ذلك الصناعات التجميعية، والتصنيع العربي بتلك الأنماط الاستهلاكية وبدعم الحملات الإعلانية البراقة ساهم أيضاً في تصفية الصناعات التقليدية والحرفية العربية التي لو أتيحت لها فرص التطور والنمو لحلت كثيراً من مشاكل التنمية. كما إن هذا التصنيع الذي نشأ وتطور في إطار تنمية مشوهة وتابعة أدى إلى تبديد الثورة المالية والإمكانات والموارد بتوجهه لاستيراد التكنولوجيا والآلات والمعدات والسلع الهندسية بل حتى دراسات الجدوى وأعمال التصميم والخدمات الاستشارية، فضلاً عن استيراد الفنيين وعمال الصيانة والكهرباء في الوقت الذي تم الاستغناء فيه عن جزء من العمالة العربية وحرمان الجزء الآخر منها من مخططات التكوين والتدريب والتأهيل. وما زاد الأمور سوءاً أن هذا التصنيع جاء على حساب تكامل واندماج الهياكل الصناعية والاقتصادية على مستوى الوطن العربي ككل فكرس التجزئة وألغى التكامل والتنسيق العربي والذي يمكنه فعلياً أن يحقق تنمية صناعية واقتصادية مستقلة وحقيقية.

3 – البطالة

تعد البطالة من المصادر الرئيسية لانعدام الأمن الاقتصادي في معظم البلدان العربية، حيث تشير الإحصاءات إلى أن متوسط معدل البطالة فيها بلغ 15.4 بالمئة من مجموع القوى العاملة عام 2005 بالمقارنة مع 6.3 بالمئة على المستوى العالمي. ويلاحظ أن معدلات البطالة المحلية تتفاوت بدرجة ملموسة بين بلد وآخر متراوحة بين 2 بالمئة في قطر والكويت ونحو 22 بالمئة في موريتانيا[4]. لا شك في أن هذه الأرقام تدعو إلى القلق، خصوصاً إذا أخذ بالحسبان أن البلدان العربية ستحتاج بحلول عام 2020 إلى حوالى 51 مليون فرصة عمل جديدة. هذا وتمثل البطالة في أوساط الشباب تحدياً جديا مشتركا في العديد من البلدان العربية، إذ بلغ متوسط معدل البطالة في أوساط الشباب عام 2005 – 2006 نحو 30 بالمئة من إجمالي القوى العاملة الشابة مقارنة بمتوسط عالمي بلغ 14 بالمئة. بل إن نسبة البطالة في ارتفاع حتى بين المتعلمين، إذ إن قرابة 40 بالمئة من خريجي المدارس الثانوية والجامعات والمتراوحة أعمارهم بين 15 و25 سنة لا يجدون عملاً.

4 – الفقر

إن قياس الفقر وعدم الاستقرار المصاحب له يتحقق من خلال منظورين:

أ – فقر الدخل

هو الذي يحدد مستوى رفاه الأفراد ممّا يتوافر لهم من سلع وخدمات بناء على إنفاق دخلهم، وأكثر المقاييس استخداماً لتحديد الفقر في إطار هذه المقاربة يعتمد نسبة عددية تمثل إجمالي نسبة السكان التي تعيش دون خط الفقر والذي – وبحسب البنك الدولي – يعتمد على دخل يعادل الدولارين للفرد يومياً، وبحسب هذا المقياس بينت الإحصاءات أنه رغم ارتفاع معدلات البطالة في البلدان العربية إلا أن درجة فقر الدخل منها تُعَد على العموم منخفضة نسبياً حيث ثبت أن حوالى 20.37 بالمئة من السكان العرب يعيشون تحت خط الفقر الدولي المحدد بدولارين يومياً وذلك عام 2005، وأن القطاع الأكبر من الفقراء يتركز في بلدان مثل الصومال، السودان، مصر، سورية، موريتانيا، العراق، المغرب، اليمن؛ وهي ذات أحجام سكانية مرتفعة نسبياً ومستويات منخفضة من معدل الإنفاق الفردي. بل إنه برغم تمتع قرابة 92 بالمئة من سكان الوطن العربي بمتوسط دخل للفرد يعد مقبولاً من ناحية الأمن الاقتصادي إلا أن معدل نمو هذا الدخل قد اتصف بعدم الاستقرار والتذبذب المرتفع وذلك لاعتماد النمو على أسعار النفط العالمية التي تتصف بمثل هذا التذبذب[5].

ب – الفقر البشري

هو مفهوم أشاع استخدامه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للتعبير عن حرمان المرء من الفرص والقدرات ويمكن قياسه باستخدام «دليل الفقر البشري»، والذي قوامه 3 مكونات أساسية: طول العمر؛ مستوى المعيشة؛ المعرفة.

يقاس المكوّن الأول بنسبة السكان الذين لا يتوقع أن يبلغوا الأربعين من العمر. المكون الثاني هو قيمة مركبة تقاس بنسبة السكان الذين يحصلون على المياه النظيفة ونسبة الأطفال ناقصي الوزن ممن هم دون الخامسة من العمر. والمكون الثالث يقاس بمعدل الأمية بين البالغين. وبموجب دليل الفقر البشري هذا تصنف البلدان التي تحصل على أكثر من 30 بالمئة في مرتبة مرتفعة على سلم الفقر البشري، والبلدان التي تحصل على أقل من 10 بالمئة في مرتبة منخفضة على سلم الفقر البشري، أما النسب المئوية الواقعة بين هذين المعيارين فتشير إلى درجة متوسطة من الفقر البشري.

إن نتائج الفقر البشري ترتبط بشكل وثيق مع الدخل، فالبلدان ذات الدخل المنخفض تشهد أعلى مستويات من الفقر البشري (35 بالمئة)، وبذلك فإن انخفاض الدخل يشكل انتقاصاً من مستويات المعيشة والصحة والتعليم، وعلى إثر الهبوط المسجل في معدلات فقر الدخل، انخفض بمرور الوقت كذلك انعدام الأمن الناجم عن الفقر البشري في كل البلدان العربية بنسبة الثلث تقريباً.

ثالثاً: موقع البلدان العربية من الأمن الغذائي

 

1 – تشخيص الوضع الغذائي العربي

إن معظم البلدان العربية وفقاً للأرقام والإحصاءات المختلفة، تعتبر منطقة عجز غذائي دائم ولا سيّما في الحبوب والزيوت والمواد الغذائية حيوانية الأصل. فرغم زيادة القيمة المضافة لهذا القطاع من 45 مليار دولار عام 1995 إلى 125 مليار دولار عام 2010. غير أن نسبة الناتج الزراعي إلى الناتج المحلي الإجمالي للبلدان العربية تناقصت من 9.5 بالمئة عام 1995 إلى 6 بالمئة عام 2010، والملاحظ أن هذه النسبة تتفاوت بشكل واضح بين البلدان العربية، فهي مرتفعة في البلدان ذات الموارد الزراعية الجيدة كالسودان والتي بلغت فيها هذه النسبة 29.3 بالمئة سنة 2008 وسورية 20 بالمئة، بينما تراوحت بين 7 بالمئة و13 بالمئة في كل من اليمن، تونس، لبنان، مصر، المغرب وموريتانيا طبقاً لإحصاءات عام 2011. وبخصوص الاكتفاء الذاتي من بعض السلع الأساسية لسنة 2010 يمكن إدراج الجدول اللاحق.

لقد ترتب على تدني نسب الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الأساسية – نظراً إلى التفاوت الكبير بين معدل نمو الناتج الزراعي البالغ 2 بالمئة عام 2011 وبين معدل نمو الطلب على المنتجات الزراعية البالغ 5.5 بالمئة – تزايد الواردات من السلع الغذائية الرئيسية، ما تسبب في ارتفاع عجز الميزان التجاري الزراعي العربي من 18 مليار دولار عام 1995 إلى 26 مليار دولار عام 2010‏[6]. فعلى الرغم من ارتفاع قيمة الصادرات الزراعية من 7 مليارات دولار سنة 2000 إلى 19 مليار دولار سنة 2010 إلا أن زيادة الواردات الزراعية كانت أكبر كثيراً حيث ارتفعت هذه الأخيرة من 30 مليار دولار سنة 2000 إلى 65 مليار دولار سنة 2010. وبذلك فإن ارتفاع عجز الميزان التجاري الزراعي العربي يعود بالدرجة الأولى إلى عدم كفاية الإنتاج الزراعي المحلي خاصة من الحبوب وإلى ارتفاع قيمة الواردات الزراعية بسبب ارتفاع أسعارها في السوق العالمية. فقد استوردت البلدان العربية حتى الآن نحو ثُمن الواردات العالمية من السلع الغذائية وخُمس الواردات العالمية من الحبوب، ما يعني أن إنتاج وإنتاجية السلع الزراعية هما عند مستويات لا يمكن الاعتماد عليها في المساهمة في تحقيق الأمن الغذائي العربي في المدى المنظور على أقل تقدير.

الجدول

نسبة الاكتفاء الذاتي عام 2010

المجموعة السلعيةمجموعة الحبوب والدقيقالبقولياتالزيوتالسكرالألبان
نسبة الاكتفاء الذاتي (بالمئة)4957312670

المصدر: المنظمة العربية للتنمية الزراعية، إحصاءات سنة 2011.

وعموماً يلاحظ أن هناك تبايناً في مقدار العجز الغذائي بين البلدان العربية بما نسبته 19.6 بالمئة، حيث يكون مرتفعاً خاصة في الصومال ومشكلة هذه الفئة تكمن في أن عدم كفايتها من الغذاء يرجع في جزء كبير منه إلى ارتفاع الأهمية النسبية للفقر[7]، والأمر نفسه تقريباً بالنسبة إلى السودان واليمن. مشكلة هذه الفئة أنها تشمل دولاً ذات دخل منخفض وقدرة شرائية ضعيفة، ما يجعل زيادة عرض الغذاء لا تساهم في تحسين أوضاعهم الغذائية إذا لم يصاحبها تزايد في القوة الشرائية.

2 – مخاطر العجز الغذائي العربي

يمكن تحديد خطرين أساسيين ناتجين من العجز الغذائي العربي:

أ – إن مسألة استيراد الغذاء والاعتماد على الخارج في هذا المحور الحيوي للحياة، زاد تكلفة الإنفاق المالي العربي في كل المنطقة العربية سواء البترولية أو غير البترولية، حيث توضح الإحصاءات أن البلدان البترولية أصبحت تتميز منذ مطلع الثمانينيات بأعلى متوسطات استيراد المواد الغذائية. وعموماً يمكن تقدير مدى تعرض الأمن الغذائي للخطر بواسطة مقياس يحسب بقسمة الواردات الغذائية على مجموع عوائد الصادرات مطروحاً منها خدمة الدين الخارجي، إذ يتفاقم خطر انعدام الأمن الغذائي كلما ارتفعت قيمة هذا المؤشر. ورغم أن الإحصاءات أكدت تراجع قيمته في البلدان العربية بصفة عامة من 19.7 بالمئة في منتصف الثمانينيات إلى 13.9 بالمئة في منتصف التسعينيات إلى 7.7 بالمئة عام 2004‏[8]، وخاصة في البلدان البترولية، لكن رغم ذلك ينبغي على هذه الدول أن تحس بمرارة المشكلة وبأبعادها المستقبلية وأثرها في حياة الأجيال القادمة ومستقبلها، وبالذات لو تم الأخذ بالاعتبار أن البترول المعتمد عليه في شراء الغذاء هو مورد ناضب وغير متجدد. كما أن الارتفاع السريع والمتزايد لفاتورة الواردات الغذائية تمثل عبئاً ثقيلاً على البلدان العربية ذات الدخل المنخفض، وهو أمر لا يبشر بالخير، وبخاصة أن تبديد جزء هام من الأموال في تمويل واردات الغذاء يعني زيادة الأعباء المالية على الميزانية وإعاقة مسيرة التطور والتنمية والالتفات إلى ضرورة توفير الغذاء تحت أي ظرف وثمن. كما أن الصدمات الاقتصادية عادة ما تؤثر في أوضاع الأمن الغذائي لاقتصاد غير متنوع، ولا سيّما في حالة تواضع أو غياب الخزين الاستراتيجي من الغذاء، أو قلة الاحتياطات من النقد الأجنبي التي تساعد على استيراد الغذاء، فتقلبات أسعار بترول البلدان البترولية غير المنتجة للغذاء قد تقرِّب هذه البلدان من حالة انعدام الأمن الغذائي طالما أنها تعتمد في صادراتها على مورد وحيد هو البترول. وقد تبين من تقدير مؤشر الصدمات الاقتصادي أنه مرتفع في مجموعة البلدان العربية مرتفعة الدخل كبلدان مجلس التعاون الخليجي حيث بلغ أكثر من 73 بالمئة في منتصف التسعينيات وكذلك مطلع الألفية الثالثة ليرتفع إلى 90.7 بالمئة عام 2005.

وباعتبار أن البترول يشكل أهمية نسبية عالية في صادرات الدول فإن ارتفاع قيمة مؤشر الصدمات الاقتصادية معناه أن أوضاع الأمن الغذائي لهذه الدول معرضة لأخطار كبيرة في حالة تراجع أسعار البترول، في حين أن انخفاض قيمة هذا المؤشر بالنسبة إلى البلدان العربية منخفضة الدخل من 51.9 بالمئة في منتصف التسعينيات إلى 46 بالمئة و41 بالمئة مطلع الألفية الثالثة وسنة 2005 على التوالي تقلل من تلك المخاطر، بينما البلدان العربية متوسطة الدخل والتي زاد انفتاحها على الخارج بموجب ما طبقته من برامج صندوق النقد الدولي والبنك العالمي انعكس ذلك على مؤشرها من الصدمات الاقتصادية والذي شهد ارتفاعاً من 33.9 بالمئة في منتصف التسعينيات إلى 51.5 بالمئة و73.5 بالمئة خلال عامي 2000 و2005 على التوالي.

ب – إن تطور الفجوة الغذائية العربية خلال العقود الأخيرة جعل المنطقة العربية واحدة من أكثر مناطق العجز الغذائي ومن أكثرها تبعية غذائية في العالم؛ حيث تحولت من مشكلة تجارية تؤثر في ميزان المدفوعات العربي في المرحلة الأولى إلى مشكلة اقتصادية تؤثر في مجمل التنمية الاقتصادية في مرحلة ثانية إلى مشكلة سياسية في مرحلتها الراهنة، نظراً إلى كون توفير الإمكانات المطلوبة من الغذاء المستورد أصبح معرّضاً في الوقت الحاضر للكثير من احتمالات الضغوط السياسية، وبالتالي أصبح الأمن الغذائي في ظل احتمالات السيطرة الأجنبية على استهلاك الغذاء أحد أهم المكونات الرئيسية ليس للأمن الاقتصادي العربي فحسب، وإنما للأمن القومي العربي بأكمله. فالدول المصدرة للغذاء هي دول قليلة ومتقدمة اقتصادياً ويمكنها ممارسة سياسة احتكار القلة، ما يؤثر في السوق العالمية للغذاء ويؤثر بالتالي في حرية القرار الاقتصادي والسياسي للبلدان العربية. ولهذا فإن اعتقاد البعض في كون استيراد الغذاء لمن يملك المال يعتبر أكثر اقتصادية من زراعته يعتبر اعتقاداً خاطئاً وخطراً. وتكمن خطورة هذه السياسة في رهن أمنك الغذائي لمن يملك بيعه ويستبد به ويملي إرادته عليك كمحتاج، فمن لا يملك غذاءه لا يملك قراره، ومن لا يملك قراره لا يملك مصيره ويجد نفسه ضحية لعبة الأمم. فلطالما استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية – باعتبارها أهم المصدِّرين للغذاء في العالم – ولا تزال تستخدم سلاح الغذاء كأداة ضغط على دول العالم.

خاتمة

زاد سوء استخدام البترول من اعوجاج التنمية العربية التابعة، وضيّع بالتالي فرصة تحقيق أمن اقتصادي عربي. لكن الحقيقة أنه ما زالت هناك فرصة يمكن أن تنقل بلدان المنطقة العربية من المسار الخطر إلى المنعطف الآمن قبل جفاف آبار الذهب الأسود وفوات الأوان. ترتكز هذه الفرصة على ثلاثة مداخل استراتيجية متكاملة ومتداخلة:

أولها: إصلاح إدارة الحكم باعتبار أن ذلك يساعد على مكافحة الفساد والارتقاء بمستويات المعيشة.

ثانيها: إصلاح الخلل الإنتاجي وهذا يتطلب في البداية إعادة النظر في طبيعة الريع الاقتصادي لصادرات البترول باعتباره إيراداً رأسمالياً يعود للدولة مقابل استنضاب الثورة البترولية وليس إيراداً جارياً، ومن ثم وجوب إعادة استثماره في أصول إنتاجية معمرة من خلال بناء قاعدة اقتصادية بديلة لصادرات البترول الخام مدرّة للدخل، ويستفيد من منافعها الجيل الحالي والأجيال القادمة بعد أن يزول البترول أو يتآكل ريعه لسبب أو لآخر. وتتوقف فرصة التحول من استهلاك ريع البترول إلى استثماره على نمو إرادة مجتمعية والارتقاء بحس المسؤولية في الدولة والمجتمع إلى درجة القدرة على الجهاد الأكبر (جهاد النفس) والتخلص من حالة الإدمان الخطير على الاستهلاك.

ثالثها: التكامل العربي والذي يشكل إطاراً يحقق لبلدان المنطقة كياناً اقتصادياً واجتماعياً قابلاً للتنمية، وكياناً عسكرياً وسياسياً قادراً على توفير الحد الأدنى من متطلبات الأمن القومي، ويمثل بلا شك مدخلاً رئيسياً من مداخل المنعطف الآمن، ولا بد هنا أيضاً من التدرج الذي يبدأ بالإصلاح الداخلي في كل بلد من بلدان المنطقة.

 

اطّلعوا أيضاً على  واقع ومستقبل قطاع الغاز الجزائري في ظل التحولات الكبرى في أسواق الغاز العالمية