يمر الوطن العربي، في مرحلة دقيقة لم يسبق أن مر بها في تاريخه الحديث، فهو يقف الآن في مفترق طرق؛ إما أن يتمكن من الخروج من وضعه المأزوم حالياً، لاستئناف رحلته النضالية وتحقيق أهدافه في بناء مجتمع ديمقراطي تقدمي، يجمع كل الأقطار العربية في دولة موحدة، وإما أنه سوف يواصل انحداره إلى مزيد من التفكك والتدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي. من هنا، نحن نواجه اليوم مسؤولية تاريخية في اكتشاف السبل التي تمكنه من التقدم على طريق الوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ويملك المؤتمر القومي العربي مرجعية تمكنه من قيادة الأمة العربية لتجاوز هذا الوضع المأزوم.
يكفي للتدليل على المحنة التي يمر بها الوطن العربي حالياً، أن أكثر من نصف البلدان العربية تواجه تحديات وجودية توشك أن تعصف بهذه البلدان وتفقدها مقوماتها الأساسية، بما في ذلك وحدتها الوطنية، ناهيك بتطلعها إلى الوحدة العربية. إن نظرة سريعة على الوضع العربي الراهن، تؤكد هذه الحقيقة؛ فهناك بلدان عربية تخوض الآن معارك مصيرية للحفاظ على مقوماتها الأساسية، مثل العراق وسورية وليبيا واليمن والصومال، وبدرجة أقل مصر وتونس والوضع السياسي والاجتماعي الهش في لبنان والسودان.
تمثل العناصر الستة للمشروع النهضوي العربي (أي الوحدة العربية، الديمقراطية، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، الاستقلال الوطني، والتجدد الحضاري) رؤية نهضوية متكاملة لمواجهة المرحلة. لكن لم يعد كافياً أن نناقش مثـلاً العدالة الاجتماعية في كل قطر عربي من دون أن نبحث في مدى تأثرها بحالة الأمن والتنمية وممارسة الناس حقوقهم السياسية (الديمقراطية) في هذا القطر وأيضاً على مستوى الوطن العربي ككل.
لهذا، فإننا نطرح في هذه الورقة وضع العدالة الاجتماعية في ضوء إخفاقات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والديمقراطية، وانعكاسهما على حالة الأمن. وما هو جدير بالاهتمام، أن الانتفاضات الشعبية والثورات العربية في مصر وتونس واليمن وليبيا، طرحت بكل قوة قضية الانتقال إلى دولة تنموية ديمقراطية. وكان الأمل في قيام نظم حكم ديمقراطية تتمتع في ظلها الشعوب العربية بحقوقها وحرياتها الأساسية، ولكن ما حدث كان على العكس من ذلك تماماً؛ فهناك حرب أهلية مستعرة في العراق وليبيا واليمن وسورية، وهناك أيضاً تهديد جدي للأمن والاستقرار في مصر وتونس، ولم تتحقق حتى الآن الأهداف التي طرحتها الشعوب العربية في هذه البلدان للتخلص من الدكتاتورية والسلطوية والظلم الاجتماعي والتهديدات الأمن ية بعامة.
سوف نعالج في هذه الورقة البحثية وضع العدالة الاجتماعية ومدى تأثرها بالإخفاقات التنموية والديمقراطية والأمنية؛ فهناك علاقة مباشرة بين هذه العناصر وتأثيرها في إمكان تحقيق العدالة الاجتماعية في هذه الأقطار على النحو الذي سنوضحه في ما بعد، ولكن من المهم أن نطرح أولاً مفهوم العدالة الاجتماعية من وجهة نظر المشروع النهضوي العربي، وما يطرحه هذا المفهوم من أبعاد، سوف يتأكد منها أن تحقيق العدالة الاجتماعية يتطلب وجود بيئة مواتية يتوافر فيها إمكان ممارسة الشعب حقوقه السياسية والمدنية والمشاركة في اختيار ممثليه إلى السلطة التشريعية والمجالس المحلية وقدرته على تأسيس منظماته النقابية والاجتماعية، بما يمكّنه من الدفاع عن هذه الحقوق في ظل مناخ ديمقراطي، كما يشترط لتحقيق العدالة الاجتماعية أن تتوافر في المجتمع كافة، العوامل المساعدة على تنفيذ برامج تنمية اقتصادية واجتماعية، وأن يتمتع المجتمع بالأمن والاستقرار وعدم وجود تهديدات لقدرة الدولة على بسط نفوذها على أجزاء الدولة كافة.
أولاً: مفهوم العدالة الاجتماعية
يقصد بالعدالة الاجتماعية تلك الحالة التي ينتفي فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو من كلتيهما، والتي يغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي وتنعدم فيها الفروق غير المقبولة اجتماعياً بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة، والتي يتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة ولا تجور فيها الأجيال الحاضرة على حقوق الأجيال المقبلة، والتي يعم فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية، والتي يتاح فيها لأفراد المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم ولإطلاق طاقاتهم من مكامنها ولحسن توظيف هذه القدرات والطاقات بما يوفر لهؤلاء الأفراد فرص الحراك الاجتماعي الصاعد، وبما يساعد المجتمع على النماء والتقدم المستدام. وهي أيضاً الحالة التي لا يتعرض فيها المجتمع للاستغلال الاقتصادي وغيره من آثار التبعية لمجتمع أو مجتمعات أخرى، ويتمتع بالاستقلال والسيطرة الوطنية على القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ثانياً: أبعاد العدالة الاجتماعيّة
لعله قد تبين مما تقدم، أن العدالة الاجتماعية مفهوم واسع ومركب حقاً، وأن له أبعاداً متعددةً، يمكن اختزالها في ثمانية أبعاد:
1 – البعد الاقتصادي: يتعلق بمدى اشتراك أفراد المجتمع في العملية الإنتاجية وفي جني ثمارها. وهو ما يقود إلى قضية المساواة في الفرص والحقوق الاقتصادية في مجال العمل وملكية وسائل الإنتاج والحصول على الخدمات والمعلومات من دون تمييز، وكذلك قضية إعادة التوزيع.
2 – البعد الاجتماعي: يتصل بمشكلات التمييز والحرمان والفقر والإقصاء الاجتماعي، وما تستوجبه معالجتها من سياسات لتمكين الطبقات المحرومة من تحسين أوضاعها على نحو مستدام.
3 – البعد البشري: ينصب على مسألة الوفاء بحقوق الإنسان وحاجاته، ومسألة تكافؤ الفرص أمام الجميع لتنمية قدراتهم وتوسيع حرياتهم.
4 – البعد الطبقي: يتأتى من العلاقة الوثيقة بين النظام الاقتصادي – الاجتماعي وبين العدالة الاجتماعية، وهو يطرح قضية الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وما يترتب عليها من لامساواة هيكلية.
5 – البعد الإقليمي: يتصل بالتفاوتات في توزيع الموارد والدخل القومي بين أقاليم الدولة، والمتعلق من ثم بدور السياسات العامة في توسيع هذه التفاوتات أو تقليصها.
6 – البعد الجيلي: يتصل بالعدالة بين الأجيال الحاضرة والأجيال المقبلة ليس فقط في توزيع الموارد الطبيعية وتحمل تكلفة التلوث، ولكن أيضاً في تحمّل أعباء الدين العام.
7 – البعد السياسي والمؤسسي: يتصل بقضايا الحريات والحقوق السياسية والتمكين السياسي من خلال مؤسسات تكفل المشاركة الشعبية في صنع القرارات الوطنية.
8 – البعد الخارجي: يتعلق بنوعية العلاقات التي تنشأ بين الدولة، والدول الأخرى، ومدى ما تتسم به من تكافؤ أو استغلال أو هيمنة، ولا سيما في إطار النظام الرأسمالي العالمي والعولمة الظالمة.
ثالثاً: العلاقة التبادلية بين التنمية والديمقراطية والأمن
تبدو العلاقة متبادلة بين التنمية والديمقراطية والأمن في الحكم الصالح الذي يعد رابطاً مركزياً بين هذه البنى الثلاث؛ حيث يعد هذا الحكم آلية لمنع الصراع الذي ينشأ من تصاعد التوترات الاقتصادية والاجتماعية إلى صراعات تعد عقبة رئيسة أمام التنمية الإنسانية المستدامة. لهذا، فإن استراتيجيات التنمية التي تركز على أسس الحكم الصالح، تقدم أحسن الفرص لتنمية إنسانية مستدامة في ظل ظروف سلمية. ومن ثم، فإن الإخفاق التنموي يتولد من صعود دولة الأمن وتراجع التنمية في سلم أولوياتها إلى ما دون الأجندة الأمنية بما يشمله ذلك من انفرادية بالسلطة وتغييب للمشاركة السياسية في المجتمع، مع افتقار هذه الدولة إلى رؤية استراتيجية تنموية، بما في ذلك، إجهاض دور القطاع الصناعي، وإضعاف القطاع الخاص، وإشاعة الثقافة الاستهلاكية، وإفساح المجال أمام الفساد والعلاقة العضوية بين نخبة السلطة الأمنية ونخبة الثروة، ليعود هذا الإخفاق التنموي، فيؤدي إلى خلل في الأمن المجتمعي من خلال الفقر والبطالة والتهميش؛ فينتشر العنف والعشوائيات، وتعلو التيارات الدينية المتطرفة، ويحدث الاستقطاب الطائفي، ما يشكل بيئة طاردة للاستثمار وتوقفاً في العملية التنموية، وتراجعها.
لا يخفى علينا، أن معظم الأقطار العربية عانت طويـلاً هذه العوامل السلبية وما ترتب عليها من صراعات أدت في النهاية إلى انهيار الأمن في هذه الأقطار ونشوب صراعات متعددة، ما لبثت أن تحولت إلى حروب أهلية، حرمت شعوبها القدرة على السير في طريق التنمية ومن الحق في المشاركة السياسية.
من الناحية العملية، يبدو التشابك متزايداً بين التنمية والأمن والديمقراطية، وهذه العلاقة التشابكية بلورها تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 1994 في مفهوم التنمية كعملية توسيع الخيارات أمام البشر، وهو الذي شمل فيه الأمن المجتمعي، حيث البشر يستطيعون الاختيار بأمان وحرية، بما يعني وجود علاقة داخلية بين المفهومين، بحيث يرتب التقدم في أحدهما، التقدم في الآخر. والعكس صحيح؛ فالإخفاق التنموي يحدث خلـلاً أمنياً، وهذا بدوره يقود إلى العنف فيتعزز هذا الإخفاق، وكان برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قد حدد تسعة أبعاد للأمن المجتمعي وهي: الأمن الاقتصادي، والأمن المالي، والأمن الغذائي، والأمن الصحي، والأمن البيئي، والأمن الشخصي وأمن النوع، والأمن السياسي، وأمن المجتمعات المحلية.
وقد كان المؤتمر الذي نظمه برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية لمعهد الدراسات الدولية العليا في جنيف في آذار/مارس عام 2001 قد ناقش منهاجي التعامل في علاقة الأمن بالتنمية: الأول، يساوي التنمية الإنسانية بالأمن المجتمعي بافتراض أن الأمن المجتمعي يشمل كل أنماط هذا الأمن، والثاني، اتخذ مفهوماً ضيقاً يركز على حماية الأفراد والمجتمعات من العنف، حيث تبين للمشاركين أن كـلاً من التنمية الإنسانية والأمن المجتمعي له بناء مفهومي واضح ولكنهما متكاملان، وأن التحرر من الخوف من العنف يقع في قلب الأمن المجتمعي؛ هذا العنف الذي يشمل ثلاثة مكونات، وهي: الصراع والجريمة والكبت، وأن الدولة هنا ذات دور مزدوج، وهي: إما أن تكون آلية لتحقيق الأمن المجتمعي وإما أن تكون مصدراً لتهديد هذا الأمن . من هنا، تبدو الحاجة إلى الديمقراطية، ويظهر الارتباط القوي بين التنمية والأمن المجتمعي في مجالات إنفاذ حكم القانون، وتنمية احترام حقوق الإنسان، ومنع التمييز الاقتصادي والمالي، وآليات حل الصراعات الاجتماعية دون عنف، وإقرار درجة كافية من الاستقرار السياسي تتيح للأفراد العمل التنموي المخفض للفقر. عليه، فإن النشاط في مجال هذه العلاقة التبادلية، يبدو أكثر في الأولويات الآتية:
1 – الحكم الصالح، لما يعنيه من محاسبية وشفافية وبناء القدرات البشرية في القطاع العام والمجتمع المدني.
2 – تطوير القطاع الأمني، بما يعنيه من تحقيق محاسبة القوة الأمنية أمام السلطات المدنية المنتخبة مع تأكيد تحسين جودة نظم العدالة.
3 – بناء السلام بإدخال منظور الأمن المجتمعي في كل جوانب عملية السلام، حتى يكون الأفراد راغبين في الاستثمار في إعادة بناء مجتمعاتهم.
4 – الشراكة، وهي تعني التعامل بمشاركة الشركاء الرئيسين، الدولة والمجتمع المدني ومجتمع الأعمال.
5 – بناء القدرات المحلية حتى تأخذ أجندة الأمن المجتمعي في مركز اهتماماتها.
إن العلاقة التبادلية بين التنمية والأمن والديمقراطية تنفي ديمومة أن يكون أحدها متغيراً مستقـلاً، والآخر متغيراً تابعاً؛ فالاتجاه الذي كان سائداً هو أن الأمن الذي يضع الأفراد والمجتمعات في مركزه، هو شرط أساسي وأولي للتنمية، وأن التنمية عملية شرطها الأمن، وهو ما اتخذ مدعاة لتعطيل التحول الديمقراطي في أحيان كثيرة وتراجع أو تأجيل العملية التنموية، ثم بيّن تناول البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لهذه العلاقة (وأيضاً بطرس غالي في كتابه: أجندة للتنمية، الذي نشرته الأمم المتحدة في نيويورك عام 1995) أن بناء وتدعيم الأمن يمكن أن تعززه التنمية، والعكس صحيح، ولكن الأبعاد المختلفة لهذه البنى الثلاث، تظهر علاقة تداخل متبادلة بينها؛ فالتنمية عملية متعددة الأبعاد تحتوي على تغيرات رئيسة في البنى الاجتماعية والاتجاهات الشعبية والمؤسسات الوطنية والنمو الاقتصادي وخفض عدم المساواة وإزالة الفقر، وهذه التغيرات الأساسية تشمل قيم الاستدامة والاحترام الذاتي والقدرة على الاختيار على المستويين الفردي والمجتمعي على السواء محددة في نهايته مفهوم التنمية، كما انتهى إليه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وما كان لهذه التنمية أن تقوم في غياب الأمن والديمقراطية.
عليه، فالمجتمع الآمن، ونعني هنا مجتمع الدولة المتسم بالهوية المشتركة والاندماج والمصالح المشتركة المتشارك في ماضيه وحاضره ومستقبله، يوالي ثلاثة أهداف رئيسة، وهي: التنمية والديمقراطية والأمن، معرفة بالمعنى الواسع، وهنا نجد شروطاً أساسية لنجاح هذا المجتمع الآمن، وهي:
- التوافق على القيم الأساسية المرتبطة بصناعة القرار الأساسي بين أعضاء المجتمع.
- قدرة أعضاء المجتمع على الاستجابة لاحتياجات الآخرين (الاستجابة السياسية).
- مشاركة المجتمع المدني.
- التنبؤ المتبادل بالسلوك.
- جداول زمنية لتنفيذ الأهداف الاستراتيجية المتعلقة بوجود بيئة آمنة وحد أدنى من التنمية يلبي الاحتياجات الأساسية للناس، مادية وغير مادية.
- المؤسسية كشرط أساسي للإدارة والتنظيم والهيكلة.
تعد الدولة آلية ضرورية في كل من هذه البنى الثلاث، وحتى تنجز دورها، يتعين أن تكون هذه الآلية نفسها آمنة ومتطورة، ولكن ليس كغاية في ذاتها، أي لا يعد تأمين النظام السياسي هو الهدف الرئيس والنهائي، ولكن يعد الاختبار الأول والنهائي للأمن، هو المجتمع الذي يتسم بالعدالة، حيث الناس فيه هم اللاعبون الرئيسون والمرجع والوسيلة لتحقيق الأمن، وتبدو رشادة هذا الأمن في تمكين الناس من التنمية، وأن يكونوا مهندسي حياتهم، وأن يقرروا معاً القيم التي تشكل هذه الحياة.
قضيتنا الأساسية هنا، هي تأثير العلاقة التبادلية بين التنمية والديمقراطية والأمن في فرص تحقيق العدالة الاجتماعية، وكيفية وصول إسراف النظام السياسي في توفير أمنه، إلى حدّ التأثير سلباً في التنمية، وكيف أدى الإخفاق التنموي بدوره إلى حدوث خلل في الأمن المجتمعي؛ فاللجوء إلى قمع المعارضة لم يفسح المجال للرأي الآخر، ولجأت نخبة السلطة إلى مهادنة النظام والتحدث بما يرتضيه، واعتلت المؤسسة الأمنية قيادة العمل التنفيذي، وهيمنت على المؤسسة التشريعية وضعفت المشاركة المجتمعية، الأمر الذي أضعف بدوره دور القطاع الخاص، وساد نمط الخلاص الفردي بدلاً من الحلول المجتمعية. من جانب آخر، أدى الإخفاق التنموي إلى اتساع البطالة وانتشار الفقر وتعمقه وتزايد العنف والجرائم على النفس والمال وانتشار الإدمان بين الشباب وصعود تيارات التطرف الديني، ليعود ذلك فيؤدي من جديد إلى التأثير سلباً في التنمية.
رابعاً: مستقبل العدالة الاجتماعية والتنمية والديمقراطية
في ضوء التحديات التي تواجه عملية بناء الاقتصادات العربية على نحو يفسح المجال أمام تحقيق العدالة الاجتماعية؛ سواء كان مصدرها الأوضاع المحلية أو الإقليمية أو تنامي ظاهرة العولمة الرأسمالية، فإن الاتجاه يتزايد نحو بلورة نموذج تنموي جديد في الوطن العربي يقوم على التنمية البشرية المستدامة أساساً، لكون التنمية المطلوبة هي عملية تحرير وتمكين للبشر الذين يعيشون على الأرض العربية، كما أنها عملية تحرير وتمكين للوطن الذي ينتسبون إليه.
من المهم هنا تركيز الجهد من قبل القوى القومية والتقدمية على ازدياد الفرص للتحول إلى دولة تنموية ديمقراطية، وأن يتسع نطاق القوى الاجتماعية السياسية الساعية إلى إقامة نظام حكم ديمقراطي بديـلاً من النظام السلطوي القائم واستبدال السياسات الاقتصادية والاجتماعية المطبقة في إطار سياسات التكيف الهيكلي والليبرالية الجديدة بسياسة تنموية جديدة مستمدة من قيم ومبادئ التنمية البشرية المستدامة. ويتعزز هذا التوجه نحو دولة تنموية ديمقراطية في ضوء ما يعانيه المجتمع من مشكلات حادة نتيجة للأوضاع السلطوية والسياسات الاقتصادية الحكومية المطبقة وما يترتب عليها من بطالة وفقر وتهميش واتساع الفوارق بين الطبقات والتوتر الاجتماعي المتزايد والاحتقان السياسي واستمرار حالة التدهور العام في كل المجالات.
في ما يلي نعرض بإيجاز للقضايا الأساسية المتصلة بقيام دولة تنموية ديمقراطية؛ سواء في ما يتصل بالتحول الديمقراطي، أو النموذج التنموي المنشود.
1 – برنامج الإصلاح الديمقراطي
إن أهم أسس برنامج الإصلاح الديمقراطي ومكوناته، تشمل:
– الإصلاح الدستوري والقانوني لإقامة دولة ديمقراطية برلمانية.
– تجديد النخبة السياسية.
– إصلاح النظام الحزبي.
– إصلاح النظام الانتخابي.
– تدعيم دور المجتمع المدني واستقلاليته.
– إصلاح أجهزة الدولة، وإعادة الاعتبار إلى دورها.
– تطوير عملية صنع السياسات العامة وتنفيذها، وتكريس اللامركزية مالياً وإدارياً وسياسياً.
– نشر ثقافة الديمقراطية.
2 – نموذج التنمية المنشود
في ضوء التحديات التي تواجه عملية بناء الاقتصاد؛ سواء كان مصدرها الأوضاع المحلية أو الإقليمية أو تنامي ظاهرة العولمة الرأسمالية، فإن الاتجاه يتزايد نحو بلورة نموذج تنموي جديد يقوم على التنمية البشرية المستدامة أساساً كون التنمية المطلوبة هي عملية تحرير وتمكين للبشر، كما أنها عملية تحرير وتمكين للوطن الذي ينتسبون إليه. وينطوي هذا التعريف على سبعة عناصر أساسية هي:
- تحرير البشر من كل ما يعترض تطوير معارفهم وقدراتهم، وتمكينهم من الارتقاء بهذه المعارف والقدرات واكتساب المهارات والخبرات التي تساعدهم على إطلاق طاقات الإبداع الكامنة فيهم، وبناء قاعدة وطنية للبحث العلمي والتطوير والابتكار التكنولوجي، تكون مع تطوير الإدارة الركيزة الأساسية للارتفاع بإنتاجية العنصر البشري.
- تمكين البشر من توظيف قدراتهم ومعارفهم ومهاراتهم في أعمال مفيدة، وذلك من خلال التوسع المستمر في الطاقات الإنتاجية التي تكفل فرصاً كافية لتشغيل كل قادر على العمل وراغب فيه.
- تحرير البشر من القيود التي تحرمهم المشاركة في صنع القرارات التي تمس شؤون حياتهم وشؤون مجتمعهم، وتمكينهم من التمتع بهذه المشاركة من خلال المؤسسات الرسمية والأهلية على السواء.
- تحرير البشر من الفقر والحرمان، ومن كل صنوف الظلم الاجتماعي، وتمكينهم من إشباع احتياجاتهم الإنسانية المشروعة ومن الحصول على نصيب عادل من ثمار ما يحققه المجتمع من نمو اقتصادي، ومن ثم تضييق الفوارق بين الطبقات، وذلك من دون الإضرار بالحوافز الضرورية للارتفاع بإنتاجية العمل والارتقاء بمستوى الأداء.
- تمكين البشر من تحسين نوعية حياتهم على نحو مطرد، وذلك من دون الافتئات على حقوق الأجيال التالية، في تأمين ما يكفي من الموارد الطبيعية لتحقيق مستوى معيشي لائق، كذلك صيانة حقهم في العيش في بيئة نظيفة.
- تحرير الوطن من القيود على إرادته وعلى حريته في إعادة ترتيب أوضاعه الداخلية وعلاقاته الإقليمية والدولية من منظور المصلحة الوطنية والأمن القومي، ومن ثم تمكينه من تعديل موقع الاقتصاد الوطني في نظام تقسيم العمل الدولي، بما يساعد على إحراز وضع أكثر تكافؤاً وأكثر إنصافاً.
- نقطة البدء في التحرير والتمكين هي إعادة ترتيب البيت من داخله، بإعادة توزيع السلطة السياسية في المجتمع، بما ينقل سلطة اتخاذ القرارات إلى الطبقات والفئات، صاحبة المصلحة في هذا النوع من التنمية، وبما يقيم نظاماً للحكم يسمح بالمساءلة والمحاسبة والمشاركة. أي أن نقطة الانطلاق في هذا النموذج التنموي هي نقطة نضالية وسياسية وثقافية في آن واحد.
خامساً: تحديات التحول التنموي والديمقراطي
1 – التحديات التنموية
يعد التحول من الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد زراعي – صناعي يقوم على تكثيف المعرفة والخدمات الإنتاجية والاجتماعية، وحياد الدولة إزاء التكوينات الاجتماعية، واستقلالية القرار الاقتصادي، وسياسات التعويض عن فشل الأسواق، ورفع إنتاجية عوامل الإنتاج، وبخاصة العمالة وهي أهم التحديات التنموية.
2 – تحديات العولمة
يعد فتح الأسواق وتعريض المنتج المحلي لمنافسة المنتج الأجنبي في وقت لم يتأهل فيه لهذه المنافسة، أول التحديات التي تفرضها العولمة على التوجه نحو إقامة دولة تنموية ديمقراطية.
والتحدي الثاني التي تفرضه العولمة هو تراجع إيرادات الموازنة العامة، نتيجة التخفيضات الجمركية أو الإعفاءات في نظم المناطق الحرة.
3 – تحدي المشاركة
يثير تحدي المشاركة حالة ضعف المجتمع المدني بمنظماته المختلفة، وهو ما يسر عملية هيمنة الدولة على المجتمع، ويسر تحول هذه الدولة إلى فاعل سياسي وحيد ولاعب سياسي وحيد أيضاً، وهو ما أدى إلى استبدادية هذه الدولة، وأن يكون لها تنظيمها السياسي الوحيد في مرحلة، وحزب كبير مهيمن في مرحلة تالية، وهو يهيمن في صورة تعددية يمكن اعتبارها وصفاً للتجرية الليبرالية الجديدة في العقود الثلاثة الأخيرة، والنتيجة ضعف الفاعلية الحزبية، وتكريس ضعف أشد خطراً على فاعلية المجتمع.
هذا الضعف في فاعلية الأحزاب السياسية هو تعبير عن أزمة مترسخة في فاعلية المجتمع، وهي أزمة ناتجة من ضعف تاريخي في تكوين المجتمع المدني الحديث، كقاعدة وأساس لقيم التعددية والديمقراطية، وهو ما يُعد كابحاً مجتمعياً لانطلاق قيم الليبرالية السياسية وانطلاق فاعلية الأحزاب السياسية، وهي أزمة ناتجة من عملية تراكمية طويلة لنزع السياسة من المجتمع بتأميم الدولة للسياسة، وتهميش المهتمين بالعمل السياسي والعمل العام، ولم تكن النتيجة سوى ترسيخ العلاقات التقليدية القرابية والطائفية، وكبح تنمية العلاقات السياسية القائمة على المواطنة، وسيادة ثقافة الرعية والطاعة، وانسحاب المجتمع من عملية التنمية بأبعادها المختلفة، بما فيها التنمية المحلية التي تعد الوظيفة الطبيعية للمجتمع المدني المشارك، حيث يصير السلوك الانسحابي وسيادة قيم اللامبالاة أمراً معتاداً، وبضعف المشاركة تتآكل مصادر شرعية النظام السياسي، إذ يصبح نظاماً مفتقداً للقبول الشعبي، وقد زاد من تعميق أزمة الفاعلية في المجتمع، وإضافة كوابح جديدة إلى كوابح نمو الفاعلية السياسية للأحزاب، ما أصاب المجتمع من عمليات تفتيت للكتل الاجتماعية الرئيسية، وزيادة فئات المهمشين، وبخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة.
4 – تحدي التمويل
يعتبر تحدي التمويل عنصراً حاسماً في قدرة الدولة على تنفيذ برنامج ملموس للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في معظم الأقطار العربية باستثناء الدول التي تعتمد بصورة أساسية على النفط، ولكن أغلبية البلدان العربية غارقة في الديون الداخلية والخارجية، وهو ما يؤثر في قدرتها على تنفيذ خطط تنموية جدية.
5 – تحدي الهاجس الأمني
يعتبر الهاجس الأمني من أكبر التحديات التي تواجه بناء دولة تنموية ديمقراطية. وكما أوضحنا من قبل، فإن الأخذ بسياسات الانفتاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي والتثبيت، أدى إلى الكثير من المشاكل الاقتصادية انعكست على الأوضاع الاجتماعية، حيث يعاني المجتمع في كثير من الأقطار العربية تزايد معدلات البطالة لتشمل عدة ملايين من الشباب المتعلم، وانتشار الفقر، واتساع نطاق الفئات المهمّشة المحرومين من ضرورات الحياة. هذا فضـلاً عن انخفاض الأجور والدخول بعامة، والارتفاع المتواصل في أسعار السلع والخدمات، ما أدّى إلى أشكال متعددة من العنف واضطراب الأمن، ابتداءً من الانتفاضات الشعبية العفوية، إلى التظاهرات والإضرابات، إلى الاغتيالات السياسية، والتمرد المسلح.
وكان هذا العنف مصحوباً بحالات شديدة من الإخفاق السياسي والتوتر الاجتماعي وتزايد حالات العنف الجنائي أيضاً، وكان لهذا كله تأثير سلبي في عملية الإصلاح، لأن ملايين العاطلين من العمل والفقراء والمهمشين، سوف يتحركون جماعياً، بما يهدد استقرار المجتمع؛ فتسود الفوضى، وينهار الأمن . ويضرب كبار المسؤولين المثل دائماً بالاتحاد السوفياتي؛ إذ عندما تعجل غورباتشوف الإصلاح السياسي قبل حل المشكلة الاقتصادية، انهار الاتحاد السوفياتي. لذلك، فإننا نرى أنه إذا استمرت السياسات الاقتصادية التي أدت إلى هذه المشاكل، وتواصلت الأوضاع الناجمة عن الإخفاق التنموي، فإن الأمل ضعيف في أن يتجاوب الحكم مع ضرورات الإصلاح.
اطلعوا ايضاً على الاستبعاد الاجتماعي ومخاطره على المجتمع
المصادر:
(*) نُشرت هذه الورقة في مجلة المستقبل العربي العدد 448 في حزيران/يونيو 2016.
(**) عبد الغفار شكر: عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، ورئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.
0 Comments
Add comment إلغاء الرد
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.
موضوع أكثر من رائع