مقدمة:

يستدعي الإصلاح الديني بنحو البداهة سؤال الاجتهاد في مبانيه ومفترضاته وراهن نشاطه ومؤسساته. فالاجتهاد صلب أي تفكير ديني، ووراء أي حكم أو تشريع، ومستند أي صلاحية إفتاء أو نطق باسم الدين، ومنطلق أي مسعى للتغيير أو الإصلاح أو التجديد. ذلك بأن الإسلام المتداول، بمواده وأدبياته، في زماننا، ليس مجرد نصوص دينية تُوثّقُ فترة النبوة، بل هو حصيلة جهود تدوين وأنظومة معارف ومناهج ومبان وافتراضات (متيقنة أو مظنونة) تم تشييدها بنحو تراكمي على امتداد زمن غير قصير (تجاوز أربعة قرون على الأقل)، لغرض ضبط النصوص الدينية، وفهمها وتفسيرها، وضمان فاعليتها في الأزمنة التي تلي زمن النبي. فالنصوص الدينية بطبيعتها مواد خام، تنفتح بعد النبي على دلالات متعددة وحتى لامتناهية. ولا يُصوِّبُ هذه الدلالة ولا يحصر معانيها إلا إطار معرفي وإجرائي ناظم يحسم احتمالات معنى النص ويوجه دلالته، والأهم من ذلك يولِّد وفرة معان ودلالات جديدة لا يوفرها المعنى اللغوي المباشر للنص، بل تتحصل بفعل استنباط وجهد إنساني خالصين وفق قواعد مقررة ومتفق عليها بين أهل الاختصاص.

البناءات المعرفية والمنهجية بعد النبي ما كانت لتحصل لولا تحولات جوهرية حصلت في علاقة المسلمين بنصوصهم الدينية ووضعية تلقيهم لها، فرضت عليهم السعي لاستيعاب هذا التحول والاستجابة لتحدياته في فهم هذه النصوص وتوفير برهانيتها.

لا بد لنا هنا من تمييز نمطين تاريخيين لحضور النص الديني، أحدهما النص زمن التأسيس أي زمن صدوره؛ ثانيهما النص زمن التمأسس أي زمن تلقيه بعد النبي‏[1]، وهما زمانان استوجبا نمطي تلقٍّ متمايزين للنص الديني، يمكن عرض خصائصهما بايجاز:

أولهما: تلقي النص الديني زمن التأسيس، الذي هو زمن النبي، حيث كان النص ينطق بنفسه ويملك قدرة تفسير مقصده ودفع الشبهات عنه لوجود النبي المؤسس الذي يملك صلاحية توضيح مراد أي قول ديني، نبوياً كان أم قرآنياً، وتعيين وجهته ومعناه، بحكم الوحدة بين النبي والقول الديني في التعبير والمسار والوجود. فالقول الديني زمن النبي هو التجربة النبوية الحية التي عبّرت عن نفسها بالمواقف والتصريحات المتعددة، ثم استحالت بعد رحيل النبي نصّاً مدوَّناً، يضع نفسه بين الناس ليقرؤوه ويفسِّروه ويؤوِّلوه.

هذا الأمر جعل العلاقة بين القول الديني وبين الناس، علاقة تكلُّمٍ من النبي وإنصات من جانب المؤمنين، الذين شدد القرآن على ضرورة إنصاتهم واستماعهم له حين يتلى: ﴿وَإذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون﴾‏[2]. وأكد أن الناس لا يملكون الخيرة من أمرهم ﴿… إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا …﴾‏[3]. ما يعني أن كلام الله ووحيه وقول نبيِّه، لم يكن موضوعاً للتفسير أو التأويل، فوجْهته واحدة، وهنالك جهة حصرية تحدد هذه الوجهة، ولا يملك أحد النطق أو الاجتهاد أو التصريح بخلاف ذلك.

ثانيهما: تلقي النص زمن التمأسس، أي أزمنة ما بعد النبي، حيث يفقد النص القدرة الذاتية على استجلاء قصده، ويصبح عرضة لسوء الاستعمال، ما لم يتم ضبط تداوله وتقنين تأويله. فبعد اللحمة الحاصلة بين شخص النبي وقول الله ومراده، التي فرضت اتباعاً وإنصاتاً وطاعة، أصبح المسلمون متروكين لمصيرهم، وعليهم المبادرة لتعويض غياب المؤسس، ونقل مجمل التجربة النبوية إلى نص مدوَّن، أي نقله من حالة التداول الشفاهي إلى وضعية موثقة منضبطة، تحسم الجدل حول مادة الوحي، وتُوحِّدُ المسلمين حول مرجعية موحدة، وتضمن استمرارية ثابتة وحضوراً دائماً لوحي الله في حياة المسلمين.

أحدثت وفاة النبي متغيرات موضوعية في النص الديني، لا تطاول عين لفظه بل شكله وترتيبه، وعدلت الكثير من عناصر أو شروط تلقيه ووضعية قراءته‏[4]. أهم هذه المتغيرات:

1 – غياب المؤسس الذي هو النبي. وهو أمر جعل النص الديني مكشوف الظهر، وموضوعاً في تصرف المسلمين من دون دفاعات ذاتية به. فبعد أن كان النبي يحسم أي جدل أو شك حول معنى الوحي ودلالاته، أصبح النص مفتوحاً على احتمالات معنى متعددة. وبات كل احتمال يحمل مشروعية أمام الاحتمالات الأخرى لغياب المرجعية التي تحسم الجدل حسماً قاطعاً.

لم يعد النص قادراً على التكلم على نفسه، وكان على المسلمين استنطاقه والكشف عن معناه. ومع غياب المفسر الأول (النبي) الذي يحدد المعنى الواقعي والحقيقي لمراد صاحب النص لا الزائف والمتوهم، فإن معرفة هذا المعنى لم تعد ممكنة ورحلت مع النبي إلى الأبد، وبات معنى النص أثراً من آثار فهم النص، ونتيجة من نتائج النشاط الذهني والفكري (الجمعي والفردي) الذي يمارسه المتلقي للنص أثناء فعل فهمه وتفسيره له. وهو نشاط لا يكشف عن المعنى الموضوعي الكامن، مثلما تدّعي مدارس التفسير والفقه التقليدية، بل يمارس ترجيحاً لمعنى محدد من بين المعاني المتعددة والمحتملة. أي انتقلت المعرفة بالنص زمن النبي من حصرية معناه ووحدة وجهته، إلى المعنى الظاهر‏[5]، وهو المعنى الظني الأكثر احتمالاً ورجحاناً من بين العديد من المعاني المحتملة التي تتوالد إلى ما لا نهاية مع تجدد شروط حياة جديدة.

2 – تغير الشروط التاريخية والاجتماعية والسياسية بعد النبي، فرض تبايناً بين الوقائع التي نزلت لأجلها الآيات، والوقائع الجديدة التي لا تطابق الوقائع الأولى ولا تشابهها. وهو أمر خلق مفارقة مربكة عند المسلمين، تمثلت باستخراج حكم أو موقف ديني من النص الديني لوقائع وأحداث لم تكن ملحوظة في أصل نزول الآيات، بسبب أن هذه الآيات نزلت في سياق وقائع وأحداث مختلفة.

هذه الوضعية فرضت على المسلمين تحديد موقف الآية من الواقعة الجديدة بجهد فكري إضافي عبر ما سمي الاجتهاد. وهي عملية صناعية لا تهدف إلى الكشف عن الحكم الشرعي، بقدر ما تهدف إلى إنتاج الحكم الشرعي وفق معايير افترضها الفقهاء من خارج النص، والتي أهمها القياس، والمقدمات العقلية، والأصول العملية، وقواعد الإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص. وهي جميعها قواعد استخلصها المسلمون من أصول التخاطب العربي، بناءات العقلاء في التخاطب والفهم، قواعد إنتاج القول وقواعد فهمه، إضافة إلى قواعد المنطق اليوناني التي أخذت تتسرب تدريجاً إلى بُنى الفكر الإسلامي.

إذا كان الصحابة الأوائل يستدلّون على ما استقر في ذاكرتهم من أفعال أو أقوال للنبي، أو ما تستحضره قرائحهم من آيات قرآنية، من دون أي إضافة أو حاجة إلى الاستدلال على معنى أو حكم معين، فلأن النص الديني كان يخاطب الواقع الذي أسسه النبي واستمر عليه الصحابة الأوائل. فلا موضوعاته تغيّرت، على الأقل في مرتكزات الواقع العامة، كما أن ذاكرة الصحابة ظلت حية وناشطة في كيفية معالجة النبي مُجمل الأحداث والوقائع. بيد أن التغير التدريجي للمجتمع الإسلامي، في رقعة وجوده ومدى سلطته وبناه الاقتصادية، أحدث تغيراً جذرياً في نظام العلاقات وشبكة الحياة؛ ما ولَّد واقعاً جديداً ذا موضوعات جديدة غير منصوص عليها، استدعت أحكاماً تناسبها وتضبط حركتها، وهي اللحظة التي استوجبت اجتهاداً يكون بمنزلة ترجمان للنص الديني، ذي المنشأ الزماني الخاص، إلى الأزمنة اللاحقة.

3 – تغيُّر متلقي النص بفعل توسع الانتشار الإسلامي الذي أحدثته الفتوحات الإسلامية، ما استتبع دخول مكوِّنات اجتماعية وثقافية مختلفة عن جيل الصحابة، وانخراط وجوهها في تداول القرآن وفهمه. إضافة إلى الانقراض التدريجي لجيل الصحابة، وظهور أجيال جديدة، تمثلت بالتابعين وتابعي التابعين، الذين لا يحملون في مخيِّلتهم وذاكرتهم خلفية النص التاريخية، أو القرائن الاجتماعية والثقافية التي اقترنت به.

فرض تغيُّر المتلقين تغيراً كامـلاً في العلاقة بين المتلقي والنص الديني. فجيل الصحابة، رغم أنهم مارسوا تفسيراً وفهماً للقرآن بعد وفاة النبي، إلا أن ممارستهم للتداول والفهم القرآنيين، كانت مقيَّدة بما رسخ في ذاكرتهم من أسباب النزول وإرث النبي الذي ظل حاضراً بكثافة في وعيهم وتفكيرهم. أي كان الصحابة يتصرفون كما لو كان النبي حاضراً بينهم، ويقدمون مقترحاتهم وفق ما رسخ في أذهانهم من أقوال النبي وأفعاله، ما يعكس حرصهم على حفظ النص داخل سياقه الأولي، ولو بالتمثل الذهني‏[6].

أما الأجيال الأخرى فلا تملك هذه الخلفية، وكانت تتلقى النص القرآني مجرَّداً من أي سياق تاريخي أو مضمون معرفي، ولم تكن السُنَّة لدى الأجيال الأولى متداولة أو معروفة على نطاق واسع، بسبب غياب الضبط الروائي لها، وبسبب التحفظ عن تدوينها. وهو أمر جعل تلقي النص القرآني لدى هؤلاء يحصل خارج سياقه التاريخي، ومنفصـلاً عن أصل نشأته ومتحرراً من أي قيود ظرفية؛ ما سهَّل، بقصد أو بغير قصد، سوء استعمال النص الديني عبر توظيف آياته في مواضع لا تتوافق مع المواضع الأصلية التي نزلت فيها أو لأجلها، إلا أنه في المقابل منح النصوص مرونة عالية واتساعاً دلالياً كبيراً، يُمكِّنَانها من التغلغل داخل أي وضعية إنسانية جديدة.

4 – الانتقال من التداول الشفاهي إلى التداول المكتوب، وهو انتقال فرض وضعية تلقٍّ مختلفة عن تلقيها زمن النبي، من تلقٍّ شفاهي وجزئي، إلى تلقٍّ كلي مُوحد مُدوَّن ومجموع بين دفَّتين من الكتاب (القرآن) ومصنفات حديثية معتمدة وجامعة للقول النبوي، بحيث يملك الفرد أن ينتقل بين فقرات القرآن وجمله وآياته كيفما يشاء، متجاوزاً بذلك ترتيب نزوله الزمني، ومتحكماً في طريقة تلقيه للنص. فلم يعد يتلقى الآية ثم يتطلع إلى نزول غيرها، ولم يعد هنالك حالة ترقب وتشوق لنزول الوحي تباعاً كالتي عاشها المسلمون الأوائل لحظة بلحظة، بل أصبح تلقي النص لازمنياً، بمعنى انفصاله الكامل عن مناسبة النزول وحالة نزوله التدريجي والظرف الزماني والمكاني الأول لتلقيه، ما أضفى على النص حالة إطلاقية، جعلت دلالاته تتحرر من لحظة صدوره الأولى، وتستقل عن شخص قائله أو مبلغه، وقابلة للإسقاط على أحداث جديدة‏[7].

أولاً: النص والحقل الدلالي

كان مقتل عثمان بن عفان وما أعقبه من صراعات كبرى في زمن حكم علي، بمنزلة صدمات متلاحقة في الوعي الديني، أيقظه على شروط حياة جديدة، مختلفة ومغايرة للفضاء الذي احتضن نزول النص وتشكله. فرضت المتغيرات الجديدة قوة دفع هائلة دفعت باتجاه إزاحة كاملة للترتيب السياسي والمرجعية الأخلاقية السابقة، ما أحدث صدمة وجدانية وتشويشاً ذهنياً لدى المؤمنين في استيعاب ما يحصل.

عندما تتغير معطيات الواقع، يفقد النص الديني قدرته على تقديم أجوبة حاسمة لاستيعاب الجديد، ويدخل المؤمنون من جديد في تجربة جدل معرفي وذهني وروحي مع النص، للتكيف مع المتغيرات الجديدة. حيث تتفتح مع كل مستجد إمكانات معنى جديدة للنص، ويأخذ جانب من الصراع بين القوى المتعددة شكل صراع على التأويل، بعدما كان وجه الصراع زمن النبي صراعاً على التنزيل‏[8]. أي ينتقل النص من صراع الوجود والتحقق، إلى صراع المعنى الذي يحدد وجهة المؤمنين وخياراتهم الجديدة.

كانت إحدى أهم لحظات الصراع على تأويل النص، المواجهة الرمزية بين علي والخوارج الذين دعوه إلى الاحتكام إلى كتاب الله، فكان رد علي عليهم: «إنما هو خط مستور بين دفتين لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال»‏[9]. قول علي يؤكد أن عدم نطق القرآن بعد النبي، يستتبع انفتاح النص على معانٍ محتملة لا حصر لها، فلا يعود معنى خاص من لوازم النص وتوابعه، وإنما هو من لوازم العلاقة والاشتباك بين القارئ والنص. أي تنفك العلاقة الذاتية بين النص والمعنى، ويصبح المعنى ثمرة عملية ذهنية ونشاط فكري وروحي يمارسه القارئ على النص أو يمليه النص على القارئ. ما يجعل المعنى يخرج من خلالنا إلى العالم، وعبر قنوات إدراكنا، ونمط وعينا، والأفق التاريخي الذي ننتمي إليه.

كون النص الديني لا ينطق لوحده، يعني وجود فاعليات أخرى حاضرة في عملية توليد الدلالة وإنتاج المعنى وتشخيص الحكم الديني. فلا متلقي النص كائن سلبي يتلقى المعاني بصمت وحياد تامين، ولا هو مجرد صفحة بيضاء يخط عليها النص الديني ما يحمله من معان‏[10]. كما أن النص الديني، بعد ذهاب الرسول المبلغ، لا يملك لوحده حرية الإدلاء بما يريد قوله، أو إملاء ما يريد تعميمه أو إعلانه، بل هو بحاجة إلى جهة خارجية تخرج هذا المعنى منه‏[11].

هذا يعني أن النص الديني لم يعد يملي ما يريد بصورة مستقلة عن الحقل الاجتماعي والثقافي الذي يوضع فيه. فالنص يدلي بمعناه بعد موضعته داخل حقل دلالي معين لم يعد من مستلزمات النص وتوابعه، بل هو مجال خارجي يأتيه من واقع اجتماعي وترتيب سياسي ومستقر ثقافي خاص. بالتالي لا يعود النص يحمل معنى (أو حكماً) واحداً عابراً للأزمنة، بعد أن بات معناه وليد نشاط اجتهادي يمارَس داخل حقل إنساني مُحمَّل برهانات معنى ووجود خاصة به، تفرض على عملية الاجتهاد وجهة دلالية جديدة يرشح عنها معان جديدة، ومقترحات فهم مختلفة‏[12].

عندها يكون الاجتهاد عبارة عن استثمار لإمكانات النص داخل حقل إنساني معين يفرض على الاجتهاد وجهة دلالية معينة، وليس استنفاداً لقدرات النص نفسه. فالنص لا تُستنفد محتملات المعنى فيه، إنما تُستنفد الإمكانات التي يوفرها حقل معين، وعندما تأخذ المعاني تكرر نفسها وتتحول إلى قوالب عقائدية جامدة داخل هذا الحقل، فهذا مؤشر ودليل على حالة الإشباع التي وصل إليها هذا الحقل، مع بقاء معانٍ أخرى لا حصر لها داخل النص في حالة إرجاء وانتظار لحقل دلالي جديد يحقق فعليتها‏[13].

هذا يعني أن فهم النص الديني والاجتهاد فيه، كانا دائماً استجابة لرهانات اجتماعية وسياسية ومعرفية، تفرض بذاتها وجهة دلالية للنص تتقدم على باقي الوجهات. فالرهانات‏[14] هي بمنزلة ماقبليات تسبق عملية القراءة نفسها، ووراء ثنائية القارئ والنص، أو اللفظ والمعنى، بل هي أرضية يقف عليها القارئ والنص معاً، وفضاء تحصل عملية القراءة في داخله، يجعل منها مُوجِّهاً خفياً وشفافاً لخيارات المعنى الجديدة، ووجهة الدلالة التي تُرَجِّحُ معنى على آخر. فالرهانات ليست قضايا معرفية خالصة تندرج ضمن برهان قياسي أو استدلالي، أي هي ليست صغرى أو كبرى أي قياس برهاني، وهي ليست معرفة أو مبادئ محددة، بل هي قوة دفع ووجهة تاريخية تسم واقعاً إنسانياً معيناً، توجه نشاط المجتهد الذي ينتمي إلى هذا الواقع باتجاه دون اتجاه، وتحدد وجهة دلالية للنص من بين عدة وجهات أخرى محتملة وممكنة، وتعوِّمُ معنى خاصاً للنص على حساب معانٍ أخرى مكافئة له بالفهم اللغوي الأولي، أو التحليل العقلي الرياضي‏[15].

فإذا كانت الدلالة اللغوية وملازماتها العقلية من توابع النص الديني، ترافقه في حِلِّه وترحاله، فإن رهانات المجتمع التي تؤطر خياراته الوجودية والحياتية، تحدد وجهة النص الدلالية، أو إذا شئت المقصد الدلالي للنص الذي يتجاوز الدلالة اللغوية من دون أن يلغيها، لينتج مفاهيم ومعانيَ وقيماً دينية لزمن من الأزمنة وعصر من العصور‏[16].

لذلك، وبدلاً من قصر النظر على الضوابط والقواعد التي تحدد وتشرط القراءة، وتجعلها منتجة أو منضبطة، ليكون في الإمكان تمييز الصحيح منها والفاسد، أو المستقيم من المنحرف، أو الممدوح من المذموم؛ وهو النظر الذي انصبّ عليه التأسيس الفقهي وعلوم التفسير كلها؛ بدلاً من كل هذا لا بد من النظر في عملية الاجتهاد نفسها وتفحُّص حركتها وديناميتها أثناء نشاطها. أي ماذا يحصل أثناء عملية الاجتهاد، وكيف تحصل هذه العملية وما هي الفاعليات الحاضرة أثناءها؟ وما هي الرهانات التي وقف العقل الديني على أرضها في فهم نصوصه واستنباط أحكامه، جعلت النص يأخذ وجهة دلالية معينة من دون أخرى؟

ثانياً: الاجتهاد وثبات الطبيعة البشرية

بات على المسلمين بعد النبي، ليس فهم معنى النص الديني فحسب، في دلالاته اللغوية الأولى أو معناه المستقر زمن النبي، بل إيجاد صلة وثيقة بين النص والوقائع الجديدة، العامة والخاصة، المسماة في أصول الفقه الموضوعات. وهو مسعى يفرض فهماً جلياً لطبيعة هذه الموضوعات ووظائفها الاجتماعية والسياسية ليكون في الإمكان إلحاقها بالحكم الديني الذي يناسبها. وهي عملية أكثر تعقيداً من مجرد معرفة الدلالة اللغوية الخالصة للنص، أو المراد الأصلي منه، بل هي عملية تركيب ومواءمة صناعية بين النص والواقع الجديد، ليحتفظ الدين بسيادته التي تضمن للنص فاعلية راهنة ودائمة‏[17].

فالاجتهاد الفقهي ليس اجتهاداً في فهم النص الديني فحسب، بل هو أيضاً اجتهاد في فهم الموضوعات الجديدة، واستيعابٌ لحقيقة التحولات وجديتها. وهي الجهة التي عرَّضت القرآن لسوء استعمال، ليس لجهة تحريف معناه الأصلي، بل لجهة إسقاط النص الديني على موضوعات لا تلائمه، ولجهة الارتباك والتناقض في تطبيق (أو تشخيص) أحكامه على الوقائع الجديدة‏[18].

الذي حصل أن التراث الاجتهادي الذي أُنتج لتأمين انتقال مريح للنص عبر الأزمنة، يمكِّنَه من بسط سيادته على تفاصيل الحياة، وممارسة رقابة مفصلة، باطنية واجتماعية، على سلوك المتديِّن؛ هذا التراث، وبغرض تأكيد ثبات النص الديني وشمول أحكامه لكل الأزمنة، عمد إلى تجميد الزمن، بمعنى إظهار عرضيته وهامشيته في واقع البشر. فالوقائع والأحداث تجليات متعددة لمسلكيات إنسانية صادرة عن طبيعة إنسانية واحدة وثابتة، ذات أحكام واحدة وثابتة. ومقولة أن «النص لكل زمان ومكان» تُرجِمَ بمعنى ثبات الواقع الإنساني، الذي تعود ظهوراته المتعددة إلى حقيقة واحدة لا تتغير أو تتعدل.

بذلك وبدلاً من الاقتصار على ثبات النص، عمد العقل الفقهي في معرض إثبات صلاحية النص لكل الأزمنة إلى تجميد الموضوع وتأكيد ثباته وعدم تغيره، ليكون بالإمكان بسط سلطة الأحكام الدينية الأولية عليه. ثبات الموضوع وحرص الفقه الإسلامي على إلحاق الموضوعات المستجدة بموضوعات الزمن التأسيسي الأول، جعل النشاط الفقهي يتحرك بطريقة معاكسة، إذ بدلاً من استنطاق النص بما يحمله لكل زمن ليكون بإمكانه الاستجابة لرهانات ذلك الزمن والتفاعل مع حقله الدلالي الجديد، وبالتالي الكشف عن أو تأسيس أحكام دينية جديدة، فقد تم إلحاق الأزمنة المستجدة بالزمن التأسيسي الأول، ما تسبب بإفراغ تلك الأزمنة من دلالة التجارب الإنسانية الجديدة وتجاهل التحولات الجوهرية التي أحدثتها؛ ليس على الواقع الإنساني فحسب، وإنما على الطبيعة الإنسانية نفسها التي تَبيَّنَ أنها حقيقة تاريخية، وأن زمانيتها (Temporality) ليست مجرد قياس كرونولوجي (Chronological) لنشاط الإنسان الخارجي، وإنما هي حقيقة تدخل في صميم كينونته الوجودية‏[19].

هذا الأمر أدى، بحكم التطابقات الوهمية التي اعتمدها الفقه بين الأزمنة اللاحقة والزمن التأسيسي الأول، إلى إسقاط أحكام دينية على موضوعات لاحقة ومستجدة تشبه موضوعاتها الأولى في المظهر أو العنوان وتختلف عنها في الطبيعة والحقيقة والوظيفة الاجتماعية والسياسية.

ازدراء الفقه للتاريخ، لم يفرغ الأزمنة اللاحقة من مضمونها وحيويتها فحسب، وإنما جمَّد النص نفسه، وعطَّل طاقة تحريكه وتفاعله مع الأزمنة اللاحقة، فتوقف الخطاب القرآني، كما يقول أركون، «عن ممارسة دوره كقوة منظِّمة أو مشكِّلة ترسخ وعياً في حالة الانبثاق ضمن الأحداث المعيشة من قبل جماعة المؤمنين، وأصبح بالتدريج فضاءً ثابتاً للإسقاط ومرجعاً يُرجَع إليه من أجل تحديد المعايير السيمانتية والأخلاقية والسياسية والشعائرية والقضائية التي ينبغي أن تتحكم منذ الآن فصاعداً بفكر كل مسلم وممارسته، راحت تُسقَط عليه في أزمان تالية مختلفة وفي آن واحد كل أنواع التصورات والمفاهيم والأفكار والتحديدات.. وكلما تباعد الزمن عن المنبع الأولي، كلما ازدادت حدة الحنين للصفاء الضائع وكلما تحولت تلك اللحظة التاريخية الأولى إلى لحظة أسطورية تتمركز فيها كل القيم الحقيقية والوسائل الفعّالة من أجل النجاة الأخروية»‏[20].

هذا البناء لم يكن وليد مقترح معرفي أو منهجي لمذهب أو فقيه خاص، بل هو استجابة صميمية لرهانات الزمن الذي تأسست عليه العلوم الإسلامية كلها، وللحقل الذي يوجِّه النص الديني وجهة دلالية محددة مهما تنوعت المذاهب وتعدد المجتهدون وتكررت الاجتهادات.

كان الزمن في الوعي الإسلامي وما زال زمن الله لا الإنسان، والأحداث، في تناغمها وتوترها، تدبيراً إلهياً مسبقاً لغاية مقررة وحتمية. وهي حقيقة تجلت على أكثر من مستوى:

– على مستوى الوعي بالتاريخ، الذي كان وعياً بتاريخ الله ومسار تدبيره للكون والحياة. صحيح أن السرد التاريخي في المصنفات التاريخية المبكرة، انصبَّ على الأحداث التي هي من صنع البشر غالباً، بيد أنها كانت في حقيقة أمرها ترى التاريخ تجلياً للإرادة الإلهية وتاريخ العلاقة معه. أي كانت تدوّن تاريخ الله في العالم، حيث لم تعد قصة الله مقتصرة على فعل الله الأول الذي أخرج الوجود من العدم، بل صارت قصة تدبير الله للحياة الإنسانية منذ بداية الخلق حتى نهايته‏[21].

ولو أخذنا تاريخ الطبري، كعيِّنة لما نقول، نجد أن الطبري لم يكتب أي تاريخ، بل كان يكتب التاريخ الحق. هو تاريخ الله من أوله إلى آخره، فهنالك تاريخ قبل خلق الإنسان، وتاريخ الخلق، وتاريخ لنهاية الخلق وتاريخ ما بعد الخلق. ما يجعل الوجود الإنساني في التاريخ فصـلاً من فصول هذا التاريخ، تقتصر الأحداث الإنسانية فيه على مدى الاستجابة لنداء الله، ما جعل محرك التاريخ الأساسي رضا الله وغضبه.

لذلك تجد الطبري يحدد مقولة الزمان، فيعمد إلى إخراج معناه من المضمون الإنساني، أو الحدث الإنساني، ويجعل منه مقولة كونية، تتحقق بوجود الإنسان أو من دونه. فالزمان عند الطبري هو «ساعات الليل والنهار» هو زمن الخلق، والعلم بها هو لغرض ديني بحت: «العلم بأوقات فروضهم التي فرضها عليهم في ساعات الليل والنهار والشهور والسنين من الصلوات والزكوات والحج والصيام وغير ذلك من فروضهم وحين حل ديونهم وحقوقهم»‏[22].

– على مستوى النظرة إلى الإرادة الإنسانية ودورها في التأثير في الأحداث العامة. حيث استقر في الوعي الإسلامي جبرية سياسية، تمثلت بجدل رمزي في حضرة الخليفة وفق ما رواه الطبري: «فدعا هشام بن عبد الملك ميمون بن مهران ليكلمه (غيلان الدمشقي) فقال له ميمون: سل فإن أقوى ما يكون إذا سألتم. قال له: أشاء الله أن يعصى؟ فقال له ميمون: أفعصي كارهاً».

هو مشهد رمزي ينقل حواراً بين وجهتين تنزع كل منهما إلى تقرير مصير الوعي الديني، حوار يعبر عن لحظة مفصلية في خيارات المعنى ورهانات الوجود الإنساني: بين أن يملك الإنسان القدرة على تقرير مصيره، وبالتالي تصبح السلطة شأناً من شؤونه، وبين سلبه القدرة على كل شيء بما فيه فعله المباشر. حوار تمحور حول المقابلة بين قدرة الله وقدرة الإنسان، أو بالأحرى فعل الإنسان الحر والمستقل مقابل فعل الله المطلق والعادل، حيث إن تحقق الواحدة منهما ستلغي الأخرى. فإذا كانت قدرة الله شاملة إلى حد إلغائها للقرار الإنساني، فإن عدالة الله تصبح محـلاً للشك والتهمة، وإذا كان الإنسان قادراً على فعله بنحو مستقل، فإن الله يصبح عاجزاً في ملكه.

كانت الغلبة في نهاية المطاف لمنطق السلطة‏[23]، وتم استكمال حلقة التعالي بالسلطة، بأن استثنيت بالكامل من دائرة الاختيار الإنساني، لتتقلص الحرية الإنسانية وتقتصر على الفعل المباشر الذي يُحمِّله مسؤلية عمله في الآخرة، ويمكنه من تأمين بقائه وحاجاته الأولية. ولتستقر الجبرية السياسية سمة راسخة وعميقة في بنى التفكير الاجتماعي العام، أخرجت بموجبها المجال العام من دائرة التفكير الديني والتنظير السياسي، وانطمست بموجبها دلالات حرية متوترة وقلقة فاض بها النص الديني نفسه.

بانتفاء استقلالية المجال العام، ووضعه خارج الاختيار الإنساني، مع عدم انبثاق النشاط الاقتصادي الذي يخلق في الإنسان الوعي بقدراته وإمكاناته التي تتعدى دائرة نشاطه اليومي، ترسخت جبرية سياسية صارمة مثلت رهانات المعنى والوجود الإنساني داخل الوعي الديني. وهي رهانات غلفت النص الديني نفسه، وباتت اللوحة الخلفية لأي تفكير بالنص الديني حتى يومنا هذا. فلم تعد المسألة تتعلق بأهلية من يجتهد في النص الديني، أو الكفاءة المطلوبة لذلك، أو القواعد التي يجب التقيد بها في عملية الاجتهاد، بل أصبحت مسألة رهانات تغلف كل عملية تفكير وكل فعل اجتهاد داخل النص الديني، لتفرض وجهة دلالية خاصة للنص من بين وجهات أخرى، وترجح معنى من بين معانٍ أخرى محتملة، مهما تنوعت الخلفيات والثقافات والكفاءات‏[24].

ثالثاً: النص لكل زمان ومكان

من هنا، فإن تعميم مقولة: «القرآن لكل زمان ومكان»، لم يقتصر على تأبيد النص، بل شمل تأبيداً لفهمٍ خاص للنص تمت بلورته في مرحلة تاريخية معينة، وفي إلصاق معانٍ «ثابتة» له لم تعد تعني للإنسان المعاصر شيئاً بل أصبحت مصدراً لإرباكاته وتأزماته، لأنها تلغي فوارق الأزمنة وتُطابِق بين رهانات المعنى الخاصة بكل زمن. فتضع الإنسان المعاصر أمام أزمة: فإما اختيار الإيمان ومصادرة كل ما يمليه العصر، وإما الاستجابة لمتطلبات العصر ورمي الإيمان في زاوية الحكايا القديمة.

الحلقة المفقودة في كل هذا أننا توقفنا عند ما قاله النص لزمن خاص ولم نعمل على التعرف إلى ما يمكن أن يقوله لزماننا. وهو تعرف لا يكون بالتلقي السلبي لما يقوله النص أو الإنصات الكامل لمدلولاته، إذ إن متغيرات التلقي بين زمن الصدور الأول للنص والزمن الراهن تمنع النص من التفرد من إنشاء خطابه الراهن وبيان مدلولاته المعاصرة، لأنه يحتاج إلى قراءة معاصرة تتحقق من خلال قارئ معاصر، لا تكتفي بالكشف عن معاني النص اللغوية أو مقاصد الكلام، بل تتقدم خطوة إلى الأمام للتمييز بين خطاب النص المباشر الذي كان موجهاً إلى زمن النبوة، وما نحن مخاطبون به في النص ومُوجَّهٌ إلينا. توليد الخطاب المعاصر للنص لا يتحقق إلا بالانتقال من الإنصات التام لما يمليه النص من معان لغوية وملازمات عقلية إلى الدخول في وضعية حوار معه، يحتفظ فيها كل من النص والقارئ بفاعليته وحضوره، وتتم مراعاة الآفاق الزمنية الفارقة بين الطرفين، ليكون خطاب النص الديني المعاصر ثمرة تفاعل متبادل بين القارئ المعاصر والنص، ونتاجاً مشتركاً يسهم فيه الطرفان.

فكرة أن «النص الديني لكل زمان ومكان» تعني أن لدى النص ما يقوله في كل زمان ومكان، ولا تعني، كما تتم ممارسته وترويجه، وجود استمرارية بنيوية وتماثلية معنوية ما بين الزمكان الأولي والأصلي الذي لفظت فيه الآيات والأحاديث لأول مرة وبين الزمكانات المتغيرة، حيث يتم في الوعي الديني الانتقال بين الأزمنة مع تغييب كامل للفوارق الجوهرية القائمة بينها، ومن دون طرح أي تساؤل بخصوص شروط إمكان وصحة ممارسة كهذه.

مجال معرفتنا ومفترضاتنا المسبقة تمنعنا من مشاركة الأولين تجربة تلقِّيهم النص، وما فهمه الأولون بأنهم معنيون به وموجّه إليهم ليس بالضرورة أن يكون موجهاً إلينا أو أننا معنيون به، ومن الممكن أن نرى شيئاً في النص لم يروه وأن يتحسسوا في زمانهم شيئاً يمكننا أن نتحسسه. فما تقبله ثقافة أو فترة تاريخية ليس بالضرورة أن يكون محورياً ونهائياً أو ثابتاً في كل الثقافات أو العصور الأخرى‏[25]، وإذا كان من الصعب إلغاء دور المجتهد بوصفه ذاتاً وكينونة قائمة في التاريخ، فإنه من غير الممكن تموقع هذه الذات خارج التاريخ، بل هي موجودة دائماً داخل التاريخ تعيشه وتعانيه‏[26].

بذلك فإن الاجتهاد يؤلّف حواراً بين الماضي والحاضر، تكون حصيلته انصهار أفق المعاني والاقتراحات التاريخية الخاصة بنا مع الأفق الذي تَموضع ضمنه النص الديني. ولهذا لا يمكننا أن ننظر إلى أي معنى من المعاني التاريخية المكتشفة بوصفه المعنى الحقيقي والنهائي للنص، بل ننظر إليه بوصفه نتاج التفاعل بين تجربتنا الحاضرة وتجربة النص، أو نتاج انصهار الآفاق المشروط تاريخياً. حيث في كل عصر نفهم الماضي فهماً جديداً انطلاقاً من الأفق الراهن لحاضرنا، وفهمنا للماضي وللحاضر أيضاً هو نتاج التفاعل والحوار بين اللحظتين الزمنيتين، وهما يتعدَّلان باستمرار‏[27].

إن استحالة تجرد عملية الاجتهاد من أفقها الراهن تفنِّد مقولة المعنى الموضوعي المطابق للنص، أو المعاني اللازمنية أو التي تتكشف كلية وبكيفية مباشرة أياً كان العصر الذي يُتلقى فيه النص، وأياً كان المتلقي، بل يدحض إمكان الفهم الدفعي للنص أو إمكان حصوله مرة واحدة فقط. إذ إن ذلك كله يعني تملص المجتهد من وضعيته التاريخية الخاصة وتموقعه في كل الوضعيات التاريخية الممكنة، وهو ما يبدو أقرب إلى المثالية منه إلى الواقع.

بهذا، فإن القول بأن الله يتكلم إلينا عبر وحيه، لا يعني أن ما قاله النص لجيل المتلقين الأوائل هو عين ما يقوله لنا، أو أن ما نفهمه منه يجب أن يكون مطابقاً لما كانوا يفهمونه، ولا يعني، بل لا يمكن، أن يكون مطابقاً لما قصده الذي نطق بالنص نفسه (الله أو النبي). فكما لا يمكن القول بأن القرآن سِجِلٌ تاريخيٌ لماضٍ من المعتقدات الدينية والإيحاءات في العالم القديم، كذلك لا يمكن القول بأن القرآن مجرد سجلٍّ ثابت لتوجيهات وتعاليم تُتلقى وتُفهم وتُطبق في كل الأزمنة على هيئة واحدة.

ولعل أهم مترتبات متغيرات التلقي انتفاء المطابقة، كما ذكرنا، بين نص الوحي وبين الكتاب المدوَّن؛ بين المتلقي الأول والمتلقي المعاصر؛ بين سياق التلقي الأول والسياق الراهن؛ بين المخاطَب المباشر في النص والمخاطب غير المباشر له، وأهم من ذلك انتفاء التطابق بين خطابين: الخطاب الصادر من النص في لحظة صدوره، الذي اعتقد المخاطب والمتلقي الأول أنه معني به وموجه إليه، والخطاب الذي يعتقد ويرى المتلقي المعاصر أنه مخاطب به وموجه إليه. فلا يمكننا الفصل بين الخطاب وعناصر التلقي بل نجده تابعاً لها، ما يعني أن وحدة الخطاب تقوم على فرضية وحدة التلقي والتطابق في عناصر التواصل في كل الأزمنة، ومع انتفاء هذا التطابق فإن الخطاب بين المتلقين لا يعود واحداً.

عدم التفات المنظومة الفقهية، القديمة والمعاصرة، إلى عناصر التخاطب والتواصل، والاعتقاد بالتطابق بين طبيعة وزمن المخاطَب الأول في النص الديني وطبيعة وزمن المتلقي المعاصر، دفعهم إلى البناء على وحدة الخطاب، وبالتالي القول بثبات الشريعة المستنبطة وأزلية الأحكام الدينية التي فهم المتلقون الأوائل أنهم مكلفون بها، وأرادوا تعميمها على جميع المتلقين في الأزمنة اللاحقة.

رابعاً: أسباب فشل مبادرات الإصلاح

ما تقدم يفسر لنا عدم تغلغل العلوم الحديثة، وبخاصة العلوم الإنسانية داخل العلوم الإسلامية، والريبة المستمرة من الفيلولوجيا والنقد التاريخي والأنثربولوجيا وحتى الفلسفة، في تفسير الظاهرة الدينية وتحولاتها التاريخية؛ بسبب أن هذه العلوم (الإسلامية) مؤسسة على رهانات متباينة مع رهانات العلوم الحديثة، ما يجعل كـلاً منهما يقف على أرضٍ مغايرة للآخر. فالعلوم الحديثة، منذ هوبس الذي اعتبر الاجتماع والسياسية وحتى المدنية مكونِّات اصطناعية أخرجت الإنسان من ضرورات الطبيعة أو اللوغوس، إلى القدرة على صنع مجاله العام‏[28]، لا تقتصر مهمتها على تفسير الظاهرة، طبيعية كانت أم إنسانية، بل يهمها التحكم بها وتغييرها، أي تتعامل مع القدر بوصفه نتاجاً بشرياً خالصاً يمكن فهمه وتفسيره والتحكم بمساره. وهي رهانات لا تزال في حالة تباين صارخ مع الرهانات التي تقف عليها العلوم الدينية، والتي تحصر الأقدار والأحداث العامة بساحة الإرادة الإلهية لا البشرية.

هذا يعني أن إصلاح الاجتهاد ليس فعـلاً معرفياً خالصاً، بل هو أيضاً فعل تغييري يصيب المجتمع ويدفعه إلى تبني رهانات جديدة. فالرهانات تتغير بتغير المجتمع وانتقاله إلى بارادايم جديد يقوم على أطر علاقات وذهنية جديدتين، ينهيان القطيعة مع المنجز المعرفي والعلمي في العالم، فلا يقتصر على مجال التطبيقيات والتقنيات، بل يشمل العلوم الإنسانية بشتى مجالاتها وحقولها. وهذا لا يكون باقتباس هذه المعارف أو توليد مهارة في ممارستها، بل بإيجاد سياق معرفي تفاعلي داخل المجال العربي، يمكنه من قراءة واقعه ورصد تحولاته بطريقة علمية، واقتراح افتراضات نظرية وإجراءات علمية في تفسير الظواهر واكتشاف الحقائق وفهم الواقع والتحكم به.

وهي عملية لم تتحقق بعد بحكم تجذر هذه الرهانات وصيرورتها بنى اجتماعية عميقة وأطر علاقات واعية تحكم سلوك الأفراد وخيارات المجتمع الراهنة. فالاجتهاد آخر الأمر، نشاط اجتماعي أكثر مما هو جهد فردي، بمعنى وجود منظمة اجتماعية تراقب نشاط التفسير، وتفرض على المفسر الانتماء إلى جماعة التفسير والتماهي مع مبادئها وقواعدها. أي هي عمليةٌ مراقبةٌ ومسيطرٌ عليها، تجعل معنى النص نتاجاً لإلزامات اجتماعية وإكراهات وممارسات وضغوطات سلطوية وثمرة سياسة «الحقيقة» الخاصة بأيديولوجية المجتمع المهيمنة في داخله.

هذا يفسر لنا إخفاق مبادرات الإصلاح في الفكر الديني، التي تراوحت بين اتجاهات ثلاثة:

أولها مسعى توفيقي هدف إلى مواءمة الوافد الغربي مع المرجعية الإسلامية، لغرض استيعاب الصدمات والارتجاجات التي أحدثتها الحداثة في أكثر من مجال حياتي وذهني. وهي مواءمة تقوم على استراتيجية هضم مكتسبات الحداثة وتأسيس مقبولية إسلامية لها، بإرجاع كلياتها المعرفية والأخلاقية إلى أصول إسلامية، مع إظهار آفاق الفكر الإسلامي الحداثوية. فكان الإصلاح يتحرك في اتجاهين: اتجاه تفكيك الحداثة إلى عناصرها التاريخية التي كان للإسلام دور في انبثاقها؛ واتجاه يصوِّب مسار الفكر الإسلامي وتنقيته من شوائب الاستبداد والاستعباد والخرافة التي لحقت به بفعل التشوهات والتلاعبات التي أحدثتها السلطات السياسية المتعاقبة، والعودة إلى مقتضيات التوحيد الصحيحة التي تستدعي بمراعاتها التحررَ والمساواة والعقلانية‏[29].

رغم المباني الواعدة التي أطلقها الحراك الإصلاحي الأول، إلا أنه أخفق في إزاحة الإرباك الحاصل في هضم واستيعاب «السيل الجارف» للتمدن الغربي بحسب تعبير خير الدين التونسي، وفي تليين التكلس الحاصل في بنى الفكر الديني، الذي تسبب به إغلاقُ باب الاجتهاد من جهة وحصر النظر بظاهر النص الذي تمليه قواعد التخاطب اللغوي، هذا فضـلاً عن تبعية المؤسسة الدينية لمصلحة النظام السياسي الحاكم (لا الدولة) ما جعل القول الديني منحازاً في أكثر أدبياته لمصلحة السلطة على حساب المجتمع والأمة.

كان الإصلاح عائماً فوق صفائح متجذرة وصلبة من البنى التقليدية‏[30]، لم يستطع الإصلاح اختراقها أو تحويلها، ما جعله نشاطاً نخبوياً يفتقد العمق الاجتماعي وقوة الدفع المجتمعية التي تمكِّنه من إحداث التجديد المطلوب. ما فعله الإصلاح هو أنه جاور بين مرجعيتين: المرجعية الإسلامية والمرجعية الحداثوية، من دون إحداث تفاعل متبادل بينهما؛ فلا الفكر الإسلامي استفاد من منهجيات البحث الجديدة، ولا الفكر الغربي ساعد الفكر الديني الإسلامي على تعديل مقارباته في قراءته لنفسه وفهم ماضيه ومعالجة أزماته الراهنة.

ثانيها هو الاتجاه الليبرالي، الذي انحاز إلى الحداثة الغربية بكل مندرجاتها، ورأى في الليبرالية مدخـلاً للحرية السياسية والمبادرة الفردية وبناء الذهنية العلمية. هذا الاتجاه ترك أثره في مناحي الفكر الديني بتكرار الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وبناء الدولة على أسس علمانية خالصة، وقراءة النصوص الدينية قراءة تاريخية وفيلولوجية، مثلما فعل على عبد الرازق في تأويل النصوص القرآنية للتأكيد أن السلطة ليست من شؤون النبوة، ومثلما فعل طه حسين في إدخال مناهج النقد التاريخي في قراءة التاريخ الإسلامي والتحقق من وثائقه، وتوظيف البحث الأنثروبولوجي في تصوير الثقافة المصرية‏[31].

هذا الاتجاه كان أكثر فهماً واستيعاباً للفكر الغربي، وأكثر فاعلية وحرية في توظيف مقولات هذا الفكر داخل المجال الإسلامي. بيد أنه اتجاه لم ينتج مجالاً معرفياً مستقـلاً داخل الفضاء الإسلامي، ولم يحدث سياقاً معرفياً يتلون بتلاوين الخصوبة التاريخية والثقافية للمجتمعات الإسلامية، بل ظل فكراً وافداً وضيفاً على موائد المتفكرين والباحثين. وبخاصة أنه عجز، بحسب العروي، عن فهم الأصول الفلسفية والمعرفية للفكر الغربي واستيعاب دينامية مقولاته وتاريخيتها، حيث كان تداوله لبعض مقولات الليبرالية، مثل الحرية، أشبه بشعارات شعبوية أملتها الرغبة بالتحرر من الاستعمار وبناء حكم تمثيلي بديل عن حكم الاستبداد‏[32].

لذلك كثر الحديث عن الحرية والمساواة والعدالة من دون ظهور رؤى اقتصادية واستراتيجيات تنمية ونظم توزيع مدروسة للموارد، وكثر الحديث عن التمثيل السياسي من دون تصور واضح لمفهوم الدولة بخصائصها الحديثة، وانتشر التبشير بالعقلانية من دون التفكر الجدي بنشاط العقل وفعل التفكر داخل المجال العربي والإسلامي. ظل هذا التيار خارج صروح الفكر الديني، ولم يتمكن من التغلغل داخل مؤسساته الإفتائية والعلمية، بسبب دعوته المعلنة والمبطنة إلى إقصاء المصادر الدينية من مرجعيتها ودورها في الحياة العامة، ما أثار ريبة وحذراً من الفكر الديني جعله أكثر انكماشاً تجاه كل وافد غربي أو مقترح منهجي حديث.

ثالثها هو الاتجاه الأصولي، الذي اتخذ مقاربات وهيئات متعددة، وتفاوتت مستويات الخطاب فيه بين الليونة والسلبية الكاملة. إلا أن الجامع بينها جميعاً هو اعتماد الأصول الإسلامية أرضية ومرتكزاً لكل بناء حديث ومعاصر. هذا لا يعني استعادة حرفية لمعنى النص الديني، أو إحياء أشكال سلطوية قديمة، بل وجدنا جهداً فكرياً لافتاً في صوغ الإسلام صياغة عصرية، واتخاذه تأسيسات نظرية حول مسائل الحكم والاقتصاد والمجتمع. وهي صياغات لا تخفى فيها الاستعارات المنهجية والفكرية من الغرب، ليتخذ الإسلام صفة المنظومة المتكاملة والشاملة التي تتسع جميع جوانب الحياة، والقادرة على تأمين الرفاه والأمن والطمأنينة لإنسان العصر الحائر.

أخذ مضمون الخطاب الإسلامي في بداياته، يُترجم مضموناً سياسياً بلغة عقائدية مكثفة وصياغة أيديولوجية منفعلة‏[33]. بيد أن الضغط الأمني والعزلة السياسية التي عاناها هذا الاتجاه، فرض عليه التبصر بواقعية للأمور، والنظر إلى الواقع في مشاكله وأزماته والعمل على حلها، لا الإملاء عليه بما يجب عليه فعله. أي الانخراط في حل أزمات المجتمع لا الإسهام في مراكمتها. وهو تحوُّلٌ تزامن مع بروز نخبة جديدة من الكتّاب والمنظّرين الإسلاميين، أخذوا يمهدون لهذا التحول، ويضعون أسساً تأويلية جديدة، تستعيد منطق الجيل الأول من الإصلاحيين، في الدعوة إلى استيعاب المكتسب الحضاري القائم أو الوافد، بإرجاعه إلى أصول إسلامية مؤسسة له‏[34].

موقف الإسلاميين الإيجابي من الموضوعات الحديثة، مثل الديمقراطية والتعددية وإدارة الحياة العامة، لم يكن ناتجاً من تحول نظري ومنعطف فكري – اجتهادي في نظرية الدولة والحكم، بقدر ما هو نابع من مسعى لإيجاد منطلقات شرعية للدخول في الحياة العامة، حتى لو كانت صورة الواقع السياسي مخالفة لمقتضيات الشرع‏[35]. أي هي تنظيرات ذات طبيعة براغماتية لامعرفية، تصب في دائرة الخروج من المأزق وما يمكن فعله أو بالأحرى ما يجوز فعله، وليس في دائرة فهم جديد أو نظرية حكم مختلفة. كان غاية ما فعله الفكر الإسلامي المعاصر أنه عمد إلى أسلمة الديمقراطية، بإثبات أصول ٍإسلامية لها، تسوغ الإنخراط في فضائها وعالمها وإجراءاتها وحتى التكيف مع تناقضاتها، لأنها من متفرعات الاختلاف الذي سوغه القرآن واعترف بمقتضياته العملية، وهي ممارسة فكرية أخرجت الديمقراطية من سياقها التاريخي وأفرغتها من أساسها الفلسفي، وشيدت لها أصولاً إسلامية، غير مستقاة من التجربة التاريخية للإسلام بل من الفهم التأملي للنص الديني من قرآن وسنَّة.

ظل التفكير الإسلاموي تفكيراً في التعاليم الدينية وفق نصوصها الخام، وليس تفكيراً في التجربة الفكرية الإسلامية، أو قراءة في مناهج التفكير. أي كان تفكيراً في ما يجب أن يكون لا في ما يمكن فعله وما هو كائن. ما جعل العلامة الفارقة في التفكير الديني المعاصر، هي غياب التفكير النظري، وبقاء أطروحاتهم في منطقة الطوبى.

خاتمة

ما نحتاج إليه إحراز تحرُّرَين: تحرر للاجتهاد المعاصر من إكراهات المعنى وإلزامات المداولة التي اعتمدها السلف في تلقي النص الديني، وتحرر للنص الديني من دلالات مقررة مسبقاً تفرض عليه ما يجب قوله وتحجب عنه ما يمكن أن يقوله. هذان التحرران، يكفلان للمجتهد أن يعيش عصره ويتلبس هواجس ذلك العصر وقلقه وهمومه ومخاطره وآفاقه، ويتيحان له في الوقت نفسه الدخول إلى النص والسكن في داخله والتحرك في أرجائه بحرية من دون إملاءات مسبقة، ليتم بناء شروط جديدة للحوار والاتصال والتلقي بين المجتهد والنص، تتحداهما معاً وتستثيرهما في ابتكار أنساق دلالية قادرة على تدشين فضاءات معنى خصبة وتقديم أجوبة جديدة غير مسبوقة.

تحرير النص لا يكون بسلخه عن ماضيه واغترابه عنه، ولا سيَّما أن الماضي هو بمنزلة سمة ذاتية لنشأة النص الديني وتكوُّنِهِ وتشكُّلِه الوجودي والتوثيقي، بل يكون بتتبع حركة انتقاله بين الأجيال عبر سيرورات التلقي المختلفة التي واكبته، والتموج مع تموجاته الأولى والتفيؤ في ظلال المعاني التي ألقاها في الأزمنة المتعاقبة. ما يعني أن راهنية النص أو تحرره ليست في القطيعة مع تراكمات المعنى التي التصقت به من الماضي، بل بالوقوف عليها بوصفها خبرات سابقة للعبور إلى خبرة جديدة تحوي معاني ونسقاً دلالياً مختلفين. هذا يعني عدم الوقوف من التقليد الفقهي الموروث موقف العداء، فالتقليد جزء من المسبقات التي توفر لنا أرضية الإدراك والمعرفة التي نقف عليها، بل علينا التمييز بين المسبقات المثمرة التي ينقلها إلينا التقليد والمسبقات التي تسجننا وتحجب عنا الرؤية‏[36].

راهنية النص لا تكون بالتغاضي عن ماضيه، بل بوضع حركة معانيه وسيرورات تلقيه داخل سياق تاريخي تتواصل جميع أجزائه وتتوالد بعضها من بعض. ويكون تحرر النص بمعنى أن لديه دائماً شيئاً جديداً يقوله، وأن كل ما قيل فيه وعنه هو أشكال تاريخية وتمظهرات بشرية متعددة، يبقى النص فيها قادراً على اختراق دوائرها وتصديع أسوارها، والخروج عن الصمت المطبق الذي تفرضه سلطة المعنى الثابت حوله، التي تفرض أن يطابق قوله مع ما تقرره مؤسسة التفسير الموكلة بتحديد معناه.

حضور النص في عالمنا يتحقق بالذهاب إليه والكشف عمّا قاله وتوصيف سمات خطابه الأولى، من دون المكوث فيه والتحصن داخل جدرانه، كما هو حال العقل التفسيري والاجتهادي، بل بإقامة حالة احتكاك ومواجهة وصدام وتفكيك وتركيب بين أفق النص وأفق الحاضر، حتى يمكن آخر الأمر بناء فهم معاصر للنص وتوليد خطاب مباشر من النص مُوجَّه إلى زماننا. إنه الذهاب إلى النص وماضيه والعودة به إلى الحاضر، والكشف عن حاضريته القابعة داخل ماضويته. إذ ما دام أن النص الديني لم يكن موجهاً إلينا مباشرة فلا يكفي الوقوف عند ما قاله وعبَّر عنه، فهذا من توابع الماضي. بل علينا، انطلاقاً مما قاله لغيرنا، معرفة وتشخيص ما يمكن أن يقوله لنا وبناء الحوار المفترض بيننا وبينه لو جاءنا بنفسه وقرر أن يخوض معنا تجربة إتصال جديدة.

راهنية النص باختصار، لا تكون في العودة إلى ما قاله النص فحسب، بل في ما لم يقله بعد، وليست في ما استحوذ على نظر الأوائل في تأسيس مبانيهم وأصولهم، بل على ما حيَّدوه وأشاحوا وجههم عنه، أي النظر في اللامفكَّر فيه، رغم ترتيلهم الدائم له.

بهذا ندرك عدم جدوى الدعوة التي تميز بين الجوهري والعرضي من النص الديني، أو الثابت والمتحرك فيه؛ فالنص وحدة لا تتجزأ ولا تتقطع. وانتقاء نصوص منه صالحة لزمن واعتبار نصوص أخرى غير صالحة لزمن آخر، يعني عملياً إنتاج نص جديد غير النص الأصلي.

كذلك، لا جدوى من الحديث عن تاريخية النص، بمعنى إرجاعه إلى أصوله التاريخية وإحكام ربطه بوقائع نزوله. فهذا يعطل أي راهنية للنص، وبخاصة أن النص الديني، القرآن على وجه الخصوص، يتميز بطاقة تواصلية وحبكة سردية عابرة لخصوصيته التاريخية. هذا إضافة إلى أن القرآن وصل إلينا منفصـلاً عن وقائعه التاريخية، وإعادة بنائه وفق سياقاته التاريخية بات أمراً متعذراً بعد ذهاب أكثر مناسبات نزوله، والتي أصبحت في أزمنة لاحقة مجرد تخمينات واجتهادات من المفسرين‏[37].

أما إحياء الاتجاه المقاصدي، فهو ضروري لكنه غير كافٍ، لأن تحديد المقاصد وغايات النص تتم بعد عملية الاجتهاد، في حين أن نقطة البداية في إصلاح الاجتهاد هي النظر في الأرضية المشتركة التي تجمع المجتهد والنص، والتي يتم، وفق فرضياتها وثوابتها ومستقراتها، تلقي النص وتحصل عملية القراءة والاجتهاد.

يبدأ إصلاح الاجتهاد بالبحث في عملية الاجتهاد نفسها، ومحاولة الإجابة عن السؤال: كيف نتلقى النص وماذا يحصل أثناء عملية الاجتهاد وما هي الفاعليات الحاضرة فيها؟ وهي جميعها أسئلة تسبق النظر والتفكير في النص نفسه، سواء أكان في تحديد الجوهري والعرضي منه، أو النظر في تاريخيته، أو استخلاص غاياته ومقاصده.

بعبارة أخرى، هنالك شيء يسبق فعل النظر والتدبر في النص، وهي العلاقة التي تجمعني به وحالة التجاذب الحاصلة بين الأفق الذي أنتمي إليه والأفق الذي جاء منه. وهي مسائل لا تتصل بشروط صحة المعنى الديني، بل تتصل بشروط إمكان المعنى نفسه. هي الفاعليات والوضعيات والديناميات التي تحدد مسبقاً كيفية تلقي النص وتتحكم بعملية الاجتهاد قبل الشروع في ممارسة القراءة أو الاجتهاد. هذا يستدعي النظر في ما هو كائن لا في ما يجب أن يكون، النظر في القارئ نفسه قبل النظر في المقروء (النص)، والنظر في الرهانات التي يعتمدها وضع اجتماعي وثقافي خاص، تفترض مسبقاً علاقة خاصة بالنص ووجهة دلالية محددة.

إصلاح فهم النص يبدأ بإصلاح العلاقة معه.