ما العمل إن أصبح الذكاء الاصطناعي أفضل أداءً حتى من أولئك البشر ذوي المواهب والقدرات الفائقة ويقوم مقامنا في الاضطلاع بكل الأعمال؟
صدر عام 2008 فيلم عنوانه “وول إي” (Wall-E) يروي قصة جماعات من بني البشر يعيشون الحياة في ضربٍ من العالم الشيوعي تتوافر فيه الرفاهية ويُسيَّر في جميع نواحيه بالآلية الذكية (أو بالأتْمَتة)، وهناك روبوتات مزودة بالذكاء الاصطناعي (AI) تتجلَّى في أشكالٍ عجيبة التنوُّع وموجَّهة بالأعمال المُنتِجة المفيدة؛ عالمٌ فيه الناس يزدادون سمْنةً وتَرهُّلًا وهم متكّئون على الأرائك وينفقون وقتهم في مشاهدة التلفزيون (الشاشة). وفي المجموعة الثقافية دورة “الثقافة” ((Culture، يذهب الروائي الأسكتلندي أيين م. بانكس (Iain M. Banks) أبعد من ذلك وهو يتصوَّر عالمًا حيث يكون للذكاء الاصطناعي القوة ما يكفي ليصبح ذا قدراتٍ ذكائيَّة خارقة وخليقًا بأن يشتغل بإمكانات تفوق كل توقعاتنا الحالية. لقد حظيَت هاتان القصَّتان بإعجاب جيف بيزوس (Jeff Bezos) وإيلون ماسك (Elon Musk)، وهما على التوالي مؤسس ومدير شركة أمازون ومؤسس ومدير شركة تيسلا(Tesla) . فالعالم الذي تصوره إيان م. بانكس لا ندرة فيه، إذ هي تبقى من أخبار الماضي، وفيه جماعة “الأذهان” (Mentaux)، وهي عبارة عن أنظمة من الذكاء الاصطناعي، تدير وتسيِّر معظم عمليات الإنتاج. وأما البشر فلا يزيد شغلهم إذَّاك عن الاهتمام بالفن ومحاولات استكشاف ثقافات الكون الواسع والانغماس في مُتعة الملذَّات الصّرفة.
أولًا: من علم الخيال إلى الواقع
قد تبدو مثل هذه القصص أحلامَ نائمٍ لا تتحقق في الواقع، غير أن التقدم بخطوات عملاقة المسجَّل في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي – الذي إفرازاته “برنامج المحاكاة” Chatbot الجماهيري أو “أوبن إي آيْ” (OpEN AI) وكذلك برنامج “شات جي بي تي“ (ChatGPT) قد دفع أشخاصًا كثيرين إلى تمحيص الأمر والنظر فيه بجدية. ففي الثاني والعشرين من شهر أيار/مايو، نشر مؤسسو منصة Open AI تدوينة منشور على النت يقولون فيها إنه: “من غير المستبعد في خلال العشر سنوات القادمة أن تتفوَّق أنظمة الذكاء الاصطناعي وتتجاوز مستوى فهم الخبراء في مختلف الميادين وتصير خليقةً بإنجاز أعمال وأنشطة إنتاجية تُضاهي جودة ما تنتجه أعتى شركة من تلك الشركات الإنتاجية الكبرى المعروفة في عالمنا اليوم”.
وفي الصائفة الماضية، كان خبراء التنبؤات التابعون للمنصة الرقمية ميتاكيلوس (Metaculus)، وهي منصة مختصة في تقديم التنبؤات المستقبلية على شبكة النت ويهوى ارتيادها كثيرٌ من محبّي أو متَتبّعي التطورات التكنولوجية، يتوقعون بأنه ينبغي الانتظار إلى غاية عام 2040 حتى يتحقق صنع ذكاء اصطناعي من شأنه أن يتمثل وكأنه واحد من جنس البشر تمامًا وذلك في أثناء التحدث معه لمدة ساعتين، فهو مزوَّدٌ بقدرات آلية (روبوتية) كفيلة بتجميع نموذج مصغَّر لسيارة، وهو قادر كذلك على أن يجتاز بنجاح اختباراتٍ ذهنيَّة متنوّعة أخرى في غاية الصعوبة؛ بيْدَ أنه يعدُّ بعامةً من الإنجازات المذهلة في مجال الذكاء الاصطناعي. عاد خبراء التنبؤات أولئك في منصة ميتاكيلوس ليراجعوا توقُّعاتهم بأن هذه الرؤية ستتحقق واقعًا مع مطلع سنة 2030، ولا عجب في ذلك، إذ إن الأموال موجودة ومتوافرة بالقدر الكافي. وفي هذه السنة، اُستُحدِثت خمس شركات أُحادية القرن (ليكورنlicornes ) جديدة ]وهي شركات ناشئة start-up تقدَّر قيمتها ب1 مليار دولار أو تزيد[ وأصبحت عملية على أرض الواقع وحاضرة في اختصاص الذكاء الاصطناعي التوليدي.
ربما يتطلب الوصول إلى مستويات من أنظمة الذكاء الاصطناعي التعميمي (AI Généraliste)، أيْ أنظمةٌ ذات ذكاء يفوق بني البشر الأكثر ذكاءً ومهارة في كل الميادين، ربما يتطلّب وقتًا طويلًا لتجسيده. غير أن الفرضية التي تبقى دائمًا أكثر قبولًا عن الذكاء الاصطناعي الخارق ما تزال تثير السؤال حول مسألة ما يتبقَّى للبشر من بقية أعمال يؤدُّونها عندما يتحقق جنس هذا الذكاء الاصطناعي في الواقع؟ فهل سيصبح البشر مجرد كُسالى متلكئين تمامًا مثلما يصورهم فيلم “وول إي” (Wall-E)؟ للبدء في الإجابة، فلَنا أن نتصور ماذا سيحدث حالما نُراعي المبادئ الاقتصادية.
يقتضي الخوْض في مثل هذه التوقُّعات الأخذ بفرضيات لها نصيبٌ من التفاؤل. بدايةً، يفترض بأن يكون الذكاء الاصطناعي أنيسًا ويمكن التحكُّم فيه ويكون أيضًا متميّزًا من البشر، إضافة إلى أنه يفترض بألَّا تصاب الثقافة الإنسانية بفعل التقدم التكنولوجي بتغييرٍ جوهريٍّ من شأنه أن يؤدي إلى حالة أن يصبح الناس مولعين بالذكاء الاصطناعي ومُحتفين به إلى حدّ الإجلال والتقديس، بل حريٌّ أن نتصوَّر ذكاءً اصطناعيًّا في صورة وسيلة (أداة): أي عبارة عن آلي (روبوت) افتراضي يتمتع بذكاءٍ خارقٍ ويكون سعره في متناول اليد. كما يفترض أن يكون هنالك حلٌّ لمعالجة جميع القيود المتصلة بالاستعمال المُعمَّم للـذكاء الاصطناعي. فلمحدودية الطاقة مثلًا ليس ثمة أيُّ يقين من تحقُّق أيَّ افتراضٍ من هذه الافتراضات، غير أنها تبقى خليقة بالاستئناس بها في أن يصير تمرينٌ كهذا ممكنُ التَّحقُّق.
ثانيًا: بعيدًا من التَّأثير في النموّ الاقتصادي وفق رؤية فيليب أغيون
في عام 2019، عمد الاقتصاديون الثلاثة: فيليب أغيون (Philippe Aghion) وبن جونز (Ben Jones) و شاد جونز (Chad Jones) إلى نَمْذَجة مدى تأثير الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد فخلصوا إلى ملاحظةٍ مفادها إمكانية تصوُّرِ نموٍّ اقتصاديٍّ باهرٍ إذا أمكن الاستعانة بأنظمة الذكاء الاصطناعي من أجل الوصول إلى آلية ذكية (أو أتْمتَة) كُلية للإنتاج بما في ذلك جانب البحث نفسه. وبذلك، يخوّل هذا الذكاء الاصطناعي أن يحسّن نفسه بنفسه. ولا يعدم تصور أن تعمل عدة أنظمة من الذكاء الاصطناعي مجتمعةً معًا لمعالجة مسألة معيّنة. وهذا ما يفتح آفاقًا علمية واسعة. غير أن نَمْذجة هذه العوامل تثير تحذيرًا ذا أهمية. فإذا تمكنت أنظمة الذكاء الاصطناعي من أن تفرز آلية ذكاء أو أتْمتَة معظم عملية الإنتاج وليس كلها، أو أتمتة معظم مسار البحث وليس كله، فلا يكون في هذه الحالة أيُّ إقلاع في النمو الاقتصادي. ومثلما يقول أولئك الاقتصاديون “قد لا يتقلص النمو الاقتصادي بسبب ما يجب أن يكون أداؤه جيدًا، بل بسبب ما هو ضروريٌّ لكن يتعسَّر علينا تحسينه”.
هنالك فكرةٌ عرضها الاقتصادي المتوفى ويليام بومول (William Baumol) تفسّر هذه الظاهرة وتوضِّحها. ففي مقالٍ له نشر عام 1965، قدَّم هذا الاقتصادي رفقة زميله وليام بوين (W. Bowen) دراسة حول الأجور في قطاع فنون الاستعراض خلُصَا فيها إلى أن: “الإنتاج بمقياس ساعة عمل لعازف كمان يؤدي رباعية شوبارت (quatuor de Schubert) في قاعة حفلاتٍ عادية يبقى ثابتًا نسبيًّا”. وفي الوقت الذي مكَّنت فيه التطورات التكنولوجية قطاعاتٍ أخرى من أن تتمتع بإنتاجية أكثر، ظل قطاع العروض الفنية في منأىً عن هذا التأثير. ولما بقيَ الناس دائمًا في أهبةٍ على إنفاق نصيبٍ من أموالهم من أجل مشاهدة العروض حتى وإن عرفت الأسعار ارتفاعًا، فيسعُنا القول حينئذٍ إن الطلب يبقى “غير مرن”. فيستخلص من أن الفنون قد استهلكت جزءًا أكبر من الناتج الداخلي الخام PIB وبذلك يكون لها وزن ثقيلٌ في النمو الاقتصادي.
إن هذا المثال الذي ساقَه بومول يبيّن جيدًا مبدأ أكثر شمولًا: إذ إن المجالات التي يتأتَّى فيها للذكاء الاصطناعي إمكان أتْمَتَتِها كليًّا ليست سوى فضاءاتٍ ناقصة وبديلة لتلك المجالات الأخرى التي لا يقدر الذكاء على أتْمتتها. وإذا كان الطلب على الصناعات غير القابلة للأتْمتة لا يتغيَّر سوى ببطءٍ شديد، فإن حصة القطاعات غير المُنتِجة تعرف زيادةً مما يؤدي إلى تقليص معدلات النمو العام. ويجزم الاقتصاديون الثلاثة فيليب أغيون وبَنْ جونز وشادْ جونز بأن هذا ما حدث بالفعل خلال معظم مدة القرن الماضي. لقد مكَّنت التكنولوجيا من أتْمتَة جوانبَ بأكملها في مجالَي الزراعة والصناعة الحِرفية فأدى إلى انخفاض أو تدنِّي أسعار المواد لهذيْن القطاعيْن. ونتيجة ذلك، أَلِف الأفراد أن يخصّصوا جزءًا لا بأس به من مداخيلهم لتكون مصاريفَ ينفقونَها في المجالات الأخرى كالتربية والصحة والترفيه التي لم تسجِّل مكاسب إنتاجيَّة مثيلَة.
ثالثًا: تسجيلُ زيادةٍ في وقت التَّرفيه كما يرى ذلك كينز
هل تحظى قصة بومول هذه بقدرٍ من الأهمية في عالمٍ يصبح فيه للذكاء الاصطناعي أداء أحسن حتى من بني البشر ذوي المواهب الفائقة؟ إذا ظل الذكاء الآلي من غير صورة “الجسد”، كأن يبقى مثلًا، حسب تطور تقنية الكيانات الروبوتية، يمضي في سيرٍ بطيء مقارنة مع تطور الإعلام الآلي، فإن الإجابة عن السؤال تكون بـ “نعم” من غير شك. فهناك جزءٌ كبير من النشاط الاقتصادي بما فيه نشاطات قطاع البناء والصناعة الحرفية ما يزال يعتمد على الجهد العضلي؛ كما أن هناك عددٌ لا يحصى من الوظائف التي ينتمي الجزء الأكبر منها إلى قطاع الصحة والاستشفاء الصحي يبقى الأداءُ فيها يتطلب مزيجًا من الذكاء والقدرات البدنية لتشغيل العتاد. وكل هذه الوظائف تظلُّ تكتسي أهميةً متزايدة داخل سيناريو يتجلَّى فيه الذكاء الاصطناعي متغلغلًا ويهيمن على العمل الفكري. ولا يعدم أن يصبح البشر يؤدون هذه الأعمال “العضليَّة” تحت إمارة الذكاء الاصطناعي وهو في تأدية مهمة رؤساء المؤسسات الإنتاجية أو “مهمة الأساتذة”.
لكن، ماذا يحدث لو أن أنظمة الذكاء الاصطناعي صمَّمت روبوتات بشرية خارقة (Robots super- hurmanoides) ؟ لا ريب، حينها، أن تلبَّى الحاجات الإنسانية، في أغلبيتها، بما تنجزه أيدي الماكينات تلك. فلَنا أن نتصور عندئذٍ أن تتخلى الإنسانية عن العمل تمامًا كما في فيلم “وول إي”. وأدلَّ على هذه الحالة مقالٌ كتبه عام 1930 الاقتصادي جون ماير كينز بعنوان “آفاق اقتصادية لأحفادنا” يمعن فيه بأنه بعد قرن من زمنه ذلك يصبح أناس يعملون أقل من 15 ساعة في الأسبوع، إذ إن النمو الاقتصادي الذي تستحثه التكنولوجيا كفيلٌ بأن يعالج المسألة الاقتصادية. ذلك ما كان يُتوقَّع. وأن هذه الحالة ستخوّل الناس الإمكانية من أن ينفقوا من وقتهم في أنشطة ممتعة في كُنهِها.
وإذا كان في الواقع أسبوع كينز من خمس عشرة ساعة من العمل لم يحن بعد، فإن الزيادة في مستوى الثروة الذي من شأنه أن يثير الشغوف بالترفيه قد قلَّص فعلًا من وقت العمل تمامًا كما تصوَّر كينز. فمتوسّط عدد ساعات العمل في الأسبوع قد نزل في الدول الغنية من نحو 60 ساعة عمل/ أسبوع في نهاية القرن العشرين إلى أقل من 40 ساعة/ أسبوع في أيامنا هذه.
ومع ذلك، فلا تزال هنالك حاجات لا يلبّيها سوى عمل الإنسان حتى ولو كُنَّا في عالمٍ يكون فيه الذكاء الاصطناعي متبلورًا في “جسد” وينعَم بكل القدرات المطلوبة. إذ من الجدير كذلك أن نشير بأن ما هو مُمتِع في كُنهه قد يتضمَّن هو أيضًا مجهودًا من العمل. ولنُمعن النظر في مجالاتٍ ثلاثة يبقى فيها للبشر دورٌ يؤدُّونه: العمل الذي يُماثل اللعبة، واللُّعبة في حدّ ذاتها، والعمل الذي يحقِّق فيه الناس شيئًا من المنفعة.
رابعًا: العمل ضرورةٌ نسبيَّة لبني البشر
لنطرُق في البدء مسألة الحدود غير المفصليَّة بين العمل واللَّعب، مع أن الوقت المخصَّص للعمل قد عرف قدرًا من التقلُّص خلال القرن الماضي، غير أن معظم ذلك النقص حدث قبل سنوات الثمانينات. شيئًا فشيئًا أصبح الأغنياء يُنفقون وقتًا في العمل أطول مما ينفق الفقراء. ولعل مقال كينز يكشف تفسيرًا لهذا التطور الغريب. يقسّم كينز الرغبات الإنسانية إلى فئتيْن: “حاجاتٌ مطلَقة، بمعنى تلك الحاجات التي نشعر بها (نريد إشباعها) بغضّ النظر عن وضعية الآخر؛ وحاجاتٌ نسبية، وهي الحاجات التي نشعر بها عندما يكون إشباعها خليقًا بأن يرفعَنا إلى مستوى أعلى من الآخرين ويجعلنا نعتقد بأننا متفوّقون عليهم”.
ربما يكون كينز قد قلَّل من أهمية هذه الفئة الثانية من الحاجات، وبذلك فعسى أن يروق لساخر من أن يُوهِم بأن كل الاختصاصات الجامعية تنتمي إلى هذه الفئة: إذ تبدو هذه الاختصاصات من غير قيمةٍ جلية تفيد العالم. ومع ذلك تجد الجامعيين يتنافسون بلا هوادة من أجل الظفر بوضعية (اعتراف) عمادُها القدرات الذكائية لديهم. وإذَّاك، فقد يزعم الاقتصاديون بأن العمل أصبح – في نظر الكثيرين – سلعةً ]أو مادة استهلاكية[ يُجنى منها المنفعة أكثر مما يُجنى المدخول الذي تدرّه.
خامسًا: الذكاء الاصطناعي يثير حبَّ التسلية
إننا لنجد في الألعاب تفسيرًا آخر لمسألة أن الناس لا يَكفّون عن ممارسة العمل نهائيًّا. فهنالك ملايين من البشر المُشتغلين في مجال التسلية والرياضة ينافسون النفوذ والفرص المؤثرة في مجالات نشاطٍ يراها آخرون غير مُجدية (تافهة). وربما إذا ما تفوقت أنظمة الذكاء الاصطناعي بقدراتها على البشر سنرى الاهتمام بمثل هذه الحاجات الترفيهية يقلُّ. غير أن البيانات المتوافرة عن أنشطة المجال الرياضي حيث أصبحت قدرات البشر في مرتبةٍ أقل من الذكاء الاصطناعي توحي بخلاف ذلك. إذ إنه منذ أن هَزم الحاسوب ديب بلو (DeepBlue) الذي أنتجته شركة آي بي أم (IBM) غاري كاسباروف (Gary Kasparov) في لعبة الشطرنج، وهو أكبر أستاذ في اللعبة في العالم، صار الاهتمام بهذه اللعبة يتزايد أكثر فأكثر. وهناك أيضًا ألعاب أخرى شكلت ميدانًا “لهيمنة” الذكاء الاصطناعي، ونذكر منها على وجه الخصوص لعبة غو (go)، وهي لعبة صينية عريقة يتبارى فيها لاعبان، وألعاب الفيديو التي يتبارى فيها الخصوم، قد شهدت مسار تطورٍ مماثل] لِلعبة الشطرنج[. ونشير إلى أن عدد اللاعبين المُتبارين في ألعاب الفيديو يكون تقريبًا قد تضاعف في غضون العشرية الأخيرة ليصل إلى 3.2 مليار لاعب في العام الفائت. وأصبحنا اليوم نجد صنفًا من اللاعبين ما فتئ يتزايد عددهم يتنافسون في مباريات أو يُنشئون قنوات من أجل تحقيق مداخيل يكسبون بها قوتَهم. ولا يعدم أن يكون للذكاء الاصطناعي فضلٌ في تعزيز أو تقوية هذا الاهتمام.
كذلك، لا غرابة أن يكون لبني البشر، كما يتصوَّر إيان م. بانكس، في الأمور “التي تعوزها الحياة حقيقةً كالرياضة، والألعاب، والرسائل العاطفية (مسجات الحب) ودراسة اللغات الميتة، ودراسة المجتمعات المتوحشة، والمسائل العالقة، وتسلق الجبال من غير عُدد الأمان”. ولنا أن نتصور بأن يكون هنالك أفراد من البشر يريدون مشاهدة هؤلاء.
سادسًا: السياسة… هي عالم البشر
إنه من غير الوارد أن يتخلى الناس طوعًا عن زمام السياسة لصالح الآليين (الروبوتات). فحتى زمن تفوق الذكاء الاصطناعي وتجاوزه لقدرات بني البشر، فلا يعدم بأن نتصور بأن الناس سيبقون مولعين بأمور السياسة. غير أن بعض الوظائف أو المهمات قد يُؤثَر تفويضها: فقد يجنح أفراد من البشر إلى تسليم تفضيلاتهم بإدخالها في نموذجٍ من الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يصيغ اقتراحات تبيّن طريقةً للتوفيق من بين تلك التفضيلات في شيءٍ من التناسُق. غير أن المشاركة في المسار السياسي، كما يرى فلاسفة السياسة ومنهم جون لوك (John Locke)في القرن السابع عشر وجون راولز (John Rawls) في القرن العشرين، تبقى كفيلةً في نظر مواطنين بأن تمنَح للتدابيرِ المتَّخَذة شرعيتها. وهنالك أمورٌ أخرى أشد اعتباطيَّة تُضاف إلى المشهد، فبنو البشر يرغبون في أن يؤثّر بعضهم في بعضهم الآخر. ويبقى هذا الأمر حقيقةً حتى ولو كنا في عالم تُلبَّى فيه الحاجات والرَّغبات الأساسية لكل فرد بواسطة الآلات. وحقيقةً، فإن 1 بالمئة من الأمريكيين الأكثر ثراءً مشاركتهم في الحياة السياسية تتجاوز ضعف أو ثلاث مرات المعدل العام لمشاركة السكان الآخرين، وهذا وفق سلسلةٍ من المعايير بدءًا من الاقتراع في الانتخابات إلى الوقت المخصَّص للسياسة على العموم.
سابعًا: “الأفضليَّة للإنسان” في مجالَيْ الصحافة والصحة الاستشفائية
في الأخير، ليَسعُنا أن نلقي نظرةً على تلك المجالات التي يكون فيها للبشر ميزة تفوق في توفير الحاجات (السلع) وتقديم الخدمات. ولنقلْ عن هذا الامتياز بأنه “أفضليَّة للإنسان”، ولعل هذه الأفضلية ستبقي الطلب على اليد العاملة البشرية حتى في الوقت الذي يشهد تطور الذكاء الاصطناعي إلى أقصى حدوده. ومن ضمن الميادين التي يتحقق فيها هذا المشهد جليًّا نجد ميدان نشر المعلومات الحساسة. بدايةً من أن الناس خليقون بأن يشاركوا أسرارهم، فإنهم يبيحون بها لأقرابهم ولا يبيحون بها للآلات. فللناس الثقات الذين يتلقون تلك الأسرار دور في إذاعة تلك الأسرار، بحسب الأولوية، بنشرها على الرأي العام أو الجماهير قبل الإقدام على معالجتها بواسطة الآلات. ومن ثمَّة، فإن المزود (الخادمserviteur ) الخاص بك سيبقى يعتقد بأنه ما زال للصحافيين الاستقصائيين عملٌ يؤدونه. كذلك، قد تتجلى أفضليةٌ في فضاءاتٍ أخرى، فما زال الناس يرغبون في معرفة التاريخ والأساطير وكل شيءٍ له معنى. فالرموز غير القابلة للاستبدال NFT (وهي أصول رقمية مخصصة لتمثيل شيءٍ فريد ونادر) التي يمكن التحقق من مصدرها بواسطة سلاسل الكتل (blockchain) (عبارة عن عقود ذكية) أصبحت لها قيمة تفصل مرات كثيرة تلك الصور ذات البكسلات (pixels) المتماثلة ولكنها ذات تاريخٍ مختلف. ففي مجالات كمجال الاستشفاء والتداوي يبقى فيه البشر يُولون الاعتبار للموقف الذي يتجلَّى فيه الآخر عن ألّا ينفق في خدمتهم سوى الوقت القليل من مجمل وقته. ومثل هذا الاهتمام يضيف إلى المشهد نوعًا من المشاعر الخاصة بالتفاعل. وكذلك، فإن الأحجار الثمينة المُصنَّعة، التي حجمها الجزيء هو نفسه حجم الأحجار الثمينة الطبيعية، قيمتها السوقية تقلُّ عن هذه الأخيرة بـ 70 بالمئة بحسب بعض التقديرات. وقد يدلُّنا المستقبل عن أن الأشياء التي تحمل علامةً “من صنع الإنسان” سيكون الطلب عليها شديدًا.
ثامنًا: أهيَ خاصيةُ الإنسان صرفًا؟
إذا كان لهذه الأفضلية أهميةً كبيرة، فسيكون لها وزنٌ مؤثّر في معدلات النمو الاقتصادي. فلو قسَّمنا النشاطات الاقتصادية إلى قطاعاتٍ تستأثر بأفضليَّة الإنسان في عملية الإنتاج استئثارًا واسعًا وأخرى لا تَلتفت إلى هذه الأفضلية، وإذا قَصُر البشر على أن يعوّضوا الكميات عن السلع والخدمات التي تُنتجها الآلات بكمياتٍ نظيرة بما ينتجها الإنسان، فإن ذلك سيؤدي إلى تفاقم ظاهرة بومول (l’effet Baumol). ومن ثمة، فإن النمو المقيس قد يتدنَّى حتى يصلَ إلى مستويات الصفر. وحقيقةً، فإذا عجَز مثل هذا الذكاء الاصطناعي القويّ جدًا عن أن يحفّز النمو، فسيكون لهذا الإخفاق الدلالة على أن الاقتصاد قد تجاوز مرحلة الماديَّاتيَّة (matérialité) ليتوجَّه إلى مجال الألعاب والسياسة، ويتجه إلى تلك المجالات التي توفِّر ما يرغب فيه الناس رغبة شديدة ألا وهي التفاعل مع الآخرين (التعاملات). وربما يأتي يومٌ تصبح فيه أنظمة الذكاء الاصطناعي ضليعةً بإنتاج السلع والخدمات الجديدة تمامًا ما يجعلها تُنسي الناس الرغبة في نيْل إعجاب الآخرين والتفاعل معهم. وربما كيفية سريان البحث في هذه المسائل ستُجيبنا عن السؤال الآتي: إلى أيّ مدى يستمرُّ الإنسان في أن يكون حيوانًا اجتماعيًّا؟
كتب ذات صلة:
المصادر:
هذا النص هو ترجمة لمقال نشر في مجلة الإيكونوميست في نسختها الفرنسية حول “عالم من ذكاء اصطناعي خارق” يناقش موضوع من سينتصر مستقبلًا: الذكاء الاصطناعي أم البشري؟ وكذلك أثر الذكاء المتقدم في سوق العمل. المقال حرره خبراء الإيكونوميست ليكون ملف العدد وافتتاحيته.
The Economist, « Un monde de super-AI », Le nouvel Economiste, No 2173 – Du 16 au 22 Juin, 2023, pp 2-4.
جلة سماعين: أستاذ محاضر بكلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر 3.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.