مقدمة:

بالرغم من غزارة الإنتاج المعرفي حول فلسطين والنظريات المتنافسة لربط العالمي بالمحلي لتفسير الواقع الفلسطيني، إلا أن تشابك وتعقيدات المشهد الفلسطيني تظل تحدياً أمام الباحثين، حيث يتشابك الحديث عن التحولات التي طرأت على الصعيد العالمي والتنظير حولها، وخصوصية المشهد الفلسطيني في ظل خضوعه لحالة استعمارية معقدة. وفي السعي نحو الأطر العالمية الأنسب لتفسير الحالة الفلسطينية، تظهر الحاجة إلى تحديد ماذا نعني بمصطلحات «عالمي» و«محلي». ففي الوقت الذي تصبح فيه المسافة بين العالمي والمحلي أضيق في ظل ثورة المعلومات والتكنولوجيا وسهولة تدفق المعلومات ورأس المال بشكل عابر للحدود، تغدو العلاقة بين العالمي والمحلي إشكالية وأكثر تعقيداً. هنا يمكن القول بأن هذه العلاقة الملتبسة بين كلا المفهومين، تحتم علينا أن ندرك علاقات القوة الكامنة وراء إنتاج المعرفة الخاص بكل منهما.

تحاول هذه الورقة دراسة التحولات الرئيسية في المخيال السياسي الفلسطيني من خلال الأطروحات النظرية المتنافسة على الصعيد العالمي. وتطرح سؤالاً مركزياً وهو: كيف يمكن أن نفسر التحول الجذري في المخيال السياسي من فلسفة المقاومة والتحرر من الاستعمار إلى فلسفة المؤسسات وبناء الدولة من خلال النظريات العالمية المعاصرة؟ وتجادل الورقة بأن الفلسطينيين كلما باتوا أقرب إلى تحقيق حلم «الدولة» باتوا أبعد من التحرير والتحرر من الاستعمار؛ فالدولة التي لطالما حلم بها الفلسطينيون وناضلوا من أجلها، باتت مرتبطة بتشظي الهوية الفلسطينية والتفتت الجغرافي. كما بات الخطاب بعد اتفاقية أوسلو عن الأسواق الحرة والحقوق هو البديل للخطاب التحرري والمقاوِم للاستعمار، الذي لطالما شكّل الأساس للهوية الفلسطينية. يساعدنا فهم التحولات التي حدثت على الصعيد العالمي والمحلي وربطها، على فهم هذه المعادلة الصعبة. وسننطلق في التحليل من فرضية مفادها أن التحول في المخيال السياسي الفلسطيني – وسنركز هنا على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967 – كان نتاج تشابك ثلاثة تحولات رئيسية على الصعيد العالمي والمحلي في: مفهوم الهوية القومية، وآليات السيطرة والتحكم، ومفاهيم المقاومة والتحرر. وسيشكل كل من هذه المحاور قسماً من أقسام الدراسة.

أولاً: التحول من هوية سياسية جامعة إلى هوية متشظية

ننطلق هنا من تعريف بنديكت أندرسون الأنثروبولوجي للأمة كمنتج ثقافي بحيث يعرفها على أنها «جماعة سياسية متخيلة، حيث يشمل التخيّل أنها سيدة ومحددة أصـلاً»‏[1]. ويشمل هذا التعريف ثلاثة عناصر: وهي التخيل حيث لا يعرف أعضاء الأمة الواحدة بعضهم البعض رغم انتمائهم المشترك، محددة وسيدة لأنها مرتبطة بحدود عصر التنوير، وأخيراً جماعة لأنها قائمة على علاقة رفاقية عميقة تعمل أفقياً‏[2]. يحاول أندرسن تفسير دوافع التضحيات الضخمة التي تقدمها الأمم والشعوب كنتاج للمخيال القومي، من خلال العودة إلى الجذور الثقافية للقومية. ويرى أنّ فهم القومية يجب ألا يرتبط بالأيديولوجيات السياسية، بل بالمنظومات الثقافية الكبرى التي سبقتها، والتي ظهرت القومية للوجود انطلاقاً منها وفي تفاعل معها‏[3].

وفي الوقت الذي يستبعد فيه أندرسون أفول عصر القوميات، ويبحث عن أسباب تمركز مفهوم الأمة في نطاقات ضيقة تحت اسم هويات قومية، يبحث ستيوارت هال في تبعثر ولامركزية الهويات في عصر العولمة. يتفق هال مع مبدأ الجماعة المتخيلة الذي يطرحه أندرسون، إلا أنه يرى عدم توافق الواقع المعولم اليوم مع المفهوم المكاني للهوية القومية. مشيراً إلى ظهور مجال أكثر سيولة للهويات الثقافية التي تم اقتلاعها من مكانها عبر صيرورة العولمة مولداً أزمة هويات. ويرى هال أن الهويات القومية تتشكل وتتحول ضمن نظام من التمثل، ولكن الأمة ليست كياناً سياسياً وإنما مرتبطة بالمعاني أو ما يطلق عليه «نظام من التمثل الثقافي»‏[4]. وفي هذا الصدد، يرى هال الثقافة القومية كخطاب «أي طريقة في بناء المعنى تؤثر في أفعالنا ومفهومنا عن أنفسنا وتنظمها»‏[5].

وبين تفسير تخيل الهوية القومية عالمياً كهويات جامعة يبذل أصحابها في سبيلها تضحيات جسام، إلى هويات مرتبطة بالمعاني والتمثيل والخطاب، يمكننا أن نفهم هذا التحول من خلال فهم التحولات من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. ويمكن هنا أن نستعين بتنظير دايفيد هارفي حول «حالة ما بعد الحداثة»، حيث يرى أن ما بعد الحداثة تمثل تحولاً في «بنية المشاعر» تقوم على أساس الشك العميق في كل الخطابات الشمولية والتركيز على التنافر والاختلاف والتشظي‏[6]. لينتقل الوعي من مبدأ عقلاني «أنا أفكر إذاً أنا موجود» إلى مبدأ «أنا أشعر إذاً أنا موجود»، وهو ما قاد حسب هارفي إلى تسليع المنتجات الثقافية، والتركيز على الذات التي مثلت محور اهتمام ما بعد الحداثة. وهو تحول في المفاهيم يعزوه هارفي إلى تغيير في تجربتي الزمان والمكان في الرأسمالية الغربية أو ما يسميه «انضغاط الزمان والمكان». ترتكز مجادلة هارفي على أن الزمان والمكان هما بناء اجتماعي يختلف تصوره في فترات زمنية وأماكن مختلفة، مشدداً على أن ظاهرة انضغاط الزمان والمكان هي نتاج لعولمة الرأسمالية‏[7].

ويرى هارفي أن «أزمة التراكم المفرط» استدعت البحث عن حلول زمانية ومكانية، وهو ما حدث في أزمة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. فتغير الشعور بالزمان والمكان وانهارت الثقة بأحكام العلم والأخلاق وسيطرت الفوضى والتشظيات على المشهد، وكان نتيجة ذلك حسب هارفي انتقال النظريات من «حقل الأسس المادية والسياسية – الاقتصادية إلى حقل الممارسات الثقافية والسياسية المنفصلة والمعزولة»‏[8]. وهو ما يربطه هارفي بانقلاب تاريخ العالم من الصراع الطبقي إلى صراع جيوسياسي تعود أسبابه إلى العمليات السياسية والاقتصادية التي جاءت بها الرأسمالية لحل مشكلة «التطور الجغرافي غير المتوازن»، فغدت تبحث في أطراف الأرض عن أماكن لحل مشكلة التراكم المفرط لرأس المال‏[9]. فيستمر رأس المال في السيطرة على الزمان والمكان، وهو ما يدفع هارفي للتشكيك في تشديد ما بعد الحداثة على «الآخر» و«المقاومات المحلية» لمقاومة آليات السيطرة حيث تبقى الرأسمالية العالمية أقوى من كل المعارضات الفردية‏[10].

وفي هذا السياق، كيف يمكن أن نفهم انعكاس أزمة الهوية القومية عالمياً على الواقع الفلسطيني والتحولات في تخيل شكل الأمة؟ هنا لا بد من الرجوع تاريخياً إلى النكبة الفلسطينية كحجر زاوية في فهم مأزق الهوية الفلسطينية في السياق الاستعماري وخصوصيته. فتتبع مفهوم «النكبة» في الثقافة الفلسطينية ودلالاتها الثقافية والسياسية والتاريخية، كما يرى إلياس خوري، يعكس معضلة الهوية والوعي بالأنا والآخر التي يعيشها الفلسطينيون منذ عام 1948. ويبدأ خوري في مقالته بعنوان «الوطن المخيم – الوطن المنفى» بالبحث في سردية النكبة التي يرى أنها كانت في الغالب غائبة عن الأدب الفلسطيني في السنوات الأولى للنكبة بسبب بروز ما يسميه «الوعي اللجوئي»، وهو ما ظل محصوراً في فكرة المؤقت والانتظار واستعادة الأسماء بدلاً من سرد الجريمة. وهو الوعي الذي حل محله «وعي المنفى» بعد اتفاقية أوسلو، ليحل الدائم محل المؤقت وينحصر الوعي اللجوئي في المخيمات ويصبح الوطن أو الدولة الفلسطينية هي ذاتها حدود المنفى. وهو الوعي الذي يرى خوري ملامحه في أعمال ادوارد سعيد ومحمود درويش، بحيث تتحدد ملامحه في ثلاثة عناصر وهي: استبدال الذاكرة الشفهية بالمكتوبة، المؤقت بالدائم، الرموز بصورة أكثر حقيقية للمجتمع‏[11].

تتمثل خصوصية الهوية الفلسطينية الجامعة بأنها لم تكن نتاج الارتباط السياسي لحدود الدولة القومية أو كيان سياسي، وهو ما تغير مع إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964، حيث بدأت عملية إعادة تشكل الهوية الفلسطينية ضمن حالة التشظي التي عاشها الفلسطينيون بعد النكبة في مواقع جغرافية متنوعة‏[12]. وبعد هزيمة عام 1967 تبنت منظمة التحرير الفلسطينية الكفاح المسلح وطرحت مشروع الكيان السياسي وإقامة الدولة المستقلة، سعياً للملمة حالة التشظي المتزايد في الهوية الفلسطينية بعد الهزيمة. وهو ما تمكنت من تحقيقه نسبياً بتوحيد فصائل المقاومة المختلفة تحت رايتها، وهو وعي سياسي نشأ في المنفى وظل رهينة المعطيات السياسية الإقليمية والدولية. وفي عام 1987، انطلقت الانتفاضة الأولى وعاد الثقل السياسي للداخل الفلسطيني بدلاً من الشتات. ومع الترهل الذي شهدته المنظمة في حقبة الثمانينيات من القرن العشرين وتراجع فاعليتها، بدأ سعي المنظمة لترسيخ شرعيتها كممثل للشعب الفلسطيني، وهو ما تُوّج بقبول حل الدولتين والتوجه نحو الاستقلال بدل التحرير الوطني‏[13]. وترى هنيدة غانم أن إعلان منظمة التحرير للنقاط العشر في عام 1974، كان بمثابة بداية «الانزياح الباراديغماتي» من نموذج التحرير إلى نموذج الدولة القومية. وهو ما أدى إلى تبني نموذج «الدولنة» أو «Statehood»، وما تبعه من تبني خطاب المواطنة بدلاً من خطاب حق العودة وما لحقه من تهميش للفلسطينيين الموجودين خارج الضفة الغربية وقطاع غزة بتوقيع اتفاق أوسلو‏[14].

من هنا فإن «علاقة رفاقية عميقة تعمل بشكل أفقي» أشرنا إليها سابقاً في فهم أندرسون لخصائص الجماعة المتخيلة، باتت في الحالة الفلسطينية ضعيفة مع التحولات التي شهدتها الهوية السياسية الفلسطينية بسبب التشظي الجغرافي الناتج من الاستعمار. ويجادل جميل هلال بأن تآكل الشرعية الكفاحية للنخبة السياسية بدأ مع التحول من حركة تحرر وطني إلى حركة تسعى لإقامة الدولة ومؤسساتها على حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. فالكفاح المسلح وما رافقه من تسليح لمخيمات الشتات الفلسطيني، عمل على نقل الهوية الفلسطينية من هوية الضحية إلى هوية الفدائي‏[15]. وفي ظل التحولات التي شهدها الحقل السياسي الفلسطيني خلال السبعينيات والثمانينيات، حصل تحول أيديولوجي من التحرير إلى بناء الدولة. وبذلك، تم تجاوز هدف التحرير في سبيل تحقيق هدف تخليص جزء من الأراضي الفلسطينية لإقامة دولة عليها وشرعنة التفاوض مع الاستعمار الصهيوني‏[16]. ومع قيام السلطة الفلسطينية عقب توقيع اتفاقية أوسلو مطلع التسعينيات، يرى هلال أن النخب السياسية سعت إلى استبدال الشرعية الكفاحية التحررية بالشرعية الديمقراطية والانتخابات التي استمدت شرعيتها من فلسطينيي الداخل بدل الشتات‏[17].

وبذلك عادت الهوية الجامعة الفلسطينية إلى التشرذم والتشظي بعد غياب هدف التحرير، ويمكن القول إنه بدأ جدياً «تحول في بنية المشاعر» تجاه علاقة الفلسطيني بهويته القومية. وانتقل دور منظمة التحرير كحاضنة للهوية الفلسطينية الجامعة إلى السلطة الفلسطينية كممثل و«رمز» للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهي دولة منزوعة السيادة في ظل استمرار الاستعمار الصهيوني وانتهاكاته اليومية. ومع ارتباط مؤسسات الدولة الوليدة بالمؤسسات الدولية والدعم الأجنبي لبناء المؤسسات وتحقيق تنمية مع بقاء الاستعمار، تأرجحت السلطة الفلسطينية بين كونها دولة استعمارية أم ما بعد استعمارية. وهنا يمكن اقتباس وصف فرانتز فانون لمزالق الشعور القومي، حيث يرى «أن الشعور القومي ما لم يكن تجسيداً منسجماً لأعمق مطامح الشعب بمجموعه، وما لم يكن ثمرة مباشرة حية نابضة للتعبئة الشعبية، فلن يكون في أحسن الأحوال إلا شكـلاً لا مضمون له، سريع الزوال قليل الدقة والوضوح. والصدوع التي نجدها فيه عندئذٍ هي السبب في أن البلاد الناشئة المستقلة، كثيراً ما تنتقل بسهولة من حالة الأمة إلى حالة القبيلة، ومن مستوى الدولة إلى مستوى العشيرة»‏[18].

ويمكن القول هنا إن انخراط منظمة التحرير في عملية السلام ارتبط ارتباطاً جوهرياً بالتحولات الطبقية في المنظمة في الفترة التي سبقت أوسلو وتعززت بعده. وهو ما تمثل بتعاظم الجسم البيروقراطي السياسي بالتزامن مع تفشي الفساد والمصالح النخبوية‏[19]. وهو ما أدى إلى تحول المشهد السياسي الفلسطيني من «الشعبي» النابع من محتوى موضوعي لمرحلة «تحرر وطني» نابعة من الواقع، إلى شكل تنظيم «فوقي بيروقراطي»‏[20]. وهو ما يصفه بنجامين بارت على أنه إحلال «أسلوب بلاغة الدولة محل مثال التحرير» وثقافة الإعمار بدل المقاومة والثورة‏[21]. ويرى جميل هلال في دراسته عن الطبقة الوسطى الفلسطينية أن البيئة السياسية التي فرضت فيها قيادات الحقل السياسي، التي اندرجت في الغالب من الطبقة الوسطى، هي «بيئة غابت عنها الأيديولوجيات أو رؤى طبقية متبلورة»‏[22]. وهو ما يفسر حسب رأيه ضعف المضمون الاجتماعي الذي تكشف بعد قيام السلطة الفلسطينية، بالرغم من أنه كان يبدو متماسكاً ضمن مشروع التحرير السابق وغياب الدولة‏[23].

من جهة أخرى، لا يمكن الحديث عن المخيال السياسي الفلسطيني من دون التطرق للفضاء/الحيِّز الفلسطيني ودوره في تشكلات الهوية الفلسطينية. واستناداً لأفكار هنري لوفيفر حول الحيِّز المجرب والمدرك والمتخيل‏[24]، يمكن أن نحاول فهم التوترات التي عانتها الهوية الفلسطينية خاصة بعد قيام السلطة الفلسطينية. يقول لوفيفر «إذا كان الفضاء منتجاً، وإذا كانت هناك عملية إنتاج، إذاً؛ نحن نتعامل مع تاريخ. بما أن كل نمط إنتاج يمتلك فضاءه الخاص، التحول من نمط إلى آخر يتضمن إنتاج فضاء جديد»‏[25]. ويشير لوفيفر إلى الحيِّز كمنتج اجتماعي محاولاً الوقوف على الصفات الاجتماعية للحيِّز. فالحيِّز بصورته الطبيعية أو الأصلية قد يختفي من المشهد اليومي للناس الذين يعيشون فيه، ولكن يبقى موجوداً في خلفية المشهد حامـلاً بعداً رمزياً. كما يؤكد دور علاقات الإنتاج في تشكيل الحيِّز، فكل نمط إنتاج ينتج منه حيِّز معين يتناسب معه. ويناقش لوفيفر ثلاثة مفاهيم مرتبطة بالحيِّز وهي «ممارسة الحيِّز» أو (Social Practice) و«تمثلات الحيِّز» أو (Representations of Space) و«الحيِّز التمثيلي» أو (Representational Spaces). وتدل ممارسة الحيِّز على فكرة الممارسات الاجتماعية كأساس لإنتاج الحيِّز وإعادة إنتاجه، في حين تدل تمثلات الحيِّز على النظام الذي يسيِّر علاقات الإنتاج، ويدل الحيِّز التمثيلي على الدلالات المتخيلة للحيِّز وهي بالعادة مخفية ولا تظهر بصورة واضحة‏[26].

وفي السياق الفلسطيني، ارتبط الحيِّز على المستويات الثلاثة التي يذكرها لوفيفر بالبنية الاستعمارية، حيث ظلت السيطرة على الحيِّز ومحاولة محوه من ذاكرة ساكنيه الأصليين جوهر المشروع الصهيوني. يتقاطع هنا طرح لوفيفر مع طرح دايفيد هارفي حول علاقة الزمان بالمكان وكونهما بناءً اجتماعياً. يمكن تقسيم الفضاء/الحيِّز الفلسطيني إلى نوعين: أولاً، الفضاء المتخيل القائم على الذاكرة الجماعية الفلسطينية وشعورهم كجماعة متحدة يعرّف وجودها على مكان جغرافي يشمل كل فلسطين التاريخية. ثانياً، «الفضاء المسموح به» المتمثل بأراضي السلطة الفلسطينية وبمؤسساتها ورموزها المرتبطة بما يحدده لها الوجود الاستعماري‏[27].

وترى ليزا تراكي أن مسألة إعادة الإنتاج الاجتماعي التي تعني العمل على ضمان استمرارية الوجود الاجتماعي وتجديده، مرتبطة بتشكلات الهوية حيث تحدد آفاق التفكير وأنواع الحياة الاجتماعية المنشودة‏[28]. وتضيف أن تطور المخيال الاجتماعي الفلسطيني ارتبط بصورة أساسية بالبنية الاستعمارية وبالقوى والتيارات العالمية الوافدة التي تعمل على تشكيل وإعادة تشكيل الذوات الفلسطينية وخياراتها الشخصية، مؤكدة التمايز في المخيال الاجتماعي بين الطبقات المختلفة التي لا تتفاعل مع التيارات العالمية بنفس الدرجة‏[29]. فمثـلاً، نشرت بلدية مدينة رام الله وثيقة بعنوان «رام الله مرنة 2050»‏[30]، وهي خطة استراتيجية للمدينة ضمن مشروع «100 مدينة مرنة» العالمي الممول من مؤسسة «روكفيلر» الدولية. هنا يمكن أن نلمس التحول في المخيال الاجتماعي لمفهوم التكيف المقاوم ضمن الحالة الاستعمارية، حيث نرى هنا إعادة تشكل لمفهوم التكيف بما ينسجم مع تيارات نيوليبرالية عالمية حول مفاهيم مثل «المرونة» أو «الجَلَد» ضمن إطار مشروع الدولة.

وفي ختام هذا القسم، نعود للقول بأن تفاعل العالمي مع المحلي في السياق الفلسطيني في مسألة أزمة الهوية هو بالغ التعقيد. ففي ظل بنية استعمارية استيطانية، فإن التحولات من الهوية القومية الجامعة إلى الهوية المتشظية ما بعد الحداثية لم تسِر في مسار خطي كما الحالة الغربية. فارتبطت الهوية الفلسطينية وتشظياتها بالتفتت الجغرافي الذي ولده الاستعمار من جهة، وبالتحولات في الظروف الدولية والإقليمية ولا سيّما دخول المنطقة العربية في عملية السلام، وبالتأكيد بالتحولات الطبقية في بنية المجتمع الفلسطيني، والتحول في أهداف النخبة السياسية التي أصبحت ترى مصالحها على المستوى العالمي أكثر من المحلي، وهو ما سنناقشه بالتفصيل في القسم التالي.

 

ثانياً: التحولات في آليات السيطرة الحديثة عالمياً ومحلياً

كيف يمكن أن نفهم أن القيادات السياسية الفلسطينية التي كانت تناضل وتحمل السلاح ومستعدة للاستشهاد والاعتقال في سبيل طرد المستعمِر وتحقيق التحرير الوطني، هي ذاتها التي باتت تخدم المصالح الاستعمارية والرأسمالية العالمية بعد قيام السلطة الفلسطينية؟ نبني هنا على ما فصلناه في القسم الأول حول التحولات في الهوية الفلسطينية ضمن الظروف الاجتماعية والسياسية والتاريخية التي أسست للتحول من فلسفة التحرير إلى فلسفة الدولة. هنا ننتقل للحديث عن التحولات في آليات السيطرة الحديثة ودورها في تشكيل نخبة معولمة في الأراضي الفلسطينية بعد أوسلو تتمثل تحديداً بقيادات السلطة الفلسطينية وتحالفاتها مع القطاع الخاص، والمنظمات الأهلية المحلية والدولية.

شهدت فترة انتهاء الحرب الباردة نمواً لدور المؤسسات الدولية كالبنك الدولي ومؤسسات التنمية الدولية في خلق نظام معولم خاضع لوجود نظام دولي ذي قطب واحد قادر على فرض هيمنته السياسية والاقتصادية على العالم. ارتبطت البرامج التنموية في دول الجنوب العالمي بصورة وثيقة بموازين القوة في النظام الدولي، حيث ظهرت الحاجة لدى الرأسمالية العالمية إلى السيطرة على سكان ما يسمى «العالم الثالث» ومواردهم وأسواقهم من دون اللجوء إلى الوسائل الاستعمارية القديمة. وتختلف الأدبيات حول ماهية تسمية هذه الحقبة، فهل هي استعمار جديد أم عولمة أم نيوليبرالية؟ فهي تسميات مختلفة تشير إلى التحول نحو أيديولوجيا السوق وظهور أشكال جديدة للسلطة والاستغلال. ويشير إيليا زريق إلى أن «الاستعمار الجديد» مرتبط مع مذاهب النيوليبرالية والسوق الحرة ونمو دور المنظمات فوق الوطنية التي تسعى لإعادة هيكلة السياسات والثقافات والاقتصادات من طريق خطابات العولمة وتغييب الحدود‏[31]. ويرى جلال أمين أن العولمة هي «عولمة نمط معيّن من الحياة، أداتها الأساسية الآن هي الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، التي تمارس هذه العولمة بكفاءة منقطعة النظير، متى اقتنعنا بذلك أدركنا أن كل هذا الكلام الذي يصور العولمة على أنها عملية «تحرر» من مختلف صور الاستعباد، هو محض خرافة»‏[32].

إذاً يمكن النظر إلى مفهوم العولمة المبني على الأسس النيوليبرالية في التفكير والاستغلال كأحد أشكال السيطرة الحديثة، وسنتطرق هنا إلى تنظير ميشيل فوكو حول آليات السيطرة الحديثة على السكان وتحديداً ما يسميها «السلطة الحيوية». وهي سلطة تنظر إلى السكان ككائنات بيولوجية تعمل السلطة على إدارة تفاصيل حياتهم البشرية من خلال توجيه حاجاتهم ورغباتهم ومصالحهم. وهنا يصبح «الطبيعي في إطار الحوكمة الليبرالية الجديدة هو البيولوجي الذي تم استيعابه بالكامل في آليات السوق باعتبارها المعبرة عنه»‏[33]. ويمكن القول إن هناك «حوكمة عالمية» نيوليبرالية تتمثل بالمؤسسات الدولية وبرامجها المتعلقة بتحسين حياة السكان، كتلك التي تحمل شعار الحد من الفقر وتعزيز الحكم الرشيد والتمكين السياسي والاقتصادي للسكان. ويعني مصطلح «حوكمة عالمية» أن هناك سلطة فوق سلطة الدولة تعمل على خلق بنى جديدة اجتماعية واقتصادية‏[34].

فالأسواق المفتوحة وتقليص دور الدولة في مقابل دور أكبر للمجتمع المدني والقطاع الخاص تصبح هي المعايير التي يجب على الدول اتباعها طوعاً كي تظل تحظى بالدعم. فتفرض هذه المؤسسات هيمنتها من خلال آليات «التقييم والرقابة» التي تفرضها على المشاريع الممولة من خلال طاقم من الخبراء الدوليين، والتي هي بالأساس تقييم ورقابة لمدى تطبيق الدولة للسياسات النيوليبرالية وليس لمدى تحسن أحوال حياة السكان‏[35].

يرى آدم هنية أن السياسات التنموية النيوليبرالية تتمثل بالدعوة إلى تحرير الملكية في قطاعات الصناعة والزراعة والعقارات وخصخصة الصناعات وفتح الأسواق. وأهم نتائج هذا النموذج التنموي الذي تحركه السوق في الوطن العربي، هي التغيرات في المجتمعات الريفية والعمل ومشاركة العمال والتعليم ما بعد الثانوي والقطاع اللانظامي ومستويات الفقر وتعثر النمو. وتشير جميع التغيرات إلى تراكم الثروة في أيدي فئات محددة وتزايد اللامساواة واتساع رقعة الفقر رغم ارتفاع معدلات النمو. فالسياسات النيوليبرالية قد زادت من اللامساواة من خلال تعزيز موقع أصحاب النفوذ في السوق على الصعيدين العالمي والمحلي‏[36].

وفي السياق الفلسطيني، يرى هنية أن بتبني السلطة الفلسطينية الخطاب التنموي النيوليبرالي المعولم، تم تعزيز السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين وتفكيك بنية النضال الجماعي التي قد تكون السبيل الوحيد نحو تنمية تحررية. فالخطاب التنموي النيوليبرالي عمل على إفراغ بعض المفاهيم من سياقها ومعناها الحقيقي، كأداة يستخدمها هذا الخطاب المعولم لاحالة أسباب فشل التنمية في دول الجنوب إلى أسباب داخلية يكون حلها في يد الأفراد أنفسهم. فأضحت مفاهيم كالتمكين والحكم الرشيد والديمقراطية مجرد أدوات تسعى إلى تعزيز انسحاب الدولة من التدخل في التنمية الاقتصادية. كما تهدف إلى احالة الأمر إلى المجتمع المدني، الذي يناط به الترويج للنموذج النيوليبرالي في التنمية القائم على آليات السوق بدلاً من التخطيط المركزي. ويمكن القول إن الفلسطينين وقعوا في شرك هذا الخطاب وكانوا هم أنفسهم سبباً في انحطاط التنمية‏[37].

يقوم هذا النموذج على تعزيز حالة التشرذم وإنكار التاريخ من خلال بعثرة الهوية الفلسطينية المتمثلة بعزل الفلسطينيين في بقاع مبعثرة تتمايز في تشكلاتها الاجتماعية، وهو ما يضعف التصور الموحد للشعب الفلسطيني. وهنا يتضمن الخطاب التنموي قبول التقسيم الزماني والمكاني الاستعماري للفلسطينيين كأمر واقع يتعامل مع السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة فقط بوصفهم من تبقّى من الشعب الفلسطيني التاريخي. في المقابل، فقد تاهت الهوية الجماعية في متاهات هذا الخطاب وتقلص الأفق الاجتماعي والمخيال التحرري. وقد رافق ذلك حالة من تغييب واقع الهيمنة عن المشهد من خلال آليات التحكم التي رسختها اتفاقية أوسلو. فخرافة «الحكم الذاتي» للفلسطينيين لم تكن سوى واجهة تخفي تحت طيّاتها أشكالاً أخرى من آليات السيطرة الإسرائيلية أشد شراسة ولكن بواجهة إنسانية. فقد ازداد بعد أوسلو الخضوع للسلطة الاستعمارية وقلّ إدراك الفلسطينيين ووعيهم بوجود هذه السلطة. فإشكاليات التنمية في الأراضي الفلسطينية ما هي سوى تمثيل لأنماط علاقات القوة المختلفة التي تسيطر على الفلسطينيين‏[38].

يمكن لإطلالة سريعة لبعض المشاريع ذات التوجه النيوليبرالي، التي يتم دعمها من المؤسسات الدولية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أن تساعد على فهم الإشكاليات السياسية في خطاب التنمية في فلسطين. فمثـلاً يركز التمويل أكثر فأكثر على فكرة «الريادة» بحيث يتحمل الأفراد مسؤولية كسب مهارات وإيجاد حلول لمشاكلهم، ويتم هنا التركيز على دعم قطاع إقراض المشاريع الصغيرة للتخفيف من حدة الأزمات الاقتصادية من خلال رؤية نيوليبرالية لمعالجة الفقر بالقاء المسؤولية على الأفراد لإيجاد الحلول. وبالرغم من الميزانيات الكبيرة التي ترصد لهذا القطاع، فإن المشاريع الصغيرة في أغلبها تكون غير قادرة على المنافسة في ظل عدم استقرار سياسي واقتصادي. بل ويمكن القول إن هدف هذه المشاريع يصب في المصالح الرأسمالية والاستعمارية كما تشير بعض الأدبيات، حيث تهدف إلى تنفيس الأزمة الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة للحفاظ على استقرار سياسي‏[39] أو خدمة مصالح رأسمالية وتعميق اللامساواة‏[40]. كما يمكننا النظر إلى الميزانيات العالية التي ترصد لدعم قطاع التجارة في فلسطين من جانب المؤسسات الدولية، التي تعمل ضمن منطق الأسواق الحرة بحيث تصب في معظمها في أنشطة غير مجدية لا تتعامل مع الإشكاليات الحقيقية المتمثلة بالحصار الإسرائيلي والسيطرة على المعابر وبروتوكول باريس المجحف‏[41].

ولعل موضوع الاهتمام في الإحصاء السكاني الذي ترافق مع قدوم السلطة الفلسطينية يكشف لنا الواقع المركب لعلاقات القوة والسيطرة التي يعيشها الفلسطينيون بين نخبة معولمة ومصالح استعمارية. فالمفارقة، أنه في الوقت الذي تزايد الاهتمام بهذه القضية على الصعيد العالمي لإخضاع السكان، كان الاهتمام في هذا الأمر من قبل السلطة الفلسطينية في محاولة لإضفاء الشرعية على وجودها. فيقول إيليا زريق إن أهمية إجراء الإحصاء السكاني الفلسطيني ظهرت جليّاً في المرحلة الأولى من بناء الدولة خلال عملية بناء حدود المواطنة والهوية، ويرى أن بعد أوسلو «ارتدى مشروع إجراء إحصاء للسكان الفلسطينيين على يد الفلسطينيين أنفسهم أهمية سياسية واعتُبر علامة على التمكين الوطني»‏[42].

وتشدد ليلى فرسخ على أن سياسات ضبط السكان محورية لفهم الآليات التي يتبعها الاستعمار الصهيوني لإخضاع الفلسطينيين، وهو ما تزايد بعد أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية. وتشير إلى التحول الذي حصل في فهم الواقع الاقتصادي الفلسطيني الذي ارتبط بتحولات داخلية وعالمية. فقد سادت تفسيرات مدرسة التبعية في السبعينيات والثمانينيات لتفسير تبعية الاقتصاد الفلسطيني للإسرائيلي وفق نظرية المركز والأطراف التي كانت تفسر الاستغلال الإمبريالي لدول الجنوب العالمي، محاولين رسم آليات لفك التبعية. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، وتفشي الإطار النيوليبرالي في التحليل، بالتركيز على مؤشرات النمو حول العالم وتبنيه من قبل السلطة الفلسطينية، غاب الحديث عن الاستعمار الصهيوني كسبب في فشل التنمية الفلسطينية. ومع تزايد آليات السيطرة الإسرائيلية بعد أوسلو وتبدد وهم السيادة الفلسطينية وبخاصة بعد الانتفاضة الثانية، ظهر الاهتمام مجدداً بدمج الاستعمار الاستيطاني كإطار تحليلي للعديد من المفكرين الاقتصاديين. وهو إطار يعمل على النظر إلى الفلسطينيين في داخل إسرائيل والضفة وغزة على أنهم خاضعون للبنية الاستعمارية الاستيطانية نفسها‏[43].

وهكذا، سعت هذه الإطلالة على التحولات التي سيطرت على المشهد الفلسطيني بعد أوسلو، إلى تفسير التحولات التي حولت المناضلين إلى نخبة معولمة تحتكم لمنطق السوق؟ ولكن ما هو شكل النخبة المعولمة التي قامت بعد أوسلو والتي باتت مصالحها مرتبطة بالمصالح الرأسمالية العالمية؟ فإضافة إلى النخبة السياسية التي تمثلت بقيادات السلطة الفلسطينية والتي تحالفت مع رأس المال العالمي والمحلي، ظهرت المنظمات غير الحكومية أو الأهلية كفاعل رئيسي في الحياة الفلسطينية بعد أوسلو. ويجادل خليل نخلة بأن منظمات التنمية الفلسطينية غير الحكومية تعدّ واحدة من النخب الجديدة التي أنتجتها اتفاقية أوسلو. وهي تتنافس مع السلطة الفلسطينية على حصص المساعدات الدولية التي تقوم بإنفاذها من أجل ضمان تبني الأجندات السياسية المفروضة من الخارج. علاوة على ذلك، فقد عملت المساعدات على تدجين الأحزاب اليسارية التي كانت فاعلة بقوة كحركات اجتماعية وبخاصة في الانتفاضة الأولى، وتحويلها إلى نخب نزعت عنها الصفة السياسية واهتمت بتنفيذ المشاريع التنموية الممولة من الخارج. وهكذا، تم إضعاف قدرة الأحزاب اليسارية على التعبئة والحشد الجماهيري، وتحولت إلى منظمات غير حكومية مهنية وغير مسيَّسة في إطار المشروع النيوليبرالي‏[44].

وبذلك، تحولت الذات الفلسطينية التي كانت ترى نفسها ضمن هوية قومية متخيلة إلى ذات معاصرة تتخيل حدودها ضمن ما يسميه أرجون أبادوراي «عوالم متخيلة» تتجاوز الحدود، وتؤدي التدفقات الثقافية والسلعية العالمية دوراً كبيراً في تشكلها‏[45]. ويمكن القول بأن الواقع الاستعماري في السياق الفلسطيني بات مركباً بعد أوسلو، وهو ما يصعب من مهمة فهم التحولات على المشهد الفلسطيني، حيث استمرت آليات السيطرة الاستعمارية المباشرة عبر الإغلاقات والحواجز ومصادرة الأراضي وهدم المنازل من جهة، وخضع الفلسطينيون لما أسماه زريق «الاستعمار الجديد» المتمثل بتفشي النيوليبرالية ومنطق السوق على المخيال السياسي الفلسطيني. فالدولة الفلسطينية، التي نجحت السلطة بالحصول على اعتراف بها من الأمم المتحدة شكلياً في 2013، لم تنجح في أن تصبح دولة ما بعد استعمارية رغم سعيها الدؤوب للتصرف كذلك. وهو ما ظهر جلياً في سعيها المهووس بتوقيع على الاتفاقيات الدولية لإثبات أهليتها على الصعيد العالمي. وفي الوقت ذاته، ما زالت «دولة» خاضعة للاستعمار المباشر الذي يقتحم المناطق التي صنفت وفق أوسلو على أنها تحت «السيادة» الفلسطينية. كما يستمر في تهويد القدس والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية وبحروبه المتلاحقة والحصار على قطاع غزة.

ثالثاً: التحولات في مفاهيم المقاومة: من النضال الجماعي إلى الفردي

نبحث في هذا القسم التحولات التي حدثت في مفاهيم المقاومة وأثرها في المخيال السياسي الفلسطيني. ونتذكر هنا ما أوردناه في بداية الورقة حول تحول الحديث ضمن ما يسميه هارفي «حالة ما بعد الحداثة»، من السرديات الكبرى إلى أشكال المقاومة المحلية والفردية. فكيف يمكن أن نفهم فلسفة المقاومة وتحولاتها في الحالة الفلسطينية؟ إن التشظيات التي حدثت على الهوية والمخيال السياسي الفلسطيني، انعكست على مفهمة الفلسطينيين لقضايا المقاومة. ففي الوقت الذي ارتبطت به المقاومة في ظل منظمة التحرير بنموذج التحرير والتحرر من الاستعمار، باتت فيه بعد قيام السلطة الفلسطينية مقاومات فردية أو محلية تبحث عن انتصارات صغيرة هنا وهناك. وانتقل الفلسطينيون من الحديث عن سبل التحرر من الاستعمار الصهيوني، إلى الحديث عن المقاومة اليومية ومواجهة صعوبات الحياة في ظل الاحتلال.

يمثل النموذج الأول تجسيداً لأفكار فانون حول التحرر من الاستعمار، التي كانت واضحة ومحددة وقائمة على ثنائية المستعمِر والمستعمَر. فيرى فانون «إن محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائماً»‏[46]. فالواقع الاستعماري حسب فانون «لا يمكن تبديله إلا بالعنف المطلق»‏[47]، والأرض هي «القيمة المحسوسة الملموسة» لأنها تكفل الخبز والكرامة الحقيقية‏[48]. ويصف فانون السعي الفردي للخلاص من الاستعمار بأنه «شكل كافر من أشكال السلامة»‏[49]. وهو الإطار الذي يمكن أن نفهم فيه النموذج الذي شكلته منظمة التحرير لحظة الكفاح المسلح، والذي كان جزءاً من فهم أوسع في السياق العالمي حيث كانت تتخيل نفسها جزءاً من حركات التحرر في الجنوب العالمي.

وفي ضوء التحولات التي طرأت على المخيال السياسي الفلسطيني والتي فصلناها في القسمين السابقين، فإن الحديث عن المقاومة لم يعد يحمل مشروعاً تغييرياً جماعياً يستند إلى رؤية واضحة للتحرر، بل نتاج تخيلات ذوات فلسطينية متشظية. وبرز بعد أوسلو الخطاب الحقوقي والقانوني كسقف للمخيال السياسي الفلسطيني. فتحول الخطاب الحقوقي من حق شعب مستعمَر بالتحرر والاستقلال إلى المطالبة بالحقوق المتماشية مع الخطاب التنموي المعولم مثل «الأمن الغذائي» و«الديمقراطية». ويرى عمر شلقاني أن أوسلو أنتج تفتتاً في الخطاب السياسي على غرار التفتت المكاني، فتحول النقاش «من مطالبة واضحة بإنهاء الاستعمار إلى محاججات قانونية صغيرة عن طبيعة القوى والصلاحيات في الولايات المختلفة التي خلقها»‏[50].

وبذلك، فإن الخطاب القانوني الذي أنتجه المستعمِر ليبرر استلابه للأرض المستعمَرة وتحويل الصراع على الأرض إلى نزاعات محلية الطابع، قد ترافق مع خطابات سياسية وحقوقية من الجانب الفلسطيني جعلت من القانون ذاته سقفاً لمقاومة المستعمِر. وهي عبارة عن تشكيلات خطابية متناقضة تتبناها النخب التي تشكلت بعد قيام السلطة الفلسطينية والتي تقبل الخطاب الاستعماري وتتماهى معه، وتتعامل مع الجغرافيا الاستعمارية كمعطى ثابت لا مفر منه‏[51]. وترى آيات حمدان أن هذه الخطابات قد تعززت مع تدفق المساعدات الخارجية للمؤسسات القانونية والحقوقية التي باتت فاعلة بقوة منذ أوسلو، فالغطاء الحقوقي ما هو إلا سعي لخدمة المصالح الرأسمالية العالمية، وهدفها الأساسي عدم تسييس السكان والإبقاء على الحالة الاستعمارية وإطالة عمرها‏[52]. ونتجت حالة تسمّيها سامرة إسمير ورينا روزنبرغ «قوننة السياسة»، أي الاعتقاد بأن المهنية القانونية ستؤدي إلى تحول سياسي. وهو ما يؤدي حتماً إلى إضعاف تعبئة الجماهير واكتفاءهم بالدور القانوني والتخلي عن النضال السياسي ضد الاحتلال‏[53].

وترى هنيدة غانم أن مفهمة الفلسطينيين للمستعمِر تاريخياً على المستوى الشعبي ارتبطت بشكل وثيق بتطور المشروع الوطني الفلسطيني ومراحله، وكذلك بتطور المشروع الصهيوني والتفاعل المعقد بين كليهما. وفيما يخص حقبة ما بعد أوسلو، فإن التمييز بين مستوطنات شرعية وأخرى غير شرعية تعرف بالبؤر غير القانونية، ارتبط إلى حدٍّ كبير بفشل مشروع أوسلو وغياب أفق حل الدولتين الذي حل في الخطاب السياسي محل مشروع محو الاستعمار. فباتت نظرة الفلسطينيين مثـلاً للمستوطنات وسكانها تحددها درجة عنفهم وليس قضية الصراع على الأرض‏[54]. ويرتبط التصور الفلسطيني في الحياة اليومية للمستعمِر وما يحمله من تناقضات بواقع معاش منذ أوسلو، وبخاصة بعد الانتفاضة الثانية عام 2000، تم فيه تطبيع (Normalization) الاحتلال الإسرائيلي وعنفه الاستعماري كجزء من الحياة اليومية الطبيعية للفلسطينيين. ورافق ذلك تحولٌ في مفهوم الصمود والصراع الجماعي حيث لم يعد مرتبطاً بالبقاء على الأرض بصورة أساسية، وإنما في المضي في الحياة اليومية، حيث يرى الفلسطيني نفسه فاعـلاً من خلال تكتيكاته لمواجهة العنف الاستعماري المعاش يومياً‏[55].

ومع تعمق آليات السيطرة الاستعمارية والرأسمالية وتغلغلها في الحياة اليومية للفلسطينيين وغياب رؤية وطنية للتحرر ولتفكيك البنية الاستعمارية، تبقى الممارسات اليومية المقاومة في التجمعات الفلسطينية المتشرذمة أفعالاً مؤقتة وغير ممنهجة تأتي في إطار ردود فعل لآليات السيطرة الاستعمارية. ويمكن أن نفحص ذلك من خلال دراسة أفعال المقاومة الفردية التي نفذت على مدار عامين تقريباً (2015 – 2017) في الضفة الغربية والتي أطلق عليها البعض «انتفاضة السكاكين». ففي ظل تراجع الثقة بالأحزاب الفلسطينية وبخاصة بعد الانقسام بين حركتي فتح وحماس وما لحقه من وجود سلطتين متنازعتين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، برزت هبة جماهيرية وقودها الشباب الصغير الذي نفذ عمليات طعن ودهس فردية كرد فعل على الانتهاكات الإسرائيلية المتزايدة. وهي حالة لم تستمر طويلاً ولم تنجح في التحول إلى انتفاضة شعبية على غرار الانتفاضة الأولى أو انتفاضة عسكرية على غرار الانتفاضة الثانية. وهنا بالرغم من أن بروز أشكال مقاومة، وإن كانت مؤقتة ومحدودة، يدل على عدم فلاح آليات السيطرة المختلفة في إخضاع الفلسطينيين بصورة كاملة. كما أن بقاء آليات مقاومة السيطرة الاستعمارية بأشكالها المختلفة ضمن إطار العمل المؤقت والمشتت، يزيد من قدرة المستعمِر على هزيمتها والسيطرة عليها من خلال تطوير آليات سيطرة جديدة‏[56].

خاتمة

حاولت هذه الورقة الوقوف على التحولات في المخيال السياسي الفلسطيني وانتقاله من فلسفة التحرير إلى بناء الدولة والتنمية. وانطلقت الورقة من فرضية مفادها أن الفلسطينيين كلما باتوا أقرب إلى مشروع الدولة باتوا أبعد من التحرير والتحرر من السيطرة الاستعمارية. وبينت الورقة أن التحولات في المخيال السياسي الفلسطيني لا يمكن فهمها من الأطر النظرية العالمية وحدها، وذلك لخصوصية الشرط الاستعماري الاستيطاني المركب والمتجدد الذي واجهه الفلسطينيون منذ النكبة وحتى يومنا هذا. ومع ذلك فإن الأطر النظرية العامة وتحديداً التنظير حول الهوية القومية وتحولاتها على الصعيد العالمي في ظل العولمة وهيمنة النيوليبرالية ومنطق السوق، لا يمكن فصلها عن التحولات التي شهدها المشهد الفلسطيني. وبيَّنت الورقة أن الدولة الفلسطينية المنشودة باتت مرتبطة بتشظي الهوية الفلسطينية والتفتّت الجغرافي الذي رافق تشكلها. كما بات الخطاب بعد اتفاقية أوسلو عن الأسواق الحرة والحقوق هو البديل للخطاب التحرري والمقاوِم للاستعمار الذي لطالما شكل الأساس للهوية الفلسطينية. وتتبعت الورقة التحولات في المخيال السياسي الفلسطيني من خلال تحليل ثلاثة تحولات رئيسية على الصعيد العالمي والمحلي وهي: مفهوم الهوية القومية، وآليات السيطرة والتحكم، ومفاهيم المقاومة والتحرر. ونستنتج أن المخيال الفلسطيني لم يعد يملك مشروعاً تغييرياً للواقع الاستعماري وبات متشظياً وفردانياً، بات يرتبط بتخيلاته بعوالم وليس بجماعة محددة. وهنا لا يمكن أن ننكر أن هذا التشظي هو السمة العامة للنخبة الفلسطينية التي تسيطر على المشهد السياسي، ولكنه يختلف حسب الظروف الاجتماعية للفلسطينيين. فما زالت هناك محاولات لمقاومة السيطرة الاستعمارية، ولكنها تظل في إطار ردود فعل لا تسعى لتغيير حقيقي. فإن أي مشروع تغييري، كما يقول هارفي، لا بد من أن يهتم بشبكة التحولات في التصورات والممارسات المكانية والزمانية، فأشكال الإنتاج والعلاقات الاجتماعية تؤدي إلى مجموعة من الممارسات والمفاهيم المتعلقة بالزمان والمكان‏[57].

 

قد يهمكم أيضاً  فشل الخطاب الرسمي الفلسطيني في توصيف عنف المستوطنين وتوثيقه

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الدولة_الفلسطينية #العولمة #تحرير_الأسواق #الحكومة_الفلسطينية #المقاومة_الفلسطينية #القضية_الفلسطينية #الهوية_الفلسطينية #المخيال_السياسي_الفلسطيني