مقدمة:

يُعدّ الاقتصاد الأمريكي أقوى اقتصادات العالم الحديث بما يتميز به من مستوى عالٍ من التطور والتنوع، الأمر الذي أهّله للهيمنة على الأسواق والمنظمات الدولية بما في ذلك هيمنته على سوق الصرف العالمي. تخوض الولايات المتحدة عدة أنواع من حروب من أجل الإبقاء على هيمنتها على الاقتصاد العالمي، أهمها الحرب الاقتصادية أو ما يسمى حروب الخنق الاقتصادي.

هذه الحرب، على الرغم من عدم خشونتها مثلما هي الحال في الحرب العسكرية، فإن فاعليتها تظهر من خلال عملية التضييق الاقتصادي والسياسي والمالي على البلد أو الطرف المستهدف، تبدأ بحظر السفر وتجميد الأرصدة في الخارج ولا تنتهي إلا بتفكيك اقتصادات البلدان المستهدفة والسيطرة عليها. هذه الاستراتيجية تكون فعّالة أكثر وبخاصة بالنسبة إلى بلدان العالم الثالث التي تحتل وضعية غير متكافئة في النظام الاقتصادي والتجاري العالمي وفي التقسيم الدولي للعمل.

على الرغم من أن حروب الخنق الاقتصادي موجودة منذ القدم، غير أنها اتخذت عقب الحرب الباردة منحى أكثر حزماً، فوظفت تلك الحروب في صورة «مساعدات وعقوبات» لتحقيق أهداف كانت تحققها الحروب العسكرية سابقاً، وذلك من أجل تخفيف المخاطر والتكاليف المادية والبشرية لدى الدولة المعتدية، مع العلم أن مفاعيلها التدميرية على الدولة المستهدفة لا تقل عن سابقتها من حيث تدني مستوى النشاط الاقتصادي؛ وتدهور الوضع الصحي والبيئي؛ وفرملة عجلة التنمية والتقدم، وتفكيك المجتمعات في البلدان المستهدفة.

فالتداخل الكبير بين الاقتصاد والسياسة يجعل من الاقتصاد أداة سياسية تلجأ إليها البلدان المتطورة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لكسب مواقف دول أخرى، كمنحها ميزات تفضيلية، ومعونات رسمية أو غير رسمية «مدروسة» تسهم في تعميق تبعيتها، أو المحافظة على الطبيعة المفككة لهيكلها الاقتصادي بما يخدم مصالح الأخيرة. وهنا قد يكون الطرف الآخر متكافئاً كالصين، أو غير متكافئ مثلما هو الحال في البلدان النامية التي تعَدّ الحلقة الأضعف فيه.

وللوقوف على الوجه الحقيقي لحروب الخنق الاقتصادي الأمريكي ومدى تأثيرها في البلدان المستهدفة، وكذا سبل التحرر من آليات التحكم الأمريكي في الاقتصاد العالمي، نطرح السؤال الإشكالي التالي:

بمَ تتمثل أبعاد الخنق الاقتصادي الأمريكي، وما سُبل التحرر منه؟

تتطلب معالجة هذه الإشكالية الإجابة عن بعض التساؤلات المهمة، من بينها:

  •  ماذا نعني بمفهوم الخنق الاقتصادي؟
  •  ما العلاقة التي تربط الخنق الاقتصادي بالتنمية الاقتصادية؟
  •  ما السُبل المتاحة لتحرير الاقتصاد العالمي من آثار هيمنة الاقتصاد الأمريكي؟

وفقاً لطبيعة الموضوع كان لزاماً علينا اعتماد مناهج البحث العلمي الملائمة، وتمثل ذلك باستخدام المنهج الوصفي التحليلي، الذي تم من خلاله تجميع البيانات والمعلومات وتلخيص الحقائق المتعلقة الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي وسبل التحرر منه، وتحليلها وفق أدوات ووسائل علمية مختلفة.

أولاً: الإطار النظري للخنق الاقتصادي

يُعدّ الخنق الاقتصادي المرآة العاكسة لتفوق الاقتصاد الأمريكي وسيطرته على المنظمات والأسواق العالمية. في ما يأتي نعطي لمحة مختصرة عن تعريف الخنق الاقتصادي؛ قنوات التبعية الاقتصادية للبلدان النامية؛ الخنق الاقتصادي والمنظمات الدولية.

1 – تعريف الخنق الاقتصادي

يُنظر إلى الخنق الاقتصادي بوصفه مزيجاً من الأبعاد التالية:

– استخدام دولة ما لمقدرتها الاقتصادية للتأثير في دولة أخرى وتوجيه سلوكها السياسي والاقتصادي في الاتجاه الذي يخدم المصلحة القومية للدولة الأولى‏[1].

– تلك الإجراءات التي تعتمد على أدوات اقتصادية تأخذ بها الحكومات بصورة منفردة، أو ثنائية أو جماعية، أو من خلال «إحدى المنظمات الإقليمية أو الدولية ضد بلد أو مجموعة من البلدان، بسبب انتهاك الأعراف والأطر العامة التي يفرضها المجتمع الدولي، وذلك في محاولة لإجبارها على الالتزام بالأنماط المقبولة في السلوك العام الذي يتماشى مع المصالح المعبّرة عن «ضمير» دول المجتمع الدولي‏[2].

– تعدّ القوة العنصر الأكثر فعالية والأجدى أثراً في السياسات الدولية، فهي مزيج من الإقناع والإكراه؛ إذ إن القول بأن السياسة الدولية تعزى إلى مفهوم القوة، لا يعني الرغبة في فرض ضغوط على الآخرين بمقدار ما يكون مدفوعاً بدوافع ذات طبيعة اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية أو ثقافية‏[3].

– نشاط دولي منفرد، أو ثنائي أو متعدد الأطراف، تستخدم فيه أطراف دولية مقدرتها الاقتصادية في التأثير السياسي أو الاقتصادي، لتحقيق منافع اقتصادية عبر آليات متكافئة أو غير متكافئة، ينتج منها معاهدة أو اتفاقية تسهم في تحقيق أهداف متعددة‏[4].

2 – قنوات التبعية الاقتصادية للبلدان النامية

تتمثل قنوات التبعية الاقتصادية، التي تتمكن من خلالها البلدان الصناعية المتطورة وشركاتها متعددة الجنسيات من استنزاف موارد البلدان النامية، بأمور نذكر في ما يأتي أهمها:

أ – مقص الأسعار

تخفض البلدان الصناعية أسعار المواد الأولية التي تصدرها البلدان النامية ذات الهيكل الاقتصادي المفكك المتخصص في إنتاج وتصدير مادة أو مادتين أوليتين، وفي المقابل ترفع أسعار التجهيزات التي تقوم هذه الأخيرة باستيرادها من طرف شركاتها التي تسيطر على الأسواق العالمية بنسبة كبيرة. كما أن سياسة الحماية المطبقة في البلدان الصناعية تجاه المنتجات المستوردة من البلدان النامية ممثلة برفع التعرفات الجمركية على بعض السلع وتقييد الكميات المستوردة من البعض الآخر، إضافة إلى إعانات التصدير لمنتجاتها؛ تؤدي كلها إلى الحد من القدرة التنافسية للبلدان النامية وتقليص دورها في حجم التجارة العالمية وانخفاض حجم الموارد المالية الممكن الحصول عليها من العملة الصعبة‏[5].

ب – الخدمات التقنية الخارجية

هي تلك النفقات المتعلقة بتحويل الخبرة التكنولوجية الناتجة من التمركز الجغرافي لمنابع الحصول على تلك الخدمات، الراجع أساساً إلى احتكار مجموعة صغيرة من البلدان المتطورة للاختراعات العلمية والتقنية في السوق العالمية للتكنولوجيا ممثلة بنسبة 70 إلى 80 بالمئة من صادرات الخدمات التقنية. كما أن سياسة التطوير الصناعي المعتمدة في البلدان النامية لم ترافقها في نفس الوتيرة سياسة إنشاء وتطوير القاعدة التقنية والعلمية المناسبة، فريادة البلدان الصناعية الكبرى على المستوى التكنولوجي تسمح لها باحتكار هذه التقنيات، بما يتيح لها إمكان استغلال عملية نقل التكنولوجيا واستعمالها كوسيلة للدفاع عن مصالحها. لهذا، غالباً ما تلجأ البلدان النامية إلى إبرام اتفاقيات المساعدة التقنية مع الشركات المتعددة الجنسيات من أجل التحكم في استعمال وتسيير التكنولوجيا الجديدة، الأمر الذي يبقي على علاقة التبعية في الميدان التكنولوجي ويعمقها.

تستعمل الشركات المتعددة الجنسيات في كثير الأحيان طريقة البيع المشروط التي تُفقد الطرف المشتري تقريباً استقلاليته التجارية، فتُلزمه بإنتاج كمية محدودة من السلعة، وتخصيص جزء منها لبيعها للشركة الأم، وعدم تصديرها إلى الأسواق الخارجية إلا بإذن منها والالتزام بالحصول على الاستشارة الهندسية، وشراء المواد الأولية أو بعض أجزاء السلعة من الشركة البائعة للتكنولوجيا؛ تلجأ هذه الشركات في أحيان أخرى إلى طريقة البيع المفكك للتكنولوجيا. حيث يتحصل الطرف المشتري على تصاميم خاصة بالوحدة الإنتاجية من دون الحصول على الإرشادات التقنية الخاصة بتشغيل أو صيانة التجهيزات المستعملة، أو على قطع الغيار… إلخ. أما طريقة المفتاح في اليد، والتي تعني الحصول على مجمع تكنولوجي كامل، فتحاط بوسائل ضغط متمثلة بضرورة استيراد الخدمات التقنية والعلمية اللازمة لاستعمال هذه التكنولوجيا، وهو ما يعيق ويعمّق علاقة الهيمنة الاقتصادية الدولية. في الوقت الحاضر تقوم الشركات المتعددة الجنسيات بإنشاء شبكة من المخابر كجهاز دعم لنشاط الفروع، إذ تقوم بتكوين وتوظيف الإطارات المحلية ذات التأهيل العالي للعمل في هذه الفروع أو حتى بالمركز الرئيسي للشركة وفروعها الأخرى حول العالم لأجل تسهيل التعامل مع التكنولوجيا المستوردة، ومراقبة نوعية المواد الأولية والسلعة النهائية المحصل عليها، وهو ما يمثل شكـلاً مقنّعاً لهروب الأدمغة من البلدان النامية للبلدان المتطورة‏[6].

ج – تصدير رؤوس الأموال الأجنبية إلى البلدان النامية

رغبة في تغيير وإعادة تنظيم الهيكل الاقتصادي والاجتماعي الموروث عن الاستعمار، وأمام عدم كفاية الموارد الذاتية من العملة الصعبة لكثير من البلدان النامية برزت الحاجة إلى اللجوء لرؤوس الأموال الأجنبية لتمويل مخططات التنمية طويلة المدى. فالقروض والمساعدات الحكومية المطلوبة التي تمنح بتسهيلات وشروط معقدة، تعتبر أول وأهم مصادر التمويل الخارجية. فهذه التسهيلات تقابلها قيود على استعمالها كإلزام البلدان النامية باستعمال جزء كبير منها لشراء سلع من الدول المانحة بأسعار تفوق تلك السائدة في السوق الدولية، وضمان عدم إجراء إصلاحات تضر بمصلحة البلدان المتطورة المانحة لتلك المساعدات، والسعي إلى ربط عملية إعادة الإنتاج في تلك البلدان بمصادر التمويل الخارجية لإبقاء علاقة التبعية السابقة، أما القروض الأجنبية الخاصة فعادة ما تؤدي إلى ارتفاع حاد في حجم المديونية الخارجية للبلدان المستدينة، بسبب ارتفاع قيمة القرض والشروط القاسية المصاحبة له، أما الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تلجأ إليه البلدان النامية لتعويض النقص في مصادر التمويل الأخرى، فتأثيره الحقيقي يظهر بوضوح عند مقارنة حجم الاستثمارات الأجنبية الموظفة بقيمة الأرباح الناتجة منها والمحولة إلى الخارج، التي تفوق عدة أضعاف الاستثمار المستخدم. هذا التسرب العكسي لموارد البلدان النامية باتجاه البلدان المصنعة راجع بالدرجة الأولى إلى المراكز الرئيسية لـلشركات المتعددة الجنسيات، التي تستخدم أساليب وطرائق ملتوية في المحاسبة، لإخفاء وتمويه جزء من أرباح بعض الفروع، أو رفع تكاليف إنتاج البعض الآخر‏[7].

يضاف إلى تبعية البلدان النامية في الميدان المالي أيضاً الانعكاسات السلبية لوضعية سوق الصرف العالمي، وبخاصة سعر صرف الدولار الذي يمثل العملة الدولية الرئيسية التي تباع بها أغلب المواد الأولية المصدرة من طرف البلدان النامية للأسواق العالمية. فانخفاض الدولار يؤثر سلباً في القدرة الشرائية للبلدان النامية بسبب تكوين احتياطياتها من النقد الأجنبي ممثـلاً بالدولار الأمريكي.

3 – الخنق الاقتصادي والمنظمات الدولية

تعدّ سياسات الخنق الاقتصادي للمنظمات الدولية وعاءً يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة، وهو ما سنوضحه في ما يأتي:

أ – منظمة الأمم المتحدة

تعد منظمة الأمم المتحدة منظمة سياسية واقتصادية دولية تسعى، من حيث الشكل، للمحافظة على السلم والأمن العالمي، وتعزيز اقتصادات البلدان النامية، بتوفير مساعدات منتظمة ثابتة ومدروسة في مجالات حيوية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية قصدَ تدعيم استقلالها الاقتصادي والسياسي‏[8]. لكنها تلجأ في المقابل إلى فرض عقوبات اقتصادية من خلال مجلس الأمن كما هي الحال بالنسبة إلى العراق في التسعينيات، إذ تظهر من خلال مجموعة واسعة من التدابير من بينها فرض حضر شامل على التجارة والاستثمارات، وتجميد الأصول، وهي عقوبات متعددة الأطراف تفرض من طرف المنظمة الخاضعة لهيمنة البلدان الكبرى المسيطرة على الاقتصاد العالمي‏[9].

ب – صندوق النقد الدولي

هو منظمة أممية يمثل نشاطها مجالاً واسعاً لممارسة الخنق الاقتصادي، نظراً إلى هيمنة البلدان المتطورة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، على أسلوب ونظام اتخاذ القرارات فيه.

يتدخل الصندوق عادة لنجدة البلدان التي تكون في وضعيات مالية صعبة والتي غالباً ما تكون نتيجة لممارسات الخنق الاقتصادي والمالي للبلدان نفسها المهيمنة على هذا الصندوق.

عادة ما يطلب صندوق النقد الدولي من البلدان التي تلجأ إليه إجراء إصلاحات اقتصادية ومالية لمعالجة الاختلالات النقدية والمالية التي تعانيها، والتي غالباً ما تكون ترجمة لأهداف الدول الدائنة وشركاتها متعددة الجنسية.

أثبتت التجارب أن هذه السياسات لا تتلاءم مع بيئتها الاقتصادية ومصالحها الذاتية، لهذا فشلت مشاريع التنمية وازدادت المشكلات الاقتصادية والمالية لهذه الدول، كما هو الحال ببلدان أمريكا اللاتينية التي ازدادت نسبة الدين بها إلى 20.3 بالمئة بين سنتي 2010 و2014، الضرائب والبطالة بنسبة 20 بالمئة وانخفاض معدلات نمو اقتصاداتها إلى 1.1 بالمئة سنة 2014‏[10]، فأهداف الصندوق وسياساته وبرامجه تعد تعبيراً واضحاً للهيمنة الاقتصادية للدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة، وأزمة المكسيك والأرجنتين وغيرها تعد نقاطاً فاصلة في تاريخ الصندوق والتي أكدت ضعف الطابع المؤسسي له وتؤكد خضوعه لإرادة الولايات المتحدة‏[11].

ج – البنك الدولي للإنشاء والتعمير

يقدم البنك الدولي قروضاً للمتمتعين بالأهلية الإنمائية من أجل مشروعات ذات أهداف اجتماعية يحتمل أن تحقق عائداً اقتصادياً حقيقياً، في حين أنه لا يختلف عن الصندوق في كونه خاضعاً لهيمنة القوى العظمى الرأسمالية، إذ تنصل مثـلاً من وعوده بتقديم قرض لتمويل بناء السد العالمي عندما رفضت مصر الشروط السياسية والعسكرية التي تمس المصالح الحيوية لمصر سنة 1956‏[12].

د – منظمة التجارة العالمية

تهدف المنظمة وفق ميثاقها التأسيسي إلى الإشراف على العلاقات التجارية العالمية وفقاً لما توفره من إطار تنظيمي عادل يرتكز على قواعد السوق ويحارب الحمائية، والاحتكار، وسياسات الإغراق وغيرها من الممارسات. لكن هيمنة البلدان الغنية على آليات اتخاذ القرار فيها يجعلها مثل غيرها من المنظمات الأممية الأخرى وأداة لتحقيق أهداف البلدان المهيمنة عليها.

هـ – منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية

تهدف المنظمة في الميدان الاقتصادي إلى تعزيز السياسات التي تعمل على تحسين الرفاه الاقتصادي والاجتماعي للفرد في جميع أنحاء العالم، وتوفر منتدى للحكومات لكي تعمل على تسهيل تبادل الخبرات وإيجاد حلول للمشكلات التي تمس اقتصاداتها، منها التأثير في النمو الاقتصادي العالمي واستقراره، ودعم التكامل بين المؤسسات والمنظمات الاقتصادية للدول. لكن الممارسات الميدانية أثبتت أيضاً أن نشاط ومجهود هذه المنظمة يهدف هو أيضاً إلى ربط اقتصادات البلدان المستفيدة من برامجها باقتصادات البلدان الممولة بما يخدم مصالحها اقتصادياً‏[13].

نستنتج مما سبق أن مؤسسات التمويل الدولي والمنظمات المعنية بقضايا الاقتصاد العالمي لا تمثل أداة لرسم العلاقات الاقتصادية بين البلدان وتوطيدها، إنما هي عبارة عن منتديات اقتصادية تعمل في الغالب على تعزيز هيمنة البلدان القوية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وبالتالي السعي وراء بناء علاقات أو تحطيمها لهدف الحفاظ على تفوقها والإبقاء على تخلف البلدان الأخرى.

ثانياً: تحليل العلاقة بين الخنق الاقتصادي والتنمية الاقتصادية

تستعمل الولايات المتحدة الخنق الاقتصادي لإبقاء سيطرتها على اقتصادات البلدان النامية من خلال سياسات وآليات تنتهجها لتعميق تبعيتها وزيادة الفروق الاقتصادية بينها وبين سائر الدول.

1 – أنواع الخنق الاقتصادي

تعتمد الولايات المتحدة في علاقتها مع البلدان الأخرى على المعايير المزدوجة لمعالجة المشكلات المطروحة على مستوى العلاقات الدولية، وتستعمل في ذلك أدوات الترغيب والترهيب وفق ما تمليه خدمة مصالحها الحيوية.

أ – سياسة الترغيب

تمنح المساعدات الاقتصادية للبلدان التي تتمشّى سياستها مع مصالح الدولة المانحة، كتدعيم القرارات السياسية التي تتخذها الدولة المانحة في المحافل الدولية، وفتح قواعد عسكرية على أراضي الدولة المتلقية، والمشاركة في المجهود الحربي أو الدخول في التحالفات العسكرية التي تنشئها الدولة المانحة. فالهدف السياسي يتحقق بمجرد منح الدولة المتلقية للمساعدة لا بالتنفيذ الناجح للأنشطة التنموية لها، إذ ترتبط هذه المساعدات بالمصالح الاستراتيجية للبلدان المناحة المشاركة في إعادة توزيع مراكز القوة، وخلق أسواق لمنتجاتها، وتوزيع مجالات الاستثمار والتي تمهد للتبعية التجارية من خلال فرض التزامات على البلدان المتلقية كأن تشتري جزءاً كبيراً من المنتجات الخاصة بالبلدان المانحة‏[14].

من أمثلة سياسة الترغيب:

(1) شطب وإعادة جدولة الديون: عند حصول مصاعب مالية خاصة أزمة مديونية، تقوم الدولة المعنية بمفاوضات مع الدائنين لجدولة الدين، مع تنفيذ مطالب معينة عادة ما تمليها البلدان الدائنة وتترجم في صورة برامج يرعاها صندوق النقد الدولي لتؤدي في النهاية إلى زيادة ربط اقتصاد تلك الدولة بالبلدان النامية‏[15].

(2) التعاون الاقتصادي: تسعى البلدان النامية لتحقيق تنميتها الاقتصادية بتأسيس علاقة شراكة وتعاون مع البلدان القوية والغنية صاحبة التكنولوجيا ورأس المال، غير أن الأخيرة يكون هدفها الحصول على أسواق واسعة لصادراتها كاتفاقية نافتا للتجارة الحرة التي وجدت فيه الولايات المتحدة سوقاً لها لتصريف منتجاتها بالمكسيك وكندا‏[16].

(3) الأدوات السياسية: تعد التنازلات السياسية وجهاً آخر تقدمه بلدان لبلدان أخرى مقابل الحصول على مساعدات اقتصادية، إذ يتخلى فيها طرف عن مصالحه السياسية، وأحياناً الاجتماعية، مقابل الحصول على مكاسب اقتصادية‏[17].

يعد مشروع مارشال 1947 من أكبر مشاريع المساعدات الاقتصادية في التاريخ، الذي جاء لأجل إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، بمبلغ قدره 13 مليار دولار أمريكي، سببه تعزيز قوة ونفوذ المؤسسات الاقتصادية الأمريكية في اقتصادات البلدان الأوروبية وفتح أسواق لبضائعها في هذه البلدان‏[18].

ب – سياسة الترهيب

يُقصد بها فرض عقوبات على البلدان المناهضة التي لا تتمشى سياستها مع استراتيجيات البلدان المانحة، حيث تؤدي دور المنذر في التبادلات الدولية والمقيد بتصرفات الطرف الآخر. فقد توقف البلدان المانحة مساعداتها للبلدان المتلقية تحت ذريعة انتهاكها لحقوق الإنسان أو عدم الالتزام بتطبيق قواعد الديمقراطية، كتوقيف الولايات المتحدة لمساعداتها تجاه السودان سنة 1997، فهي من أكثر الأدوات استخداماً في العلاقات الدولية وبخاصة منذ سنة 1990، تأكيداً للدور المهم الذي تؤديه في فرض سيطرة الدول‏[19].

من أمثلة سياسة الترهيب:

(1) المعاملة الاقتصادية بالمثل: وهو إجراء يتم اتخاذه على المستوى الحكومي ضد دولة ما رداً على إجراء مماثل سبق أن قامت به الدولة الأخرى ضدها‏[20].

(2) التجسس الاقتصادي: يُعدّ إحدى آليات الحرب الاقتصادية، ويشترك فيه فاعلون ينشطون بطرائق شرعية أو غير شرعية في الاقتصاد العالمي مثل «الشركات المتعددة الجنسيات، المافيا…» لأجل توسيع النفوذ الاقتصادي للبلدان وتحقيق مكاسب أكبر على نحوٍ مشروع أو غير مشروع‏[21].

(3) المقاطعة الاقتصادية: يقصد بها القيام بمجموعة من الخطط والإجراءات المتناغمة للعزل المتعمد وغير العنيف في الميدان الاقتصادي أو السياسي، تعبيراً عن عدم الموافقة على سلوك الجهة المستهدفة لوقف ممارساتها غير المقبولة من وجهة نظر الدولة المقاطعة، كمقاطعة الولايات المتحدة وحلفائها لبعض البلدان كإيران، وسورية، وفنزويلا وغيرها عقاباً لهم على خطهم السياسي غير المتناغم مع خط البلدان المقاطعة‏[22].

(4) الحظر الاقتصادي: يشير الحظر إلى منع دخول عدد من المنتجات الخاصة بالدولة انتقاماً منها على سلوك معيَّن تقوم به، وهو أشد من المقاطعة، إذ يتم تنفيذه بناءً على قرار رسمي من سلطة أعلى فوق الدول، إقليمية أو دولية‏[23].

(5) القسر الاقتصادي: يقصد به وجود درجة قصوى من التقييد على مناهج العمل البديلة المتاحة أمام الدولة المستهدفة للتأثير فيها، وإلزامها بتنفيذ مطالب الدولة أو المنظمة الفارضة، لإذلالها وإجبارها على القيام بعمل لا تفضل القيام به في الأوضاع العادية، وهو بذلك أشد درجات العقوبات الاقتصادية من حيث القوة‏[24].

2 – أثر العقوبات الاقتصادية في التنمية الاقتصادية

للعقوبات الاقتصادية تأثير كبير من حيث الحجم والعدد في التنمية الاقتصادية للدول، مثلما هي الحال للعراق وإيران كما سيأتي:

أ – حالة العراق

كانت العقوبات التي فرضت على العراق شاملة، بحيث شملت معظم جوانب الحياة بهدف العزل الكامل لهذه الدولة عن العالم الخارجي. بدأ ذلك سنة 1979 عندما أدرجت إدارة الولايات المتحدة برئاسة رونالد ريغان اسم العراق على قائمة البلدان الداعمة للإرهاب، ومنعت تصدير بعض المواد الكيميائية إليها سنة 1984، وجمدت الأصول العراقية وفرضت عليها حظراً تجارياً شامـلاً مستثنياً منه الغذاء والدواء سنة 1990، وانضمت إلى ذلك اليابان والصين في السنة نفسها، ثم تفاقمت حتى إصدار القرار الدولي 661 سنة 1990 الذي تضمن وقف كل الواردات والبضائع المرسلة من العراق، والصادرات باستثناء المواد الطبية، وتجميد الأرصدة العراقية في الخارج ووقف كل المعاملات والتسويات المالية باستثناء المدفوعات لأغراض إنسانية‏[25]. تبع ذلك القرار 665 القاضي بتشديد الحصار البحري على العراق، وفي نفس السنة وقع الرئيس الأمريكي على قانون العقوبات الذي شمل حظر التعامل معها، وحتى التعاملات المالية والمصرفية ومنع المساعدات الأجنبية المقدمة إليها‏[26]، وهو ما أدى إلى انخفاض المؤشرات الغذائية والصحية للمواطن العراقي، وانتشار البطالة بسبب إغلاق المصانع، وانخفاض أجور الموظفين الحكوميين نتيجة التضخم، وارتفاع الأمراض الناتجة من سوء التغذية لتناقص الأدوية، وتلوث المياه والبيئة، وانخفاض نسبة الانخراط في المدارس من 6 إلى 23 سنة إلى 53 بالمئة بحسب مصادر اليونسكو‏[27].

على الرغم من الطابع الاقتصادي للعقوبات فإن الأهداف السياسية كانت واضحة، إذ صممت لإضعاف النظام السياسي العراقي للتخلص منه باستخدام ضغوط كبيرة، إضافةً إلى الضغط الشعبي الذي ولده التدهور الملحوظ في مجمل قطاعات الحياة، كان وراء الإبقاء على تخلف العراق‏[28].

ب – حالة إيران

سرعت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على إيران عبر مراحل متعددة مسّت عدة قطاعات، أهمها قطاعا الاستثمار الأجنبي والنفط، ابتداءً من سنة 1979، فاستخدمت أسلوب التهديد والملاحقة بحق كل من يريد القيام بمشاريع في إيران، بل ووضعت قيوداً مالية ومصرفية على تعاملات إيران المالية مع الأسواق العالمية، وفي 4 آب/أغسطس 1996 وقّع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون قانون العقوبات على ليبيا وإيران المعروف بـ «داماتو» أو «ILSA» الذي أقرّه الكونغرس الأمريكي بناء على مشروع قانون قدمه السيناتور الجمهوري المتطرف الفوتسي داماتو، بحجة تجفيف مصادر دعم «الإرهاب»، بقيوده الاستثمارية المتمثلة بحرمان الشركات المتعاملة مع إيران من دخول السوق الأمريكية، غير أنها لم تؤت ثمارها كما كانت تريد أمريكا‏[29]. فقد قدمت إيران حوافز وميزات هائلة لجذب الشركات الأجنبية، وهو ما ساعدها على عدم الالتزام بالقيود الأمريكية، وكانت النتيجة ارتفاع معدل تكوين رأس المال في الاقتصاد الإيراني الذي يعني نسبة الاستثمارات الجديدة في الناتج المحلي الإجمالي ليصبح 36 بالمئة سنة 2004 وهو معدل يفوق المتوسط العالمي المقدر بـ 21 بالمئة‏[30]. كذلك مسّت العقوبات قطاع النفط الذي أدى إلى تدهور كبير في الإنتاج وانخفاض في التصدير، إذ منعت الشركات النفطية الأمريكية من الاستثمار في قطاع النفط الإيراني وكذا تسويقه، لمنع تطوير برنامجها النووي السلمي، فتراجعت صادراتها لأقل من مليون برميل يومياً سنة 2013 بعد أن تجاوزت 2.2 مليون برميل يومياً سنة 2011 وهذا يعني حرمانها إيرادات تقدر بنحو 40 مليار دولار سنة 2012 بحسب وكالة الطاقة الدولية‏[31].

3 – أثر المساعدات الاقتصادية في التنمية الاقتصادية

تخضع المساعدات الاقتصادية للمشروطية التي تحول دون تحقيق الأهداف التي أسست من أجلها بسبب اختلاف دوافع وأجندات الجهات المانحة والمتلقية، كوجوب أن تنفق القروض أو المنح على شراء سلع البلد المانح، وتنفيذ مشاريع محددة وبشروط مقيدة، والتغلغل أكثر في السوق، وتوسيع النفوذ السياسي وتضخيم مفهوم الأمن القومي ليشمل إخضاع البلدان المتلقية للمصالح الجيوسياسية للبلدان المانحة، حيث ركزت إدارة كارتر على مبرّرات حقوق الإنسان، بينما استغلت إدارة ريغان لتعزيز مبدأ التجارة الحرة، في حين ركزت إدارة بوش الابن على نشر الديمقراطية. لكن جوهر وأهداف كل هذه السياسات هو ممارسة الضغوط لتكريس مزيد من التبعية للبلدان المتلقية للمساعدات الأمريكية، لكي تمشّي توجهاتها السياسية في المحافل الدولية، مثلما هي الحال باكستان أفغانستان ومصر بالآتي:

أ – حالة باكستان

قدمت الولايات المتحدة نحو مليار دولار كمساعدات لباكستان في فترة الحكم السوفياتي لأفغانستان. وبعد انقطاع دام أكثر من 11 سنة استؤنفت المساعدات الأمريكية بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 بنحو 10 مليار دولار خلال الحقبة 2001 – 2007 مقابل انضمام باكستان للحرب ضد الإرهاب، وفي سنة 2001 جدولت ديونها البالغة 379 مليون دولار إضافة إلى 100 مليون دولار كمنحة لدعم الميزانية، وتم إعفاؤها من سداد ديون بقيمة 15 مليار دولار، وفي السنة نفسها قامت بخفوض تجارية وجمركية على السلع المستوردة من باكستان وساهمت في إغاثتها بمساعدات بلغت 500 مليون دولار. هذه المساعدات، وأخرى غيرها، جاءت بعدة صيغ، كان لها الأثر الايجابي إلى حد ما في زيادة معدلات النمو الاقتصادي في باكستان فيما لو تم استثناء عوامل داخلية مؤثرة، بما يخدم الولايات المتحدة‏[32].

ب – حالة أفغانستان

منذ سنة 2001 وعشرات مليارات الدولارات من المساعدات الدولية تصبّ في أفغانستان، والهدف المعلن هو تحويل حياة المواطنين إلى الأفضل. غير أن الحقيقة كانت لخدمة الأهداف السياسية والعسكرية للبلدان المانحة، إذ رغم حجمها الكبير إلا أنها لم تحقق التنمية الاقتصادية، بسبب استخدامها لتحقيق أهداف سياسية وأمنية، أهمها دمار دولة أفغانستان.

ج – حالة مصر

حققت المساعدات المقدمة لمصر من طرف الولايات المتحدة مكاسب للأخيرة تفوق تلك التي استفادت منها دولة مصر، وهذا يجعلها أقرب إلى اتفاق دولتين استفادت إحداهما بنسبة أعلى من الثانية. فمصر أهم دولة تلقت مساعدات ومنح اقتصادية، غير أن تأثيرها لم يكن بالوجه المرغوب فيه، لأنها جاءت لتحقيق سياسة ترتبط بالأمن القومي الأمريكي، إضافةً إلى التضارب والتناقض بين أولويات التنمية من وجهة نظر الدولتين‏[33].

نجد مما سبق أن البلدان المتقدمة في تعاملها مع البلدان النامية تميل إلى أن تكون الطرف الأقوى باستمرار، لتحقيق مصالحها القومية في ظل الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها، على الرغم من العناوين الإنسانية والتنموية للمساعدات الاقتصادية التي تقدمها، فالواقع يدحض هذه الادعاءات ويظهر الدوافع الحقيقية التي معظمها سياسية وعسكرية بالدرجة الأولى.

ثالثاً: سبل التحرر من آليات التحكم الأمريكي في الاقتصاد العالمي

تبتدئ تنمية البلدان بالبناء من داخل النفس وإصلاح الفساد فيها، ذلك أن المنبع الذي ما زال يشيع الجهل والمرض هو النفس الإنسانية، من هنا فإن فكرة الترقي بين عالم وآخر في عمر الإنسان إنما هو حال المجتمعات والحضارات، فالتنمية الاقتصادية تصنيع للأشياء وإنتاجها لا استيرادها وتكديسها، غير أن عوائق التنمية تكمن في قابلية المجتمعات النامية للاستعمار، ما يعني التفكير بعقلية الآخر والذوبان فيه دون التفريق بين هوية وهوية أخرى، فهو السبب الرئيسي في تخلف الشعوب وتقبلها لذلك‏[34].

1 – استراتيجية التصنيع كآلية لتحرر اقتصاديات الدول

يتضمن التصنيع استراتيجيات مختلفة سندرس أهمها باختصار‏[35].

أ – استراتيجية إحلال الواردات

تقوم هذه الاستراتيجية على تأسيس قطاعات تضم إنشاء مؤسسات صناعية لمنتجات موجهة إلى السوق المحلية كانت سابقاً تستورد، وذلك بهدف التخصيص الأمثل للموارد من العملة الصعبة وزيادة معدل إدماج الاقتصاد الوطني والتخفيف من حدة التبعية للخارج.

ب – استراتيجية صناعة التصدير

تقوم هذه الاستراتيجية بالتركيز على قطاعات التصنيع الموجهة للتصدير، وذلك بهدف تنويع مصادر الحصول على العملة الصعبة، واكتساب مهارات تكنولوجية وتحسين القدرة التنافسية للمنتجات. وقد اتخذت هذه الاستراتيجية اتجاهين:

(1) صناعات تصديرية لتحويل المواد الأولية وإنتاج مواد وسيطة قبيل تصديرها، كما يحدث في معظم البلدان المنتجة للمواد الأولية سواء الزراعية منها أو الاستخراجية.

(2) مشاريع صناعية لإنتاج مواد استهلاكية متفاوتة الكثافة، اعتماداً على اليد العاملة الرخيصة التي تمتلكها، مثل «صناعة النسيج والجلود، الصناعات الغذائية وصناعة البلاستيك وغيرها».

ج – استراتيجية الصناعات المصنعة أو النموذج السوفياتي في التصنيع

تعطى الأولوية وفق هذه الاستراتيجية للصناعات الثقيلة والمصنعة ومنه إعادة هيكلة الاقتصاد، كما حدث في الاتحاد السوفياتي سابقاً.

2 – ألمانيا التي هَزَمت اقتصادياً من دمروها عسكرياً

في 8 أيار/مايو 1945 هُزمت ألمانيا، قتل 7.5 مليون ألماني بين عمر 18 و35، إذ إن مدناً بأكملها دُمرت مثل درسون، وانخفض الإنتاج الزراعي للثلث، وتآكلت المصانع بين التدمير والتفكيك الممنهج بهدف تحويل ألمانيا إلى بلد ريفي غير مؤذٍ، باقتراح وزير المالية الأمريكي هنري مورغناثاو ورجل الأعمال اليهودي ثيودور كوفمان في كتابه ألمانيا يجب أن تسحق. فاستولت الولايات المتحدة وبريطانيا على تكنولوجيا وبراءات اختراع ألمانية تفوق قيمتها 121 مليار دولار بأسعار سنة 2017، وأدت سياسة التحكم في الأسعار التي فرضها الأوروبيون إلى نقص في البضائع وانتعاش للسوق السوداء مع انتشار الفقر، مع دفع تعويضات سنوية للحلفاء تعادل 24 مليار دولار بأسعار سنة 2017. انقسمت ألمانيا بجدار برلين إلى دولتين أولاهما جمهورية ألمانيا الشرقية التي احتواها الاتحاد السوفياتي سنة 1949 لتصبح أغنى دولة بالكتلة الشرقية حيث وصل نصيب الفرد من الدخل سنة 1985 فيها إلى 23300 دولار بأسعار 2017، وألمانيا الغربية التي تقترب من المعسكر الرأسمالي والتي شهدت ما يسمى المعجزة الاقتصادية حسب ما أطلقته جريدة تايمز البريطانية سنة 1950.

قام الاقتصادي الألماني لودويغ إيرهارد بإحياء الاقتصاد الألماني من خلال خطوتين أولاهما العمل مع الحلفاء على إصدار المارك الألماني الجديد، لتقلص العملة المتوافرة بالسوق إلى نسبة 93 بالمئة؛ وثانيتهما في اليوم نفسه ألغى سياسات التحكم في الأسعار، لتعود ألمانيا الغربية إلى الحياة وملئت المتاجر بالبضائع، وبظهور حافز للعمل من جديد عاد الحس الصناعي للألمان في أيار/مايو 1948، فكانوا يقضون 9.5 ساعات في إزالة الأنقاض بعيداً من العمل بمساعدة النساء، فنهض الإنتاج بـ 50 بالمئة عما كان عليه قبل الحرب العالمية في شهر تموز/يوليو إلى 80 بالمئة في نهاية السنة، وخصوصاً بعد زيادة الطلب على البضائع الألمانية بسبب الحرب الكورية وتضاعف قيمتها 4 مرات سنة 1958.

يرى مؤرخون اقتصاديون أن خطى مارشال الأمريكية لإعادة بناء أوروبا لم يكن لها أثر كبير في النهضة الألمانية، لتقوم ألمانيا سنة 1971 بتسديد آخر دفعة من تعويضات الحرب. ووصلت معدلات البطالة سنة 1961 إلى رقم قياسي 0.7 بالمئة، فألمانيا دولة صناعية كبرى باقتصاد هو الرابع عالمياً بدخل يتجاوز 49500 دولار للفرد سنوياً، والثالثة في تصدير واستيراد البضائع، ومستوى معيشي عال ومجتمع كفؤ، ومستوى فساد منخفض جداً، وأعلى مستويات الإنتاجية للعمال، ومنظمة ضمان اجتماعي ورعاية صحية وتعليم وحماية البيئة بأفضل المعايير العالمية، وأعلى نسب الالتزام بتدوير النفايات بما يعادل 65 بالمئة من المواطنين، وهي الرابعة في إنتاج السيارات، والثالثة في تصدير الأسلحة. وتحتل عشرات الشركات الألمانية مراكز في قائمة فوربس لأكبر شركات العالم والأولى في مجالها، وفيها ثالث أطول شبكة للطرق السريعة التي لا يوجد في كثير منها حد أعلى للسرعة. وتقود ألمانيا العالم في الطاقات المتجددة، ففي نيسان/أبريل 2017 ولدت ألمانيا 85 بالمئة من طاقتها من موارد متجددة، كما تعمل على التخلي عن المفاعلات النووية في توليد الطاقة بحلول سنة 2021. وتملك ألمانيا أهم مراكز البحث والتطوير في العالم، وسابع وجهة للسياح، إذ زارها أكثر من 436 مليون شخص سنة 2016. ويبدو ماضي ألمانيا شبيهاً بحاضر بلدان متعددة في الشرق الأوسط والعالم؛ فهل يكون مستقبل هذه البلدان شبيهاً بحاضر ألمانيا‏[36].

لذلك وللخروج من الخنق الاقتصادي وجب اتباع مجموعة من التعليمات نحصرها في النقاط التالية:

– من أجل أن يجلب النظام الاقتصادي العالمي المعاصر الخير لكل البشر يجب العمل على تغيير ميكانيزمات عملها تغييراً جذرياً.

– إن هدف البلدان النامية يجب ألّا يكون الوقوف في وجه العولمة ورفضها بل العمل من أجل تهذيبها، وتغيير طابعها الليبرالي المتوحش لجعلها أكثر إنسانية.

– إننا نشاطر مفكري واختصاصيي البلدان النامية انتقادهم لاقتراحات وبرامج صندوق النقد الدولي الموجهة للبلدان النامية المركزة على فرضية «عفوية وفعالية قوى السوق فقط».

– إن خلاص البلدان النامية يمر عبر اتباع سياسة اقتصادية تعتمد على التكامل والشراكة بين الدولة والسوق، على الرغم من أن السوق هو مركز النشاط الاقتصادي ومحركه.

– إن الآثار السلبية الكبيرة التي تنتج من اعتماد البلدان على برنامج «العلاج بالصدمة» المقترح من طرف المؤسسات المالية الدولية آنذاك يفكك اقتصاداتها، وعلى خلاف ذلك نشير إلى نجاح تجربة الاقتراض التدريجي من السوق الذي اعتمدته الصين من خلال السنوات الثلاثين الماضية.

خاتمة

إن تعثر التنمية الاقتصادية لكثير من البلدان النامية وحتى الغنية بالموارد الطبيعية، وعدم تحقيقها للإقلاع الاقتصادي المنشود، يرجع بالأساس لظروف التنمية الداخلية غير المواتية والوضعية غير المتكافئة الموجودة فيها ضمن العلاقات الاقتصادية الدولية، الأمر الذي يمكّن البلدان الصناعية الكبرى وشركاتها متعددة الجنسية من إجراء تحويل عكسي حقيقي لمواردها، وبالتالي التحكم الفعلي بوتيرة التنمية الاقتصادية بها وتفريغها من محتواها.

انطلاقاً من الدراسة النظرية والتحليلية للموضوع توصلنا للنتائج التالية:

– إن سياسات الخنق الاقتصادي التي تمارسها البلدان الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة جعلت المجهود التنموي الذي بذلته البلدان النامية منذ حصولها على الاستقلال لا يؤدّي إلى تغيير حقيقي لوضعيتها في التقسيم الدولي للعمل الموروث عن الاستعمار.

– إن تحليل تطور المؤشرات المختلفة المتعلقة بالجانب الاقتصادي والاجتماعي بين البلدان النامية والبلدان المتطورة قد ازدادت اتساعاً، فالبلدان السبعة الأكثر تصنيفاً في العالم التي تمثل قاطرة الاقتصاد العالمي تسير بسرعة أكبر من باقي العربات التي تجرها، والمشكل الأساسي ليس في النظام الاقتصادي بحد ذاته وإنما بطرائق تسييره من جانب المنظمات الدولية التي وضعت قواعد لعبته.

– إن قواعد عمل النظام الاقتصادي العالمي الجديد التي تمثل أدوات مقنعة للخنق الاقتصادي، قد تم فرضها على البلدان النامية بحكم المكانة غير الملائمة التي تحتلها في التقسيم الدولي للعمل من جهة، ونتيجة لسيطرة البلدان الصناعية الكبرى على ميكانيزمات عمل المؤسسات المالية والتجارية الدولية من جهة أخرى، لذلك فشروط التنمية في ظل هذا النظام تخدم مصالح بلدان المركز أكثر من بلدان المحيط.

– إن آليات هذا النظام ساعدت الشركات متعددة الجنسية على تعميق سيطرتها على اقتصادات البلدان النامية، إذ مثّل هذا أحد الأسباب الرئيسية الكامنة وراء ازدياد القوة الاقتصادية للبلدان الصناعية الكبيرة، وتراجع اقتصادات البلدان النامية وتدهور شروط اندماجها في الاقتصاد العالمي.

– تتحكم الولايات المتحدة في اقتصادات البلدان النامية عن طريق شركاتها المسيطرة على النسبة الكبرى من أسواق المنتجات المصدرة والمستوردة من طرف هذه الدول، الأمر الذي مكنها من التحكم في قنوات التبعية الاقتصادية للبلدان النامية وزيادة حدتها.

 

قد يهمكم أيضاً  فخ النيوليبرالية في دول الخليج العربية: إنقاذ اقتصاد أم إغراق مجتمع؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الولايا_المتحدة #الاقتصاد_العالمي #العولمة #مصالح_الولايات_المتحدة #الهيمنة_الأمريكية_على_العالم #المطامع_الأميركية #المصالح_الأمريكية #السيطة_على_العالم #هيمنة_أمريكا_على_الاقتصاد #الحروب_الاقتصادية #حروب_الخنق #الخنق_الاقتصادي #التبعية_الاقتصادية #البنك_الدولي #الإمبريالية #العقوبات_الاقتصادية