يجد العالم نفسه اليوم في اختبار حقيقي لمدى قدرته على مواجهة كارثة عصفت بجميع الدول كبيرة وصغيرة في آن معًا، وباتت تهدد حياة ومعيشة مئات الملايين من البشر وتنذر بأزمة اقتصادية عالمية قد تستمر لسنوات. والوطن العربي ليس بمنأى عن خطر جائحة الفيروس التاجي هذا (كورونا)، وتداعياته الصحية، والاقتصادية والاجتماعية والسياسية أيضًا. على الرغم من تحقيق البلدان العربية إنجازات ملموسة في ما يخص بعض أهداف التنمية المستدامة خلال العقدين السابقين، وعلى الرغم من تشريع قوانين وتأسيس هيئات لإدارة الأزمات وتعزيز تدابير الحد من المخاطر، والاستثمار في الاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة للتخفيف من تأثيرات التغيّر المناخي والتكيُّف معه، فإن فيروس كورونا باغتَ الحكومات العربية ودفع بالبعض إلى اتخاذ إجراءات في غاية الشدة أحيانًا، أو مترددة وخجولة أحيانًا أخرى. وفاضَلَ البعض بين اتخاذ إجراءات قاطعة لمنع انتشار الفيروس، وبين الأضرار الاقتصادية الناجمة عن توقف السياحة والصادرات والقطاع الإنتاجي والخدماتي.

ومع أن الأمم المتحدة عملت طوال سنوات مع البلدان العربية من أجل تعزيز آليات الرصد والإنذار المبكر، وأدوات تحليل المخاطر، واستراتيجيات الطوارئ والاستجابة، فإننا نجد أن لبنان فقط هو من استخدم قاعدة البيانات لرصد خسائر الكوارث وتحليلها، مع نشر البيانات بشفافية عالية، بينما هناك أكثر من عشرة دول عربية أخرى لديها قاعدة البيانات الدولية نفسها، لكنها إما لا تستخدمها، وإما لا تنشر المعلومات، وإما تؤمن بأن تفاصيل وضع الإصابات؛ كالفئة العمرية أو النوع الاجتماعي، هي معلومات أمنية. وعلى الرغم من تأسيس اللجان الوطنية للحد من مخاطر الكوارث وإدارة الأزمات في جميع الدول العربية، فإن معظمها لم يفعّل المنظومة الوطنية القائمة لمواجهة جائحة كورونا، لا بل رأت تلك الدول أن الأزمة صحية بالدرجة الأولى؛ حيث أسندت مهمات المتابعة والتقييم إلى وزارة الصحة فقط بإشراف من رئيس الحكومة أو رئيس الدولة.

كشفت جائحة كورونا أيضًا هشاشة المنظومة الإقليمية العربية في التنسيق والتعاون لدرء الخطر المشترك العابر للحدود. فبينما تأسست في جامعة الدول العربية آلية التنسيق العربية للحد من مخاطر الكوارث، واعتمدت الجامعة ومجالسها الوزارية المتخصصة، ومن ثم القمة العربية، منذ سنوات، الاستراتيجية العربية للحد من مخاطر الكوارث 2030، فإننا لم نشهد للأسف مساهمة فعّالة على المستوى الإقليمي للتنسيق والاستجابة والاستعداد للتعافي في القطاعات المتعددة، التي لكل منها مجلس وزاري عربي متخصص. اجتمع مجلس وزراء الصحة العرب، تحت مظلة جامعة الدول العربية ثلاث مرات، للتشاور والتداول حول التدابير المتخذة في نطاق كل دولة، ولم يحصل توافق بعد على رؤية إقليمية للتعامل مع الخطر وآثاره المتوقعة في المنطقة. وقد غاب أيضًا الدور الإقليمي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي كان قد أسس بدوره مركز مجلس التعاون لإدارة حالات الطوارئ في الكويت، وربما عززت الخلافات السياسية بين دول مجلس التعاون ضعف التنسيق الإقليمي. فضلًا عن ذلك، تُضاعف الخلافات العربية-العربية والصراعات والحروب في دول المنطقة هشاشة المجتمع والبنى التحتية والمؤسسات والحكومات أمام فيروس تسبّب بزلزال اقتصادي عالمي، وسيكون له تبعات اقتصادية واجتماعية وسياسية تشمل البلدان العربية الغنية والفقيرة على حد سواء.

تشير التقديرات الأولية الواردة في تقارير أعدّتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) إلى أن الخسائر الاقتصادية في المنطقة العربية قد تصل إلى أكثر من 42 مليار دولار أمريكي، وأن أكثر من 1.7 مليون شخص سيفقدون وظائفهم، بينما سيزداد مستوى الفقر مع توقع انحسار الطبقة المتوسطة، ومعاناة أكثر من 1.9 مليون شخص من نقص التغذية. ومن المتوقع أن يشهد العالم أجمع مرحلة ركود اقتصادي ربما تكون الأسوأ على الإطلاق، وهذا ما سيؤثر في جميع القطاعات؛ الإنتاجية، والخدمية، والتجارية في العالم وفي المنطقة العربية بالطبع. ومن المتوقع أيضًا أن يرتفع عدد الفقراء في منطقتنا إلى أكثر من 8 ملايين شخص ليصبح إجمالي عدد الفقراء مع نهاية عام 2020 أكثر من 101 مليون مواطن عربي؛ أي ما يقارب ربع سكان المنطقة.

ستضاعف جائحة كورونا التحديات التي تواجهها البلدان العربية، وبخاصة أن المنطقة تشهد صراعات مسلحة، وخلافات إقليمية سياسية، واضطرابات داخلية بسبب التحديات الاقتصادية والاجتماعية. وما لا شك فيه أن آثار الجائحة ستكون أخطر، ولا سيَّما في المجتمعات الهشة، التي تعاني الفقر، والبطالة، والحروب القائمة. كما أن انعكاساتها ستكون كارثية على اللاجئين، وسكان العشوائيات، والأطفال، والنساء، والمسنين، والعمال المياومين، والعمالة الوافدة. وتأتي في مقدمة التحديات التي ستواجه البلدان العربية، الأمن الغذائي العربي، وخصوصًا أن هذه البلدان لا تزرع ما يكفيها، وتستورد أكثر من 50 بالمئة من حاجاتها الغذائية. وبالتالي فإن تعطُّل دورة الإنتاج والتوزيع عالميًا سيؤثر في استيراد البلدان العربية حاجاتها من الأغذية، ومن ثم ينذر بالمزيد من هشاشة المجتمعات، ويضعف قدرتها على الصمود، بل ويهدد أمنها وأمانها.

لقد كشفت جائحة «كورونا» هشاشة بعض الحكومات، وصرامة البعض، وجرأة البعض الآخر، لكنها بالتأكيد أعادت تسليط الضوء على دور الدولة في حماية مواطنيها، وأهمية تعزيز الثقة بين المواطن والحكومة، التي ينبثق منها التزام وإحساس متبادلان بالمسؤولية يساهم في الحدّ من الخسائر. قد تكون هذه الكارثة فرصة للتفكير في عقد اجتماعي عربي جديد يعزز مفهوم المواطنة والحوكمة الرشيدة، ويؤسس للاستثمار في الإنسان وصحته وتعليمه بعدما أدركنا أن الصحة والتعليم من أساسيات تعزيز صمود المجتمع ككل واستمراريته. لا يمكن في ظل التطور الصناعي والتكنولوجي والمعلوماتي الذي يشهده العالم، أن تستمر البلدان العربية في تهميش البحث العلمي والتطوير؛ حيث تراوح نسبة الإنفاق على البحث العلمي والتطوير من إجمالي الناتج المحلي في البلدان العربية بين 0.73 بالمئة في المغرب و0.04 بالمئة في البحرين، وهي أرقام هزيلة جدًا مقارنة بدول تصل فيها هذه النسبة إلى 3.16 بالمئة كما في السويد على سبيل المثال. في المقابل، يستنفد الإنفاق العسكري موارد التنمية في البلدان العربية، ويوظف الدخل القومي للخدمات الأمنية على حساب الاستثمار في التعليم والصحة.

إن بناء مجتمعات قادرة على المواجهة والصمود والتكيف هو ضرورة وأولوية لحاضرنا ومستقبلنا. لا ينقص منظومة الحد من مخاطر الكوارث على المستوى الوطني والإقليمي الالتزام السياسي المعلن أو الأدوات والآليات، لكنها ما زالت بحاجة إلى تعزيز الحوكمة الرشيدة، والمعلومات الدقيقة، والتواصل الشفاف، والتعامل مع المخاطر على نحو متكامل وشامل وفعّال. الاستثمار في البحث العلمي والتطوير وتوظيف العلم لتحقيق التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي، وتعزيز القدرة على الاستجابة والتعافي، من أهم الدروس التي يجب أن تستخلصها الحكومات العربية بعد هذه الجائحة، وعلى جامعة الدول العربية ومنظماتها العربية المتخصصة والمؤسسات الإقليمية الأخرى، أن تراجع منظومة وأدوات العمل العربي المشترك لتلتئم حول التعاون والتكامل والتكافل من خلال رؤية مشتركة حول المخاطر بمختلف أنواعها وكيفية الحد من آثارها.

أخيرًا، يقتضي الأمرُ العملَ على خلق وعي مجتمعي مبني على العلم والفهم المشترك للمخاطر والإحساس بالمسؤولية المشتركة لدرء هذه المخاطر ومواجهتها. إن تعزيز ثقافة الصمود والقدرة على المواجهة مسؤولية وطنية وقومية، وما زالت أمامنا الفرصة لنؤسس ونعمل على بناء مجتمع عربي أكثر وعيًا، وأكثر تكافلًا، وأكثر قدرة على مواجهة أزماته، إذا ما استطعنا أن نجعل المواطن العربي محور الاهتمام وإنسانيته وحياته ومعيشته هي الأولوية لحكومته… وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

 

قد يهمكم أيضاً  أزمة الكيان الصهيوني: الحكومة وكورونا

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #كورونا #جائحة_كورونا #العرب_وكورونا #إدارة_الأزمات_في_العالم_العربي #الجامعة_العربية #إدارة_الكوارث #الصحة #البحث_العلمي #المخاطر #الحكومات_العربية_في_ظل_كورونا #وجهة_نظر