مقدمة:

كتب كارل فون كلاوزفيتز في أطروحته عن الحرب: “الحرب ليست فعلًا سياسيًا في حد ذاتها، بل امتداد لعملية سياسية وأداة لتحقيق نفس الهدف ولكن بوسائل أخرى[1]“. هذا التعريف للحرب ينطبق في سياق الحروب التقليدية كالتي شهدتها أوروبا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، غير أن صموده أمام حروب الجيل الحالي التي تجمع بين قوى مقتدرة عسكريًا وجماعات مسلحة يبدو صعبًا للغاية، فالإخفاق في تحقيق الأجندة السياسية يُخلّف فراغًا لا تملؤه إلا خيبة الأمل والفشل ورفض كل البدائل الممكنة. وقد كانت أفغانستان ساحة لهذا النوع من المعارك.

“مقبرة الإمبراطوريات”، لم يكن هناك من بلد يستحق هذا اللقب أكثر من أفغانستان، فبعد طرد المغول والفرس، طرد الأفغان المملكة المتحدة في القرن التاسع عشر، والاتحاد السوفياتي في القرن العشرين، والولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين بعد عقدين من الاحتلال. انسحبت الولايات المتحدة بعد إنفاق أكثر من تريليوني دولار على عملياتها العسكرية خلال عشرين عامًا، وخسارة معدات عسكرية حديثة للغاية، وطائرات بدون طيار، و3609 جنود من قوات التحالف، بينهم 2465 جنديًا أمريكيًا، حسب موقع أمريكي مستقل، مختص في إحصاء الخسائر البشرية المترتبة عن الحرب في أفغانستان[2]. ويبقى هذا العدد من القتلى في صفوف قوات التحالف قليلًا مقارنة بالقتلى في صفوف القوات الأفغانية التي تقدر بأكثر من 66 ألف جندي، وأكثر من 71 ألف مدني أفغاني، وأكثر من 51 ألف من قوات طالبان والميليشيا التابعة لها[3]. هذه الكارثة البشرية والمالية تترك بلدًا أسوأ حالًا مما كان عليه من قبل. فباستثناء النساء، اللواتي تحسنت حظوظهن، على الأقل في المدن، فإن “المهمة الحضارية” للغرب قد تمثلت بالصعود بأفغانستان إلى مرتبة أكبر مَصْدَر للهيروين في العالم[4].

القول بالهزيمة السياسية والعسكرية للنظام الأفغاني المدعوم من الولايات المتحدة يبدو جليًا ولا يحتاج إلى دليل، فهروب الرئيس أشرف غني ودخول قادة طالبان القصر الرئاسي وإعلان تأليف حكومة جديدة هو نصر بَيِّن، وبالتالي فتعبير “الهزيمة” يتطابق مع وضع القوات الحكومية الأفغانية. أما الولايات المتحدة الأمريكية، القوة العسكرية الأولى في العالم، فإن التقييم العسكري لمعركتها ضد حركة طالبان يحتاج إلى تريث، فطرفا هذه الحرب: دولة (أو مجموعة دول) بجيوش نظامية وأسلحة متطورة جدًا ودعم دولي، في مقابل مجموعة مسلحة، بإمكانات متوسطة (إن لم نقل ضعيفة)، لم تحظ بالاعتراف الدولي. هذا الفرق الهائل في الإمكانات لم يُمكّن قوات التحالف من حسم الحرب بصورة نهائية، ولم يدفع بحركة طالبان إلى إعلان هزيمتها أو إلى اختفائها من المشهد الأفغاني.

لعل من تجليات حروب القرن الحادي والعشرين أنها لم تُسْفِر، في مجملها، عن نصر حاسم لطرف على حساب طرف آخر. من هذه الحروب: الحرب الأمريكية في العراق وفي أفغانستان؛ حروب “إسرائيل” ضد حزب الله اللبناني وضد حركة حماس؛ الحرب في سورية بين القوات السورية النظامية والتنظيمات المسلحة الأخرى. فالنصر هو أن يُعلن أحد الأطراف وضع سلاحه واستسلامه، أو توقيع اتفاقية سلام تُتَرجِم مقتضياتها مصلحة طرف على حساب طرف آخر، بمعنى أن النصر لا يكون مؤقتًا ولا تعقُبُه عودة إلى حمل السلاح[5]. لن يفيدنا الأخذ بهذه المعايير كثيرًا في تثبيت الهزيمة العسكرية على الولايات المتحدة، غير أنه يبقى صالحًا لتقييم الانسحاب الأمريكي من الناحية السياسية.

إن عدم كسر إرادة طالبان بعد التدمير العنيف والقصف الهائل لمواقعها في الشهور الأولى للحرب، وإجبار الولايات المتحدة على توقيع اتفاقية انسحاب من أفغانستان[6]، من دون تحقيق الأهداف المعلن عنها عقب غزو أفغانستان يُعَبِّر عن فشل كبير للإدارة الأمريكية في الملف الأفغاني. لذلك فإن وصف “الفشل” الوارد في عنونة الدراسة لا ينطوي على حكم قيمي أو رأي شخصي للباحث بقدر ما يُمَثِّلُ حقائق موضوعية.

وإذا كانت الصحافة الغربية قد اصطفت وراء قول واحد في وصف الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ونعته بـ”الهزيمة” أو “الكارثة” و”الخسارة”، فهو انتقاء لفظي يتوافق والمرحلة التي تعيشها الولايات المتحدة والدول الغربية، ويليق بالحالة النفسية التي يعيشها من تعوّدوا على الانتصار الساحق، رغم أن عودة طالبان لا تعدّ انتصارًا بقدر ما تمثل رفضًا للهزيمة. فكيف تمكنت حركة طالبان من العودة إلى حكم أفغانستان، في ظل التفاوت الهائل في القدرات العسكرية والمالية بينها وبين قوات التحالف والقوات الأفغانية الحكومية المدعومة من المجتمع الدولي؟

تهدف هذه الورقة إلى مناقشة أسباب فشل الولايات المتحدة في أفغانستان، وانهيار منظومة الحكم القائمة التي ظلت تستفيد طوال عشرين عاما من الدعم الدولي والتمويل الأجنبي. وتستند هذه الدراسة إلى ستة مداخل رئيسة لفهم أسباب الفشل الأمريكي، يمكن تقسيمها إلى أسباب مرتبطة بأخطاء الإدارة الأمريكية وحلفائها: من ضمنها الاستناد إلى “رؤية مزيّفة” وافتراضات أولية “خاطئة” عن مراكز القوة والضعف في المجتمع الأفغاني، زكّتها مراكز التفكير الغربية، إضافة إلى فساد المؤسسة العسكرية في أفغانستان وهشاشة مؤسسات الدولة. وأسباب أخرى مرتبطة بمنهجية عمل حركة طالبان التي ارتكزت على استراتيجية طويلة المدى مكّنتها من استعادة نفوذها في أفغانستان، كما عملت على استغلال الفساد المستشري في الحكومة الأفغانية ومحاولة تصحيح الاختلالات القائمة لتحسين صورتها لدى العشائر الأفغانية.

تستمد هذه الدراسة أهميتها من الرهانات الجيوسياسية التي يطرحها الانسحاب الأمريكي، وأثره في إعادة تشكيل التوازنات في المنطقة، إضافة إلى المخاطر الأمنية التي يمكن أن تترتب عن هذا الانسحاب وما صاحبه من تخوف من انتشار كبير للتنظيمات المسلحة المتطرفة.

أولًا: ارتكاز العمل العسكري الأمريكي على رؤية “مزيفة” عن المجتمع الأفغاني

بعض الافتراضات الأولية التي اعتمد عليها تدخل القوى الغربية، كانت، إن لم تكن خاطئة في مجملها، مشكوك في صحتها، وقد ذهب الأستاذ لونت سايلارد (Laurent Saillard) إلى اعتبار أن صرح الحملة العسكرية في أفغانستان ارتكز بأكمله على أسس هشة تمثلت بقراءة سطحية لطبيعة المجتمع الأفغاني عقب سقوط طالبان، استخفاف واضح بمكانة الدين وتأثير رجاله في المجتمع، افتراض خوف السكان من رؤية المجاهدين السابقين يستولون على السلطة، عدم التمييز بين القاعدة وطالبان، إضافة إلى غياب إطار سياسي للتدخل العسكري[7]، بحيث ارتكزت فكرة محاربة الإرهاب على البعد العسكري وإهمال الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية التي شكلت بعض أجزاء اللغز الأفغاني الرئيسية التي تم التغاضي عنها أو أُسيء فهمها منذ البداية.

هذه الرؤية “الخاطئة” عن أفغانستان تم إنتاجها من قبل مراكز التفكر (Think Tanks)، والإدارات، والجامعات، والمنظمات غير الحكومية الدولية والأفغانية. لقد صورت التقارير والمقالات والأعمال التي سبقت التدخل الأجنبي في أفغانستان المجتمع الأفغاني على أنه مجتمع قبلي في تمثله لمصلحته ومقاوم لأي شكل من أشكال وجود الدولة على الرغم من تناقضها مع التاريخ الحديث.

عشية تعيينه كرئيس للقوات الغربية في سنة 2009، قال الجنرال ستانلي ماكريستال: “إن المظالم التاريخية تعزز الروابط مع الهوية القبلية أو العرقية، ويمكن أن تقلل من جاذبية الدولة المركزية. جميع المجموعات العرقية، ولا سيما البشتون، سعت تقليديًا إلى الحصول على بعض الاستقلال عن الحكومة المركزية[8]“. لقد قارن بين الدولة “البعيدة” و”غير الشرعية” و”المصطنعة” وبين الجماعة أو القبيلة “القريبة” و”الشرعية” و”الطبيعية”. وكثيرًا ما استخدمت المؤسسات المسؤولة عن “التنمية”، مثل المؤسسة العسكرية، هذه الكليشيهات لتجاوز الدولة القائمة. وباسم شرعية التجمعات الصغيرة (الجركة، الشورى) بررت هذه المؤسسات عدم تنسيقها مع السلطة الوطنية الأفغانية وارتكازها على البعد الجهوي أو المحلي عوض البعد الوطني. تعاملت المنظمات الدولية بدورها في توزيعها للمساعدات الدولية تبعًا لنفس المنطق، حيث وزّعت المساعدات على زعماء العشائر عوض تسليمها إلى السلطات المحلية. هذا التركيز المبالغ فيه على البعد المحلي أدى في نهاية المطاف إلى إضفاء الطابع العرقي على السياسات العامة. لقد تم تقديم أفغانستان كدولة قبائل من منطلق رؤية استشراقية مستوحاة من إعادة قراءة النصوص الإثنوغرافية من الفترة الاستعمارية، لوضع أنثروبولوجيا مزيفة في خدمة الحرب[9].

مونتغمري ماكفيت (Montgomery McFate)  (باحثة أمريكية في الأنثروبولوجيا)، التي أدلت بهذه الملاحظات في سنة 2006، أنشأت نظام التضاريس البشرية (Human Terrain System)، الذي يهدف إلى دمج المتخصصين في الأنثروبولوجيا (رغم أنهم يحملون في الواقع درجة البكالوريوس أو الماجستير في العلوم الاجتماعية) داخل الوحدات الأمريكية[1]. وقد بدأ الجيش الأمريكي يدرك، منذ سنة 2005، بعد تعثره في الأراضي الأفغانية والعراقية، عقب العمليات العسكرية في هذه الدول، أن هذا النكوص يرجع في جزء كبير منه إلى سوء فهم لما أصبح يُطلق عليه، قياسًا على التضاريس بالمعنى الجغرافي، بـ”التضاريس البشرية”. لقد أرجع الأمريكيون الهزائم المتتالية التي واجهتها الجيوش الغربية في حملتها لمكافحة التمرد مند نهاية الحرب الباردة إلى الجهل العميق بهذه “التضاريس البشرية”[10].

كان الهدف المعلن لنظام التضاريس البشرية هو توفير معلومات من المرجح أن تحد من استخدام القوة لمصلحة أشكال أخرى من العمل بما يتماشى مع توقعات السكان: استعادة الخدمات العامة، تنزيل مشاريع التنمية. وقد اقترحت الباحثة الأمريكية مونتغمري ماكفيت، التي كانت قد ساهمت في كتابة دليل مكافحة التمرد، مشاركة الجيش الأمريكي في النزاعات الاجتماعية من أجل تكوين حلفاء وجمع المعلومات الاستخبارية تطبيقًا للقاعدة التالية: “اذهب أولًا في اتجاه السكان المحليين، وليس عكس التيار، اكسب ثقة بعض القرى، ثم اعمل مع من يتاجرون معهم أو يتزوجون منهم. هذا التكتيك يجعل من الممكن الحصول على حلفاء محليين، وسكان معبئين وشبكات ثقة”. وتختلف أنشطة البحث العملياتي التي يقوم بها الباحثون عن العمل التي تقوم به الاستخبارات، في أن فِرَقْ التضاريس البشرية تلتزم بجمع المعلومات فقط عندما يتحدث الشخص من تلقاء نفسه، وهو اختلاف ملحوظ عن العمل الاستخباري الذي يقوم على جمع البيانات وتحليلها داخل الاستخبارات العسكرية لتحديد أهداف العدو وتدميرها من خلال محاولة الحصول على إجابات عن الأسئلة الكلاسيكية التالية: من هم الأعداء؟ أين هم؟ ما أساليب عملهم؟ ما نوع وعدد الأسلحة التي بحوزتهم؟[11].

ثانيًا: فساد المؤسسة العسكرية

كشف انسحاب للولايات المتحدة عن وجود فساد في المؤسسة العسكرية الأفغانية، فقدرات الجيش الأفغاني المصرح بها، والمتمثلة بثلاثمئة ألف من أفراد قوات الأمن، بينهم خمسون ألف جندي من القوات الخاصة، تفوق كثيرًا عدد مقاتلي حركة طالبان وتؤهل القوات الحكومية لاكتساح متمردي طالبان. لقد شكك الأمريكيون في هذا الرقم واعتبروا أن السلطات الأفغانية قد ضخمت الأرقام بـاحتساب “كتائب أشباح”، لرفع الفاتورة التي تدفعها الولايات المتحدة. وبحسب جريدة لوموند الفرنسية، فإن هناك 46 كتيبة وهمية، قوام كل واحدة منها 800 رجل. حقيقة الأرقام كشفتها المعارك. وقد زاد من تزييف واقع الجيش الأفغاني قبول السلطات العسكرية الأمريكية منذ سنة 2017 طلب الرئيس أشرف غني بعدم الإعلان عن أرقام الخسائر في صفوف قوات الأمن الأفغانية، ولا عدد الفارّين، الملتحقين بصفوف طالبان. ووفقًا لخبراء الناتو، فإن القوات الأفغانية الخاصة كانت أكثر احترافية من القوات النظامية الأخرى غير أنها عانت نقصًا كبيرًا في التعزيزات والدعم اللوجستي، فقد كانت خطوط الإمداد كبيرة للغاية بالنسبة إلى قدرات الجيش الأفغاني الجوية، كما أن صعوبة الممرات البرية حالت دون وصول الإمدادات بشكل منتظم. نتيجة لذلك اضطر عدد من الجنود في كثير من الأحيان إلى الاستسلام، أو حتى الفرار، ليس لعجزهم عن القتال بل بسبب نقص الذخيرة والعتاد. كما كانت طالبان تضمن سلامة من يتوقف عن القتال كشكل من أشكال التحفيز[12].

وكان من مظاهر الفساد أيضًا تورط بعض المسؤولين الحكوميين في تجارة المخدرات على نحو كبير. من هؤلاء المسؤولين حاكم ولاية هلمند الذي عُزِلَ من منصبه بعد مصادرة 9 أطنان من الأفيون سنة 2005 عُثِرَ عليها في مقر إقامته. وكردّ فعل منه على عزله من منصبه دفع بثلاثة آلاف من أتباعه إلى الالتحاق بطالبان. كما طالت الشُبهات بعض كبار المسؤولين المركزيين مثل اللواء داود، نائب وزير الداخلية المكلف بمكافخة المخدرات من 2004 إلى 2010، الذي كان يستهدف، حسب تقرير لوموند، الشبكات التي تتنافس مع من يحميهم[13].

ومن الحقائق المغيَّبة في الخطاب الإعلامي الرائج حاليًا أن الخشخاش الذي تم حضر زراعته في المرحلة الأولى لحكم طالبان بفتوى من الملا محمد عمر، أصبح مرة أخرى المصدر الرئيسي للهيروين في العالم خلال العشرين سنة المنصرمة. وبخلاف أوروبا التي عانت خلال العقدين المنصرمين من الهيروين الأفغاني، فإن المكسيك هي المصدر الرئيسي للهيروين الرائج في الولايات المتحدة، وهو ما يبرر التقاعس الأمريكي عن محاربة تجارة المخدرات في أفغانستان[14].  وقد قدر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أنه من محصول الأفيون لسنة 2017، يمكن إنتاج 550 إلى 900 طن من الهيروين عالي الجودة القابل للتصدير ما أدى إلى توسّع سريع في الاقتصاد غير المشروع في أفغانستان؛ من 4.1 إلى 6.6 مليار دولار في سنة 2017، أي ما يعادل 20 و32 بالمئة من الناتج الداخلي الخام. لقد تجاوزت قيمة الاقتصاد الأفيوني في أفغانستان كثيرًا قيمة الصادرات المشروعة للسلع والخدمات في أفغانستان سنة 2016 (7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي) وخلقت المواد الأفيونية اقتصادًا غير قانوني يتخلل المجتمع الريفي حيث أصبحت العديد من المجتمعات – وليس المزارعين فقط – تعتمد على دخل خشخاش الأفيون للحفاظ على سُبُلِ عيشهم. وقال مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة: “إن ذلك له تكلفة، لأن الاقتصاد غير المشروع يثبط الاستثمار الخاص والعام المتوجس من تأجيج انعدام الأمن والعنف والتمرد[15]. ونتيجة لضعف الموارد البديلة، فقد تُرك الفلاحون تحت رحمة أمراء الحرب، كما امتهنوا، طوعًا أو كرهًا، زراعة الخشخاش المربحة. وفي نفس الوقت تزايد الطلب على هذه النباتات من قبل الدول المتقدمة، وبخاصة الدول الغربية[16].

عامل مهم آخر ساهم في اكتساح حركة طالبان للأراضي الأفغانية، وهو انسحاب الجيش الأمريكي السريع بين أيار/مايو وتموز/يوليو 2021، فطالبان التي لم تكن تملك إلا طائرات استطلاع أضحت تتحرك بحرية أكبر، بعد تنفيذ هذا الانسحاب في ظرف شهرين وهو ما أربك السلطات الأفغانية وأضعفها بصورة كبيرة وحرم الجيش الأفغاني من مظلة سلاح الجو الأمريكي. ولم يكن سلاح الجو الأفغاني، الذي كان يفتقر إلى الطيارين والصيانة، قادرًا على توفير غطاء مماثل. إضافة إلى ذلك، فإن مخزونها من “القنابل الذكية”، الذي كان من المقرر أن يستمر حتى نهاية آب/أغسطس، نفد بحلول منتصف تموز/يوليو. كما أن الاتفاقات التي تم التوصل إليها في حزيران/يونيو بين الحكومة والشركات الخاصة لتوريد مروحيات لنقل القوات لم يكن هناك وقت لتنفيذها[17].

ثالثًا: هشاشة مؤسسات الدولة

كان هاجس بناء الدولة الأفغانية من أكثر المشاريع أهمية منذ احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان، وقد عرف مشروع بناء الدولة مند البداية مجموعة من الصعوبات أولها اعتماد الميزانية العامة بأكملها على المانحين. كما اتسمت المساعدات بغياب التنسيق بين البرامج وسوء التدبير على نطاق واسع. يعترف السيد رونالد نيومان، سفير الولايات المتحدة السابق في أفغانستان (2005-2007) بأن تقديم المساعدات كان يتسم بالفوضوية، ناهيك بالتواطؤ المنهجي في منح العقود وفي الحصول على التمويل لمصلحة الشركات الغربية في المقام الأول. لقد أُسندت إدارة بعض برامج التنمية إلى الوكالة الأمريكية الدولية للتنمية التي اعتمدت في إدارتها على شركات خاصة. إلى جانب ذلك لم تكن المساعدات الدولية والهبات الممنوحة تخضع لتدبير منسق بين مختلف المانحين، بل حتى المساعدات التي كانت تمنحها بعض الجهات الحكومية الأمريكية -كوزارة الخارجية والجيش الأمريكي- لم تكن منسقة وقد عبر رونالد نيومان، سفير الولايات المتحدة السابق في أفغانستان عن هذا الوضع بالقول: “لا هم ولا نحن نعرف ما الذي يفعله الآخرون. التنسيق بيننا كان ضعيفا والعلاقات متوترة[18]“.

في المجال الأمني، اختارت الولايات المتحدة نظامًا مزدوجًا، إضافة إلى الهيئات الرسمية الأفغانية (الجيش والاستخبارات والشرطة)، فقد اعتمدت على مجموعات مسلحة مختلفة: ميليشيات خاضعة للسلطة المباشرة لوكالة الاستخبارات المركزية(CIA) ، ومقاتلين سابقين حاربوا ضد السوفيات. هؤلاء خدموا في البداية كمساعدين لجيش الولايات المتحدة في مطاردتها لمقاتلي القاعدة، ثم ساهموا في محاربة طالبان من خلال توفير المترجمين والمرشدين لغارات القوات الخاصة وهجمات الطائرات بدون طيار. لقد كانوا في وضع يسمح لهم بالتلاعب بالجيش الأمريكي – الذي لم يكن يُتقن التحدث باللهجات الأفغانية – للقضاء على خصومهم من خلال تصويرهم على أنهم أعضاء في التمرد. وخلال المرحلة التي كانت واشنطن تستعد فيها للانسحاب ابتداءً من سنة 2011، أصبح تشكيل الميليشيات عنصرًا أساسيًا في استراتيجية وقف أو إبطاء تقدم التمرد، ولا سيما في مقاطعات قندوز، ورداك، قندهار، بكتيا، خوست وبكتيكا. انتهاكاتهم المتكررة والاضطراب الذي تسببوا فيه، عمليات النهب، أدت في نهاية المطاف إلى إضعاف مؤسسات الدولة ونزع شرعية الحكومة لدى السكان[19].

 

رابعًا: انضباط متمردي طالبان لتنظيم مركزي هرمي صارم

في تشرين الثاني/نوفمبر2008، صرح قائد القوات الغربية، الجنرال ديفيد ماكيرنان بأنه لا يرى “أي تماسك بين هذه الجماعات المتمردة على المستويين العملياتي والاستراتيجي، أرى تمردًا محليًا وإقليميًا إلى حد كبير، يتعاون أحيانًا، ويقاتل في أوقات أخرى، ولا يدعمه الشعب الأفغاني”. وفقًا لهذا التصور تم تنفيذ مكافحة التمرد على افتراض أن حركة طالبان تضم عشرات الجماعات التي تقاتل لأسباب قبلية أو عرقية أو اقتصادية[20]،  وأنّ شبكة حقاني مستقلة عن طالبان، بينما لا يوجد ما يبرر هذه الفرضية، بل على الضد من ذلك تمامًا يقدم سراج الدين حقاني نفسه بوصفه نائبًا لزعيم طالبان، في العمود الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز بعنوان “ما نريده نحن طالبان”[21].

يشير التناوب المنتظم للكوادر من مقاطعة إلى أخرى وتنسيق المجموعات بشكل لا لبس فيه إلى وجود تنظيم هرمي وفعّال نسبيًا. ورغم تمتع القادة العسكريين باستقلالية تكتيكية[22]، إلا أنهم مطالبون بطاعة أوامر رؤسائهم، وقد تم فصل العديد من مناصبهم لخرقهم قواعد الانضباط. ومنذ سنة 2006، وزعت طالبان على مقاتليها مدونة سلوك تتضمن عناصر من الشريعة الإسلامية، وفي نسختها المنقحة لسنة 2009، تم إدراج بعض مبادئ القانون الدولي الإنساني. رسميًا، تحظّر الحركة السرقة والعنف ضد المدنيين وإعدام الجواسيس دون محاكمة. وخلافًا لمنهج تنظيم “داعش”، الذي يتبنى ارتكاب هجمات مروعة ضد أهداف مدنية (بما في ذلك استهداف مطار كابول في 26 آب/أغسطس 2021)، فإن منهجية طالبان تقوم بالأساس على الاغتيالات السياسية[23].

خامسًا: تعاقب سلسل على رأس الحركة مقابل تنازع شرس في الانتخابات الأفغانية

إن التعاقب السلس على رأس الحركة وتماسك المواقف خلال المفاوضات يؤكد استقرار التنظيم، فعندما أعلنت الاستخبارات الأفغانية في سنة 2015 وفاة الملا عمر منذ 2013 وأنه قد تم التستر على هذه الوفاة، لم تكن هناك معارضة تذكر بين أتباع الحركة. وعندما قُتل بديله، الملا أختر منصور، بطائرة بدون طيار في باكستان في العام التالي، تم تنصيب هيبة الله أخوند زاده دون صعوبة. في المقابل عرفت الانتخابات الأفغانية الثلاثة الأخيرة مجموعة من التجاوزات، التي أعلن فيها المرشحان في الجولة الثانية فوزهما[24]. وخلال الانتخابات الرئاسية التي جرت في 28 أيلول/سبتمبر 2019، أعلن مكتب عبد الله عبد الله، المترشح المنافس ورئيس السلطة التنفيذية، فور إعلان فوز أشرف غني، أنه سيطعن في النتيجة وأنه “لن يقبل نتيجة هذا الاقتراع المزور”. وكان عبد الله قد خسر أمام أشرف غني في انتخابات سنة 2014 التي شهدت مخالفات خطيرة الأمر الذي تطلّب تدخل الولايات المتحدة لفرض حل وسط يقضي بتقاسم السلطة بين المتنافسين، حيث تم استحداث منصب رئيس السلطة التنفيذية لعبد الله. لقد كان أحد رهانات هذا الاقتراع انتخاب رئيس يتمتع بشرعية كافية ليصبح المحاور الأساسي في مفاوضات سلام محتملة مع طالبان[25].

سادسًا: استراتيجية طالبان لاستعادة السلطة في أفغانستان

استفادت طالبان من التجربة العراقية على نحو كبير، فقد سمحت الاتصالات المكثفة بين المجموعات المؤيدة لطالبان والمقاومة العراقية بتقاسم تجربة حرب العصابات سنة 2005. كما تم استيراد القنابل الموقوتة وغيرها من التقنيات التي أثبتت جدواها في العراق. وقد ساعدت الدورات التدريبية، التي قادها مجموعة من المقاتلين، ذوي الخبرة، من المقاومة العراقية، في إعطاء اتجاه جديد لاستراتيجية طالبان العسكرية. وفي داخل وزيرستان الجنوبية والشمالية، تجمعت مجموعات البشتون المدججة بالسلاح وفسيفساء المتطوعين العرب والأوزبك والشيشان منذ سقوط قندهار في كانون الأول/ديسمبر 2001 في قواعد بدائية صغيرة. الهجوم الذي بدأ في ربيع سنة 2006 لم يهدف إلى انتفاضة عامة ضد حكومة حامد كرزاي بقدر ما استهدف إعادة تنشيط شبكات طالبان في الجنوب الغربي. النتائج التي كان يأملها الملا محمد عمر هي توجيه ضربة لمعنويات القوات الأمريكية وإعلان سيادته على جنوب أفغانستان والمناطق القبلية الباكستانية المجاورة[26].

وخشية من تطويقها من قبل الهند، لم تدّخر باكستان جهدًا في مساعدة حركة طالبان، كما تساهلت القوات الباكستانية المرابطة على الحدود مع أفغانستان مع مقاتلي طالبان الذين اتخذوا من الحدود بين الدولتين ملاذًا آمنًا. لقد كان لتوسّع النفوذ الهندي في أفغانستان أثره في رد الفعل الباكستاني، ففي مقابل 24 قنصلية هندية في أفغانستان، لم يكن لباكستان سوى أربع قنصليات[27].

تمثلت استراتيجية طالبان بشقّين: تدمير القواعد الأمريكية لكسر التفوق الجوي الأمريكي، ثم إيقاظ خلايا طالبان النائمة، التي كان عددها يتزايد مع كل انتصار، كما نهجت الحركة أسلوب الانسحاب إلى المناطق الآمنة عند تدخل القوات الأمريكية، ثم معاودة الهجوم بالقنابل الخفيفة والعمليات الانتحارية. هذه الطريقة كبدت قوات التحالف خسائر لم يشهدها سنة 2001[28].

اعتقد الأمريكيون أنهم هزموا طالبان في أواخر سنة 2001. لكن الواقع كان مخالفًا لتصريحات النصر. كتب الجنرال ستانلي ماكريستال، نقلًا عن المؤرخ كارتر مالكاسيان في كتابه الجديد الحرب الأمريكية في أفغانستان،: “لقد ذهب معظمهم، ولم نكن متأكدين إلى أين ذهبوا”. في الواقع، لم تتم هزيمة طالبان بشكل فعلي. قتل الأمريكيون الكثير منهم، لكن آخرين كثر اختفوا في الجبال والقرى، أو عبر الحدود مع باكستان، التي دعمت الحركة منذ البداية.  بحلول سنة 2006، أعادوا تنظيم صفوفهم لشن هجوم كبير على قوات التحالف[29].

يعتقد الأستاذ ملكاسيان[30] “أن قلب أفغانستان هو الأطراف أو الريف، بمنازله ذات الجدران الطينية، والنساء المختبئات، والأطفال حفاة القدمين. في هذا الفضاء جاء جنود أمريكيون. وكان آخر الأجانب الذين رآهم القرويون هم الروس الذين احتلوا بلادهم في الثمانينيات[31]“. كانت حركة طالبان قادرة على استخدام تلك الذكرى كمُحَفِّز قوي في بلد كان يفتخر بهزيمة القوى العظمى. يعتقد ملكاسيان أن طالبان استفادت من موقفها “كقوة إسلامية تحارب الكفار”[32].

في نهاية شهر أيار/مايو 2006، أرسل الملا محمد عمر مبعوثًا إلى قواعد وزيرستان. كانت مهمته هي إقناع جميع الفصائل بالتخلي عن الحروب الأخرى والانضمام إلى طالبان في أفغانستان. كما أرسل مبعوثين آخرين إلى “أمراء الحرب” شبه المستقلين. وقبل ذلك تم الاتصال بفصلين كبيرين من بين مجموعات “المجاهدين” التي طردت الجيش السوفياتي من أفغانستان. وزع الملا داد الله، خلال زيارته لوزيرستان، نسخة من رسالة من الملا محمد عمر: “أوقفوا القتال على الفور ضد القوات الباكستانية. إنه عمل فوضوي لا يمكن الخلط بينه وبين الجهاد الإسلامي الحقيقي. الجهاد انطلق في أفغانستان. لذلك انضموا إلينا في أفغانستان لمحاربة الأمريكيين وحلفائهم الكفار”. جميعهم أطاعوا وأعلن سبعة وعشرون ألف رجل من الشمال وثلاثة عشر ألفًا من الجنوب وقف إطلاق النار. كان الملا عمر يتمتع بنفوذ كبير بين المجموعات المؤيدة لطالبان[33].

وبالنظر إلى العداء القائم بين الفصلين[34]، كان تأمين دعمهما كجزء من تحالف ضد كرزاي إنجازًا كبيرًا لدبلوماسية طالبان الجديدة. بعد ذلك أصبح قادة البشتون ونظرائهم الأوزبكيين والطاجيكيين يُنسّقون أعمالهم مع قوات طالبان المندفعة في الجنوب الغربي. في الوقت نفسه، بدأت طالبان، بالتحالف مع أمراء الحرب، في تنظيم هجمات متفرقة في كل أنحاء أفغانستان. شَكَّلت تعزيزات وزيرستان دعمًا كبيرًا لهجوم طالبان، تحت قيادة جلال الدين حقاني، الذي اتخذ من زعزعة استقرار الحكومة في كابول في الشمال استراتيجية له. فقد كان مكلفًا باستخدام العنف في حدود معينة تكفي لإسقاط حكومة كرزاي حتى قبل وصول طالبان[35].

لقد قامت استراتيجية طالبان لاستعادة السلطة في أفغانستان على معالجة أوجه القصور في تدبير المسؤوليين الحكوميين الأفغان، وبالتالي الاستجابة للطلب الشعبي على الخدمات العامة. ورسخت وجودها في الريف من خلال تشكيل “حكومة ظل” مع حكام وقضاة ومسؤولين عن الصحة والتعليم (مراقبة البرامج، واستبعاد الفتيات بعد سن 12 سنة)، فضلًا عن العلاقات مع المنظمات غير الحكومية، كما كان الحال خلال سنوات حكم الإمارة الإسلامية (1996-2001). وقد كانت المحاكم هي الأجهزة الأساسية لإدارة المناطق المُسيْطر عليها، وقاموا منذ سنة 2005 بتعيين قضاة بهذه المحاكم. وحتى في ظل سيطرة القوات الحكومية على أفغانستان كانت محاكم طالبان موجودة بالفعل في جميع المناطق تقريبًا. يجلس القضاة في المساجد الموجودة بالقرى بملابس لا تحمل أية علامات مميزة، في المنازل الخاصة أو تحت غطاء الأشجار. قاضي طالبان يجلس واضعًا أمامه كوبًا من الشاي الأخضر، يتلقى الطلبات شخصيًا. ثم يتصل بأحد أعضاء الحركة ويطلب منه إحضار الأشخاص الذين تم تقديم شكوى ضدهم في اليوم التالي، يستجوب القضاة الشهود ويفحصون المستندات التي يقدمها المتقاضون ويصدرون حكمهم، غالبًا بعد أيام قليلة – على الأكثر بضعة أشهر في القضايا الأكثر حساسية. تتعلق معظم النزاعات بالأراضي أو الخلافات الزوجية، لكن القضاة يعاقبون أيضًا السرقة والقتل والزنا، بفرض عقوبات شديدة في بعض الأحيان (الإعدام، بتر الأطراف، الرجم).

واستمرارًا لنظام الإمارة الإسلامية المخلوعة في سنة 2001، فإن الجهاز القضائي يتكون من ثلاثة مستويات: محاكم المقاطعات، محاكم الاستئناف في كل محافظة، والمحكمة العليا. يجب أن يجتاز القضاة المتدربون في مدرسة دينية امتحانًا يفحص معرفتهم بالفقه الإسلامي. ثم يتم تعيين الخرجين خارج مقاطعتهم الأصلية. ويهدف نظام التناوب إلى ضمان بقائهم محايدين تجاه السكان المحليين والمقاتلين. ولهذا اعتمدت طالبان نظامًا لنقل الجميع بعد فترة محددة حتى لا يكون هناك احتمال لحدوث تعارف كبير بين المسؤولين والساكنة. كما ترسل الحركة مفتشين للتحقق من نزاهة القضاة، وقد عُوقِبَ العديد منهم لأخذ أموال أو قبول هدايا. تجسيد القانون في مواجهة نظام فاسد جعل طالبان تتمتع بشعبية كبيرة في المناطق الريفية: قال أحد المتقاضين الأفغان في جوابه لأحد الصحافيين “إذا كنت غنيًا، كنت سأدعو قضاة الحكومة: ادفعوا فقط وستفوزون. ولكن عندما تكون فقيرًا، فإن طالبان هي الحل الوحيد”، هذا ما يؤكده أحد المستخدمين في مقاطعة لوغار. وقد لجأ إليها لأن أهل زوجته المستقبليين نفوا تلقيهم المهر اللازم للزواج. هذه هي استراتيجية طالبان التي سمحت لها بإعادة السيطرة على أفغانستان دون مقاومة شعبية[36].

خلاصة

لم تكن تلك السنوات التي استُبعدت فيها حركة طالبان عن السلطة كافية لإقناع الأفغان بأن حكمها كان بمثابة كارثة. لقد عادت الحركة إلى السلطة بفعل الدعم الشعبي من جهة وبسبب الأخطاء التي وقعت فيها الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية المُنَصَّبَة. فلم تكن طالبان تمثل فقط المقاتلين في صفوفها، بل كانت تُعَبِّرُ عن وجهة نظر العديد من الأفغان، وخصوصًا البشتون. كما أنّ مبالغة الولايات المتحدة في اعتماد المقاربة العسكرية في حربها ضد الإرهاب، أدّت إلى نفور الأفغان العاديين من قوات التحالف[37]. من جهة أخرى لم يتحفز العديد من أفراد الشعب، يقول مالكاسيان، “إلى القتال جنبًا إلى جنب مع المحتل الكافر ضد حركة تمثل الإسلام”. لقد كان البعد الديني حاضرًا في عقيدة الأفغان العاديين. كان البعض الآخر مترددًا في القتال من أجل قادة يسرقون الوقود والإمدادات. لم يروا فائدة في المخاطرة بحياتهم من أجل حكومة فاسدة تدفع أجورًا إلى مقاتلين “أشباح” لا وجود لهم إلا على السجلات[38].

في الحصيلة فإن القراءة الخاطئة لبنية المجتمع الأفغاني وإهمال الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية التي شكلت بعض أجزاء اللغز الأفغاني الرئيسية التي تم التغاضي عنها أو أُسيء فهمها منذ البداية، إضافة إلى استشراء الفساد في مؤسسات الدولة الأفغانية، هيأ الظروف الملائمة لعودة طالبان وانهيار منظومة الحكم القائمة في أفغانستان بعد انسحاب الولايات المتحدة.

في سياق متشابه لحالة أفغانستان، ادعى جنرالات أمريكيون سنة 1968 أن الفيتناميين الشماليين “تلقوا ضربة موجعة”. كانت المشكلة، في نظرهم، “أن العدو رفض الاعتراف بالهزيمة واستمر في القتال”. لكن واقع الحال كان مختلفًا. زيادة على ذلك كان الفيتناميون الجنوبيون، حلفاء الولايات المتحدة، غارقين في الفساد، ومنفصلين عن القواعد الشعبية. يمكن العثور على هذه الثلاثية الكارثية نفسها في جميع مراحل الاشتباك العسكري الأمريكي في أفغانستان: جنرالات متهورون، أعداء متمردون، وحليف فاسد.[39]

 

قد يهمكم أيضاً  البركان: قصة انطلاق المقاومة العراقية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #أفغانستان #الفشل_الأمريكي_في_أفغانستان #السياسة_الأميركية #الانسحاب_الأمريكي_من_أفغانستان #القوات_الأميركية #السياسة_الخارجية_للولايات_المتحدة #طالبان #الفساد_في_أفغانستان #عودة_طالبان_إلى_الحكم