شهدت السياسات الأمريكية ـ الأوروبية مزيجاً من التقارب والتباعد تجاه قضايا منطقة الشرق الأوسط في الفترة من 2002 وحتى نهاية 2013 وبداية 2014، تحاول هذه الدراسة بجهدٍ متواضع، رصد وتفسير أسباب هذا التقارب والتباعد في تلك الفترة تجاه حالات أربع (الحرب الأمريكية على العراق، الملف النووي الإيراني، الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وثورات الربيع العربي) عبر منظورات واقعية وليبرالية وبنيوية. ثم تستكشف هذه الدراسة ملامح الرؤية العربية للسياسات الأمريكية ـ الأوروبية تجاه قضايا الشرق الأوسط، عبر إجراء مقابلات شخصية في الفترة من نهاية عام 2009 وبداية عام 2010 ثم في الفترة من نهاية عام 2013 وبداية عام 2014.

أولاً: الحرب الأمريكية على العراق

يمكن تقسيم الأزمة العراقية إلى ثلاث مراحل: مرحلة ما قبل الحرب (2001 ـ 2002) التي تميزت بتزايد التباعد الأمريكي ـ الأوروبي؛ مرحلة الحرب (2002 ـ 2003) التي تميزت بانشقاق أمريكي ـ أوروبي حول الأزمة، وأخيراً مرحلة ما بعد الحرب (2003 ـ 2013)، التي شهدت تقارباً براغماتياً في السياسات عبر الأطلسية تجاه القضية العراقية. فقد شهدت مرحلة ما قبل الحرب (2001 ـ 2002) توترات عبر أطلسية ـ تحت السطح ـ مع تولّي جورج دبليو بوش مقاليد السلطة في البيت الأبيض في 2001، واعتناق إدارته الأولى بوضوح فكر المحافظين الجدد، الذي رأى آنذاك أن العراق يمثل نقطة الانطلاق الحقيقية لإعادة تشكيل خريطة منطقة الشرق الأوسط وفقاً للمصالح الأمريكية، وأن تسوية قضايا المنطقة كافة، بما فيها القضية الفلسطينية، لا بد من أن يكون مدخلها تغيير نظام حكم صدام حسين في العراق. وتبلورت التوترات عبر الأطلسية في تلك الفترة في تخلي إدارة بوش الأولى بشكل سافر عن التعددية في التعامل مع العالم الخارجي، وذلك بإعلان رفضها العديد من الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية كيوتو، واتفاقية المحكمة الجنائية الدولية، وتخليها عن اتفاقية حظر الأسلحة البالستية وبروتوكول الأسلحة البيولوجية. وقد أدت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 إلى شن الإدارة الأمريكية حرباً عالمية ضد الإرهاب وفسحت لها في المجال للقيام بما تريد من دون استشارة الآخرين، وبخاصة حلفاؤها الأوروبيون.

وتحت شعار مبدأ بوش (الضربات الاستباقية) شنت الولايات المتحدة الأمريكية حرباً ضد أفغانستان، قبل أن توجه دفّتها نحو العراق لاحقاً. وشهدت مرحلة الحرب هذه (2002 ـ 2003) شقاقاً عبر أطلسي عميقاً حول ما إذا كانت هذه الحرب «حرب ضرورة» أم «حرب اختيار» من قبل الإدارة الأمريكية. فقد ادّعت إدارة بوش آنذاك أن نظام صدام حسين يمتلك ـ بل ويطور ـ أسلحة للدمار الشامل، وأن لديه روابط وثيقة مع تنظيم القاعدة، وأنه قد يزود الجماعات الإرهابية المتطرفة بأسلحة الدمار الشامل. علاوة على ذلك، اتهمت إدارة بوش النظام العراقي بتقويضه أي جهد دولي يهدف إلى حل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بما يجعل شن حرب ضده ضرورة ملحة. وإزاء تزايد مؤشرات الإصرار الأمريكي على غزو العراق وإزاحة نظامه، انقسمت أوروبا إلى معسكرين متناقضين: معسكر أطلسي يتألف من بريطانيا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا والدنمارك وهولندا ومعظم دول وسط وشرق أوروبا، في مقابل معسكر أوروبي مؤلف من ما يسمى دول قلب أوروبا، وهي ألمانيا وفرنسا وبعض الدول الأوروبية الصغيرة؛ رأى أن تلك الحرب هي حرب اختيار أمريكية بالأساس.

ويمكن تقسيم مرحلة ما بعد الحرب أيضاً إلى مرحلتين: الأولى من نهاية 2003 وحتى بداية 2009 بوصفها مرحلة تقارب براغماتي بين أوروبا وإدارة بوش الثانية، وإن ظل هناك تباعدُ حول المبادئ. بينما تمتد المرحلة الثانية من بداية 2009 وحتى 2013 بوصفها مرحلة تقارب براغماتي ومبدئي حول العراق في ظل ولايتي باراك أوباما الأولى والثانية. ففي المرحلة الأولى دفع تدهور الوضع الأمني والسياسي على الأرض، في العراق بعد الحرب، إدارة بوش إلى طلب الدعم الدولي من حلفائها الأوروبيين. وفي المقابل صدرت، بعد انتهاء الحرب مباشرة، عدة تصريحات عن أوروبا حاولت فيها رأب صدع العلاقات عبر الأطلسية، التي تسببت فيها هذه الحرب. مع ذلك، ظلت هناك خلافات أمريكية ـ أوروبية حول كيفية إعادة إعمار العراق، وبخاصة حول الدور المطلوب من الأمم المتحدة في عراق ما بعد الحرب، وكذلك حول المساهمات العسكرية لدول الاتحاد الأوروبي ودور حلف الناتو في تأمين استقرار العراق وتحوله الديمقراطي. أما المرحلة الثانية فبدأت مع انتخاب باراك أوباما كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية في أواخر 2008 واعترافه بأن قرار الحرب الأمريكية على العراق كان قراراً خاطئاً، وأنه مثَّل انحرافاً كبيراً عن المسار الصحيح للحرب الأمريكية على الإرهاب في أفغانستان، ووعد بانسحاب أمريكي ممنهج ومسؤول من العراق في أقرب فرصة ممكنة. وقد مثلت هذه مرحلة جديدة في العلاقات عبر الأطلسية ازداد فيها التقارب عبر الأطلسي في الأهداف والوسائل، وكذا المبادئ على حد سواء، في ما يتعلق بالعراق.

ودارت التفسيرات الواقعية للتباعد في السياسات الأمريكية ـ الأوروبية في «مرحلة الحرب على العراق» أساساً حول نهاية الحرب الباردة وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى أحادية في العالم، والتباين في القوة العسكرية بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، ومبدأ بوش (الحروب الاستباقية وتغيير النظم السياسية بالقوة العسكرية)، واختلاف الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا في ما يتعلق بإدراك التهديدات المشتركة والمصالح وبعض أهداف سياساتهما الخارجية، وتأرجح المواقف الأوروبية ما بين التماشي مع أو محاولة التوازن ضد الولايات المتحدة الأمريكية.

بينما استندت التفسيرات الليبرالية للتباعد عبر الأطلسي في قرار الحرب على العراق إلى ثلاثة عوامل رئيسية تمثلت: أولاً، بفجوة متعددة المستويات في القيم ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا؛ وثانياً، بالسياسات الداخلية في كلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا؛ وثالثاً، بالاختلافات الأمريكية ـ الأوروبية في عملية صنع القرار في داخل كلٍ منهما. وارتكزت التفسيرات البناءة للتباعد عبر الأطلسي في قرار الحرب على العراق، بالأساس، على افتراض أن القيم والمعتقدات التاريخية والثقافية تحدد سلوك الدول، ومن ثم سياساتها، تجاه العالم الخارجي. ومن ثم يمكن تفسير التباعد عبر الأطلسي حول العراق من خلال اختلاف القيم الأمريكية والأوروبية ومن خلال الاختلاف الأمريكي ـ الأوروبي حول تفسير هذه القيم، وبخاصة في ما يتعلق بتفسيرهما لقيمة التعددية في العلاقات الدولية.

أما في ما يتعلق بمرحلة «ما بعد الحرب على العراق»، فقد دارت التفسيرات الواقعية للتقارب عبر الأطلسي في هذه المرحلة حول الفشل الأمريكي الاستراتيجي في العراق بعد الحرب، وحول تزايد الضغوط الاقتصادية على الميزانية الأمريكية، وتزايد العجز التجاري الأمريكي بسبب تكاليف الحربين في العراق وأفغانستان، فضلاً عن تدهور وتناقص الشرعية الدولية للولايات المتحدة الأمريكية. في حين دارت التفسيرات الليبرالية للتقارب عبر الأطلسي في ما بعد الحرب على العراق حول تعويل الطرفين على قيمهما المشتركة، إضافة إلى تأثير العوامل الداخلية في كلٍ من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، أدركت الدول الأوروبية أنها قد تخسر نفوذها السياسي في العراق إذا لم تنخرط بشكل مطّرد في تشكيل النظام العراقي الجديد في مرحلة ما بعد الحرب. وخلص الكاتب في النهاية إلى أن هذه الحرب كانت حرب اختيار للإدارة الأمريكية ولم تكن حرب ضرورة لمعظم الدول الأوروبية.

ثانياً: الملف النووي الإيراني

تطابقت المصالح الأمريكية والأوروبية في ضرورة منع إيران من امتلاك أو الحصول على قنبلة نووية لأنها ستفتح الباب واسعاً أمام سباق تسلح نووي حتمي في الشرق الأوسط، واحتمال انهيار اتفاقية منع الانتشار النووي في العالم، بل وبروز إيران كلاعب إقليمي معرقل للمصالح الغربية في الشرق الأوسط، فضلاً عن تشكيلها مصدر تهديد وجودي لإسرائيل والإخلال بتوازن القوة الاستراتيجي في المنطقة. ومع ذلك ظهرت تباينات أمريكية ـ أوروبية في طريقة التعاطي مع الملف النووي الإيراني منذ بداية ظهوره الرسمي في آب/أغسطس 2002 وحتى الآن. ويمكن في هذا المجال رصد وتفسير السلوك عبر الأطلسي إزاء الأزمة النووية الإيرانية من خلال تقسيمها إلى ثلاث مراحل: في المرحلة الأولى (2002 ـ 2005) شهدت السياسات الأمريكية ـ الأوروبية تجاه الازمة النووية الإيرانية تباعداً ناعماً، بينما شهدت في مرحلتها الثانية (2005 ـ 2009) تقارباً براغماتياً، في حين أصبح هذا التقارب أقوى وأعمق في مرحلتها الثالثة (2009 ـ 2013) مع إدارتي أوباما الأولى والثانية.

ففي المرحلة الأولى، سعت الإدارة الأمريكية إلى نقل ملف إدارة الأزمة النووية الإيرانية من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مجلس الأمن الدولي بهدف تمهيد الطريق لفرض عقوبات، أو حتى إلى توجيه ضربة عسكرية ضد طهران. ورفضت الإدارة الأمريكية بشكل قاطع عرضاً إيرانياً كاملاً لتطبيع العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية في ما عُرف لاحقاً بالصفقة الكبرى، وتبنت بشكل صريح مبدأ تغيير النظام السياسي الإيراني بالقوة. وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، قررت الدول الأوروبية الكبرى الثلاث، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، التدخل الدبلوماسي بشكل سريع في الأزمة النووية الإيرانية بهدف تجنُّب تكرار سيناريو العراق في ما يتعلق بأفضل الأدوات للتعامل مع مصدر التهديد الإيراني. وأبرمت الدول الأوروبية في تلك الفترة اتفاقيتين مع الجانب الإيراني بهدف تعليق تخصيب اليورانيوم ومزيد من التفتيش للمنشآت النووية الإيرانية في مقابل التزام الدول الأوروبية برفض تحويل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي، وذلك على غير رغبة الجانب الأمريكي الذي كان يسعى إلى تدويل الملف في مجلس الأمن بهدف عزل النظام الإيراني كمقدمة لتغييره بالقوة.

وانقلبت المواقف في المرحلة الثانية، إذ أصبح موقف الولايات المتحدة الأمريكية أكثر مرونة، في حين أصبحت مواقف الدول الأوروبية أكثر تشدداً في التعامل مع الملف النووي الإيراني. ففي آذار/مارس 2005، وفي تناقض تام مع مواقفها في 2003 و2004، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أنها تدعم المفاوضات الأوروبية مع طهران، بل وافقت على تقديم بعض الحوافز الاقتصادية لها بشرط التزامها التعاون الكامل مع المفاوضين الأوروبيين حول برنامجها النووي. وفي 5 آب/أغسطس 2005، قدمت دول الاتحاد الأوروبي الثلاث، بدعم سياسي أمريكي، صفقة أكبر وأكثر شمولاً للجانب الإيراني لتسوية القضية النووية وإيجاد حل دائم لها. إلا أن الرفض الإيراني القاطع للصفقة وتصريحات أحمدي نجاد العدائية، دفعت الدول الأوروبية إلى التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية داخل الوكالة الدولية للطاقة الذرية بهدف تحويل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي. وشهد عام 2006 دخول القوى الدولية (الصين وروسيا) في المسألة الإيرانية بشكل أكبر من خلال مجلس الأمن الدولي. وبالتالي، فقد تمثلت الاستراتيجية الأمريكية باتباع جهود دبلوماسية بالتنسيق مع الجانب الأوروبي في مجلس الأمن الدولي بهدف حشد إجماع دولي ومواجهة إيران بعقوبات مكبلة ومشددة في حال عدم تخليها عن سعيها إلى امتلاك قنبلة نووية.

وفي أيار/مايو 2006، حدث التحول الأكبر والأعمق في تعامل إدارة بوش الثانية مع الملف النووي الإيراني من خلال إعلان كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، أن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة للانضمام إلى المفاوضات متعددة الأطراف التي كان قد بدأها الاتحاد الأوروبي قبل ثلاثة أعوام، إلا أنها اشترطت وقف طهران تخصيب اليورانيوم كأساس لدخولها في عملية التفاوض. وعلى الجانب الآخر، أصبح الموقف الأوروبي أكثر تشدداً في التعامل مع الملف النووي الإيراني، وبخاصة في ما يتعلق بفرض عقوبات اقتصادية صارمة ضد إيران. واستمرت العروض الأوروبية للتسوية، مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، مقترنة بقرارات أممية بتشديد العقوبات على طهران في ظل حرص روسي ـ صيني على تخفيف وطأة هذه العقوبات وإعطاء وقت وجهد أكبر للحلول الدبلوماسية. ومع اقتراب نهاية فترة ولاية بوش الثانية، أرسلت الإدارة الأمريكية نائب وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية، وليام بيرنز، للانضمام إلى المفاوضات مع طهران، ومع ذلك رفضت إيران وقف أو حتى تعليق عمليات تخصيب اليورانيوم.

وشهدت المرحلة الثالثة تقارباً عبر أطلسي براغماتياً ومبدئياً، وذلك عندما قرر أوباما الدخول في مفاوضات مباشرة مع إيران ومن دون وضع شروط مسبقة، وفي الوقت نفسه توعدت إدارته بفرض عقوبات صارمة وقاسية على طهران، في حال فشل جهود التفاوض في حل الأزمة النووية الإيرانية، مع عدم استبعادها الخيار العسكري في منع إيران من امتلاك قنبلة نووية. ورحب الاتحاد الأوروبي بكل خطوات إدارة أوباما الدبلوماسية نحو إيران، ودعمت منهجه بقوة، لأنه يتفق مع التوجّه الأوروبي الأصيل الذي قام على أن الدبلوماسية هي الخيار الأول والأفضل لحل الأزمة النووية الإيرانية. وظلت مجموعة 5+1 تدخل في جولات مفاوضات مختلفة مع الجانب الإيراني منذ 2009 وحتى منتصف 2013 من دون التوصل إلى أي تسوية للأزمة، واستمرت إدارة أوباما والدول الأوروبية في فرض مزيد من العقوبات على الجانب الإيراني، سواء من خلال مجلس الأمن الدولي أو من خلال العقوبات أحادية الجانب، بهدف إجباره على الجلوس إلى مائدة التفاوض وإبرام تسوية سلمية للأزمة. وفي أوائل تشرين الثاني/نوفمبر 2013، بدأت مؤشرات توصل مجموعة 5+1 مع إيران إلى تسوية تتزايد بشكل كبير، إلى أن أعلنت مجموعة 5+1 وإيران، في 24 من ذاك الشهر، عن اتفاق تاريخي مؤقت لمدة ستة أشهر في جنيف في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني.

ترتكز التفسيرات الواقعية للتباعد عبر الأطلسي في المرحلة الأولى أساساً على اختلاف الرؤى الأمريكية والأوروبية آنذاك في ما يتعلق بفائدة القانون الدولي والمؤسسات الدولية في حل الأزمة النووية الإيرانية، إضافة إلى اختلاف الرؤية الأوروبية عن الرؤية الأمريكية للنظام السياسي الإيراني نفسه، فقد أدركت الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت أن إيران دولة مارقة يجب عزلها ومعاقبتها على سلوكها المتحدي، وأن نظامها السياسي يجب أن يتم تغييره حتى ولو بالقوة العسكرية، بينما رأت أوروبا أن الدبلوماسية والمؤسسات الدولية تستطيع أن تغير السلوك الإيراني، بالإضافة إلى اختلاف علاقاتهما السياسية والاقتصادية مع إيران.

وفي حين دارت التفسيرات الليبرالية للتباعد عبر الأطلسي في هذه المرحلة حول تأثير البيئة الداخلية في كلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية في سياسات كلٍ منهما في ما يتعلق بإيران، فقد كانت الصراعات في داخل إدارة بوش الأولى ظاهرة وواضحة بين ما يُعرف بالصقور وما يُعرف بالحمائم حول أفضل الأدوات لمواجهة التهديد النووي الإيراني. وفي نهاية المطاف انتصر معسكر الصقور على معسكر الحمائم في إدارة بوش الأولى في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني. وعلى الجانب الأوروبي، مثّلت مبادرة الدول الأوروبية الثلاث للحوار مع طهران فرصة لتقوية وترميم الشقاق الذي حدث في السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية، وكانت في الوقت نفسه دليلاً على تغلب دول الاتحاد الأوروبي على الشقاق الذي حدث بينها حول العراق.

علاوة على ذلك، كان لدى حكومات الدول الأوروبية الثلاث مصالح سياسية واقتصادية في تدشين المسار الدبلوماسي كبديل من المسار الأمريكي في عزل وتغيير النظام الإيراني. في حين ارتكزت التفسيرات البنيوية للتباعد عبر الأطلسي في هذه المرحلة، بالأساس، على اختلاف الخبرات التاريخية لكلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا التي أدت إلى اختلافهما حول القيم والهويات، إضافة إلى اختلاف الخبرات التاريخية لكلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا في ما يتعلق بإيران نفسها.

تتمحور التفسيرات الواقعية للتقارب البراغماتي عبر الأطلسي في المرحلة الثانية بالأساس حول ثلاثة أسباب هيكلية للولايات المتحدة الأمريكية، وهي تمدد القوة العسكرية الأمريكية في كلٍ من أفغانستان والعراق، وتزايد مخاطر وتكاليف توجيه ضربة عسكرية لإيران وتصاعد القوة الإقليمية والنفوذ الإقليمي لإيران بالتزامن مع تصاعد تحديها للغرب. أما بالنسبة إلى أوروبا فتتمثل أسباب تقاربها مع الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة حول إيران بتزايد التحدي الإيراني والرفض الإيراني المتكرر للمبادرات الأوروبية التي أصبحت في تلك الفترة مدعومة سياسياً من الولايات المتحدة الأمريكية. إضافة إلى ذلك، تزايد الغضب والحنق الأوروبي من السلوك الإيراني غير القابل للحلول الوسط الذي تمثل بأقوال وأفعال محمود أحمدي نجاد منذ وصوله إلى الحكم في إيران في 2005. علاوة على ذلك، عندما أعلنت إدارة بوش الثانية في 2006 عن استعدادها لدعم جهود التفاوض الأوروبي مع إيران والمشاركة في التفاوض تقاربت الدول الأوروبية بشكل كبير مع الإدارة الأمريكية. في حين تستند التفسيرات الليبرالية للتقارب عبر الأطلسي في هذه المرحلة ـ بالأساس ـ إلى تزايد التحديات الداخلية التي واجهت إدارة بوش الثانية، فضلاً عن التغييرات التي تم إدخالها في أعضاء فريق الإدارة الثانية وتغير بعض الحكومات في أوروبا، وهو ما أدى بدوره إلى حدوث تقارب أكبر بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني.

في حين ترتكز التفسيرات الواقعية للتقارب عبر الأطلسي في المرحلة الثالثة ـ بالأساس ـ على أسباب أمريكية وعوامل أوروبية، فقد تمثل السبب الأمريكي الأول بأن تكلفة توجيه الولايات المتحدة الأمريكية ضربة عسكرية لإيران في ظل إدارتي أوباما الأولى والثانية أصبحت أعلى كثيراً من الفوائد المتوقعة مما كانت عليه في إدارة بوش الأولى والثانية. أما السبب الثاني فتمثل بإدراك الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين أن الوقت لا يزال متاحاً لإمكان التوصل إلى تسوية سلمية مع إيران قبل اللجوء إلى عمل عسكري عواقبه قد تكون أسوأ من المتوقع. في حين تمثل السبب الثالث والأهم بالعامل الإسرائيلي الذي لا يمكن إغفاله بتفسير السلوك الأمريكي تجاه طهران، والذي كان يدفع باتجاه ضربة عسكرية تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. أما في ما يتعلق بأوروبا فقد تمثل العامل الأول بشعور أوروبا بدرجة أكبر من الجانب الأمريكي بتناقص أهميتها الاستراتيجية في فترة إدارة أوباما الأولى، وذلك على النقيض من الشقاق الغربي الذي حدث أثناء إدارتي بوش الأولى والثانية، وهو ما خلق بدوره رغبة مشتركة من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا في التوحد والتوافق بشكل أكبر لمواجهة تحديات العالم الجديد. في حين تجسد العامل الثاني بتبلور قناعة لدى الدول الأوروبية في بدايات عام 2012 مفادها أن عملية التفاوض مع طهران قد تمتد إلى ما لا نهاية، ولهذا وجدت أن التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في تشديد العقوبات على إيران هو الوسيلة الوحيدة لإجبار النظام السياسي الإيراني على تقديم تنازلات في الملف النووي من خلال عزله اقتصادياً.

أما التفسيرات الليبرالية للتقارب عبر الأطلسي في المرحلة الثالثة فترتكز على حقيقة أن إدارة أوباما الأولى اعتنقت مبدأ التعددية الفاعلة في العلاقات الدولية وهو المبدأ الذي تعتنقه دول الاتحاد الأوروبي في علاقاتها مع العالم الخارجي. أما تفسير استمرار إدارة أوباما في نهجها الدبلوماسي في ما يتعلق ببرنامج إيران، رغم الضغوط الإسرائيلية المتكررة لدفع واشنطن إلى مهاجمة إيران عسكرياً، وصولاً إلى إبرام اتفاق جنيف في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، فيستند إلى ثلاثة عوامل رئيسية؛ يتمثل العامل الأول باختيار إدارة أوباما الثانية للفريق الأمني، الذي اتجه إلى تجنب الحرب أو العمل العسكري في الأزمات الخارجية. أما العامل الثاني فيتمثل بانتصار المدرسة الثالثة في الفكر الأمريكي تجاه الملف النووي الإيراني التي قامت على السماح لإيران بتخصيب محدود وآمن لليورانيوم في مقابل الدخول الكامل لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة النووية إلى برنامجها النووي. في حين يتمثل العامل الثالث والأهم في الرأي العام الأمريكي الرافض للتدخل العسكري الأمريكي في إيران والداعم للخيار الدبلوماسي في حل الأزمة. ويمكن تفسير بلوغ تقارب أوروبا مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى ذروته حول برنامج إيران النووي باتفاق جنيف من خلال عاملين: العامل الأول هو اعتناق إدارة أوباما المنظور الأوروبي في التفرقة بين «الإصلاحيين» و«الراديكاليين» في إيران، أما العامل الثاني فهو أزمة اليورو الأوروبية التي وضعت قيوداً هائلةً على العلاقات عبر الأطلسية، وحاولت أوروبا من خلال الأزمة النووية إثبات أنها لا تزال شريكاً فاعلاً للولايات المتحدة الأمريكية في البيئة الدولية المتغيرة.

وخلص الباحث في النهاية إلى نتيجة مفادها أن المحافظة على قوة زخم الاتفاق المؤقت (اتفاق جنيف في تشرين الثاني/نوفمبر 2013) قد تكون أصعب من بلوغ الاتفاق ذاته في ظل غضب إسرائيلي من مضمونه وانتقاد الجمهوريين الصارخ للاتفاق وسعيهم إلى دفع الكونغرس الأمريكي إلى فرض عقوبات إضافية على إيران قد تعرقل وتعكر الجولات الأصعب من المفاوضات في الشهور القادمة، وأيضاً في ضوء حذر دول الخليج العربية من التقارب الأمريكي ـ الإيراني، الذي قد يكون على حسابها وعلى حساب حلفاء واشنطن التقليديين في منطقة الشرق الأوسط.

ثالثاً: الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي

يمكن تقسيم البحث في هذا الموضوع إلى ثلاث مراحل: شهدت المرحلة الأولى (2000 ـ 2005) امتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن التدخل بشكل حقيقي في الصراع، حتى لو تدخلت بشكل لفظي، في مقابل تدخل أوروبا بشكل هامشي بسبب مشاركتها في اللجنة الرباعية وفي ترتيبات الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة بموافقة أمريكية. بينما شهدت المرحلة الثانية (2006 ـ 2008) تقارباً عبر أطلسي بعد فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية البرلمانية في 2006 والانقسام الفلسطيني في 2007. في حين شهدت المرحلة الثالثة (من نهاية 2008 وحتى نهاية عام 2013 وبداية عام 2014) مزيداً من التقارب عبر الأطلسي الذي تبلور في محاولة إدارة أوباما الأولى التدخل بقوة لتسوية الصراع في أول عامين لها، مصحوباً بدعم من أوروبا ثم امتناعها عن التدخل، بهدف التوصل إلى تسوية لمدة ما يقرب من ثلاث سنوات بسبب التعنت الإسرائيلي من ناحية، وضغوط اللوبي اليهودي في الكونغرس من ناحية أخرى، ثم محاولتها إحياء المفاوضات من جديد مع خفض سقف التوقعات حول سيناريوهات التسوية السلمية للصراع.

ودارت الأسباب الواقعية للسياسات عبر الأطلسية تجاه الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي من عام 2000 حتى عام 2008 (عهد جورج دبليو بوش) حول امتناع إدارة بوش الأولى عن التدخل في الصراع في البداية ثم اضطرارها إلى التدخل بشكل خطابي وبلاغي في الصراع كورقة مساومة مع كلٍ من أوروبا والعرب من أجل تأمين دعمهم لها في حربها العالمية ضد الإرهاب، وخاصة في أفغانستان، واستعداداتها للحرب في العراق. ولكن في الواقع العملي، كانت درجة الانسجام في العلاقات بين إدارة بوش وحكومة شارون قد وصلت إلى ذروتها، حيث انبرى العديد من المحللين إلى القول إن إدارة بوش تطابقت رؤيتها للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي مع رؤية حكومة إرييل شارون بشكلٍ كامل. وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، وافق الاتحاد الأوروبي دوماً على أن يؤدي دوراً مكملاً للولايات المتحدة الأمريكية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. لكن عندما وصلت عملية التسوية السلمية للصراع إلى طريق مسدود وفضلت إدارة بوش سياسة عدم التدخل آنذاك، سعت أوروبا إلى تأدية دور سياسي أكبر في الصراع. لذلك، وفي غياب الممانعة من الإدارة الأمريكية من حيث المبدأ آنذاك، انضم الاتحاد الأوروبي إلى اللجنة الرباعية الدولية وشارك في صوغ خطة خارطة الطريق. إلا أن المشاركة الأوروبية في الصراع ظلت هامشية في جوهرها، إذ لم تتبلور سياسة خارجية وأمنية أوروبية موحدة، ولأن كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ظلتا رافضتين منح أوروبا أي دور حقيقي وملموس في الصراع.

تجسدت الأسباب الليبرالية للسياسات عبر الأطلسية تجاه الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي في الفترة من عام 2000 حتى عام 2008 (عهد بوش) في تأثير أيديولوجية المحافظين الجدد واللوبي اليهودي والكونغرس الأمريكي في إدارتي بوش الأولى والثانية. أما في ما يتعلق بأوروبا، فقد ظلت تعاني ثنائية كونها عملاقاً اقتصادياً، وفي الوقت نفسه قزماً سياسياً، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وظل الطابع عبر الحكومي هو السمة الغالبة للسياسات الأوروبية تجاه هذا الصراع، في حين دارت الأسباب البنيوية للسياسات عبر الأطلسية تجاه الصراع من عام 2000 حتى عام 2008، أساساً، حول تأثير القيم والرأي العام والثقافة الاستراتيجية في سلوك كلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على حد سواء.

ترتكز الأسباب الواقعية لتدخل إدارة أوباما الأولى القوي في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على رغبتها في التخلص من إرث ثماني سنوات أمضتها إدارة بوش في الشرق الأوسط. فقد أدركت إدارة أوباما الأولى أن التوصل إلى تسوية سياسية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو المدخل الأكبر إلى استعادة مكانة وصدقية الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، وكذلك إلى حل أزمات أخرى مثل التهديد النووي الإيراني والتهديدات الإرهابية لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. إلا أن ثورات الربيع العربي ودخول إدارة أوباما الأولى في عام الانتخابات الرئاسية 2012، وتعنّت الحكومة الإسرائيلية وضغوط اللوبي اليهودي جعلها تتراجع عن التدخل النشط في الصراع الذي كانت قد سلكته في البداية. ومع بداية ولايتها الثانية، حاولت إدارة أوباما من خلال جهود وزير خارجيتها جون كيري التدخل من جديد في الصراع واستطاعت جمع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في تفاوض مباشر استمر تسعة أشهر.

وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، أيدت أوروبا بحماس تدخل أوباما في عملية السلام في الشرق الأوسط بسبب تناقص قوتها النسبية في العالم. لذلك رأت دول الاتحاد الأوروبي أن العمل جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية يمثل حجة قوية لإلقاء أعبائها الاستراتيجية على أكتاف الولايات المتحدة الأمريكية. إضافة إلى ذلك، دفعت زيادة الانقسام الداخلية الأوروبية حول الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي إلى أن تفضل أوروبا البقاء تابعاً للولايات المتحدة الأمريكية. وزاد من هذه القناعة الأوروبية إدراكها أن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية لن يسمحا لأوروبا أن يكون لها أي دور في الصراع ما لم يتوافق ذلك مع الخطط الأمريكية.

نخلص إلى أن السياسات الأمريكية ـ الأوروبية تجاه هذا الصراع شهدت نمط القائد (الولايات المتحدة الأمريكية) ـ التابع (أوروبا)، رغم إدراكاتهم المختلفة للصراع ولحقيقة وجود مؤشرات عديدة على أن احتمالات توصل الطرفين إلى اتفاق أو تسوية لا تزال محدودة جداً. وتتمثل أهم المؤشرات، على سبيل المثال لا الحصر، بمطالبة إسرائيل بضم المستوطنات التي كانت قد بنتها في الضفة الغربية والاحتفاظ بسيطرتها العسكرية الكاملة على غور الأردن، الحدود الشرقية للدولة الفلسطينية المرتقبة مع الأردن، وبضرورة اعتراف السلطة الفلسطينية بيهودية الدولة الإسرائيلية، وهي أمور ترفضها السلطة الفلسطينية بشدة. بينما يتمثل المؤشر الثاني بأن حكومة بنيامين نتنياهو انتُخبت على أساس التزامها توسيع الاستيطان في الضفة الغربية، بل إن بعض وزرائها يطالبون علناً بضم الضفة الغربية إلى إسرائيل بشكل دائم، ورغم أن نتنياهو كان قد وافق لفظاً على حل الدولتين إلا أن كل أفعاله تشير إلى النقيض من ذلك، وتضغط حكومته على اللوبي الصهيوني لمنع أي ضغوط من إدارة أوباما على حكومته في هذا الصدد.

في حين يتمثل المؤشر الثالث بتكليف القيادة الفلسطينية في اجتماعها الأخير في 26 كانون الثاني/يناير 2014 بدراسة الخيارات الفلسطينية في حال فشل جهود كيري في التوصل إلى «اتفاق إطار» قبل نهاية مهلة الأشهر التسعة وسعيه إلى تمديد المفاوضات حتى نهاية العام. وخلصت نتائج هذا الاجتماع إلى إقرار فلسطيني بعدم جدوى المفاوضات مع إسرائيل بسبب تعنت نتنياهو في مواقفه ورفضه تقديم أي تنازلات في قضايا مفاوضات الوضع النهائي الست، بل على النقيض، أضاف مسألة الاعتراف بيهودية إسرائيل إلى جدول أعمال المفاوضات، فضلاً عن استمرار الاستيطان في الضفة الغربية، وتهويد مدينة القدس. كما رفض المجتمعون بالإجماع تمديد المفاوضات يوماً واحداً بعد انتهاء مدتها المحددة في 29 نيسان/أبريل 2014.

أما المؤشر الرابع والأخير فيتمثّل بما كشف عنه المبعوث الأمريكي مارتن من الخطوط العريضة لاتفاق إطار يسعى كيري إلى إقناع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني بقبوله، وينص على إقامة دولة فلسطينية على أساس حدود عام 1967 مع تبادل للأراضي والإبقاء على 80 بالمئة من المستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية، من دون أن يحدد نسبة التبادل. كذلك ينص اتفاق الإطار المزمع على أن يقوم الجانب الفلسطيني بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل. ولم يشر نص الاتفاق إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم التي هجّروا منها، واستبدال ذلك بتعويضهم مادياً، كما لم يشر إلى ملف مدينة القدس بالتفصيل، وإنما اكتفى بذكر مبادئ عامة وطموحات الطرفين بشأنها. فقد كشف طرح كيري في اتفاق إطار، يحدد العناوين العريضة لقضايا الوضع النهائي، تمهيداً للتفاوض بشأنها لمدة عامين، وذلك قبل الانتقال إلى خطوة تفاوض الطرفين خلال خمس سنوات أخرى، قابلة للتمديد غير المحدد بسقف زمني، عن نية الإدارة الأمريكية، سواء بالضغط أو التهديد، قطع المساعدات المالية عن السلطة الفلسطينية، لنيل إقرار فلسطيني بمضامين خطتها، عبر الموافقة على بقاء جيش الاحتلال لسنوات ممتدة في منطقة الأغوار، وضمّ الكتل الاستيطانية الكبرى التي تقتطع نحو 12 بالمئة من مساحة الضفة الغربية المحتلة، وبقاء السيطرة الإسرائيلية على المعابر والحدود والمواقع الأمنية في الضفة الغربية، واستثناء القدس المحتلة من الحل النهائي.

وفي النهاية، يرى الباحث أنه من المستبعد توصل إسرائيل والسلطة الفلسطينية إلى اتفاق نهائي أو تسوية نهائية في الوقت الحالي، وربما لفترة طويلة قادمة، مع إصرار إسرائيل على اعتراف فلسطين بالدولة اليهودية، في حين ترفض السلطة الفلسطينية والعرب ذلك. ويرى الكاتب أن ما سيحدد مستقبل القضية الفلسطينية هو مستقبل النظام العربي نفسه بعد ثورات الربيع العربي. فإذا أدت نتائج هذه الثورات في النهاية إلى تفتت الوطن العربي والبلدان العربية ستبقى كلمة إسرائيل هي العليا، أما إذا استعاد النظام العربي عافيته فسيفرض شروط تسوية عادلة لهذه القضية في المستقبل، فالذي يحدد نتائج المفاوضات هو مقومات وعناصر القوة لدى كل طرف، وليس الحقوق العادلة التي يسعى الطرف الفلسطيني أو العربي إلى الحصول عليها.

رابعاً: ثورات الربيع العربي

كانت ثورات الربيع العربي في جانب كبير منها نتيجة مباشرة لفشل الغرب في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، إذ عمل الغرب والأنظمة العربية المعتدلة معاً، عقب اتفاقيات أوسلو، على وعود غربية بحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي وتحقيق رفاهية وازدهار اقتصادي في الشرق الأوسط. إلا أنه بعد ما يقرب من أربعة عقود لم تتحقق أي من تلك الوعود، وهو ما ساهم بشكل كبير في تدهور شرعية الأنظمة العربية المتحالفة مع الغرب، وذلك بالتزامن مع تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للشعوب العربية الذي أنتج في نهاية المطاف العديد من الثورات العربية في الشرق الأوسط.

ويرى الباحث في هذا الصدد أن واشنطن وبروكسل كانتا قد توصلتا إلى قناعة مفادها أن المنطقة العربية لم تعد جثة هامدة بلا حراك، يحكمها عدد قليل من الأنظمة القائمة على حكم الفرد، وأن الرأي العام العربي والشعوب العربية أصبحت هي العامل الحاسم في مستقبل العلاقة بين شرق أوسط ما بعد الربيع العربي وبين الغرب، سواء أدت هذه الثورات إلى دمقرطة الوطن العربي أم لا. وانطلاقاً من هذه القناعة اعتمدت كلٌّ من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على التعامل بشكل (تكتيكي) مع كل ثورة على حدة بهدف تقليل الخسائر وتعظيم المكاسب المتوقعة، وهو ما أنتج بدوره ردود فعل مختلفة، وأحياناً متعارضة تجاه ثورات الربيع العربي المختلفة. فقد لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى التعامل مع كل حالة على حدة، بينما لجأت أوروبا إلى فكرة دعنا ننتظر ونرى.

وقد نتج هذا التباين في ردود الفعل الغربية تجاه الثورات العربية أساساً من تبني الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا فكرة ضرورة الاستجابة لتطلعات الشعوب العربية في الحرية والديمقراطية (في تونس ومصر وليبيا) لأنها أدركت أن أنظمة هذه الدول لن تستطيع الصمود، سواء أراد الغرب ذلك أم لم يرد، وفي الوقت نفسه الحفاظ على علاقاتها الوثيقة مع الأنظمة الخليجية، ومن ثم غض الطرف عن الثورات في اليمن والبحرين، فضلاً عن تأجيل التدخل الحاسم في «الثورة السورية» التي تحولت في النهاية إلى حرب أهلية. فقد أدركت إدارة أوباما ومعظم الدول الأوروبية حقيقة أنها لا يمكنها أن تتحكم في نتائج هذه الثورات، ولهذا سعت إلى التأكد من أن تصبح الأنظمة الجديدة، التي قد تحل محل الأنظمة القديمة في الشرق الأوسط، متسقة ومتعاونة مع الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها في المنطقة. ولذلك سعت كل من الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية إلى التعاون والتنسيق مع القوى الإسلامية المعتدلة، التي هي مستعدة للحفاظ على المصالح الاستراتيجية الغربية في الشرق الأوسط.

فقد سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى البحث عن حلفاء جدد في داخل المجتمع السياسي المصري ووجدت ضالتها المنشودة في الإخوان المسلمين كتنظيم إسلامي معتدل وبراغماتي يمكن أن يكون حليفاً مستقبلياً للإدارة الأمريكية. وفي حالات أخرى، حافظت الولايات المتحدة الأمريكية على تحالفاتها القديمة مع الأنظمة في دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك على حساب دعم الديمقراطية في البحرين واليمن. وفي الحالة الليبية، فضلت الولايات المتحدة الأمريكية القيادة من الخلف، وفي الحالة السورية فضلت الخيار الدبلوماسي في إنهاء الحرب الأهلية السورية وفي إسقاط نظام بشار الأسد من دون جدوى حقيقية. بينما فضلت دول الاتحاد الأوروبي اللجوء إلى تعديل وإحياء سياسة الجوار الأوروبي لكي تصبح أكثر فعالية في التعامل مع الربيع العربي.

وفي الحصيلة، تمثّلت النتيجة النهائية للسياسات الأمريكية ـ الأوروبية تجاه ثورات الربيع العربي بتناقص النفوذ الغربي في الشرق الأوسط في مقابل تزايد النفوذ الروسي والصيني، وبخاصة في الأزمة السورية والأزمة النووية الإيرانية، وإغضاب الولايات المتحدة الأمريكية لحلفائها القدامى (مصر ودول الخليج العربي) دون اكتسابها حلفاء جدداً، وتزايد الرفض الشعبي العربي للسياسات الغربية في الشرق الأوسط، وفشل الرهان الغربي على القوى الإسلامية المعتدلة، وفقاً للمنظور الأمريكي، في التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط، وقبول الغرب بالأمر الواقع للموجة الثانية من الثورة المصرية ومحاولة الإبقاء على حلفائها قدر الإمكان في المنطقة.

خامساً: الرؤية العربية للسياسات الأمريكية ـ الأوروبية

استناداً إلى مقابلات شخصية أجراها الباحث في نهاية عام 2009 وبداية عام 2010 في كل من مصر والأردن، توصل إلى النتائج التالية: كانت الرؤية العربية العامة لسياسات إدارة جورج دبليو بوش على مدار ثماني سنوات رؤية سلبية جداً، وكانت إسرائيل المتغير المستقل في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط. بينما كانت الرؤية العربية العامة للسياسات الأوروبية في الشرق الأوسط على مدار ثماني سنوات تابعة وغير مستقلة عن الدور الأمريكي. ورغم كونها إيجابية وأكثر اتزاناً في مضمونها عن الموقف الأمريكي، إلا أنها لم تكن مؤثرة في مجرى الأحداث على أرض الواقع، وكانت في تناحر دائم بين الواقعية الأوروبية وارتباط أوروبا التاريخي والجغرافي بمنطقة الشرق الأوسط من ناحية، وبين ارتباط أوروبا بالولايات المتحدة الأمريكية في إطار حلف الناتو من ناحية أخرى، ولكنها في نهاية المطاف كومبارس يسير في فلك السياسة الأمريكية. وفي الخلاصة هناك رؤية عربية ترى أن أوروبا أقرب إلى التوافق مع الولايات المتحدة الأمريكية رغم وجود خلافات هامشية وثانوية، وأن السياسات الأوروبية في الشرق الأوسط هي في نهاية الأمر تابعة للسياسات الأمريكية. وحتى إن بدا أن هناك تمايزات بينهم كحلفاء فهي تكون في الأغلب حول الوسائل والأدوات لا حول الأهداف الاستراتيجية.

أما في ما يتصل بالأزمة العراقية، فقد اتفق معظم المحللين على أن الخلافات الأوروبية ـ الأمريكية حول العراق كانت خلافات آنية، وليست حول الهدف، وإنما كانت تتعلق بالأدوات والوسائل. وكان هناك شبه إجماع بين المبحوثين على أن التقارب الأوروبي مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب كان دافعه الأول اقتصادياً (الحصول على جزء من الكعكة العراقية)، بينما التقارب الأمريكي مع أوروبا كان دافعه الأول تأزم موقفها في العراق ورغبتها في مساعدة حلفائها الأوروبيين لها على تحمل جزء من العبء العسكري والاقتصادي.

أما بالنسبة إلى البرنامج النووي الإيراني، فقد اتفق معظم المبحوثين على أن التوافق الأمريكي ـ الأوروبي كان ـ بالأساس ـ حول خطورة امتلاك إيران سلاحاً نووياً، إلا أن التباين كان حول أساليب الحل وأدواته. فبينما تمسكت أوروبا بالحوار والمفاوضات، كانت إدارة بوش مع العقوبات واستخدام القوة ضد طهران. واتفق معظم المحللين أيضاً على أن الهدف الغربي موحد، ويتمثل بمنع قيام أي قوة إقليمية وذات نفوذ في الشرق الأوسط، وأن المسموح به فقط هو أن تكون إسرائيل هي القوة الإقليمية الوحيدة بحكم طبيعتها كحارس للمصالح الإمبريالية الغربية. أما في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، نخلص إلى أن هناك اتجاهاً عربياً غالباً يرى أن التوافق الأمريكي ـ الأوروبي وتبعية أوروبا للولايات المتحدة الأمريكية هو أكبر وأكثر وضوحاً من أي قضية أخرى في الشرق الأوسط. ويرجع هذا أساساً إلى العامل الإسرائيلي الموحد والضاغط على الطرفين، حيث تتفق الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على حماية أمن إسرائيل، وإن اختلفتا حول الوسيلة الفضلى لذلك.

وقد أجريت مقابلات شخصية في نهاية عام 2013 وبداية 2014 مع سبعة مفكرين مصريين (من العيّنة السابقة نفسها) وثلاثة مفكرين فلسطينيين وأكاديمي إيراني، بهدف استكشاف ملامح التغيير في إدراك وتصورات العرب للسياسات الأمريكية ـ الأوروبية في الشرق الأوسط بعد ثورات الربيع العربي وحتى الآن، وقد توصل الباحث إلى النتائج التالية:

اتفق معظم المحللين على حقيقة أن هناك تناقصاً في النفوذ الأمريكي في العالم بصفة عامة، وفي الشرق الأوسط بصفة خاصة، ومحاولة غربية لاختطاف الثورات العربية وتغيير وتفتيت المنطقة العربية. بمعنى آخر، اتفق المحللون على أن الهدف الغربي الأكبر تمثل بتطويع واختطاف نتائج ثورات الربيع العربي لتتوافق مع المصالح الغربية، وذلك من خلال إضعاف الكيانات الداخلية للبلدان العربية تمهيداً لتقسيمها، ومن ثم ذهاب أي تأثير لمنطقة الشرق الأوسط في العالم. بينما استمر المحللون في تأكيد حقيقة أن السياسات الأوروبية ما زالت تدور في فلك السياسة الخارجية الأمريكية، وأن الجديد الذي أكده معظم، إن لم يكن كل، المبحوثين تمثل بالتوافق الأوروبي التام الذي وصل إلى درجة التماهي مع المواقف الأمريكية، إضافة إلى تناقص وزن أوروبا النسبي في العالم بصفة عامة، وفي الشرق الأوسط بصفة خاصة.

عراقياً، أكد معظم المبحوثين حقيقة أن الجديد في الشأن الإيراني تمثل بتعاظم نفوذه إلى حدٍ كبير، وذلك على عكس المخطط الأمريكي الذي تدخل في العراق في البداية بهدف حصار إيران. كما رأى معظم المحلّلين أن العراق الآن منقسم على نفسه ما بين دولة كردية ودولة شيعية ودولة سنية بفعل السياسات الأمريكية، وأن الغرض الأساسي للولايات المتحدة الأمريكية كان تدمير القوة العراقية وتصفية نفوذها الإقليمي، وهو ما يصب في نهاية المطاف في مصلحة إسرائيل، وذلك من خلال وضعها لجرثومة الفتنة الطائفية في العراق بهدف تفتيته، وهي تسير على النهج نفسه في سورية الآن.

وفي ملف إيران النووي، رأى المحللون أن الجديد تمثل بظهور لحظة تقارب غربي ـ إيراني تحاول إسرائيل إفسادها، ولكن إيران ستنجح في نهاية المطاف في استخدام برنامجها النووي كوسيلة لفرض نفسها كقوة إقليمية في الوطن العربي. وفي ما يتعلق بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، تمثل الجديد بتزايد تشاؤم المفكرين العرب حول إمكان تحقق تسوية لهذا الملف في ضوء التعنت الإسرائيلي السافر، والانحياز الأمريكي الفاضح إلى المطالب الإسرائيلية، والانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني والعجز العربي عن الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لتغيير مواقفهما. وتكفي الإشارة إلى أنه في أقل من عام ومنذ بداية عملية التفاوض الفلسطيني ـ الإسرائيلي من جديد في 2013 زادت وتيرة الاستيطان على الأراضي الفلسطينية بنسبة 123 بالمئة، وزاد عدد المستوطنين الإسرائيليين بنسبة تفوق الـ 20 بالمئة، وتصر إسرائيل على اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة الإسرائيلية، وهو ما يعني ترحيل مليون ونصف المليون فلسطيني عربي إلى خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة.

كتب ذات صلة:

الغرب وقضايا الشرق الأوسط من “حرب العراق” إلى ثورات “الربيع العربي”: الوقائع والتفسيرات

العراق بعد الغزو: تشرذم – ولادة جديدة – اندماج

شركاء في الجريمة: الدور البريطاني في غزو العراق / الملخص التنفيذي لتقرير لجنة تشيلكوت للتحقيق بشأن العراق