ماذا تعني مقاطعة العلامات التجارية الثلاث (غاز أفريقيا، سونطرال دانون، ماء سيدي علي) في السياق المغربي؟ من زاوية المقاربة السوسيولوجية، من يقاطع من؟ أي دلالات يحملها هذا السلوك الاحتجاجي القوي؟ وكيف يمكن قراءة رد فعل الشركات المستهدفة بالمقاطعة والمسؤولين الحكوميين؟

عموماً، ومن دون العودة إلى أزمنة أخرى للمقاطعة كسلوك احتجاجي مدني سلمي في سياقات مختلفة وبرهانات مرتبطة أشد الارتباط بطبيعة الصراع وحدته ومكوناته، تبقى المقاطعة – من وجهة نظر سوسيولوجية – هي شكل من أشكال التعبير عن الغضب الاجتماعي، عن عدم الرضى شبه الجماعي إزاء نمط وشروط عيش لا يضمنان الكرامة من جراء عدم التوزيع العادل للثروة الذي يتبدى على مستوى ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية أو الخدمات الاجتماعية العمومية التي تعبِّر صعوبة الولوج إليها عن حدة الفوارق الطبقية والتفاوتات الاجتماعية والمجالية.

المقاطعة التي نتحدث عنها هنا، تقع في صميم الدينامية الاحتجاجية السلمية التي تتكلم لغة الامتناع، أي الامتناع عن اقتناء أو استهلاك مادة معيَّنة، وذلك لدفع الشركات والمقاولات المنتجة أو المحتكرة لها إلى مراجعة الأسعار الباهظة جداً، وقد يكون الهدف أيضاً تبليغ رسالة سياسية غير مشفَّرة ولا تعتمد منطق الرموز والإشارات، أي بوضوح رفض زواج الثروة والسلطة واعتباره زواجاً غير شرعي ما دام هذا الزواج مثّل تاريخياً ومنذ الاستقلال ميكانيزم رئيسياً في صوغ وتوجيه خيارات النظام واستراتيجياته.

وإذا كان متاحاً تحديد الطبيعة الاجتماعية للفئة المقاطَعة أي مالكي أو محتكري المنتوجات الثلاث، فإنه ليس من السهل بلورة تحديد دقيق للفئات المقاطِعة، بأي معايير يمكن صياغة هذا التحديد ما دامت المسألة تستوجب دراسة تتخللها شروط البحث الأجتماعي – على الأقل من خلال توافر شروط ثلاثة كما يتصورها السوسيولوجي الهندي أندريه باتاي: أولاً، الجانب الميداني للبحث «الإمبيريقي»؛ ثانياً، المنظومة «السيستيماتيكية» وهي أن الظاهرة المدروسة لا يمكن فهمها من دون ربطها بالتاريخ والاقتصاد السياسي وطبيعة المؤسسة السياسية؛ وثالثاً وأخيراً الشرط المقارناتي (المقارنة، أي مقارنة الظاهرة في المجتمع المدروس بأمثالها من مجتمعات أخرى)[1]. لهذا سنعرض بعض الملاحظات العامة وذات الطبيعة السوسيولوجية التي تقربنا من فهم أبعاد ودلالات هذه الدينامية الاحتجاجية المتمثلة بحراك المقاطعة.

أولاً: من هم المقاطَعون؟ أو المقاولة المستظلة بظل السلطة

إن العلامات التجارية الثلاث موضوع المقاطعة تنتمي الى مقاولات مهيكلة وضخمة على صعيد حجم الاستثمارات ورقم المعاملات، وهي:

1 – سنطرال دانون (Centrale Danone)، وسابقاً: محلبة سنطرال (Centrale Laitière)، هي شركة مغربية تابعة للشركة متعددة الجنسيات دانون المختصة بالحليب ومنتجاته. مدرجة منذ سنة 1974 في بورصة الدار البيضاء[2]. وقد قوطعت نتيجة غلاء مادة الحليب رغم أن الشركة تشتريه من الفلاحين بثمن أقل جداً… المقاطعة أطرها شعار «خليه يريب».

2 – مجموعة أكوا (المعروفة سابقاً باسم: أفريقيا غروب) هي أول مجموعة اقتصادية بالمغرب في مجال توزيع الطاقة من وقود وغاز تتخذ العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء مقرّاً لها؛ وتعمل محطات الخدمات التابعة للمجموعة تحت لواء العلامة التجارية أفريقيا. شهدت المجموعة تطوراً كبيراً بقيادة عزيز أخنوش والأخوين واكريم من خلال تنويع أنشطتها الاقتصادية في مجالات جديدة لتشمل وسائل الإعلام المطبوعة، وخدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية، والسياحة والفنادق والقطاعات العقارية[3]. شعار المقاطعة هنا هو «خليه يتحرق».

3 – شركة «أولماس»، المالكة للعلامة التجارية «سيدي علي». بقيادة مريم بنصالح الابن البكر لعبد القادر بنصالح … تولت المجموعة المالية لوالدها لتولّي منصب المديرة الإدارية والمالية لشركة «أولماس» للمياه المعدنية، التي برعت في إدارتها وتوسيع نشاطها التجاري بعد أن جعلت من «أولماس» أخطبوطاً مائياً بالمغرب يسيطر على سبعين بالمئة من السوق المغربي. ماء «سيدي علي» والماء الغازي «أولماس» الذي تحمل الشركة اسمه، ومنتوجات أخرى، جعلت من مريم بنصالح أكثر الأشخاص قدرة على بيع الماء وجمع الثروة، وتدعيم رأسمال الهولدينغ «أولماركوم» الخاص بعائلتها، والذي يضم إضافة إلى «أولماس» كلاً من شركة التأمين «أطلنتا» وشركة للطيران المنخفض التكلفة، وفروعاً أخرى تتخصص في الصناعة والعقار والتجهيزات المنزلية[4]. الشعار الذي وجه مقاطعة ماء سيدي علي «ماكم شربوه».

إن الفئة المستهدفة من المقاطعة تتألف من ثلاثة منتوجات لثلاث شركات تتميز بالحضور القوي في السوق الاقتصادية من حيث المنتوج المستهلك (الحليب والماء والغاز) وحجم الاستثمارات، ولكن يبقى استهلاكها متفاوتاً على مستوى الخريطة الطبقية والاجتماعية للمغاربة حيث غالباً ما تُعتبر الطبقة المتوسطة الأكثر إقبالاً على هذه المواد، كما تتميز أيضاً هذه المقاولات المهيكلة بعلاقتها المتداخلة بدوائر القرار السياسي. فأين يمكن تلمُّس بعض أوجه هذا التداخل بين السلطة والثروة، بين السياسي والاقتصادي، على صعيد الشركات المعنية بالمقاطعة؟

إن شركة سنطرال دانون – كما يحلل ذلك الخبير الاقتصادي نجيب أقصبي – تهيمن أكثر فأكثر على سوق الحليب، وذلك لما كان لها من سلطة على القرار السياسي الذي يخدم مصلحتها، وهذا ما يفسر انحياز الحكومة بطريقة غير لائقة حتى أصبحت تسمى حكومة «سنطرال»، وبالتالي فقد استطاعت هذه الشركة سنة 2005 أن تفرض عبر لوبياتها بالبرلمان قانوناً لفرض ضرائب على التعاونيات، وذلك لإعدام أي منافسة لها في السوق[5]، كما أطلقت هذه الشركة «منذ عام 2007 استراتيجية لتحفيز الزبائن على الوفاء لمنتوجاتها، وضعت الشركة حوافز مغرية لأصحاب نقط البيع، وهي التحفيزات التي ترتفع قيمتها عند الاقتصار على ترويج منتجات سنطرال وعدم التعامل مع منافسيها، وهي الممارسة المحرمة دولياً، لأنها منافية لقواعد المناسفة الشريفة[6] وتعتبر شركة «سنطرال» من الشركات التي انسحب منها الهولدينغ الملكي يومين قبل انطلاق حركة فبراير 2011 [7]، وهذا التداخل يتجسد أيضاً في شركة «أفريقيا غاز» التي يملكها الوزير ورئيس حزب إداري ولد في أحضان السلطة وتحت رعايتها، وشركة أولماس المالكة لسيدي علي، التي ظلت مالكتها لفترة مهمة على رأس نقابة الباطرونا أي الكونفدرالية العامة للمقاولين المغاربة (CGEM). ولم تكن هذه المؤسسة في يوم من الأيام بعيدة من تأثير وتوجيه النظام السياسي اللهم في بعض المراحل القليلة التي شهدت توتراً بين الجهتين وبخاصة إبان حملة التطهير التي قادها وزير الداخلية الراحل «إدريس البصري» سنة 1996 والتي شهدت انتقاماً فظيعاً من عدد من رجال الأعمال واغتناء غير مشروع لجملة من رجالات السلطة محلياً ووطنياً، ويشهد على هذه المرحلة الرئيس السابق للاتحاد العام لمقاولات المغرب عبد الرحيم الحجوجي الذي أكد أن «الحملة التطهيرية» شكلت «صفحة سوداء في تاريخ المغرب وضربت عرض الحائط بمفهوم دولة الحق والقانون»[8]. وربما عجز نقابة الباطرونا عن الانفكاك من مركب السلطة هو الذي دفع عبد الرحيم الحجوجي الى تأسيس حزب سياسي سماه «القوات المواطنة».

من الناحية التاريخية، ومنذ فترة ليست قصيرة، نسجل حقيقة أنه رغم محاولات الاتحاد العام لمقاولات المغرب الحذر من الالتزام السياسي واعتبار سبب وجوده هو «الدفاع عن مصالح أعضائه والمساهمة في الاقتصاد دون الارتباط بأهداف سياسية لحزب ما، حيث إن انتخاب رئيس الاتحاد تحكمه الاستقلالية عن الأحزاب السياسية خوفاً من هيمنة أي حزب عليه، وبخاصة الاتحاد الدستوري والتجمع الوطني للأحرار، اللذان يحاولان كسب دعم العالم التكنوبيروقراطي…»[9]؛ فقد ظلت «الاستراتيجية السياسية للباطرونا الكبرى تقوم على التحالف مع السلطة المركزية وليس على تعارض معها»[10]، بمعنى أن المجموعات الأساسية الكبرى للبرجوازية المغربية التي تتألف من برجوازية الأعمال، والبرجوازية الصناعية الزراعية والبرجوازية التكنوبيروقراطية، تعود الى السياسي؛ أي الدولة للحكم بينها، وليس الاقتصادي الذي يعني تحديث المقاولة، وتحسين الجودة والمنتوج والبحث عن أسواق جديدة»[11]. وليس من مكر التاريخ أن نستحضر هنا بعض النماذج للمسارات السوسيومهنية لرؤساء سابقين، مسارات أشرت إلى فشل استراتيجية الاستقلالية عن السلطة وإعادة إنتاج منطق الريع السياسي والاجتماعي، أحدهما هو الرئيس الأسبق للاتحاد العام لمقاولات المغرب بنسالم جسوس بين 1985 و1988، «هذا البرجوازي العصري الكبير الذي كان صيدلياً في الأصل ومن عائلة فاسية كبيرة، وينتمي إلى حزب الاستقلال، وعيِّن سنة 1983 سفيراَ في بروكسيل»[12]، بمعنى أنه قاد نقابة الباطرونا وهو قادم من دواليب الدولة والحزب؛ ثم الرئيس الحالي صلاح الدين مزوار الذي أصبح يقود الاتحاد منذ 22 أيار/مايو 2018 وهو القادم من حزب التجمع الوطني للأحرار ومسؤوليات حكومية في الخارجية والمالية.

من هنا، ربما سنجانب الصواب إن حصرنا أسباب المقاطعة فقط في غلاء الأسعار، من الأكيد أن هذا الدافع هو الأقوى ولكن لا يمكن عزله عن «منظومة اقتصاد الريع والفساد» وتداخل السلطة السياسية مع سلطة المال حيث إن «العوائق التي تحول دون أن تؤدي البورجوازية التقليدية دوراً مؤثراً وحاسماً في تحديث البنيات منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، تتمثل بعجزها عن القطع مع علاقات التبعية التي تربطها بالسلطة المركزية، وفي طرائق العمل والتفكير لدى العديد من أعضائها والتي هي بعيدة كل البعد من عقلانية اقتصادية حقيقية»[13].

ثانياً: جبهة المقاطعة، أو الانتفاضة الافتراضية للطبقة المتوسطة

من الصعب ادعاء الإحاطة الشاملة بالفئة أو الفئات الاجتماعية المقاطعة، وذلك لأن معظم التحقيقات الميدانية التي تناولت حركة المقاطعة ظلت جزئية ومحدودة على الصعيد السوسيومجالي والمنهجي (الفئة المستهدفة، الإطار الجغرافي، تقنيات البحث)، ولهذا يمكن أن تشكل هذه التحقيقات أرضية مهمة لاختبار وتوسيع الخلاصات الأولية التي توصلت إليها، ومن ثم تعميق الدراسة والبحث. ومع ذلك فهناك شبه اتفاق بين الباحثين والدارسين على أن المقاطعة هي غالباً جواب اجتماعي غاضب لفئات اجتماعية متوسطة تمتلك الحد الأدنى من المستوى التعليمي يتيح لها استعمال التكنولوجيات الحديثة في الإعلام والاتصال وتتميز بخاصيتين سوسيولوجيتين أساسيتين: الأولى، هي تميزها بالاستهلاك الجماهيري على مستوى السوق الاستهلاكية عامة وتلك المنتوجات الثلاثة موضوع المقاطعة بشكل خاص، وثانياً بكونها ضحية بل أكبر متضرر من الإجراءات الاقتصادية اللاشعبية للنظام السياسي، ولا سيَّما في عهد حكومة  عبد الإله بنكيران، من حيث إضعاف قدرتها الشرائية من خلال إصلاحات مسّت تحرير الأسعار وتجميد الأجور، وإصلاح التقاعد، ومجانية التعليم، وعدم استقرار الشغل… مع العلم أن هذه الطبقة يراودها دوماً طموح الترقي الاجتماعي من خلال استمرار الرهان على المدرسة، لكن هذا الرهان انتقل بشكل واسع من المدرسة العمومية إلى التعليم الخاص، وهذا جعلها أمام ضغط مهول لتكلفة الحياة التي أصبحت عاجزة عن مسايرته والاستجابة لكل متطلباته.

نعتقد أن هذه الحالة السوسيولوجية التي تتميز بشعور الطبقة المتوسطة بخيبة أمل في النهوض بأوضاعها هي التي تفسر إلى درجة ما مسألتين مهمتين تتعلقان بارتماء جزء كبير منها في أحضان الحركة الأصولية ودعمها انتخابياً، لعل وعسى يقع انفراج اجتماعي معينَّ؛ بعد يأسها من التجارب الحكومية السابقة، وبخاصة ما اصطُلح عليه بحكومة التناوب التوافقي التي دشنت نهايتها المخيبة برحيل جماعي لجزء كبير من الطبقة المتوسطة لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نحو حزب العدالة والتنمية، وكذلك موقفها المتردد إزاء حركة 20 فبراير حيث ظلت في معظمها تتابع منعرجات هذه الحركة بترقب وتوجس شديدين في سياق وقوعها تحت تأثير جزء من حركة الإسلام السياسي – وبخاصة حزب العدالة والتنمية – وخوفها من السيناريوهات الإقليمية المجاورة (مصر، اليمن، ليبيا، سورية…) التي كان يسوقها الإعلام الرسمي بشكل مكثف؛ وهذا ربما يساعدنا على فهم الانخراط الواسع للطبقة المتوسطة في حركة المقاطعة، بوصفها دينامية احتجاجية سلمية يجري تأطيرها والتعبئة لها على مستوى الساحة الرقمية والافتراضية وليس الشارع الحقيقي الذي يشهد غالباً تدخلاً للقوات العمومية واستعمالاً للعنف المفرط في قمع المحتجين. لكن هذه الدعوة والتعبئة للمقاطعة افتراضياً حققتا تأثيراً قوياً ونتائج فعالة تفوق تلك المكتسبات الرمزية لحركة 20 فبراير بحسب رأي عدد من الباحثين والخبراء.

ولا شك أن فعالية ومردودية حركة المقاطعة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً هي التي تفسر جواب الشركات المعنية والحكومة وردود أفعالهما، وبالتالي تجعلنا قادرين على استنطاق الاستراتيجية التواصلية لهذه المؤسسات. فكيف كان تواصلهما وتفاعلهما مع حركة المقاطعة؟ وإلى أي حد عبّرت الطريقة أو الخطة التواصلية لهؤلاء عن رؤيتهم وتمثلهم للمستهلك؟

ثالثاً: تواصل عدواني كتعبير عن العودة الى زمن ما قبل المقاولة

في الواقع، إن العلامات التجارية الثلاث موضوع المقاطعة، ترمز إلى مقاولات كبيرة الحجم وتنتمي إلى نمط المقاولات المهيكلة على مستوى بناها المؤسسية (رأس المال الاجتماعي، حجم الاستثمارات ورقم المعاملات، وحدات الإنتاج والتسويق، مصالح تدبير الموارد البشرية وتحسين الجودة،… إلخ). ولا شك في أن استحضار هذه المعطيات يستجيب لضرورة منهجية قد تساعد على الاقتراب من الطريقة التي تدبر بها هذه المؤسسات السوسيواقتصادية نزاعها مع محيطها الداخلي والخارجي والصيغ التي تعتمدها لتجاوز وضعية الأزمة/ النزاع/ الخطر، أو ما يمكن تسميته في الأدبيات الخاصة بتسيير المقاولات «الأمن المقاولاتي وتدبير المخاطر» اللذين يقتضيان الوجود المسبق لاستراتيجية استباقية ووقائية في مفكرة إدارة المقاولة.

في حوار مع أحمد المتمسك، الباحث في سوسيولوجيا المقاولة، قال إنه ليس من المستساغ ألّا تملك هذه المقاولات خطة تواصلية لتدبير الأزمة، ولا شك في أن الطريقة التي تجاوبت بها هذه المقاولات والحكومة مع حركة المقاطعة تستحق الدراسة والتحليل، وبخاصة إن تعود بنا إلى زمن ما قبل المقاولة أو زمن الزاوية والجماعة التقليدية وعلاقة الشيخ والمريد.

إن تتبع الطريقة التي تجيب بها إدارة المقاولات الثلاث والحكومة مع حركة المقاطعة، عكس بجلاء حقيقة أن الذي يحسم الفعل الاحتجاجي في المغرب هو الخيار القمعي المباشر، أي تدخل القوات العمومية والتنكيل بالمحتجين (اعتقالات، محاكمات،…)، حيث إن جميع مراحل التجاوب مع حركة المقاطعة من قبل المقاولات الثلاث والحكومة تميزت بداية بالاستهتار بالمستهلك/المحتج وإلغائه ثم تخوينه وتخويفه كتصريح مدير «سنطرال دانون» بأن مقاطعة السلع الوطنية «خيانة للوطن»، ثم تصريح وزير المالية محمد بوسعيد واتهامه للمقاطعين بكونهم «مداويخ» ليتدخل وزير الاتصال مصطفى الخلفي ويلوح بلغة القمع. وكذلك ادعى أن هذه الحركة الاحتجاجية مسيَّسة، كما قال عبد العزيز أخنوش، واستجداء تدخل الدولة لحماية المقاولة من خلال خفض الضرائب، كما جاء في بيان شركة «ولماس»، وفي مرحلة أخرى اعتماد لغة الاحتجاج بالشارع من خلال وقفة عمال «سنطرال دانون» أمام البرلمان التي كان من ضحاياها وزير الحكامة. والجدير بالملاحظة، أن المثير للاستغراب، هو أن تقارير متعددة – بما فيها تقرير لجنة المهمة الاستطلاعية التي ألّفها مجلس النواب للوقوف على أسعار البيع وشروط التنافسية في قطاع المحروقات، بعد عملية تحرير السوق – أكدت كلها غلاء الأسعار والهامش الواسع لنسبة الأرباح التي تدرها الشركات مع ما هو حاصل في بلدان أخرى وذلك بطريقة غير مشروعة ولا أخلاقية كما وصفها النائب البرلماني عن فدرالية اليسار الديمقراطي عمر بلافريج. وفي الوقت الذي كان من المنتظر إسراع الحكومة والشركات الثلاث الى التجاوب الإيجابي السريع مع حركة المقاطعة بمراجعة الأسعار وخفضها، ظل منطق تلك المؤسسات يشتغل بشعار «عنزة ولو طارت» أي الاستهتار الكلي بتطلعات المواطنين إلى كرامة العيش. وإن دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على التداخل المستمر تاريخياً بين منطق المقاولة ومنطق السلطة؛ وبالتالي إعادة إنتاج الآليات السوسيوثقافية التقليدية في التواصل مع المستهلك/الزبون على مستوى نسيج مقاولاتي يدعي الهيكلة والتدبير الحديث من الناحية المبدئية، في منطق التدبير الحديث (عقلنة المقاولة). وانطلاقاً من مبدأ أن المستهلك/الزبون هو سبب وجود المقاولة، أي أن له تقديراً وتميزاً في فكر وسلوك أصحاب المقاولة التي يجب أن تجتهد دائماً لتوسيع وتنويع منتوجها والإنصات الفعَّال والمستمر للمستهلك وحاجبات المحيط المتطورة والمتجددة جودة ونوعاً، وبالتالي الحفاظ على وفائه من منطلق الشعار «الرأسمالي» المعروف «الزبون ملك».

لكن للأسف، وكما بيّنا أعلاه، أثبتت حركة المقاطعة بما لا يدع مجالاً للشك الابتعاد شبه الكلي لهذه الشركات – وبدعم صريح من الحكومة – من ما يمكن أن نصطلح عليه بثقافة تثمين الزبون أي الإنصات إلى شكواه واقتراحاته وتطلعاته، وتعويض ذلك بهجوم سلبي على المستهلك المقاطع بلغة غير مسؤولة تعكس الضعف الشديد لقيم المواطنة أو ثقافة وقيم المقاولة المواطنة.

إن «الاستراتيجية التواصلية» العدوانية للشركات الثلاث والحكومة إزاء حراك المقاطعة حملت رسائل مهمة ومتناقضة راوحت بين تفهم لفظي لدواعي هذا الفعل الاحتجاجي وعجز عن مباشرة إجراءات ملموسة يكون لها أثر اجتماعي بادٍ على حياة الطبقات المسحوقة. بل المؤسف هو انتقال تلك «الاستراتيجية» من الهجوم المباشر على المقاطعة ونعتها باتهامات شتى (التخوين، مداويخ، التسييس…)، إلى حرب داخلية غير مباشرة من خلال الكشف عن حجم الخسائر ومن ثم تبرير التسريح الجماعي والفردي للعمال ودفع ممثليهم النقابيين إلى الاصطفاف ضد حركة المقاطعة، وبخاصة في ظل الواقع الذاتي للحركة السياسية والنقابية المغربية التي تُعد أزمتها الذاتية والموضوعية العميقة من تجليات بروز مقاومات اجتماعية منظمة من داخل المجتمع (حراكات: الريف، جرادة، زاكورة، المقاطعة…).

عموماً، إن حركة المقاطعة رغم جزئيتها على مستوى الجهات المستهدفة وحجم الانخراط الاجتماعي والطريقة التي تعاملت معها الشركات المهنية والحكومة ومجتمع مدني كجمعيات حماية المستهلك، قد كشفت مرة أخرى أن الاقتصاد السياسي في بلادنا لا يمكن تفكيكه وفهم ميكانيزمات حركته من دون التشخيص المجهري لعلاقة السلطة بالثروة، أي هيمنة المخزن الاقتصادي كعائق بنيوي وتاريخي أمام أي تطور اقتصادي مستقل من شأنه فرز بنى طبقية رأسمالية تتيح الشروط الضرورية لإنجاز قطيعة مزدوجة؛ قطيعة من جهة أولى مع الدولة المخزنية الغنائمية كما يسميها الراحل محمد جسوس، ومن جهة ثانية مع المجتمع المركب كما شخصه السوسيولوجي الراحل بول باسكون باعتباره «من الناحية السوسيولوجية، مجتمع قايدي مخزني، يمارس هيمنته على القبيلة الآخذة في الاندثار، وعلى الأبوية التي وجدت ملجأ لها في العائلة ووضعية المرأة. إلا أن هذه القايدية نفسها تعاني سيطرة الرأسمالية العالمية في مجالي الإنتاج والمبادلة»[14].

 

قد يهمكم أيضاً  مفارقات المشهد الديني المغربي: الملامح والمآلات

الشباب المغربي والمشاركة السياسية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المقاطعة #المغرب #الحراك #الحراك_السلمي #حراك_المقاطعة #الحركة_الاحتجاجية_في_المغرب #مجموعة_أكوا #سنطرال_دانون #شركة_أولماس #سيدي_علي