مقدمة:

منذ نهاية القرن العشرين ظلت الدول تتجه للأخذ في النظام الفدرالي كتنظيم إداري مناسب، وبما يتوافق مع بيئتها وثقافتها المجتمعية. ولعل هذه الدول تدرك – استناداً إلى فلسفة الفدرالية – أن النظام الفدرالي يوسع المشاركة السياسية، ويمكن الدولة من إحداث التوازن في توزيع المال بين الوحدات المكونة لها، فيساعد بقدر أكبر في تحقيق التوازن الخدمي والتنموي والنهضة الاقتصادية. وفي هذا السياق يعدّ السودان ثاني دولة في القارة الأفريقية تأخذ في النظام الفدرالي في ظل النظام الرئاسي منذ عام 1994 – وإن طرأ عليه تعديل – وذلك بعد نيجيريا التي طبقت الفدرالية كنظام للحكم في عام 1960. وقد تبع هاتين الدولتين في أفريقيا لتطبيق هذا النمط من الحكم على التوالي كلٌ من أثيوبيا (1995) التي لا تبدأ مقدمة دستورها بعبارة «نحن شعب إثيوبيا» وإنما جاءت بدايتها بعبارة «نحن مجتمعات وقوميات وشعوب أثيوبيا»‏[1]. وتأتي بعدها ترتيباً من حيث الزمن جنوب أفريقيا التي تبنت النظام الفدرالي كفلسفة للحكم (1996)‏[2].

واجهت التجربة السودانية خلال ربع قرن من الزمان (منذ تطبيق النظام الفدرالي) عدداً من المشكلات الإدارية والمالية على مستويات الحكم الثلاثة كافة، إلى حين توقيع اتفاقية السلام الشامل في كانون الثاني/يناير 2005، التي صارت جزءاً من دستور السودان المعدل في ذاك العام، حيث يعرَف نظام الحكم في السودان بأنه نظام لامركزي، بل ما زال هذا الدستور (المعدل في كانون الثاني/يناير 2015) يصنف نظام الحكم في السودان بأنه نظام لامركزي. وإن كان الخلط بين مفهومَي الفدرالية واللامركزية – على واقع الممارسة – ما زال قائماً حالياً.

وخلال المرحلة الانتقالية التي انتهت بانفصال جنوب السودان في تموز/يوليو 2011، وفيما بعدها حتى تاريخ اليوم، ظل النظام اللامركزي مواجهاً بتحديات متعددة في واقع اقتصادي مرير، واتهام للنظام بسوء توزيع الموارد المالية، إضافة إلى ضعف أداء الكوادر القيادية والتنفيذية في معظم محليات السودان وولاياته، وعدم معرفة أغلبها بفلسفة وأهداف الحكم اللامركزي الأساسية. هذا الواقع أربك المشهد السياسي السوداني على صعيد الحكم والإدارة، وجعل تقديم الخدمات غير مرضٍ للمواطنين في أغلب ولايات السودان، بل صار هنالك اختلال وعدم توازن في تقديم تلك الخدمات الأساسية. إلى جانب ضعف التنمية بمفهومها العام التي تكاد أيضاً تنعدم في عدد من المحليات في السودان.

يقدم هذا المقال دراسة في التحول من النظام الفدرالي إلى النظام اللامركزي في السودان بمستوياته الثلاثة، وبتركيز أكثر على الوضع الراهن لنظام الحكم، وإن كان هذا النمط الثاني من الحكم يبدو في تراتيبه ومستويات الحكم فيه بمجالسها التشريعية أقرب كثيراً إلى الصيغة الفدرالية، فإنه يمكن أن يسمى نظاماً فدرالياً ناقصاً. كما يهدف المقال أيضاً إلى معرفة مكامن الخلل والتحديات التي تواجه النظام اللامركزي الحالي في جوانبه الإدارية والسياسية والمالية. ويسعى المقال لتقديم رؤى وأفكار جديدة بغرض إصلاح النظام اللامركزي في السودان بما يساعد على تقوية وشائج الوحدة الوطنية، وإشاعة التوازن التنموي بين ولايات السودان كافة لتحقيق قدرٍ أكبر من الرضا الجماهيري.

إن السؤال الجوهري الذي يحاول هذا المقال الإجابة عنه هو: كيف يمكن إصلاح النظام اللامركزي في السودان، وبخاصة في مستواه القاعدي (المحليات) بما يساعد على تفعيل النظام وتعزيز كفاءته وفعاليته لتحقيق التوازن التنموي على مستوى ولايات السودان كافة؟ وتتفرع من هذا السؤال الرئيسي ثلاثة أسئلة أخرى هي: هل المشكلة تكمن في الفلسفة والخلط بين المصطلحين (اللامركزية والفدرالية) وفي ضبابية الأهداف المرتجاة من تطبيق هذا النمط من الحكم الفدرالي الناقص؟ لماذا عجزت محليات كثيرة عن القيام بواجباتها والنهوض بمسؤولياتها تجاه مواطنيها؟ وكيف يمكن العمل من أجل اصلاح النظام الفدرالي، واستكمال نواقص بنيانه الإداري في غياب مجالس تشريعية منتخبة للمحليات، وعدم توافر الموارد المالية لتحقيق التنمية وتقديم البرامج الخدمية؟

يستخدم هذا المقال الأدوات البحثية التي من شأنها أن تساعد على التحليل العلمي للتحديات التي تواجه النظام اللامركزي في جوانبه السياسية والإدارية والمالية، وكيفية تجاوز تلك العقبات من أجل تحقيق الأهداف المرتجاة. يعتمد المقال على المنهجين الوصفي التحليلي والمقارن لإبراز التحديات الرئيسة والعمل لتحويلها إلى فرص للنجاح بعد التوصل إلى نتائج البحث. وبالتالي يهدف المقال إلى تقديم توصيات محددة من المؤمَّل أن تسهم في تقوية النظام الفدرالي، وبخاصة في مستواه القاعدي إذا ما أخذ فيها صناع القرار السياسي في البلاد وتم تطبيقها على أرض الواقع.

أولاً: مفهوم اللامركزية والفدرالية

اكتسب مصطلح «اللامركزية» أبعاداً شتى في الأدبيات الإدارية والسياسية خلال حقبة التسعينيات من القرن المنصرم، نتيجة للمتغيرات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية التي شهدها العالم‏[3]. واللامركزية هي مصطلح يتداخل مع مصطلح الفدرالية، مثلما يتداخل مع وسائل نقل السلطة لممارستها لامركزياً. ويقول هنري ماديك إن اللامركزية قد تأخذ أحد النمطين: لامركزية التفويض، وهي تحويل سلطات لممثلي المركز تحويـلاً إدارياً. ولامركزية التخويل، وهي تنازل عن سلطات وصلاحيات بحكم القانون إلى مجالس محلية تمثل المنطقة المحلية‏[4]. يميز الفكر الإداري الحديث بين ثلاثة أنماط من اللامركزية، وهي: اللامركزية السياسية، واللامركزية الإدارية، واللامركزية المالية‏[5].

أما لجهة مفهوم الفدرالية فقد أشارت دائرة المعارف البريطانية إلى أن المصطلح دخل قاموس اللغة الإنكليزية من نافذة اللغة الفرنسية‏[6]. ولقد حدثت نقاشات كثيرة في الدوائر الأكاديمية حول استخدام أكثر من أسلوب وأكثر من منهج (في نسق يوازن بين جدية المعنى وسهولة العبارة) حول مصطلح الفدرالية ودلالته‏[7]. ويقول لاري دايموند إن «الفدرالية تنظيم سياسي تتوزع فيه نشاطات الحكومة بين حكومة مركزية وحكومات محلية وعلى نحو يتيح لكل نمط من هذه الحكومات القيام بنشاطات تتخذ على أساسها قرارات نهائية»‏[8]. أما دونالد ل. واتس فيضيف إلى هذا التعريف بالقول «إن الفدرالية تقوم على أساس القيمة والصدقية المفترضة في الجمع ما بين الوحدة والتعددية، وعلى استيعاب الهويات المميزة والحفاظ عليها وتعزيزها ضمن اتحاد سياسي أكبر حجماً»‏[9].

لا يوجد نموذج واحد للنظام الفدرالي في العالم يمكن أن نطلق عليه نموذجاً مثالياً، بل هنالك عدة نماذج مختلفة‏[10]. وللفدرالية خصائص وشروط قبلية إذا لم تتوافر لا يمكن أن يصنف النظام الذي يعلن تبنّيه الفدرالية كنظام للحكم بأنه نظام فدرالي. من أهم هذه الشروط: وجود دستور جامد يوضح العلاقات الرأسية والأفقية تعريفاً قاطعاً يعزز السلطات والصلاحيات لمستويات الحكم المختلفة، والأخذ بالديمقراطية كنظام للحكم، وتعدد مستويات الحكم، وإعطاء الأقاليم سلطات وصلاحيات كافية استناداً إلى القانون من طريق التخويل‏[11]. وهذا ما لا يتوافر كلية في النظام اللامركزي.

يخلط عدد من الباحثين والكتّاب بين مصطلحي اللامركزية والفدرالية، ويتضح ذلك في أوساط المثقفين السودانيين، وهو يتجلى في عدم قدرتهم على التفريق الدقيق بين المفهومين فيحدث خلط كبير في استخدامهما. ولعل ذلك يعزى إلى عدم إشاعة ثقافة الفدرالية بين الحكام والمحكومين بقدر معقول، وعدم تبيان مقاصد الفدرالية كصيغة للحكم، وكذا عدم التركيز على توضيح أهدافها الرئيسة جلياً.

ثانياً: السودان ما بين الفدرالية واللامركزية

يتضح من نظرة أكثر شمولاً للمشكلات التي واجهت الحكم والإدارة في السودان أن المركزية امتدت لفترة أطول في البلاد مقارنة بالنظامين الآخرين اللذين اتبعهما السودان وهما اللامركزية والفدرالية، حيث إن المركزية أفرزت عدداً من السلبيات التي «نتج منها ظواهر إدارية كانت مكان تندُّر من قبل علماء الإدارة»‏[12].

وُلدت مرحلة تأسيس الحكم الفدرالي دستورياً في الرابع من شباط/فبراير 1991 بصدور المرسوم الدستوري الرابع، الذي قُسم السودان بموجبه إلى تسع ولايات، وتم تحديد سُلطات مشتركة بين المركز والولايات‏[13]. وفي تطور لاحق، ولأسباب الزيادة في المشاركة السياسية وقصر الظل الإداري، ومساحة السودان الشاسعة، أُلِّفت لجنة لإعادة تقسيم الولايات. وبعد إعداد الدراسة قدمت اللجنة توصيتها واقترحت أن يقسم السودان إلى ثماني عشرة ولاية. ولكن القرار السياسي عندئذ قضى بتوزيع السودان إلى 26 ولاية‏[14].

لازم التجربة الفدرالية في السودان منذ تطبيقها عام 1994 عدد من المشكلات، الأمر الذي أدى عجز الولايات (الأقاليم) عن القيام بدورها وفق اختصاصاتها وواجباتها، وبخاصة في مجال تقديم الخدمات الأساسية تجاه مواطنيها. وكان للحكومة المركزية دور في هذا التقصير من جانب الولايات بسبب السياسات غير الراشدة. بل حدث تدهور كبير في بعض الولايات – كولايتي غرب كردفان والنيل الأبيض – وانعدم فيها أبسط مقومات التنمية. وكذلك رغم استحداث الكثير من الآليات بغرض تحقيق التوازن التنموي – مثل الصندوق القومي (لدعم الولايات كما نص دستور 1998 في المادة (116) الفقرة (2) على قيامه) – فإن العجز المالي – وبعد مضي ربع قرن من الزمان – ما زال يلازم جل ولايات السودان إن لم يكن كلها‏[15]. ولكن النظام الفدرالي ظل مستمراً، استناداً إلى دستور 1998، بولاياته الـ 26، إلى أن جاء عام 2005 حيث ذوبت ولاية غرب كردفان في ولايتي شمال وجنوب كردفان، وأصبحت ولايات السودان 25 ولاية، وصار النظام ينحو إلى اللامركزية شكـلاً وليس تطبيقاً‏[16].

لقد افتقدت الفدرالية منذ بداية تطبيقها في السودان الكثير من الشروط القبلية الواجب توافرها، مثل الدستور الجامد، والتعددية الديمقراطية، للأخذ فيها كنظام يتواءم ويتسق مع طبيعة الدولة السودانية وخصوصياتها. كما أن الأخطاء والنواقص في التجربة قد شملت مستويات الحكم الفدرالي الثلاثة بما فيها مستوى الحكم المحلي الذي أصابه الترهل الإداري، والعجز المالي، وضعف الأداء. وكان ذلك نتيجة ضعف السياسات العامة التي صنعتها الحكومة الفدرالية (المركزية)، وعدم التزام الولاة وقادة الحكم المحلي بإنفاذ الخطط والسياسات المجازة. وعلى الصعيد نفسه كان لفقدان استقلالية الحكم المحلي وتعدد قوانينه التي صُممت خلال فترة العهد الوطني، وبخاصة خلال العقدين الأخيرين، الأثر الأكبر في ضمور اختصاصات وسلطات المجالس المحلية. وربما زادت هذه القوانين المتعددة فرص التدخل والرقابة المركزية في الشؤون المحلية، فضعُف الحكم المحلي وأحدث نتائج سالبة متعددة، منها انحرافه عن أهدافه الأساسية.

إن المشكلات المزمنة في السودان منذ الاستقلال، مثل عدم صناعة دستور دائم للبلاد، والمشكلة الاقتصادية، والنزاعات القَبَلية، وعدم الانصهار القومي، قد تفاقمت أكثر بسبب فشل الحكومات المركزية. وأدى ذلك الوضع إلى علو صوت القبلية والجهوية بحدة وخطورة عالية على وحدة النسيج الاجتماعي وتماسكه. وأثر هذا الوضع بدوره سلباً في الإدارة المدنية في الولايات المختلفة، وبخاصة في ظل موارد مالية محدودة، إذ كانت لها مردوداتها السلبية في أداء جميع مستويات الحكم الفدرالي. من جانب آخر، أدت سيطرة الولاة على العديد من المحليات إلى عجز الأخيرة عن القيام بدورها وفق منهج إداري سليم. ومع محدودية الموارد المالية، وغياب التخطيط، أو ضعفه، كانت النتائج على الدوام غير مرضية في أغلب ولايات السودان ومحلياته.

ثالثاً: وضع الولايات في السودان في ما بعد انفصال الجنوب

بعد أن أُجري الاستفتاء لأبناء جنوب السودان في عام 2011، كانت نتيجته أن اختاروا الانفصال عن الدولة الأم وتكوين دولة مستقلة. وبانفصال الجنوب عن الدولة فقد السودان عشر ولايات هي جميع ولايات الجنوب في السودان الكبير، كما فقد السودان بترول الجنوب الذي كان يمثل مورداً مهماً للخزينة العامة. وقد أثر هذا تأثيراً كبيراً في الموازنة المالية للبلاد، وانسحب التأثير السلبي على تقليل حجم التحويلات المخصصة وغير المخصصة من الإيرادات القومية للولايات كافة. هذا الواقع الجديد كان خصماً على تقديم الخدمات والتنمية البشرية، واختلال التنمية الشاملة بسبب عدم كفاية الموارد المالية. ولم يكن العجز المالي وحده هو الذي أثر سلباً في أداء الولايات، بل كان ضعف التخطيط كما أشير من قبل. أي عدم الالتزام بتنفيذ أولويات الخطط في أغلب الولايات، أدى إلى التكلس الإداري وضمور المشاريع التنموية وضبابية البرامج والأنشطة المجتمعية.

أما على الصعيد السياسي، فقد تغيرت المعادلة في اختيار الولاة الذين كانوا قد تبوأوا مواقعهم القيادية في الولايات من طريق الانتخابات في عام 2010، بينما اختيروا بالتعيين في عام 2015. ربما كان المبرر لهذا التحول في طريقة الاختيار يتصل بالظرف الآني الذي يحيط بالسودان، والمتمثل ببعض التهديدات الأمنية الداخلية والخارجية، وعلوّ صوت القبلية والمناطقية أكثر فأكثر. لكن يضاف إلى ذلك ضرورات تلك المرحلة للمحافظة على إشاعة الأمن وتماسك كيان الدولة والمحافظة على وحدتها من التشرذم وانفصال أي ولاية من الدولة الأم. وما لا شك فيه أن الطريقة الفضلى هي اختيار الولاة من طريق الانتخاب المباشر، أي ديمقراطياً من طريق صناديق الاقتراع. على أن يكون الوالي من أبناء الولاية، وبشرط أن يكون مستقراً فيها لفترة متصلة لا تقل عن أربع سنوات قبيل ترشُّحه؛ لأن في ذلك ميزة تجعل المرشح ملماً بمشكلات الولاية التي ينتمي إليها، وعلى معرفة تامة بأهمية القضايا التي يجب أن يركز عليها ويسعى لحلها إذا ما فاز بمنصب الوالي ديمقراطياً.

رابعاً: الحكم المحلي في النظام اللامركزي: الترهل الإداري إلى أين؟

مرت التجربة الفدرالية بعدة مراحل ما قبل توقيع اتفاق السلام الشامل في عام 2005 وفيما بعدها. فالحكم المحلي في مرحلة ما بعد السلام لم يولَ كثير اهتمام، في حين حوَت الاتفاقية أدق التفاصيل عن علاقة الحكومة القومية الفدرالية بالولايات وبالمستوى الإقليمي (أي حكومة جنوب السودان). و«يستطيع الباحث أن يقول – دون أن ينتقده ناقد – إنه لا مكان للحكم المحلي في الفدرالية السودانية كما وردت في اتفاقية السلام الشامل التي ضُمِّنت في الدستور الانتقالي»‏[17]. وحتى بعد تعديل الدستور في عام 2015، ظل وضع الحكم المحلي مهمشاً، وبخاصة في جهازه التشريعي الرقابي.

غلب على مؤسسات الحكم المحلي الضعف في التنظيم الإداري، ولم يعكس العمل الإداري في المحليات جودة الإدارة ومنهجيتها. ولعل ذلك إرثٌ توارثته الإدارات التي تعاقبت على حكم المجتمعات المحلية منذ عدة عقود من الزمان «وكانت منهجية الإدارة مبنية على الحفاظ على المؤسسات وتغيير مضمونها تغييراً جزئياً وفق ما يستجد من أحداث في المجتمع»‏[18]. وقد افتقر الحكم المحلي في كل بقاع السودان إلى الكوادر الإدارية المدربة؛ وذلك باستثناء المدن الكبرى. إذ فشلت القوى العاملة في العديد من المحليات في تنمية وتطوير المجتمعات المحلية التي تعمل فيها، وكذلك كان ضعف التنسيق فيما بين مختلف المشروعات التنموية له مردود سلبي كبير على الأداء. فلم تنشأ لجان فاعلة في المحليات لهذا الغرض، وغابت كذلك الرقابة فتفشى الفساد المالي وظهور المحسوبية‏[19].

من جانب آخر، كان لفقدان التدريب الداخلي والخارجي أثر كبير في سلحفائية تقديم العمل الخدمي وضعف التنمية في أغلب المحليات بالسودان. يضاف إلى ذلك أن عدم استخدام تقانة المعلومات والتكنولوجيا بقدر معقول لم يسهل العملية الإدارية ويوفر الوقت والجهد لحل المشكلات الإدارية التي ظلت تلازم الحكم المحلي في السودان ردحاً من الزمان. كما أن الترهل الإداري الذي حدث بسبب إنشاء محليات من أجل ترضيات سياسية عديدة والتباين في الهياكل التنظيمية، ولا سيما في ولايات دارفور، وجنوب وغرب كردفان، والقضارف، قد أحدث خلـلاً إدارياً كبيراً في بنية التنظيم الإداري للمحليات، وشكّل ضغطاً على ميزانية الولايات، بل وعلى الموازنة الاتحادية في جانب الإنفاق العام.

خامساً: مالية الحكم المحلي في لا مركزية السودان ما بعد عام 2005

إن تحقيق الفدرالية المالية العامة يشكل ركيزة أساسية للنظام الفدرالي، وأن ذلك يقابله عدد من التحديات المتصلة بإدارة الإيرادات ويتطلب النهوض بالمسؤوليات قدراً ملائماً من العائدات على المستويات المحلية بغرض توزيع المخصصات اللازمة لتغطية المصروفات وتلبية الحاجات الولائية والمحلية، إذ إن هنالك عقبات تقف أمام تنفيذ الفدرالية المالية تنشأ من توزيع الحكومة الاتحادية لعائداتها غير الكافية على المستويات الأدنى من الحكومة (الولايات وربما المحليات) وعدم انتظام التحويلات المخصصة وغير المخصصة من الحكومة الاتحادية. علاوة على ذلك، فإن شدة التباين بين الولايات والمحليات داخل تلك الولايات تتطلب ضرورة معالجة إدارة الإنفاق العام بفعالية‏[20]. وكذلك إعداد تقارير الموازنة الوظيفية على نحو يراعي الشمولية والشفافية، ورصد الإنفاق الفعلي ونتائجه بغرض تعزيز المساءلة، وحساب تكاليف السياسات القطاعية والسياسات الشاملة بغرض زيادة درجة شفافية أولويات الموازنة، وتحسين صدقية الموازنة، والربط بين التخطيط الاستراتيجي والتخطيط التنموي وعملية إعداد الموازنة السنوية، والعمل بصفة عامة لزيادة استخدام وسائل تحليل الإنفاق في اتخاذ القرارات.

يرجع بعض خبراء الاقتصاد أسباب القصور المالي في المحليات، بل في السودان ككل، إلى عدة عوامل من أهمها:

1 - ضيق الأوعية الضرائبية وبخاصة في المناطق البعيدة والمهمشة التي تفتقد التعليم والتنمية.

2 - ضعف البنى التحتية للدولة السودانية، المتمثلة بالطرق التي تربط مناطق الإنتاج بعضها ببعض فتعرقل التحصيل وترفع تكاليفه.

3 - ضعف الخدمات المقدمة للمواطنين وسوء استخدام موارد الدولة في المحليات وغيرها، وتوجيهها لأغراض شخصية وجهوية، الأمر الذي أدى إلى إحجام العديد من سكان المناطق عن دفع الضرائب والرسوم والعشور.

4 - التهرب الضريبي للكثير من الشركات والجهات الأخرى وضعف وسائل التحصيل الضريبي وضعف الكوادر العاملة في مجال الضرائب.

5 - ضعف روح الانتماء القومي وانتشار التعصب القبلي والجهوي بجانب الانطواء على الذات‏[21].

كما أصبح عدد من الولايات والمحليات في السودان تعتمد على موارد مالية ذاتية، لذا اتسمت ميزانياتها بالضعف، لأن الإيرادات المحلية المخصصة لها لم تكن كافية. وفي الحقبة الأخيرة صار العديد من الولايات (مثل شمال كردفان والقضارف وغيرهما) تعتمد محلياتها على ما يخصص لها من إيرادات زراعية أكثر من اعتمادها على عقارات (مثلما يوجد في ولاية الخرطوم التي لديها فائض من إيرادات العقارات بخاصة). وتعتبر ولاية الخرطوم وحدها هي الولاية التي يوجد في محلياتها برنامج تنموي منظم دون العديد من محليات السودان الأخرى‏[22]. كما أن الحكومة المركزية هي القابضة للمال في ظل النظام الحالي، وأن ما يقدمه الحكم المحلي من خدمات وتنمية على المستويات المحلية ظل على الدوام دون الطموح، وإن لم يكن ضعيفاً جداً، وذلك بسبب ضعف ميزانيات الحكم المحلي ذاتها، إذ يقول مختار الأصم (أستاذ الإدارة العامة السابق بجامعة الخرطوم) «إن الحكم المحلي بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل أصبح رهينة لمزاج والي الولاية الذي حوَّل وحدات الحكم المحلي إلى وحدات جباية للضرائب بدلاً من أن يكون وحدات ميزانية لتقديم أنشطته المتعددة»‏[23]. وهذه قراءة فيها قدر كبير من الصحة لما آل إليه وضع الحكم المحلي في السودان، وما نتج من ذلك من إشكالات عديدة جعلته متكلساً وفي مرات كثيرة متناسـلاً إدارياً باضطراد وغير قادر على القيام بمهامه التي أنشئ من أجلها.

ولتفعيل الحكم المحلي وإشاعة العدل والمساواة بين المحليات كافة «تظل الشراكة المجتمعية في السلطة والثروة والمسؤولية مطلوبة بشدة»‏[24]. وذلك من أجل تحقيق التوازن المالي، ولإعلاء المسؤولية الجماعية للنهوض بالحكم المحلي وتطويره في السودان.

سادساً: التحديات التي تواجه النظام اللامركزي في السودان

 

1 – على مستوى الحكومة الفدرالية

تواجه النظام اللامركزي في السودان تحديات حالت دون تحقيق النظام أهدافه المرسومة وبلوغ غاياته المنشودة، بما يقوي ويعزّز أواصر الوحدة الوطنية الهشة، وذلك لأسباب عديدة صاحبت التجربة الفدرالية عند التطبيق في البلاد، كأسلوب إداري أفضل للحكم. ومن أبرز تلك الأسباب، إلى جانب الأسباب السالفة الذكر، عدم استقرار الهياكل التنظيمية والوظيفية كأوعية للسلطة والمسؤولية وكأساس للمساءلة. أدى هذا الوضع إلى ضعف الموارد المادية والبشرية، وإحداث المزيد من الإشكالات والمعوقات أمام التنمية المتوازنة في ولايات البلاد المختلفة، وبخاصة الطرفية منها (أي تلك البعيدة من المركز) كما اتضح ذلك من التحليل أعلاه‏[25]. وخلال عقدين ونصف العقد من تطبيق النظام الفدرالي المنقوص في السودان أصبحت الحاجة إلى تعديل العلاقات المالية بين الحكومة الفدرالية والوحدات المكونة لها تتزايد باستمرار، وصارت الدعوات لإزالة العقبات أمام الاستثمار وتحسين القاعدة الضريبية من أهم دعوات الإصلاح لحل المشكلات المالية.

إن أبرز التحديات التي تواجه البلاد – كما سبقت الإشارة من قبل – هي عدم توزيع الموارد الخدمية والتنموية بعدالة بين محليات السودان وولاياته المختلفة. وبالتالي فإن تقاسم الإيرادات والتحويلات في السودان بين الحكومة الاتحادية والوحدات المكونة لها وفق معايير عادلة (إذا أمكن ذلك) سوف يعزز تنفيذ البرامج الخدمية والتنموية على كل المستويات. وإن تحويل الضرائب المحصَّلة، أو إجراء تحويلات من ميزانية الحكومة الاتحادية للولايات سوف يقلل الفوارق والتباينات بين تلك الولايات التي تختلف في كفاءتها الاقتصادية، ويعزز في الوقت نفسه أهداف السياسة العامة للحكومة. من هنا تأتي أهمية الترتيبات والآلية القانونية التي يجب أن تضطلع بها المفوضية القومية لمراقبة وتخصيص الإيرادات. وذلك من أجل ضبط عملية تقسيم تلك الإيرادات والتحويلات الحكومية البينية.

2 – على مستوى الولايات والمحليات

حدد قانون الحكم المحلي لسنة 1995 أكثر من ثماني وظائف أصيلة تؤديها المحلية، شملت خدمات كثيرة ومتنوعة، لم يكن في مقدور المحليات القيام بها في ظل ظروفها المالية الضعيفة‏[26]. واستمر الحال على ما هو عليه رغم التحسن الطفيف في بعض المواضع. غير أن قانون 1998 جعل ذلك الدور أكبر وأشمل من أجل تحقيق المشاركة الشعبية وإحداث التنمية الشاملة، بينما حال الضعف المالي في خاتمة المطاف دون الوصول إلى تلك الأهداف بيسر، وبخاصة تحقيق التنمية المتوازنة. وفي قانون 2003 تقرر أن يكون إنشاء المحليات بمرسوم يصدره رئيس الجمهورية بعد التشاور مع حكومة الولاية‏[27]. وكان القانون يمثل تطوراً في مرحلة من مراحل الحكم المحلي وفي بنائه الإداري من خلال الربط ما بين المركز والولايات.

ثم جاء قانون الحكم المحلي لسنة 2007، كقانون إطاري يسمح لكل ولاية أن تنشئ قوانين للمحلية خاصة بها على أن لا يتعارض ذلك مع القانون الإطاري‏[28]. وكان نتاج هذا القانون الذي صنعته الحكومة المركزية، إنشاء العديد من المحليات من غير مراعاة المعايير الموضوعية، فترهلت الإدارة في العديد من ولايات البلاد. وفي عام 2017 أجيز قانون جديد للحكم المحلي (وهو أيضاً قانون إطاري جعل أمر إنشاء المحلية يتم بموافقة المركز والولاية معاً)‏[29]. وكان أهم ما تضمنه هذا القانون استحداث وزارة جديدة باسم وزارة الحكم المحلي في كل ولاية من ولايات السودان. وهذا بلا لا شك يمثل خطوة متقدمة تساعد في إنشاء المحليات الجديدة وفقاً لمعايير تُزاوج بين رغبة الولاية وحاكمية المركز، منعاً لإنشاء محليات جديدة دون توافر شروط معقولة، وتلافياً لحدوث ترهل إداري على المستوى القاعدي للحكم في كل ولاية. لكن يظل التحدي قائماً في إنفاذ القانون كامـلاً على أرض الواقع لإنجاز الإصلاح المنشود.

سابعاً: فرص إصلاح الحكم اللامركزي في السودان

 

1 – تقليص الولايات في السودان خيار مهم

في الظروف الاقتصادية التي تمر بها الدولة السودانية نتيجة الحصار الاقتصادي المفروض عليها منذ عام 1997 – أي نحو عقدين من الزمان – ونتيجة بعض الأخطاء في رسم السياسات الاقتصادية الكلية وتبنّيها، فإن التفكير الجاد في تقليص عدد الولايات السودانية يظل واحداً من الخيارات المهمة، لتقليل الصرف والإنفاق العام، وإعادة التوازن في الولايات بما يتسق والكفاية الاقتصادية. إن الإعلان عن تقليص عدد الولايات يمثل تحدياً كبيراً لصنّاع القرار السياسي على المستوى الاتحادي، ولكنه في ذات الوقت يمكن أن يكون سهـلاً وميسوراً إذا ما أوكل الأمر إلى الخبراء المختصين في قضايا الحكم والإدارة، والاقتصاديين، وذلك من خلال إعداد الدراسات وتقييم الوضع الراهن بالمنهج العلمي الصارم، وإجراء البحوث المتعمقة برؤية نقدية تقارن بين الواقع والمثال، ولا تُغفل الاستهداء بتجارب مشابهة وناجحة. وفي هذا الخصوص – وبالنظر إلى الولايات القائمة في السودان – فإن تقديم دفوعات ومبررات كافية لفوائد التقليص من ناحية خفض التكلفة المالية وتطوير الإدارة الرشيدة، وإنشاء بناء تنظيمي أفضل، من شأنه أن يساعد على تحقيق التوازن الخدمي التنموي بين ولايات السودان الجديدة كافة.

2 – دمج وتقليص المحليات في ولايات السودان

إن معالجة ازدواجية القرار بين الحكومة الفدرالية والولايات والمحليات، والعمل من أجل إصلاح الاختلالات منعاً لتمدد واتساع السلطات على مختلف مستويات الحكم الثلاثة، من الأفضل أن يعالج جذرياً. ولا بد من إحكام التنسيق في إطار العلاقات البينية، وبخاصة في مستوى الحكم المحلي الذي يمثل قاعدة البناء الفدرالي. ورغم أن القانون الإطاري للحكم المحلي الإطاري لسنة 2017 قد عالج مسألة إنشاء المحليات الجديدة – كما ذكر من قبل – فإن المحليات القائمة ذاتها يجب أن يعاد النظر فيها من حيث العدد‏[30]. وتقتضي المعالجة في هذه الحالة أن يتم تقليص عدد المحليات القائمة حالياً إلي أقل عدد ممكن، بحيث لا يتجاوز عددها مئة وعشرين محلية بدلاً من مئة وتسع وثمانين محلية، بواقع خمس إلى سبع محليات في كل ولاية. إن هذا التقليص المقترح من شأنه أن يوفر الكفاية الاقتصادية للمحلية، ويقلل من الصرف على أجهزة الحكم المحلي، ويمكّن المحليات من تقديم الخدمات الأساسية بقدر معقول ومرضٍ للمواطنين، في الرقعة التي تمثلها المحلية. الهدف من التقليص ينبغي أن لا يكون هو تقليل العدد فحسب، وإن كان هذا مطلوباً وبشدة. وإنما الهدف منه ينبغي أيضاً أن يكون رفد قيادة المحلية بكوادر ذات خبرة ومهارات وقدرات جيدة، وذلك لإنفاذ الخطط المجازة من المجالس المحلية بما يحقق الأهداف المرسومة بأكبر قدر ممكن، وبما يؤدي إلى رضا المواطنين في المحليات بمستوى الخدمة المقدمة لهم والتنمية المحققة في محلياتهم.

3 – إصلاح العلاقات المالية الرأسية والأفقية بين أنظمة الحكم

لقد اهتمت الأدبيات الأولية لدراسة الفدرالية المالية بالتركيز على مفهوم التحويلات المالية الداخلية (من الحكومة الاتحادية إلى الحكومات الولائية)، بينما تهتم الأدبيات الحديثة بمفهوم السياسات المالية المتعلقة بالتغيرات المؤسسية. والتنوع المطلوب في السلطات الممنوحة للولايات من قبل الحكومة الاتحادية، وبخاصة في البلدان النامية كما هو الحال في السودان.

من هنا تأتي أهمية إصلاح المالية العامة في السودان لاحتواء التصاعد في عجز الموازنة العامة في البلاد، وذلك من طريق خفض الإنفاق الحكومي من خلال إجراءات عديدة أمثل، من أهمها إزالة الدعم عن السلع تدريجياً واستبداله بنظام الدعم المباشر. يضاف إلى هذا إعادة هيكلة الدولة في كل مستوياتها الاتحادية والولائية والمحلية، لخفض التكلفة الإدارية ومراجعة تحويلات الولايات، وإعادة جدولة المديونيات الداخلية والخارجية وهيكلة الإنفاق، إلى جانب ترشيد الصرف والالتزام بأولويات الموازنة، ومنع الصرف خارج الموازنة.

إن مستقبل الفدرالية المالية في السودان مرهون بإيجاد معايير وأوزان جديدة، تهتم بموضوع قسمة الموارد المالية بين الحكومة الاتحادية والولايات. وذلك من خلال نظرة شاملة تركز على أهمية بقاء الدولة السودانية والحفاظ على وحدة التراب السوداني. وفي الوقت الحاضر فإن الفدرالية المالية لا تجد رضا اجتماعياً عن إنجازاتها، وبالأخص في ولايات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وقد تمثل هذا الشعور بتداعيات الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير المستقرة في هذه الولايات. لذا فإن إصلاح العلاقات الرأسية بين الحكومة الاتحادية والولايات يجب أن يتنزل حتى مستوى المحليات، وذلك باعتبار المحلية قاعدة البناء للحكم اللامركزي في السودان، على أن تكون القسمة للموارد المالية عادلة، تستند إلى معايير وأوزان تراعي النسب التي توزع بها كما في تجارب الدول التي أخذت بالنظام الفدرالي، سواءٌ المتقدمة أم النامية. وفي الوقت نفسه، فإن الإصلاح المالي يقتضي أيضاً إعادة النظر في العلاقات الأفقية على مستوى الولايات، أي بين المحليات داخل الولاية الواحدة من أجل إحداث التوازن في توزيع الموارد المالية بين المحليات المختلفة، وفق معايير تراعي حاجة المحلية ومراعاة حالة كونها مكتفية ذاتياً أو فقيرة تعتمد على الولاية والمركز بالكامل‏[31].

4 – الديمقراطية وإصلاح الحكم اللامركزي

أصبح الأخذ في النظام الديمقراطي في عالم اليوم من المسائل الحتمية لأي نظام سياسي يتطلع إلى الاعتراف به إقليمياً ودولياً، وإلى التعاون مع دول الإقليم والعالم بأسره، بما تمليه قوانين المنظمات والاتحادات الإقليمية والمنظمة العالمية. «إن التحول الديمقراطي يحتاج إلى جهد كبير، وإرادة قوية، ورغبة من القادة السياسيين الحاكمين والمعارضين في الدولة الواحدة على حد سواء»‏[32]. وفي حالة السودان فإن الإصلاح المعني بالحكم اللامركزي يتجلي في تعزيز الديمقراطية، وتقوية الرقابة البرلمانية (في المجلس الوطني والمجالس التشريعية الولائية والمحلية). وذلك من أجل ضبط تجاوزات وفساد الأجهزة التنفيذية المركزية في العاصمة، وكذا في الولايات والمحليات بأسرها، والاستمرار في تقديم المختلسين للعدالة الناجزة، بما يحقق حفظ المال العام ويعزز الارتكاز على مبدأ المساءلة كأحد الأبعاد الستة للحوكمة الرشيدة (أي المشاركة، وحكم القانون، والعدالة، والشفافية، والمحاسبة، والاستجابة). من جانب آخر، فإن تطبيق السودان الصيغة الفدرالية في بيئة ديمقراطية مكتملة، ومنح الولايات والمحليات قدراً من الحكم الذاتي مع تقوية سلطات الحكومة الفدرالية (المركز)، سوف يمنع الولاية من التفكير والإقدام على الانفصال عن الدولة الأم. فالنظام الفدرالي الذي يستند إلى القانون واحترام حقوق الأقليات أكثر قابلية للنجاح من النظام الشكلي، لأنه كذلك يجمع ما بين الوحدة والتعددية ويعزز الاتحاد السياسي ضمن وحدة أكبر حجماً‏[33].

خواتيم وتوصيات

يحتاج السودان إلى مراجعة تجربته في الحكم اللامركزي شكـلاً وتقييمها في محتواها، والعدول عنها إلى نمط فدرالي جديد يعتمد على مناهج مبتكرة لتطبيق فكرة الفدرالية بما يساعد على تحقيق الإصلاح الإداري والمالي، ويقنن المشاركة السياسية. ومن الأهمية أن يدرك متخذو القرار السياسي في الوقت نفسه أن الفدرالية يمكن أن تتعرض للفشل إذا لم تطبق بشروطها القبلية التي أشرنا إليها في متن المقال.

ولا يخفى على الكثيرين أن هنالك رؤى مختلفة للفدرالية حاول أصحابها إسقاطها وتهميشها وإعاقة تطبيقها في البلاد، فحالوا دون قطف ثمار الفدرالية في السودان. من هنا تتبدى أهمية الاستهداء بالتجارب الفدرالية الناجحة في الحكم على المستوى الإقليمي والعالمي. كما أن هنالك ضرورة ملحة إلى البحث عن دستور جديد يتضمن تعريفاً واضحاً لنظام الحكم بأنه نظام (اتحادي) فدرالي وليس لامركزي، على أن يطبق في نظام رئاسي مكتمل الأركان. وفي الوقت نفسه جعل المستوى الثالث للحكم (المحليات) مستوىً أصيـلاً بنص الدستور مع تحديد نصيبه من الإيرادات القومية كنسبة في الدستور القادم.

إن الاهتمام بالجوانب الإدارية واختيار العناصر المقتدرة والمدربة أمر تقتضيه المرحلة الراهنة في السودان، لأن العنصر البشري هو أساس نجاح العملية الفدرالية. وقد خلص المقال إلى أن المحليات تحتاج إلى تقليص من خلال الدمج، وتفعيل عملها بما يجعلها قادرة على تقديم الخدمات وتحقيق التنمية للمواطنين بصورة أفضل. وهنالك أهمية قصوى لاختيار أعضاء مجالس الحكم المحلي من طريق الانتخابات في الدورة المقبلة لعام 2020، ذلك لأن الحكم المحلي يمثل قاعدة البناء الفدرالي. وفي هذا الصدد فإن الديمقراطية هي أحد أهم مقومات نجاح الفدرالية، ويجب أن يؤخذ فيها في جميع مستويات الحكم – لأن في ذلك إشاعة للحريات وتوسيعاً للمشاركة السياسية على مستويات الحكم كافة، ولا سيَّما المشاركة القاعدية. إن الوعي السياسي الجمعي للسودانيين يجب أن يحسم نهائياً لصالح الديمقراطية والشورى قيماً وسلوكاً، لتحقيق الهدف المنشود في بناء نظام حكم فدرالي ديمقراطي يحمي المواطن ويحفظ له حقوقه وحرياته. فالديمقراطية تؤدي إلى الاستقرار السياسي، والتداول السلمي للسلطة، وتعد عامـلاً رئيساً ومهماً في تقليل الفساد الإداري.

من أهم التوصيات

1 – الإبقاء على النظام الفدرالي في النظام الرئاسي كصيغة فضلى لحكم السودان، مع التأكيد أن الفدرالية لا تتعايش إلا مع الديمقراطية، التي يجب أن تترسخ أكثر في جميع مستويات الحكم الفدرالي.

2 – تقوية الرقابة البرلمانية (في المجلس الوطني والمجالس التشريعية الولائية وإقامة المجالس المحلية) من أجل ضبط تجاوزات وفساد الأجهزة التنفيذية المركزية والولائية والمحلية، وتقديم المختلسين للعدالة الناجزة.

3 – إعادة النظر في تقليص عدد المحليات القائمة الآن في السودان إلى أقل عدد ممكن، لأن ذلك من شأنه أن يوفر الكفاية الاقتصادية للمحلية، ويقلل المصروفات على أجهزة الحكم المحلي، ويمكّن المحليات من تقديم الخدمات الأساسية بقدر معقول.

4 – إصلاح المالية العامة لاحتواء التصاعد في عجز الموازنة العامة في البلاد من طريق خفض الإنفاق الحكومي، وذلك من خلال إعادة هيكلة الدولة في كل مستوياتها الاتحادية والولائية والمحلية لخفض التكلفة الإدارية.

5 – أهمية قيام المجالس المحلية كجهاز رقابي يساعد على ضبط عمل المعتمد بالمحلية وفق الخطة التي يجيزها المجلس، والتركيز على أولويات المحلية في تقديم الخدمات الأساسية والتنمية.

6 – معالجة ازدواجية القرار بين الحكومة الفدرالية والولايات والمحليات، والعمل على إصلاح تمدد واتساع السلطات على مختلف مستويات الحكم الثلاثة، إلى جانب إحكام التنسيق في إطار العلاقات البينية وبخاصة في مستوى الحكم المحلي.

 

قد يهمكم أيضاً  النزاع الحدودي الإثيوبي-السوداني.. دوافع التصعيد ومآلاته

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #السودان #الحكم_في_السودان #نظام_الحكم_في_السودان #اللامركزية #الفدرالية #الديمقراطية_في_السودان #السودان_بين_اللامركزية_والفدرالية #انفصال_جنوب_السودان