توطئة:

شهد منتصف الستينيات من القرن الماضي، بداية شَيْدِ حقل سياسي فلسطيني‏[1] بعد انهياره في أثر نجاح الحركة الصهيونية مدعوَّة من حكومة الانتداب البريطانية في هزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية وإقامة دولة إسرائيل في العام 1948. يركز هذا المقال بشكل رئيسي على تبلور الحقل السياسي الفلسطيني في الستينيات والسبعينيات وبداية تفككه في التسعينيات، وبشكل شبه تام في العقد الأول من القرن الحالي. هناك حاجة لبحث مستقل يركز على مسار الحقل الثقافي الفلسطيني‏[2] (بتداخله مع الحقل الثقافي العربي) الذي أخذ لاعتبارات عدة مساراً مختلفاً عن مسار الحقل السياسي الفلسطيني؛ من هذه الاعتبارات تحرره إلى حد ملموس من محددات الجغرافيا السياسية، وقيود موازين القوى التي تضغط بشكل دائم على الحقل السياسي.

الملحوظة الأخيرة مهمة لأن التأثير الثقافي لفلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948 كان ولا يزال بارزاً وملموساً أكثر من تأثرهم في الحقل السياسي الوطني، دون أن يعني هذا تجاهل دورهم السياسي في محطات معينة، كما كان الحال في يوم الأرض، والدعم والإسناد للانتفاضة الأولى، ومواجهات خطط تهويد القدس؛ وتأثير النجاح في تشكيل القائمة الموحدة في انتخابات الكنيست عام 2015، ووقع إصرار فلسطيني النقب على مقاومة تهجير الدولة الإسرائيلية لهم، ومحطات أخرى عديدة. لكن دورهم في مسيرة وتكوين الحقل الثقافي الفلسطيني كان وما زال هو الأوضح للعيان والأكثر حضوراً. فقد سجل غسان كنفاني التأثير الثقافي المتميز لفلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948 مبكراً في كتابه أدب المقاومة الذي نشر عام 1968 في بيروت (كنفاني، ط 1، 1968؛ ط 3، 2012). كما كان لفلسطينيي «الداخل» حضور مهم في تعريف «الخارج» الفلسطيني (والعربي) بالسياسة الإسرائيلية ودهاليزها من خلال دور عدد من باحثيهم ومثقفيهم في مراكز البحث والمؤسسات الفلسطينية (والعربية) في بيروت ودمشق، وعبر إسهاماتهم السابقة واللاحقة في الصحف والدوريات التي تصدرها التنظيمات السياسية في الأراضي المحتلة عام 1948، وخارجها. ولا بد من الإشارة إلى دورهم على صعيد الرواية والشعر والسينما والفن التشكيلي والأغنية الوطنية‏[3].

كان من تداعيات حرب حزيران/يونيو عام 1967، أي بعد احتلال إسرائيل لبقية أرض فلسطين، استكمال بناء حقل سياسي وطني جديد بعد سيطرة حركة المقاومة الفلسطينية على ما كان قد تشكل عام 1964 بدعم من أنظمة عربية ذات توجهات قومية، وبعد الاحتلال الإسرائيلي لكل فلسطين، بالإضافة إلى الجولان وشبه جزيرة سيناء. كان من سمات الحقل الوطني الجديد أن مؤسساته الوطنية شملت التنظيمات السياسية الفلسطينية الفاعلة كافة، بما في ذلك الحزب الشيوعي الذي التحق بهذه المؤسسات بعد أن أعلن عن نفسه كحزب سياسي فلسطيني في شباط/فبراير من عام 1982، وهو التنظيم السياسي الوحيد الذي انتمى إلى منظمة التحرير في حين كانت مؤسساته القيادية تقيم على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967.

تبلور الحقل السياسي الفلسطيني على قاعدة علاقة تميَّزت بهيمنة مركز قيادي سياسي فلسطيني يقيم خارج فلسطين التاريخية على التجمعات الفلسطينية المختلفة المقيمة في حقول سياسية دولاتية (من الدولة) شديدة التباين (إسرائيل، الأردن، لبنان، سورية، دول الخليج، وأوروبا وأمريكا وبلدان أخرى). هذه الورقة ترصد مكونات ومولدات هذه العلاقة، وأسباب وتبعات وهن ومن ثم اختفاء المركز الوطني تاركاً مكونات الشعب الفلسطيني، تبحث عن تمثيل سياسي محلي بعد انهيار مؤسسات التمثيل الوطني اللواتي تجسدن في مؤسسات وأطر منظمة التحرير الفلسطينية السياسية والتنظيمية والعسكرية والثقافية، والجماهيرية والمهنية. الورقة تطرح أن أفول الحقل السياسي كحقل وطني لا يعني أفول الحقل الثقافي، بل إن هناك مؤشرات على أن هذا الحقل يحظى بحيوية جديدة تستحق الاهتمام أكثر كثيراً مما هو قائم حالياً.

تحلُّل الحقل السياسي الفلسطيني كحقل وطني إلى حقول محلية، كان تدريجياً، ويمكن تحديد لحظة إخراج منظمة التحرير من لبنان بعد حصار واجتياح بيروت في صيف عام 1982 كأحد الأحداث الهامة التي هيّأت لبدء عملية التفكك. لكن الحدث الأكثر وضوحاً وتحديداً مثّله اتفاق أوسلو، وسارع فيه فشل مشروع إقامة الدولة المستقلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وجاء انشطار سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني إلى «سلطتين» متنافستين على إقليمين مفصولين، ليعلن استكمال تفكك الحقل الوطني إلى حقول سياسية – جغرافية يحدد تخومها الجغرافية السياسية أماكن تواجد التجمعات الفلسطينية، أحدها هو قطاع غزة الذي تحوّل بفعل الحصار والحروب الإسرائيلية المتكررة إلى «غيتو» ومعتقل جماعي يفتقر إلى المكونات الحياتية الاستراتيجية، والآخر (الضفة الغربية) الذي بات مجزأً إلى معازل محاصرة بالمستوطنات الإسرائيلية ومسيطر عليه اقتصادياً وأمنياً وجغرافياً سيطرة تامة من الدولة الاستعمارية. وكان اتفاق أوسلو قد استبعد مصير فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948 عن اهتمامات السلطة الفلسطينية، كما جعل اهتمامها بمصير فلسطينيي الشتات مرتبطاً بمشروع إقامة دولة فلسطينية على حدود الأراضي التي احتُلت عام 1967، والذي بات مشروعاً غير قابل للتحقيق بسبب سياسة الدولة الاستعمارية المدعومة أمريكياً.

أولاً: ولادة مركز قيادي مُهجّر

أحد مدلولات التحول في الحقل السياسي الفلسطيني تراجع مفردات مثل «الداخل»، و«داخل الداخل»، و«الخارج»، في اللغة الفلسطينية لمصلحة مفردات عائد ومقيم ومناطق 1948 والضفة والقطاع والشتات. فقد شهدت الفترة الممتدة ما بين ولادة منظمة التحرير في الستينيات ومأسسة السلطة الفلسطينية في التسعينيات تهجير مركز الحقل السياسي الفلسطيني، ممثـلاً بقيادة منظمة التحرير، عدة مرات لدرجة انطبق عليها قول درويش «كلما آخيتُ عاصمة رمتني بالحقيبة» (درويش، 1977). فقد تنقل هذا المركز، ومعه المراكز القيادية للتنظيمات السياسية الفلسطينية بين ثلاثة أو ربما أربعة مواقع رئيسة في «الخارج» (عمان، بيروت، تونس، دمشق) قبل أن ينتقل، وإن بحلة جديدة، إلى مناطق في الأراضي المحتلة عام 1967 (رام الله وغزة). كل التنقلات كانت إشكالية سياسياً، لكن الانتقال الأخير كان الأكثر إشكالية من حيث مدلولاته السياسية التمثيلية كونه تُرجم سياسياً ومؤسساتياً كاستبدال السلطة الفلسطينية بمنظمة التحرير الفلسطينية التي تمثل الكل الفلسطيني بكل مكوناته.

ومن مدلولات تحول الحقل السياسي أن الحركة السياسية الفلسطينية، باتت تحدد هويتها كحركة وطنية وإسلامية، بعد أن كانت تعرّف نفسها كحركة تحرر وطني دون إشارة إلى شق ديني. ولعله من المفيد هنا التمييز بين حقل سياسي «وطني» (بمعنى جامع للكل الفلسطيني) تحسده نشاطات حركة تحرر وطني أو واقع دولة وطنية (أو قومية)، وبين هوية وطنية (وهي مركب يختلف عن الجنسية التي تمنحها دولة لمواطنيها)، فالهوية الوطنية تستند إلى رواية تاريخية، وهي مركب قد يستمر ويتجدد بعد انهيار الحركة الوطنية (كما حدث بعد النكبة عام 1948) أو تفكك دولة إلى مكوناتها الإثنية أو القومية أو الدينية أو الطائفية أو الجغرافية – المناطقية أو الجهوية.

تَرَتَّب على هزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية عام 1948 انهيار الحقل السياسي الفلسطيني القائم آنذاك (في مواجهة مع الاستعمار البريطاني العسكري والاستعمار الاستيطاني الصهيوني)، لكن الهوية الوطنية الفلسطينية نجحت في تجديد نفسها بمعاني النكبة (المستمرة) من تشريد وتطهير عرقي وتمييز وإلحاق واحتلال استيطاني واعتقال وإبعاد وإرهاب. وشكلت الهوية الوطنية الفلسطينية المتجددة (وبخاصة في المخيمات) محركاً هاماً في إنهاض وإسناد حركة تحرر وطني جديدة، أسست لحقل سياسي جديد تمثل بمؤسسات وأطر وميثاق ومرجعيات منظمة التحرير الفلسطينية بعد أن تولت قيادتها منظمات المقاومة.

شكلت منظمة التحرير حقـلاً سياسياً وطنياً، تمكن من نيل الاعتراف بذلك عربياً بعد اعتراف قمة الرباط العربية والجمعية العامة للأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثـلاً وحيداً للشعب الفلسطيني عام 1974. لكن ما كان الأهم تمثل بأن مؤسسات المنظمة القيادية أصبحت مصدر القرار السياسي والتنظيمي والمالي والإعلامي للحركة الوطنية الفلسطينية ككل ولمكوناتها كذلك، والمحرك السياسي لمكونات الشعب الفلسطيني.

ثانياً: منظمة التحرير وبنية حقلها السياسي الوطني

تلاقى عدد من الشروط والأوضاع لتكوين بنية وتقاليد الحقل السياسي الفلسطيني كما جسدته مؤسسات منظمة التحرير وأطرها الشعبية والمهنية. لعل الأبرز بين هذه الشروط والأوضاع، ما يلي:

أولاً، تَرتب على احتلال إسرائيل، كدولة استعمارية استيطانية، عام 1967 لكل الأرض الفلسطينية بالإضافة إلى سيناء والجولان، أن تقام المقارّ القيادية لمنظمة التحرير، وبالتالي مركز الحقل السياسي الوطني خارج الأرض الفلسطينية بحيث سهَّل تعامل المركز مع التجمعات الفلسطينية (بما فيها في الضفة والقطاع وفي الأردن وسورية ولبنان والخليج وأوروبا والأمريكتين)، كساحات تابعة له بشكل كامل بغضّ النظر عن أين يكون. ولم يشكل اليسار قوى مواجهة لهذا النهج كونه اعتمد مركزة السلطة الحزبية بيد عدد قليل من الأفراد، أي أعضاء المكتب السياسي، وهؤلاء، باستثناء الحزب الشيوعي، وُجدوا في مقارّ خارج فلسطين التاريخية. ومركزة السلطة بيد عدد قليل من الأفراد هو النهج الذي اعتمدته اللجنة المركزية لحركة «فتح» مع توجُّه وطني عام أتاح تعددية سياسية وفكرية داخل أطر الحركة الأمر الذي افتقدته تنظيمات اليسار حيث استخدم نظام المركزية الديمقراطية لمنع التعددية الفكرية والسياسية داخل التنظيم الواحد. وكرّس نظام «الكوتا» (وليس التمثيل النسبي) الذي منح التنظيم الأكبر («فتح») حصة النصف زائداً واحداً في تشكيل هيئات منظمة التحرير القيادية، مفهوماً غير ديمقراطي للعمل السياسي.

ثانياً، نشأت منظمة التحرير وفصائلها وبلورت تحالفاتها في بيئة سياسية إقليمية ودولية نظرت بريبة شديدة إلى الديمقراطية السياسية باعتبارها من مسوغات الإمبريالية والاستعمار؛ فعلى الصعيد الإقليمي هيمنت أنظمة قومية شمولية، وأنظمة ملكية وأميرية ثيوقراطية سلطوية. وعلى الصعيد الدولي لم يكن متاحاً أمام منظمة التحرير (وفصائلها) سوى إقامة علاقات وتحالفات مع المعسكر الاشتراكي الذي غيّب الديمقراطية السياسية لكنه وقف داعماً لحركات التحرر الوطني (ومنها منظمة التحرير وفصائلها) في حين كان المعسكر الغربي مؤيداً وداعماً لإسرائيل.

ثالثاً، سوّغت الجغرافيا السياسية لتجمعات الشعب الفلسطيني المعزولة بعضها عن بعض في تكوين مركز سياسي قيادي – ممثـلاً بالقيادة التاريخية لمنظمة التحرير – شديد المركزية والهيمنة في الشأن السياسي والتنظيمي والمالي. كان من تجسيدات هذه الهيمنة تمركز الصلاحيات في أيدي عدد محدود من أفراد القيادات الأولى للمنظمة ولفصائلها ولأطرها الشعبية والمهنية. بتعبير آخر تحولت التشكيلات التنظيمية والجماهيرية والقطاعية العلنية للمنظمة ولفصائلها خارج فلسطين التاريخية (أي في لبنان وسورية وبعض الدول العربية والدول الاشتراكية..) أو السرية (كما كان الحال في المناطق الفلسطينية عام 1967 وفي الأردن بعد عام 1970) إلى حد ملموس إلى أدوات منفذة لقرارات القيادات الأولى.

رابعاً، في الممارسة جرى التعاطي مع العمل السياسي – وهو أمر شائع في أنظمة تتغنى بالديمقراطية – بوصفه شأناً يخص القيادة السياسية وحكراً عليها، وحُجب، بالتالي، مفهوم السياسة كحق في الممارسة اليومية للناس في مواقعهم المختلفة. وغذّى هذه النظرة السمة الريعية للمنظمة وفصائلها، أي اعتمادها ليس على الدعم المالي والتطوعي الشعبي ومن المناصرين والأعضاء بل اعتمادها بشكل رئيسي على ما تتلقاه من ريع من دول عربية وبلدان اشتراكية وجميعها أنظمة غير ديمقراطية، بل وقامعة للحريات الفردية والجماعية.

خامساً، غذّت عسكرة التنظيمات الفلسطينية لأسباب ومسوغات عدة، منها السمة الاستعمارية الاستيطانية العدوانية للدولة الاستعمارية التي تشرد وتحتل الشعب الفلسطيني؛ ومنها تورطها (الاضطراري في معظم الأحيان) في صدامات مسلحة مع أنظمة عربية وقوى محلية حيث تقيم المنظمة قواعد عسكرية ومكاتب مختلفة على أرضها وحيث تتواجد مخيمات وجاليات فلسطينية؛ وقد سوّغت العسكرة (النظامية وشبه النظامية) علاقة أوامرية بين «قيادة» و«قاعدة»، وبين «مركز» موجّه و«أطراف» مُتلقية، وهي علاقة تألفها ثقافة أبوية ذكورية متوارثة، رغم ما دخل عليها من مفردات «الأخ» و«الرفيق» التي سادت في خطاب القوى السياسية المشاركة في أطر منظمة التحرير.

لم تكن مؤسسات منظمة التحرير في وضع يتيح لها، بدون إعادة نظر جذرية في بنيتها وأسلوب قيادتها وأسس علاقاتها مع مكونات الشعب الفلسطيني، تجاوز قيود الجغرافيا السياسية في إدارة صراعها المتعدد الأوجه مع الدولة الاستعمارية، ودرء ضغوط وتدخلات الدول العربية التي تنافرت مسوغات حقولها السياسية الدولاتية التكوين والقائمة على السيطرة الأمنية الداخلية، مع مسوّغات حقل المنظمة الذي هيمنت عليه اعتبارات وأهداف التحرر الوطني.

تداعيات العلاقة التي شُيّدت بين القيادة الأولى المُهجرة في دول حدود فلسطين التاريخية حتى عام 1994، وبين مكوّنات الشعب الفلسطيني المتباينة الأوضاع والشروط، تحتاج إلى إضاءة. فقد اتسمت علاقة القيادة السياسية (وهي قيادة تاريخية في الوقت ذاته) مع هذه المكونات باعتبارها، إلى حد كبير، أدوات تنفيذ لقراراتها عبر قيادات فرعية تعاملت معها، عملياً، في الواقع كمنفذة وليس كما كانت في الواقع كمجموعات مناضلة معرّضة لمخاطر جمّة وهي الأعرف بواقعها المحلي وموجباته النضالية. هذه القيادات المحلية، تعاطت، بفعل الممارسة السائدة، في كثير من الأحيان، مع جمهورها المحلي بأسلوب الاستدعاء عند الحاجة. وهو أسلوب قيادي ساد، وإن بتفاوت، في صفوف جميع فصائل المنظمة واستند إلى هيمنة القضية الوطنية على القضايا الأخرى. كما ساد بين التنظيمات السياسية التي نمت خارج المنظمة، كما تمثلت بحركتَي «حماس» والجهاد الإسلامي اللتين لم يمنع اعتمادهما أيديولوجيات دينية استخدامهما مصطلحات «علمانية» في تسمية قيادتها الأولى كمصطلح المكتب السياسي ورئيس المكتب السياسي، واعتماد بعض تشكيلات وطقوس التنظيمات السياسية «العلمانية»، بما فيها الاحتفال بالذكرى السنوية للتأسيس (الانطلاقة)، واعتماد عَلمها الخاص، والمهرجانات الخطابية، وغير ذلك.

1 – من الوطني إلى المحلي

هيَّأ لتفكك أو تحلل الحقل السياسي الفلسطيني إفقاره التدريجي‏[4] عوامل ومحددات عديدة (موضوعية وذاتية)، لحظة تهميش الحقل لمؤسساته وأطره الوطنية (الشاملة للكل الفلسطيني) التي وفرت الشروط الدنيا للتمثيل الوطني وإن بقي منقوصاً. وشملت هذه الاتحادات الشعبية والنقابات المهنية والمؤسسات الثقافية التي سلبت التجمعات الفلسطينية من سبل التواصل والتفاعل بينها. واستكمل تحلل الحقل السياسي الوطني بانشطار السلطة الفلسطينية كسلطة حكم ذاتي إداري محدود الصلاحيات إلى سلطتين على إقليمين منفصلين يسيطر تنظيم واحد على السلطة المحلية في كل منهما. وترافق هذا مع اتساع الفجوات ليس فقط في الدخل والثروة وفرص الحياة المختلفة (بين المناطق والأفراد وبين النساء والرجال)، بل وكذلك في المشاركة في صناعة القرارات على الصعيدين المحلي والوطني‏[5].

ما نجده الآن، وبشكل ساطع بعد سيطرة «حماس» على قطاع غزة، وسيطرة حركة «فتح» على أجزاء من الضفة الغربية (وهي سيطرة في كلتا الحالتين تحت سقف سيطرة إسرائيل كدولة استعمارية)، يتمثل بنخب سياسية محلية، أي ينحصر نفوذها في نطاق التجمع الفلسطيني المحدد. ولهذا، إن استمر، تداعيات ذات بعد استراتيجي، وربما وجوديّ بالمعنى السياسي. من أهم هذه التداعيات حرمان مكونات الشعب الفلسطيني من المشاركة في تقرير الشأن الوطني وفي النضال المشترك من أجل الحقوق الوطنية. صحيح أن هناك تنظيمات سياسية نشطة في أكثر من تجمع (وتحديداً لحركتي «فتح»، و«حماس» وتنظيمات أخرى كالجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية) ولا تزال نسبة الأعضاء في تنظيمات سياسية فلسطينية (بشكل أساسي «فتح» و«حماس») عالية في الضفة الغربية وقطاع غزة‏[6]، لكن النسبة متدنية أو معدومة في التجمعات الفلسطينية الأخرى. ومن أسباب ارتفاع معدلات «تأييد» التنظيمين في الضفة والقطاع ما يوفره كل منها من فرص توظيف في مؤسسات وأجهزة سلطتيهما كونهما أحزاباً «حاكمة». كما يلاحظ أن التنظيم الواحد بات يتصرف داخل كل تجمع كتنظيم شبه مستقل عن تصرفه في التجمعات الأخرى بسبب ضعف أو غياب المركز القيادي الجامع على صعيد كل تنظيم، وغياب مؤسسات للكل الوطني تحمل رؤية وطنية شاملة.

قد يرى البعض أن الاعتراف العربي والدولي برئيس السلطة الفلسطينية وبرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير (وهما للفرد نفسه) مؤشر على أن منظمة التحرير ما زالت حية ترزق. لكن الواضح أن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئيسها (كما هو حال السلطة ورئيسها) لا تملك سلطة فعلية، لا على المعابر والموارد الطبيعية والتجارة الخارجية ولا على القدس الشرقية ولا على معظم أرض الضفة ولا سلطة لها على قطاع غزة ومعابرها ولا سلطة لها (أو لهما) على فلسطينيي الأردن، ولا تستطيع تغيير أوضاع الفلسطينيين في لبنان ولا في سورية ودول الخليج، ولا في واقع فلسطينيي الأرض المحتلة عام 48 بعد أن أخرجهم اتفاق أوسلو، رسمياً، من اهتمامات النخب السياسية للسلطة الفلسطينية‏[7]. المسألة لا تخص غياب الشرعية على الصعيد الوطني، بل وغيابها أيضاً على الصعيد المحلي، ويبرز هذا جلياً في غياب الصدقية عن خطاب «فتح» في الضفة الغربية وعن خطاب «حماس» في قطاع غزة.

2 – الجغرافيا السياسية والبنية الداخلية تحددان توجهات منظمة التحرير

سلسلة من الأحداث والتحولات‏[8]، خلال السبعينيات والثمانينيات، واستكملت في التسعينيات من القرن الفائت، هيأت الحقل السياسي الوطني للتفكك لحقول محلية بقيادات محلية وخطاب محلي. أولى حلقات هذه السلسلة تمثلت في إعادة صياغة البرنامج الوطني من برنامج يدعو لقيام دولة ديمقراطية واحدة على أرض فلسطين التاريخية إلى برنامج يتبنى إقامة دولة فلسطينية على حدود الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967. وهو برنامج نقل مركز الاهتمام من حيث الحقوق والمصير من الشتات حيث القضية الوطنية الأبرز هي العودة، إلى الأراضي المحتلة عام 1967 حيث القضية الأبرز هي إنهاء الاحتلال وممارسة سيادة وطنية على هذه الأراضي. لكن التحول في البرنامج السياسي – وهذا ما أعلنه اتفاق أوسلو – وضع قضية الأقلية العربية الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948 خارج اهتمامه تاركاً التقرير بهذا الأمر بيد الأحزاب الفلسطينية (ذات العضوية الفلسطينية الكلية أو الغالبة) الفاعلة في صفوف هذه الأقلية، وهي تواجه أحزاباً صهيونية تزداد يمينية وأصولية دينية وعنصرية، باتت تشترط إنكار الرواية التاريخية الفلسطينية واعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة يهودية لمجرَّد القبول بالعودة إلى مفاوضات ثنائية مسلوبة الأهداف والمعنى.
خروج المنظمة من لبنان، وحرب المخيمات وانتفاضة عام 1987 أحداث أشارت إلى الأهمية الاستثنائية لأراضي الضفة والقطاع في مسعى إقامة دولة فلسطينية على أراضيهما‏[9].

في الوقت ذاته أعادت الانتفاضة الأولى – والتي تفاعل معها ومع أهدافها بفعالية الفلسطينيون في الأرض المحتلة عام 1948 – الاعتبار لنفوذ منظمة التحرير التي أصابها وهن بعد خروجها من لبنان، وتلقت تأييداً معلناً على سمتها الوطنية التمثيلية، ما دفع الأردن إلى إعلان فك ارتباطه بالضفة الغربية في آب/أغسطس 1988. كما دفعت هذه الانتفاضة الولايات الأمريكية بعيد حربها الأولى في الخليج وانهيار الاتحاد السوفياتي، وفرض عزلة سياسية ومالية عربية ودولية على منظمة التحرير بسبب موقفها من اجتياح الكويت، إلى الإسراع لعقد «مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط» في عام 1991، بعد أن اطمأنت إلى أن قرارات المجلس الوطني في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1988، تضمنت اعترافاً بالقرار 242 الأمر الذي مهّد لاتفاق أوسلو، بشروطه المعروفة. لكن الأحداث ذاتها سارعت في توليد ديناميات جديدة لتهميش الحقل السياسي الوطني، وحجبت عن القيادة السياسية الحاجة إلى إعادة النظر في بنية المنظمة وبعلاقات مؤسساتها القيادية مع مكونات الشعب الفلسطيني المختلفة، في ضوء تجربة عقدين من الزمن والتحولات في الأوضاع الإقليمية والدولية.
القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة (قوم) – اعتبرت نفسها ذراعاً من أذرع منظمة التحرير، والاتحادات الشعبية والمهنية اعتبرت نفسها قواعد لمنظمة التحرير. لكن جرت ترجمة هذا المفهوم لمصلحة التخلي عن دور التجمع الفلسطيني المحدد وعن دور الاتحاد الشعبي والنقابة المهنية الخاص وتوكيل «المركز» القيادي به دون ضوابط وآليات رقابة أو محاسبة. من هنا فوّضت «القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة» قيادة منظمة التحرير (وهي نخبة من عدد صغير من الأفراد) في تونس مراجعة البيانات الصادرة عنها وإدخال ما تراه هي مناسباً من تعديلات، ومنحتها حق توجيه مسيرة الانتفاضة باتجاه هذه النخبة البعيدة من ساحة المواجهة وشروطها. لقد أفقد هذا الأمرُ الانتفاضةَ مصدر زخمها الرئيس المتمثل بمشاركة قاعدتها الشعبية المنظمة.

الذي منع خلق شرخ ملموس بين القيادات المحلية (ممثلي القوى السياسية في الميدان) في الضفة والقطاع والنخبة السياسية في الخارج هو حيوية الوطنية الفلسطينية، وليس القناعة بحكمة القيادة السياسية. وهو الاعتبار نفسه الذي حجب عن القوى الوطنية في الضفة والقطاع الاستعداد لممارسة الضغوط الجدية على قيادة منظمة التحرير وقادة فصائلها لتغيير أسلوب تعاطيها مع التجمعات الفلسطينية المختلفة بما يفسح لهذه (وممثليها) في المجال للمشاركة في صنع القرار الوطني. لقد خشيت هذه القوى المحلية عن المطالبة بحقها في المشاركة في صناعة القرار الوطني بعيداً من تفرد نخبة سياسية بعيدة من واقعها مخافة أن يُفسر هذا المطلب المشروع كدليل على رغبةٍ في خلق قيادة بديلة أو موازية وهو ما سعت إليه قوى عديدة، منها الدولة المستعمِرة والولايات المتحدة ودول أخرى. وقد يكون من أسباب هذا الإحجام أن قيادات التنظيمات السياسية في الداخل (باستثناء الحزب الشيوعي والذي أخذ اسم حزب الشعب لاحقاً) اعتادت أن توكل القرار السياسي والتنظيمي والمالي لقيادات تنظيماتها في الخارج حيث كان «المركز القيادي»، وحيث مصدر التمويل والتوجيه، ولذا كان إصرار قيادة منظمة التحرير على مرور ما يرد من مساعدات للانتفاضة عبر الصندوق القومي (حيت السيطرة للمركز وتحديداً لقيادة حركة «فتح» الأولى).

مصدر حيوية الوطنية الفلسطينية يكمن في ارتكازها على مركَّب متفاعل من الذاكرة والتجارب والأحداث المتلاحقة والمتنوعة لما يزيد على القرن شملت الحرمان والتشريد والتطهير العرقي والتمييز والتهميش والإذلال القومي والوطني، والحروب والاجتياحات العسكرية لمناطق وبلدات ومخيمات فلسطينية في عدة مواقع، وارتكازها على عشرات الألوف من الشهداء وتدمير عدد مماثل من البيوت بعد تدمير مئات القرى والبلدات ومصادرات لا تتوقف من أراضي وإقامة المستوطنات (المستعمرات)،. كما تستند إلى تجارب ومعاناة مئات الألوف من الذين تعرضوا، وما زالوا، للاعتقال السياسي والأمني والإبعاد، وفيها ذاكرة متكررة من الانتظار الطويل على المعابر وفي المطارات (العربية قبل غيرها) وحجب الحق في العمل والتنقل والمرور والزيارة والإقامة. وتستند أيضاً إلى روايات وتجارب لا تحصى من المقاومة المتعددة الأشكال ومن الانتماء لتنظيمات المقاومة والعمل السري قبل العلني. إنها قصة النكبة والمقاومة معاً في حركتهما المستمرة. هذه الحيوية التي تترك بصماتها على القوى السياسية جميعاً بما في ذلك في التحول الذي دخل على خطاب حركة «حماس» السياسي‏[10]، وغيرها. كما أن الخطاب الديني ترك بصماته القوية على خطاب حركة «فتح» السياسي وعلى سلوكها الاجتماعي‏[11]. ومع تراجع المكوِّن السياسي للوطنية الفلسطينية الذي مثله اتفاق أوسلو والانقسام تقدم المكوّن الثقافي ليغذي ويرفد هذه الحيوية، كما ستلاحظ هذه الدراسة لاحقاً، وكما أوضح الكاتب في مقال حول هذا الموضوع (هلال، 2017).

3 – تداعيات تفكك الحقل السياسي

اقتحم الحقل السياسي الفلسطيني في الثمانينيات، وبشكل ملموس في بدايات الانتفاضة الأولى قوة سياسية جديدة من خارج الحقل السياسي الذي تشكل بقيادة منظمة التحرير، ممثلة لتيار إسلامي أممي (حركة «حماس» بشكل رئيس). هذا الاقتحام للحقل الوطني مثل حدثاً نوعياً للحقل كون القوى المقتحمة طرحت نفسها كبديل من الحقل الوطني المتشكل والمهيمن عليه من منظمة التحرير متحدية وحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني، وأطلقت شعارات وأهداف مغايرة لرؤية منظمة التحرير ولبرنامجها المرحلي. لم تكن المنظمة المنهكة بعد حصارها وخروجها من بيروت قادرة على استيعاب حركة «حماس» دون إجراء تغييرات بنيوية وبرنامجية لمؤسساتها. كما طرحت حركة «حماس» نفسها كالقوة الفلسطينية المعارضة الأبرز لاتفاقيات أوسلو، ونجحت، مع فشل اتفاق أوسلو في توليد دولة فلسطينية ذات سيادة وعاصمتها القدس، في التحوّل إلى حركة جماهيرية قادرة على مجابهة حركة «فتح» والفوز في الانتخابات التشريعية عام 2006، والسيطرة، سيطرة كاملة على قطاع غزة في منتصف عام 2007، تاركة الضفة الغربية لإدارة حركة «فتح» بمساندة من قوى سياسية ذات إرث منظمة التحرير. ولم تنجح المحاولات المختلفة وبتدخل أكثر من عاصمة عربية وغير عربية، حتى اللحظة (شتاء 2017) في إنهاء الصراع بين التنظيمين الأكبر، وما زال قطاع غزة يعيش حالة حصار تجويعي ووضع معتقل جماعي. ويرى بعض المحللين أن «الهدف من وراء فصل غزة وحصارها هو حصار الحالة الوطنية التي تمثلها غزة، وجعل غزة مقبرة للوطنية الفلسطينية» (أبراش، 2015).

جاء اتفاق أوسلو كمسوّغ لتغييب مؤسسات منظمة التحرير وإعلان بدء مرحلة جديدة شعارها بناء مؤسسات السلطة الفلسطينية كنواة لدولة فلسطينية عتيدة. لكن أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً من المفاوضات الثنائية (برعاية أمريكية) وعشر سنوات من الانقسام والفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة بات كافية لتوضيح أن الشعب الفلسطيني لم يعد بحوزة حقل سياسي وطني موحد، بل بات يقيم في جزر جغرافية لا مؤسسات تربط بينها وتمثل حقوقه التاريخية والوطنية ومصالحه المشتركة.

يمكن ملاحظة تفكك الحقل السياسي الفلسطيني في الظواهر التالية:

أ – تلاشي فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة وانشطار سلطة الحكم الذاتي

لعل أبرز ما يلاحظه المرء على أثر تفكك الحقل السياسي الوطني يتمثل بتراجع فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس على حدود الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، دون المساس بحق اللاجئين في العودة إلى الديار الفلسطينية التي هُجِّروا منها. بل بات واضحاً للكثيرين أن إنجاز هذا المشروع على المدى المنظور وفي ظل الشروط والأوضاع الذاتية والإقليمية والدولية القائمة لم يعد أمراً ممكناً وبخاصة أمام استمرار غياب مؤسسات وطنية فاعلة، وبالتالي غياب قيادة وطنية تحظى بالشرعية والصدقية والقدرة على تحشيد مكونات الشعب الفلسطينية في مواجهات منسقة ومتناسقة من النضال الوطني التحرري.

مع انشطار السلطة الفلسطينية إلى سلطتين وتعطيل مؤسساتها (ممثلة بالمجلس التشريعي ومجلس الوزراء ومؤسسة الرئاسة وبالهيئات والأطر الشعبية والمهنية) وتجاوز مديد لفترة الانتخابات المقررة لانتخاب الرئاسة والمجلس التشريعي تكرَّس ما هو سائد من نخب سياسية محلية غير منتخبة، وبات التوجه نحو تقرير مسيرة كل مكوّن من مكونات الشعب الفلسطيني بمعزل عن مسيرة المكونات الأخرى واقعاً دخل في حيز الخشية الفعلية‏[12]، بعد عشر سنوات من سيطرة «حماس» على قطاع غزة، وسيطرة حركة «فتح» على الضفة الغربية.

الفلسطينيون في الأراضي التي احتلت عام 1948 الذين تجاهلهم اتفاق أوسلو يتجهون إلى تطوير لجنة المتابعة العليا للجماهير الفلسطينية‏[13] بهدف إكسابها دوراً تمثيلياً محلياً، وهو أمر بات في حيّز التوقع بعد أن شكلت الأحزاب العربية الرئيسة قائمة انتخابية موحدة للمشاركة في انتخابات الكنيست التي جرت في آذار/مارس 2015. وقد تفشل هذه القائمة في أن تتحول إلى قيادة سياسية موحدة وقد تنجح في تطوير ذاتها كصيغة مستقبلية‏[14]. في الأردن لا تتوافر مؤسسات جامعة للفلسطينيين (بما في ذلك للفلسطينيين غير المجنسين)، ولا في سورية أو لبنان، أو دول الخليج أو في أوروبا أو الأمريكتين، ما يعني افتقاد التجمعات الفلسطينية هيئات وأطراً ومؤسسات تسمع صوتها وترعى مصالحها وتشركها في الشأن الوطني.

غياب مؤسسات وهيئات ممثلة للكل الفلسطيني تتمتع بشرعية وطنية يعني أن القرارات ذات البعد الوطني باتت تؤخذ من قبل أفراد دون تفويض أو إنابة أو مراقبة أو محاسبة من مؤسسات تمثيلية. هذا كان تقليداً سابقاً (حتى نهاية عقد الثمانينيات) لكنه كان مقيداً إلى حد ما بفعل وجود مؤسسات وطنية رغم الملاحظات التي أوردتها سابقاً على أسلوب عملها وتكوينها. الاختلاف عن المرحلة السابقة يتمثل بأن القرارات في المرحلة الراهنة باتت تؤخذ مباشرة من أفراد يتجاهلون القرارات التي تأخذها «هيئات» تدعي أنها تمثيلية وذات شرعية. من الأمثلة على ذلك القرارات الخاصة بإنهاء الانقسام، وقرارات وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل (آذار/مارس 2015). وهي «قرارات» كررتها اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والمجلس المركزي لمنظمة التحرير وهيئات فتح المركزية، وطالبت بها قوى حزبية ومدنية عديدة.

ب – الاعتماد على الريعية وعلى الأجهزة الأمنية للحفاظ على استمرارية السلطتين في الضفة والقطاع

مع تفكك الحقل الوطني واعتماد سلطتَي «فتح» و«حماس»على الريع الخارجي، لم يكن باستطاعتهما الاعتماد على ما يوفره فائض الاقتصاد المحلي من ريع. فإسرائيل كدولة استعمارية استيطانية محتلة حرصت على إبقاء الاقتصاد المحلي للضفة والقطاع اقتصاداً هشاً وتابعاً ومحاصراً ومجزأ. كما أبقت – بحكم السيطرة على الموارد والحركة والتجارة وغير ذلك – كلا الإقليمين عرضة بشكل دائم لنسبة عالية من البطالة والإفقار. كما أبقى الاعتماد على المساعدات والتحويلات الخارجية السلطتين عرضة للابتزاز السياسي من الجهات المانحة والمُحوِلة (بما فيها الدولة المستعمِرة) وتحت رحمة انتظام تحويلاتها. ويمكن القول إن تأمين الريع الخارجي بات أحد أبرز الانشغالات الرئيسة للسلطتين، كما لعدد واسع من منظمات المجتمع المدني الفاعلة فيهما.

هذا الوضع – وتحديداً في قطاع غزة، وإلى حد ملموس في الضفة الغربية – زاد أهمية دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) على صعيد التخفيف من وطأة الفقر في المخيمات، ولما ترمز إليه من حق الفلسطيني بالعودة إلى وطنه الأصلي. ومن هنا الحاجة إلى «إفشال مخططات الولايات المتحدة وإسرائيل لإنهاء عمل الوكالة، كبداية وشرط لإنهاء ملف اللاجئين، إن الفلسطينيين بحاجة إلى «الأونروا»، حاجتهم إلى الإبقاء على قضية اللاجئين كجوهر للقضية الفلسطينية على اختلاف تفرعاتها» (حبيب، 2015؛ عزم، 2015).

من المظاهر التي تسترعي الانتباه في الضفة والقطاع حجم الأجهزة الأمنية الفلسطينية والدور السياسي الذي باتت تضطلع به، وتحديداً بعد الانتفاضة الثانية عام 2000‏[15]. وهو دور تجاوز الحفاظ على الأمن الداخلي، إذ كُلف بتفكيك «البنية التحتية للإرهاب» وإخماد مصادر المعارضة الداخلية. في قطاع غزة – بعد عام 2007 – تولت الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة لحماس ممارسة دور الرادع للاعتداءات والحروب العسكرية الإسرائيلية على القطاع، كما توّلت تقييد حرية المعارضة السياسية لحركة «حماس» وأسلوب حكمها. في الضفة الغربية أخذ التنسيق الأمني الميداني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية والأجهزة الأمنية الإسرائيلية المعنية بمناطق السلطة محوراً مهماً في العلاقة الأمنية الإسرائيلية – الفلسطينية‏[16]. هذا الواقع يضع عقبات حقيقية أمام تفجُّر انتفاضة شعبية ثالثة وتحديداً في ظل تواصل الانقسام بين حركتي «فتح» و«حماس»، ويعمق من الانفصال السياسي والمؤسساتي، إضافة إلى الجغرافي، بين غزة المحاصرة عسكريا واقتصاديا والمنهكة تماما وبين الضفة الغربية المسيّجة بالمستوطنات والمجزأة بـ «البانتوستانات» والمعازل.

لكن الوضع يبقى متفجراً إلى حد بعيد بسبب سياسة الدولة الاستعمارية الاستيطانية والقمع الجماعي المتواصل وانغلاق الأفق أمام توافر حل وطني للقضية الفلسطينية في المدى المنظور، وأمام واقع يعاني معدلات عالية من البطالة، وبخاصة بين الشباب والخرّيجين، وأمام اتساع مظاهر اللامساواة في المجتمع الفلسطيني في الضفة وغزة، وتمادي النخب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في استعراضها للثروة والامتيازات في ظل سيادة احتلال عنصري قاهر‏[17].

ج – تحوّل واسع في التكوين الاجتماعي – الطبقي في الضفة والقطاع

تفكك الحقل السياسي الوطني لحقول سياسية محلية على أرض فلسطين التاريخية وخارجها ترافق مع تحوّل في البنية الطبقية وبخاصة في الضفة والقطاع. فقد نمت طبقة وسطى فلسطينية جديدة في سياق بناء مؤسسات وأجهزة السلطة الفلسطينية (التعليمية والصحية والأمنية والإدارية المختلفة) وفي سياق نمو اقتصاد خدماتي (اتصالات، وتأمين، واستيراد وتصدير) ومصرفي (قطاع بنوك وتحويل عملة) جديدين، وتزايد في أعداد المنظمات غير الحكومية ذات الأجندات الخدماتية والدعاوية المختلفة. مقابل نمو حجم الطبقة الوسطى (التي تعتمد على ملكيتها التعليم والمهارات المختلفة وليس على الملكية الصغيرة كما هو حال البرجوازية الصغيرة التقليدية) تراجع حجم الطبقة العاملة بحكم القيود على عملها في إسرائيل. ولا بد من ملاحظة الفروق النوعية في ظروف وشروط عمل كل من الطبقتين الذي ليس مجال نقاش هذه الدراسة‏[18].

ونمت بسرعة ملحوظة، في مناطق السلطة الفلسطينية، فئة من رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال اعتمدت على الرأسمال الوافد والمحلي، وسهَّل نموها تبني السلطة الفلسطينية، كما من بقية دول المنطقة لنهج الليبرالية الجديدة التي تعتبر القطاع الخاص محرِّك «التنمية» الاقتصادية والاجتماعية. وتحت هذا الشعار تم تشجيع الاستثمار في القطاع الخاص وتحديداً في المجالات المالية والعقارية والتجارية بتسهيلات، وبمشاركة أحياناً، من نخب سلطتي «فتح» و«حماس». وشهدت رام الله – البيرة، بصفتها المركز الإداري والاقتصادي والسياسي والخدمي للسلطة الفلسطينية، طفرة بناء معماري عامودي وأفقي، وتحديداً بعد الانتفاضة الثانية، وهو ما أكسبها سمات حضرية بحكم تمركز طبقة وسطى واسعة فيها وحاجة هذه لخدمات تناسب أسلوب حياتها (هلال، 2015).
ارتباط استقرار دخل شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، بشكل مباشر وغير مباشر، بالسلطة يضعها في وضع تخشى فيه فقدان مصدر دخلها ونمط حياتها إذا ما انهارت السلطة لسبب أو لآخر، بما في ذلك استمرار انغلاق الفرص أمام قيام دولة فلسطينية مستقلة. كما تخشى بعض من هذه الشرائح من تقليص حيِّز الحريات العامة الذي بات يضيق بشكل ملموس بعد انقسام السلطة الفلسطينية إلى سلطتين متنافستين. وبات وضع فئات واسعة من العمال الفلسطينيين في الضفة والقطاع أكثر انكشافاً (بمعنى سهولة التعرض للبطالة والإفقار وتدني الأجور والمرض والعجز) مما سبق؛ بسبب هشاشة الاقتصاد المحلي وغياب فرص عمل كافية لتشغيل الأعداد المتزايدة التي تدخل سوق العمل في الضفة الغربية وقطاع غزة سنوياً. وكانت إسرائيل قد أغلقت أبواب سوق عملها تماماً أمام عمال قطاع غزة ووضعته تحت حصار تام، ودمرت أجزاء واسعة من بنيته التحتية في حروبها الثلاث ما بين العامين 2008 و2014.

يستدعي الواقع الجديد التمعن في التداعيات السياسية للاختلال الواسع في ميزان القوى الاجتماعي في المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع، وما يواجهه الشباب من غياب فرص عمل لائق ومن قيود على الحريات الفردية والعامة. ويرافق هذا توسيع لظاهرة اللامساواة البنيوية بين المناطق وبين الريف والمدينة والمخيم وبين الفئات الاجتماعية، ومع انتشار مظاهر الاستهلاك الاستعراضي (الفِلل والسيارات الفاخرة، والمطاعم والفنادق الفخمة وغالية التكلفة).

مع سيطرة الحزب الواحد على كل من الضفة وغزة وإتخام مؤسسات وأجهزة سلطة الحكم الذاتي بالموظفين، بدأت ثقافة «الموظف» تنمو وتستبدل ثقافة المناضل التي سادت قبل اتفاق أوسلو. ورغم أن حركتي «فتح» و«حماس» تعرفان نفسيهما كحركتي تحرر وطني، إلا أن واقع الحركتين بات واقع مؤسسات «حكومية» وتراتبية وفق أنظمة بيروقراطية جامدة. وهو واقع لا يوفر الشروط الضرورية لانتفاضة ثالثة سواء على غرار الانتفاضة الأولى، أو الثانية ولا يشجع على ابتداع شكل جديد في ظل هيمنة يوميات الاقتصاد الليبرالي الجديد، وثقافة فردانية (من الفرد) لم تُعرف في الضفة والقطاع من قبل، وسيادة نزعة استهلاكية استعراضية في صفوف الطبقة الوسطى وطبقة رجال الأعمال. هذا، رغم أن الشروط التي تصرخ من أجل انتفاضة جديدة في مواجهة تفاقم حدة القمع الجماعي وإجراءات تعسف دولة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، وتحرُّشات واعتداءات المستوطنين اليومية ضد الفلسطينيين في الضفة، والحصار التجويعي على سكان غزة.

د – هيمنة خطاب يشوّه تاريخ وجغرافيا وديمغرافيا فلسطين

الخطاب السياسي والدبلوماسي الدولي والعربي السائد إزاء المسألة الفلسطينية وكذلك الذي تتناقله مؤسسات رسمية وغير حكومية فلسطينية يحرّف بشكل كبير تاريخ وجغرافيا وديمغرافيا الشعب الفلسطيني (هلال، 2013د). من هذه التحريفات اختزال فلسطين إلى الأراضي التي احتُلت عام 1967، أي إلى الضفة الغربية وقطاع غزة،، وهو الجزء الذي تطالب السلطة الفلسطينية من الأمم المتحدة ودول العالم الاعتراف بها حدوداً لدولة فلسطينية، وهو ما تتعهد به «المبادرة العربية للسلام» لعام 2002. ووفق هذا المفهوم اعترفت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، في عام 1993، بحق إسرائيل في الوجود، مقابل اعتراف الحكومة الإسرائيلية بمنظمة التحرير ممثـلاً للشعب الفلسطيني، وليس بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعودة وفي دولة مستقلة ذات سيادة.

ترافق مع هذا التحريف سردية تحدد نشوء المسألة الفلسطينية بالعام 1967، عام احتلال إسرائيل الضفة وقطاع غزة. ولهذه السردية وظيفة سياسية واضحة؛ فهي تجعل غير ذي صلة ما تعرَّض له الشعب الفلسطيني من استعمار بريطاني ومن استعمار استيطاني صهيوني نتج منهما تهجير الشعب الفلسطيني وإحلال دولة إسرائيل كدولة صهيونية استعمارية استيطانية كبديل من فلسطين. كما أنه يحول مشكلة اللاجئين الفلسطينيين إلى مشكلة خارج الزمن المعاصر، وبالتالي تطمس الحق الفلسطيني في العودة، وتهمِّش نضال الشعب الفلسطيني الطويل من أجل حريته وتقرير مصيره وعودته إلى وطنه الذي سلب.

وفي السياق ذاته يتم تمرير خطاب يختزل الشعب الفلسطيني إلى فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، علماً بأن نسبة سكان الضفة الغربية وقطاع غزة الفلسطينيين لا تزيد على 39 بالمئة من مجمل تعداد الشعب الفلسطيني. أي يجري استثناء الفلسطينيين خارج فلسطين. ولعل الوظيفة الأساسية من هذا الاختزال هي تسويق فكرة أن قيام دولة فلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزة يعني نهاية الصراع مع إسرائيل والصهيونية‏[19].

ويرتبط بهذا الخطاب اختزال الحال الفلسطيني إلى حال شعب يقيم تحت الاحتلال (في الضفة والقطاع)، وفي التعامل مع هذا الواقع خارج سياقه الاستعماري الاستيطاني وتعرُّض الشعب الفلسطيني للتطهير العرقي وللفصل العنصري.

هـ – نخب سياسية تتبنى «حالة إنكار»

من أبرز الأوهام التي رُوِّجت، وما زالت ترّوج لها نخب فلسطينية (وعربية ودولية) تفيد بأن قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على حدود الأراضي الفلسطينية التي احتلت في حزيران/يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس مع الحفاظ على حق الفلسطينيين في العودة ما زال مشروعاً واقعياً وقابـلاً للتحقق. وهو وهم يتجاهل تماماً ما يجري على الأرض من استيطان وتشييد معازل وفرض نظام فصل عنصري وعقوبات جماعية ووضع سكان غزة في معتقل جماعي، وفرض التطهير الإثني على سكان القدس. لقد تجاوزت (في العام 2012) نسبة المستوطنين اليهود في الضفة الغربية ربع سكانها من الفلسطينيين العرب، وباتت المستوطنات تحاصر المدن والقرى الفلسطينية تماماً‏[20]. وارتبط مع وهم الدولة المستقلة عبر المفاوضات الثنائية أو عبر تدويل المفاوضات، ثقافة تصر على إمكان «تنمية فلسطينية مستدامة»، رغم التبعية الاقتصادية الحادة لإسرائيل وفقدان السيطرة الفلسطينية على الموارد الطبيعية وعلى المعابر والقيود المفروضة على حرية التنقل والسيطرة على الأجواء والمياه الجوفية والبحرية.

وتحت سطوة وهم أن الدولة الفلسطينية قادمة‏[21] باتت النخب الفلسطينية مسكونة بمسميات «دولاتية» (رئيس ورئيس وزراء، وزير، وكيل وزارة، ومستشار ومدير عام، ومراتب عسكرية وأمنية …) وقامت مؤسسات مدنية لدغدغة هذا الوهم تتولى وضع توصيات لـ «صنّاع القرار» الفلسطينيين. لقد بات إنكار الواقع هو مضمون الخطاب السياسي السائد. وفي السياق ذاته اختُزلت السياسة إما لمفاوضات يجريها أفراد غير منتخبين في غرف مغلقة أو مجرد نشاطات دبلوماسية، أو هي اختزلت إلى تعويذة «المقاومة» لدى حكومة «حماس» وهي مهمة أوكلت لأفراد محددين يجري تدريبهم لهذا الغرض دون دور يذكر للجمهور. لقد جرى التنكر لتجربة الانتفاضة الأولى قبل حرفها من قيادات سياسية مقيمة في الخارج‏[22].

كما اختزل الحقل السياسي الوطني إلى سلسلة اللقاءات والمفاوضات التي تجري بين الحين والآخر بين قيادتي أو حكومتَي «فتح» و«حماس». واستبدلت مهمة إعادة بناء المؤسسات الوطنية على أسس وطنية تمثيلية إلى بناء أجهزة الحزب الواحدة في إطار إدامة سلطة الحكم الذاتي، واختزل المجتمع المدني إلى المنظمات غير الحكومية، واختزلت الديمقراطية إلى مكونها الإجرائي، أي إلى ممارسة انتخابات عامة دورية.

و – تفاقم انكشاف مكوِّنات الشعب الفلسطيني

مع إصابة الحقل السياسي الفلسطيني بالضعف ثم بالتفكك والتحلل تزايد تعرض التجمعات الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها لحالات من الانكشاف السياسي والاقتصادي وحتى الوجودي. بان هذا بعد خروج منظمة التحرير من بيروت في العام 1982 حيث تلا ذلك مجزرة صبرا وشاتيلا، ثم جاءت الحرب ضد المخيمات في لبنان، وما رافق الانتفاضة الأولى من تنكيل إسرائيلي بالمواطنين الثائرين ضد الاحتلال وسياساته. وبرز هذا في تهجير الجالية الفلسطينية في الكويت، والجالية الفلسطينية في العراق وليبيا والمخيمات في لبنان، ومؤخراً في سورية، هذا بالإضافة إلى اجتياح مدن الضفة الغربية ومحاصرة الرئيس الفلسطيني في مقر إقامته في رام الله، والحروب والحصار على قطاع غزة في الأعوام 2008، و2012 و2014، والقوانين العنصرية التي سنتّها إسرائيل ضد فلسطينيي عام 1948، وممارساتها العنصرية تجاه الفلسطينيين في القدس في سياق تهويد المدينة ودفع سكانها الفلسطينيين لمغادرتها. كما يبرز في إحساس الأردنيين من أصل فلسطيني بالتمييز وبأنهم يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية‏[23].

خاتمة

غياب حقل وطني يعني غياب دولة وطنية فاعلة أو غياب حركة وطنية حيّة، وهذا هو الحال الذي وصل إليه الوضع الفلسطيني. لكن الوطنية الفلسطينية ما زالت تتمتع بحيوية عالية لأن حضورها وتواصلها يعتمد على حضور وحيوية الحقل الثقافي (بالمعنى الواسع للثقافة) لأن بحوزته الإمكانات والأدوات ليقرأ بدقة ما يجري على الأرض في التجمعات الفلسطينية المختلفة، وبالتالي الأقدر على تولي دور المولد لحقل سياسي وطني جديد ببنية ومفاهيم وحركية بعيدة عن البلادة السياسية والاجتماعية السائدتين راهناً.

يستحق ما يجري في الحقل الثقافي الفلسطيني اهتماماً أوسع كثيراً من الاهتمام الذي حظي به منذ نشوء منظمة التحرير بما في ذلك المحاولات الجارية لتجاوز «النص الفصائلي»‏[24] ورفض المنطق الرافض للتجديد والديمقراطية، والانتباه إلى المفاهيم الصاعدة التي تنظر إلى الأمور من منطلق وحدة قضية الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية وخارجها، بما فيها الدعوات لإعادة بناء منظمة تحرير جديدة‏[25] تمثل كل مكونات الشعب الفلسطيني بشكل ديمقراطي، وإعادة تحديد دور السلطة الفلسطينية في سياق مهام حركة تحرر وطني‏[26].

على مراكز البحث مهمة الانتباه لما يجري من نشاطات المراكز والحلقات والأندية الثقافية والفكرية والبحثية على طرفي الخط الأخضر وخارج فلسطين، وملاحظة تنامي حملات مقاطعة إسرائيل اقتصادياً وثقافياً ودور حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS). كما يستحق الانتباه حركة التنسيق الجارية بين المنظمات الأهلية الفلسطينية داخل وخارج فلسطين التاريخية في قضايا مختلفة. وهناك النشاط الذي تتولاه عشرات الجمعيات واللجان والاتحادات والمراكز والجمعيات في الدفاع عن حق العودة وإبقائه حيّاً في نفوس الأجيال الشابة‏[27]. ونحتاج إلى توثيق تنوّع الإنتاج الثقافي لفلسطينيين في مواقع مختلفة (السينما، الغناء، الرقص الرواية، الشعر، الفن التشكيلي المسرح، والأشغال الحرفية، وغير ذلك) ومشاركاتهم في هذه النشاطات. وهو إنتاج ونشاط أخذ دفقاً ملحوظاً في العقدين الأخيرين، هذا بالإضافة إلى الانتباه لما يجري بثه وتناقله يومياً في الفضاء الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي المتعددة، بما تحمله هذه من منابر جديدة وآنية واسعة الانتشار لكشف ما تتعرض له التجمعات الفلسطينية من استلاب وتمييز وحرمان، وكذلك لما تحمله من مخاطر تعميق الاستقطاب والتناحر الداخلي (Najjar, 2010).

مراجعة مسيرة الحركة السياسية الفلسطينية ومآلها تقترح الحاجة إلى مفهوم جديد للعمل السياسي مختلف تماماً عن المفهوم النخبوي الذي ساد وما زال. يُلحظ إدراك لهذه الحاجة داخل بين صفوف الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، بحكم تعمق الوعي باستحالة التعايش مع نظام عنصري وداخل مؤسسات دولة تصر على أن تعرِّف نفسها كدولة يهودية وأن تدعي الديمقراطية في آن، وتشترط من الشعب الفلسطيني الاعتراف بها بهذه الصفة وإنكار، بالتالي، لحقوقه ولروايته التاريخية والوطنية والإنسانية (بركة، 2016). كما يبدو لي أن هذا الوعي الديمقراطي للعمل السياسي آخذ في الاتساع في المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع بعد أن عاين بالملموس بؤس سياسة نخب التنظيمات السياسية التي ولدت الانقسام وفشلت تماماً في السير على طريق إنجاز حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني بمكوِّناته المختلفة.

من حق وواجب التجمعات الفلسطينية أن تشارك في بلورة السياسات الوطنية، ومن حقها التقرير بشأن القضايا الخاصة بها، ورفض «ديمقراطية» النخبة التي تعني احتكار أفراد محدودين القرار بشؤون المصير الوطني ومصالح وحقوق مكونات الشعب الفلسطيني. ومن حق، بل من واجب، جميع مكونات الشعب الفلسطيني أن تُجمع على رفض أي مشروع تسوية يتم على حساب حقوق ومصالح تجمُّع آخر أو تجمعات أخرى. لذا فإن على بنية الحقل السياسي الجديد أن تأخذ شكـلاً هرمياً، أي تكون التجمعات الفلسطينية هي أماكن اتخاذ القرار الوطني، وتكون القيادة السياسية الوطنية هي المكلفة بالتنسيق بين المواقع المختلفة التي تتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية في إطار الالتزام بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني مع الانتباه إلى خصوصيات كل تجمع واستقلالية مؤسساته المنتخبة والممثلة بمؤسسات القيادة الوطنية. وإن كان بناء حقل سياسي وطني جديد قد بات في غاية الصعوبة بسبب المصالح التي تولدت لدى فئات معينة نتيجة الانقسام والخشية من نتائج الديمقراطية السياسية، فمن الحكمة اتخاذ «مبادرات وخطوات شعبية من تحت، من خلال تشكيل لجان شعبية وأطر قيادية محلية بمشاركة أوسع عدد ممكن من القوى وأفراد المجتمع ومؤسساته تتولى إدارة الصراع مع المحتل» (المصري، 2015). أي أن المطلوب، موضوعياً، هو إعادة منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرر وطنية على أسس ديمقراطية تمثيلية جامعة‏[28].

إعادة شيْد الحقل الوطني على أسس ديمقراطية تمثيلية يعني الحرص على تمثيل مختلف مكونات الشعب الفلسطيني وتياراته السياسية والفكرية والاجتماعية الفاعلة في المؤسسات الوطنية قاعدة التزام الجميع بعقد سياسي اجتماعي مجمع عليه، ورفض اختلاق تعارض بين التحرر الوطني والنضال من أجل تقرير المصير (السيادة الشعبية) من جهة، وبين القيم والمبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية العميقة (كتجسيد قيم الحرية على قاعدة المساواة والعدالة الاجتماعية). وهي قيم تحتفي بتراث الشعب الفلسطيني المقاوم ذي التاريخ النضالي المديد والغني، وقيم لا تضع المقاومة بمفهومها كحراك شمولي في تعارض مع قيم الديمقراطية العميقة.

 

قد يهمكم الاطلاع على الحلقة النقاشية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية تحت عنوان

حلقة نقاشية حول” القضية الفلسطينية وصفقة القرن”

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #دراسات #القضية_الفلسطينية #فلسطين_المحتلة #منظمة_التحرير #حركة_فتح #جماس #السياسة_الفلسطينية #الحقل_السياسي_الفلسطيني