تمهيد:

تُعد السيادة من بين أهم المبادئ التي ابتكرها الفكر السياسي على الإطلاق. لقد عمل الفقهاء والفلاسفة في القرن الثامن عشر على تغيير وظيفتها ونقلها من مبدأ يتجسد في شخص الملك‏[1]، إلى مبدأ يدخل في المجال الخاص بالشعب‏[2] يوظفه على النحو الذي يجعله يتحكم في القرار السياسي، على اعتبار أن الدولة هي شأن من شؤون الشعب دون سواه. غير أن هذا الأخير لا يمكنه أن يتكلم أو يدبر شؤونه إلا من طريق ممثليه‏[3]، الذين لا يقتصر دورهم على التعبير عن إرادة الأمة بل يعتبرون بمنزلة الجهاز الذي تتبلور من خلاله تلك الإرادة‏[4].

إن مفهوم التمثيلية في النسق السياسي المغربي يختلف تماماً عن مدلولها في الأنظمة الديمقراطية. من هذا المنطلق، تتخذ السيادة (على غرار المبادئ والآليات الأخرى من فصل سلطات، وتناوب، وحزب سياسي ودستور واستفتاء… إلخ) مفهوماً محلياً يتماشى ومفهوم السلطة في النظام السياسي المغربي التي تجمع بين مصدرين مختلفين للشرعية: شرعية ملكية، ذات المصادر المتعددة (دينية، تاريخية، وراثية، شريفية، دستورية… إلخ) وشرعية ديمقراطية منبثقة من صناديق الاقتراع.

من هنا سيعالج المطلب الأول مفهوم السيادة في دستور 2011؛ والمطلب الثاني ممارسة السيادة من خلاله.

أولاً: الثقافة الإجماعية وأثرها في مفهوم السيادة بالمغرب

يعد الانتخاب الوسيلة الأساسية التي يمارس المواطن من خلالها حقه في السيادة. يعبر دستور 2011 بصورة جلية عن التلازم الموجود بين السيادة والانتخاب كآلية لتفويض السلطة السياسية وممارستها من طريق المؤسسات التمثيلية، حيث ينص: «السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها. تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالانتخاب الحر والنزيه والمنتظم»‏[5].

في حين ينص الفصل 24 من دستور 2011 على اعتبار: أن «الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى…». إذا كانت المؤسسات المنتخبة تعمل على تمثيل الأمة على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية، فالملك هو الممثل الأسمى للدولة‏[6] التي تعتبر الأمة أحد مكوناتها ليس إلا. بذلك يكون الدستور الجديد بارتقائه بالملك من ممثل أسمى للأمة إلى ممثل أسمى للدولة يؤكد بقوة أكبر سمو المؤسسة الملكية على حساب المؤسسات التمثيلية (الأحزاب السياسية، البرلمان، الحكومة) التي تبقى في مرتبة دونية بالمقارنة مع التمثيلية السياسية العالية للمؤسسة الملكية.

من هذا الباب يعطي النص الدستوري، في تقديرنا الشخصي، للسيادة معنى مزدوجاً يتماشى ونوْعَي الشرعية المميزتان للخصوصية المغربية في مجال ممارسة السلطة السياسية: الشرعية الديمقراطية والشرعية الملكية اللتان تتعايشان مبدئياً في انسجام تام، لكن بتراتبية مختلفة وجد ملحوظة.

1 – الشرعية الديمقراطية

تتنافس الأحزاب السياسية على السلطة السياسية من خلال برامج انتخابية تعبِّر عن تطلعات وأماني المواطنين في ظرفية زمنية معينة. وعليه تعبِّر المؤسسات التمثيلية المنبثقة من صناديق الاقتراع والمتمتعة بالشرعية الديمقراطية، عن حاجات المواطن المغربي في ظرفية محددة، مرتبطة بالحاضر على المستوى الزمني.

إن المؤسسات المنتخبة تمارس سيادة محدودة بموازاة المهام والوظائف الموكولة لها من طريق الانتخاب الذي ما هو إلا تفويض للسلطة مقيد بطبيعته بقيود قانونية وأخرى زمنية. إن ممثلي الشعب هم بمثابة وكلاء. لكن كلا الوكالتين، الآمرة والتمثيلية، تشوبهما مجموعة من النواقص. الأولى تقيد من سلطة الوكيل بحيث تلزمه بتوجهات موكله، والثانية تعطيه الحرية المطلقة في الانفراد باتخاذ القرار دون الاكتراث بآرائهم‏[7]. الأمر الذي يعطل سير المؤسسات في الحالة الأولى ويحول دون الاستجابة للحاجات الحقيقية للمواطن في الحالة الثانية.

إن مفهوم السلطة السياسية في النظام السياسي المغربي، القائم على إقصاء الوسطاء بين الملك والشعب (الراعي والرعية)، يجعل المؤسسات المنتخبة تضطلع بوظيفة تمثيلية ثانوية مقارنة بالتمثيلية السامية والمتعالية للمؤسسة الملكية.

يختار الشعب ممثيله من طريق الاقتراع العام والشامل، وبالتالي يختار من يرتضيه لتدبير الشأن العام الذي تحدد التوجيهات السامية للملك رئيس الدولة وممثلها الأسمى معالمه الكبرى. بمعنى آخر، إن هذه المؤسسات المنتخبة تتمتع باختصاصات مقيدة، على مختلف مناحيها، بالسلطة الملكية التي تنفرد بسلطة القرار السياسي الاستراتيجي. وهو وضع يجعلها في خضوع تام لتوجيهات الملك وتنفيذ قراراته وأوامره، وهي كلها خصائص مميزة للوكالة الآمرة. هذه الأخيرة فقط لا تمارس من قبل الشعب‏[8] بل من قبل الملك الممثل الأسمى للدولة والساهر على «صيانة الاختيار الديمقراطي»‏[9].

إن المؤسسات المنتخبة، إلى جانب تمتعها بسلطات محدودة وغير ذات قيمة على مستوى اتخاذ القرار السياسي الاستراتيجي من جهة وخضوعها للمحاسبة من جهة ثانية، فهي لا تتمتع بحرية كاملة في ممارسة الوظائف والمهام الموكولة إليها بحيث تبقى مقيدة على مستويات متعددة:

أ – يخول الدستور للملك بوصفه سلطة تمثيلية سامية، حق مخاطبة الأمة والبرلمان‏[10]. يعتبر الخطاب الملكي بمنزلة برنامج سياسي حقيقي يحتوي على إجراءات تشريعية يكون النواب مدعوين إلى الامتثال إليها والالتزام بها‏[11]. بل أكثر من ذلك، نجد بعض مشاريع القوانين المحالة على البرلمان تتضمن فقرات من الخطب الملكية‏[12]. هذا ويتمتع الملك بحق طلب قراءة جديدة لكل مشروع أو اقتراح صوَّت عليه البرلمان، بهدف إيقافه ومنعه‏[13]. وبالتالي فهو اعتراض ملكي على الاقتراحات والمشاريع القانونية. فضـلاً عن حقه في إصدار الأمر بتنفيذ القانون‏[14]، والانفراد بمبادرة التشريع في المجال الديني بموجب الفصل 41 من الدستور وعرض مشروع مراجعة بعض مقتضيات الدستور على البرلمان بمقتضى ظهير‏[15].

ب – إن نمط الاقتراع النسبي من طريق أكبر البقايا المعمول به منذ عام 2002‏[16]، لا يمكنه بأي حال من الأحوال إفراز أغلبية واضحة مؤهلة لتأليف حكومة منسجمة قادرة على تدبير الشأن العام‏[17]. إنه يوسع تمثيلية الأحزاب السياسية داخل قبة البرلمان، بهدف تمثيل أكبر عدد من الشرائح الاجتماعية ونقل مطالبها داخل هذه المؤسسات التمثيلية الدونية، لبلورتها وصياغتها في قالب إجماعي وحدوي يتماشى وتوجيهات، وأحياناً أخرى أوامر، الملك، الممثل الأسمى للدولة ورمز وحدتها‏[18]. هكذا تصبح الأحزاب السياسية غير فاعلة وبالتالي عاجزة عن القيام بالمهام الدستورية والسياسية الموكولة لها.

ج – يُعد مجلس الحكومة، كمؤسسة منبثقة من صناديق الاقتراع، من بين أهم المستجدات التي جاء بها دستور 2011. غير أن هذا الأخير جعل من هذا المجلس مؤسسة تشتغل في ظل المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك‏[19] والذي ينزل فيه العاهل المغربي بكل ثقله الرمزي والديني والدستوري. في هذا الاتجاه ينص الفصل 92 من الدستور على ما يلي: «يتداول مجلس الحكومة […] في […] السياسة العامة للدولة قبل عرضها على المجلس الوزاري».

إن تقييد إرادة الحكومة، كمؤسسة منبثقة من صناديق الاقتراع، في مجال الالتزام بتطبيق برنامجها، بالإرادة الملكية، يمس، بصورة ملحوظة، بجوهر التعاقد الموجود بين الناخبين وممثليهم.

د – إن المؤسسات التمثيلية، بالرغم من الشرعية الديمقراطية التي تتمتع بها، تمارس مهامها من طريق التفويض الذي يمكن أن ينتزع منها في أي لحظة بمقتضى ما يتمتع به الملك من سلطات فعلية من خلال الفصلين 47‏[20] و51‏[21] من الدستور المتعلقين، على التوالي، بإعفاء أعضاء الحكومة‏[22] وحل مجلسَي البرلمان.

2 – الشرعية الملكية

إن تعدد مصادر الشرعية التي تنفرد بها المؤسسة الملكية دون غيرها، تجعلها تنشر بظلالها لتغطية كل فضاءات النسق السياسي المغربي (ديني – دنيوي، عصري – تقليدي، حضري – قروي … إلخ) ممتدة بذلك بعيداً إلى الماضي (14 قرناً) متطلعة إلى المستقبل مروراً بالحاضر.

هذا التصور، المتحكم في الثقافة السياسية المغربية، يجعل المؤسسة الملكية هي الوحيدة المؤهلة لتجسيد سيادة الأمة، التي تعرف من الناحية القانونية بكونها «جماعة سياسية» وليست «جماعة اجتماعية». إن الأمة في رأي «سييس» تمكن الجماعة البشرية، أي الشعب، من التحرر من مظاهر الاختلاف والتنوع (عرقية، لغوية، دينية…) التي تميز كل مكوناتها‏[23]، متطلعة إلى تحقيق وحدة الجماعة البشرية التي تمثلها، والتي يعتبر الملك، في هذه الحالة، رمزاً لوحدتها.

من هذا الباب، ليست المؤسسة الملكية محدودة بالزمن، بل تتزامن والزمن. لعل التعبير السائد في الملكيات: «مات الملك، عاش الملك» يزكي هذا الطرح . بمعنى أن الملك يموت والمؤسسة تبقى دائمة ومستمرة لأن دوامها من دوام الدولة. هذا ما يؤكده الفصل 42 من الدستور؛ «الملك، رئيس الدولة وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها…»

هذا التصور فيه انسجام تام ومفهوم الأمة التي لا تقتصر على الحاضر، بل تتجاوزه إلى الماضي والمستقبل في ذات الوقت من جهة، ومفهوم المحاسبة الذي نص عليه الدستور من جهة ثانية. بحيث إن المؤسسات المنبثقة عن صناديق الاقتراع، والمتمتعة بتفويض السلطة، تحاسب عن أدائها، الأمر الذي يجعل المواطن سيد القرار إما بإعادة التصويت عليها أو معاقبتها بالتصويت على أغلبية أخرى. بينما تبقى المؤسسة الملكية، غير معنية بالمحاسبة، بالرغم من كونها تنفرد لوحدها باحتكار القرار السياسي الاستراتيجي.

إن النظام الرقمي – الأغلبي، الذي تقوم عليه الشرعية الديمقراطية، يحدث شرخاً في الجسد المغربي، وبالتالي يقوض مرتكزات الثقافة الاجماعية التي تعتبر الملكية راعية لها.

من هذا الباب تُعدّ الانتخابات كآلية لتفويض السلطة السياسية بمثابة مرحلة أولية لوضع صورة يتم من خلالها رسم مختلف توجهات المواطن المغربي وتحديدها، كتعبير عن مظاهر الاختلاف والتعدد المميزة للمجتمع المغربي في حقبة زمنية معينة، لتبلورها في مرحلة ثانية في قالب إجماعي – وحدوي، يتجاوز الطابع الرقمي – الإقصائي الذي تنمحي في إطاره أماني الأقلية لصالح الأغلبية.

لقد أعطى الدستور المغربي للمؤسسة الملكية، كمؤسسة سامية وعالية، مقوّمات تفعيل مبدأ الإجماع، لتجاوز مظاهر الإعوجاج والنواقص‏[24] التي قد تشوب الشرعية الديمقراطية التي قد تنحو نحو دكتاتورية الأغلبية‏[25] والتي قد تحدث شرخاً في الجسد المغربي، يقوض وحدة الأمة التي يعتبر الملك رمزاً لها. الأمر الذي يجعل الدستور المغربي يعطي للديمقراطية مفهوماً لا يتوقف عند مصدرها (العنصر الرقمي) بل يتجاوزه إلى مضمونها كما أكد ذلك أندريه فيليب (André Philippe) أمام لجنة الدستور الفرنسية، حيث طالب حينها بوجوب احترام القيم الأخلاقية المميزة «لحضارة جماعة وطنية معينة»‏[26] باعتبارها روح الديمقراطية.

إن تعدد مصادر الشرعية التي تنفرد بها المؤسسة الملكية، جعلت الدستور المغربي، عبر مختلف أبوابه، يمنح الملك مكانة سامية تجعله يتمتع بحرية مطلقة في اتخاذ القرار الاستراتيجي على كل المستويات، سواء منها تلك الدينية أو الدنيوية، الأمر الذي يجعله يخترق كل مجالات النظام السياسي المغربي، ليحضر كفاعل أصيل يجسد وحدة السلطة السياسية، متجاوزاً مبدأ فصل السلط بمستوييه الأفقي (السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية) والعمودي (الحقل الديني والحقل السياسي)‏[27] الذي يعتبر خاصية أساسية لأهم مستجد جاء به دستور 2011، وهو اعتبار نظام الحكم في المغرب: ملكية برلمانية‏[28].

يتمشى هذا التصور ومفهوم الوكالة التمثيلية التي هي بطبيعتها وكالة غير محدودة‏[29]. لعل الدستور المغربي، بالرغم من التعديلات التي جاء بها، صيغ، عبر مختلف أبوابه، بشكل يحقق هذا المبتغى: حرية المؤسسة الملكية في التنقل بين الحقلين الديني (إمارة المؤمنين) والدنيوي (الملكية الدستورية) وبالتالي التحكم في اتخاذ القرار بكل أشكاله.

خاصية تؤكد مدى سمو المؤسسة الملكية على المؤسسات المنتخبة، موضوع المحاسبة، التي تحظى بتمثيلية دونية مقارنة بالتمثيلية السامية والمتعالية للملك، الذي يعتبر، بامتياز، مؤسسة المؤسسات.

إن مظاهر السمو هذه، التي تنفرد بها المؤسسة الملكية دون تلك المنبثقة من صناديق الاقتراع، تجعل منها المجسد الفعلي والحقيقي لسيادة الأمة. هذا ما يتأكد من خلال العنوان الموالي.

 

ثانياً: السيادة بين سمو الشرعية الملكية ودونية الشرعية الديمقراطية

لقد جاء الدستور الجديد بشكل ينسجم والثقافة السياسية السائدة في النظام السياسي المغربي التي تجعل من المؤسسة الملكية، كراعية لثقافة الإجماع، حجر زاوية النظام السياسي المغربي والمحور الذي تدور في فلكه باقي المؤسسات على اختلاف مصادرها ومراتبها. إنها تتمتع بوظائف سيادية وتحكيمية، تجعلها تتحكم في كل وسائل القرار الاستراتيجي. وهذا يجعل مصير هذه المؤسسات المنتخبة رهين إرادة المؤسسة الملكية‏[30].

لعل امتلاك سلطة التعيين من جهة والتحكم في السلطة التأسيسية من جهة ثانية يُعدان أهم مظاهر تجسيد السيادة في شخص المؤسسة الملكية، بحيث يؤكدان مدى سمو هذه الأخيرة مقارنة بالمؤسسات المنبثقة عن صناديق الاقتراع.

1 – سلطة التعيين

يتمتع الملك بسلطات واسعة في مجالي تعيين الوزراء، وكبار موظفي الدولة.

أ – تعيين وإعفاء الوزراء

على خلاف دستور 1996 الذي كان يعطي الحرية المطلقة للملك في مجال تعيين الوزير الأول، قيد دستور 2011 من سلطته في هذا الباب. تنص الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور على ما يلي: «يعيّن الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدَّر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها» .

في الاتجاه نفسه تضيف الفقرة الثانية من نفس الفصل: «ويعين [الملك] أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها».

من خلال ما سبق يمكن إبداء الملاحظتين التاليتين:

(1) الملك رمز سيادة الأمة يتولى تعيين رئيس أسمى مؤسسة تمثيلية منبثقة من صناديق الاقتراع وباقي أعضائها باقتراح منه (رئيس الحكومة)؛ الأمر الذي يؤكد التدخل الفعلي للمؤسسة الملكية في مجال السلطة التنفيذية‏[31] وسموِّها الجلي على المؤسسات المنتخبة‏[32].

(2) بالرغم من أهمية التضييق الذي شاب سلطة الملك، فإنه في المقابل، يتمتع بحرية مطلقة في مجال اختيار الشخصية السياسية التي يرتضيها لتولّي رئاسة الحكومة من بين قيادات الحزب الفائز بالانتخابات والتي ربما لا تكون بالضرورة الأمين العام للحزب.

في المقابل نلاحظ أن دور رئيس الحكومة ينحصر فقط في اقتراح لائحة الأشخاص المرشحين للتوزّر ليس إلا. في حين يبقى للملك الصلاحية المطلقة لرفض أو قبول الاقتراح الذي تقدم به رئيس الحكومة وبالتالي تبقى صلاحية تعيين الوزراء من المجالات المحفوظة للملك، الأمر الذي يجعل الفصل 47 من الدستور يؤكد، بامتياز، الطابع التنفيذي للملكية المغربية.

إن علاقة المؤسسة الملكية بأعضاء الحكومة تتجاوز تعيينهم لتمتد إلى إعفائهم دون أي قيد ما عدا استشارة رئيس الحكومة‏[33]، وهو إجراء شكلي ليس له أي تأثير في سلطة الملك‏[34]. أما سلطة رئيس الحكومة، في هذا المجال، فهي مقيدة بتقديم طلب إلى الملك الذي له الصلاحية المطلقة، كما هو الحال بالنسبة إلى اقتراح التوزير، في قبوله أو رفضه.

إن تعيين وإعفاء الوزراء من قبل الملك واستنبات وزراء السيادة يجعلنا أمام ثنائية رئاسية تختلف من حيث تراتبيتها، تدفع أعضاء الحكومة إلى التسليم بأن مصيرهم السياسي مرهون بالملك‏[35]. مبررات تضعف من سلطة رئيس الحكومة أمام أعضاء حكومته من جهة، وتحول دون تمكينه من تنفيذ البرنامج الحكومي باستقلالية تامة من جهة ثانية.

عوامل تزيد من تعميق إحساس المواطن بسمو المؤسسة الملكية على حساب المؤسسات التمثيلية، على اعتبار أن السلطة موجودة بين يدي الملك دون الحكومة. في حين يقتصر دور الأحزاب، بالرغم من التعديلات التي كانت موضوعاً لها، على الترشيح للانتخابات دون التطلع إلى وظيفتها الأساسية والأصلية: ممارسة السلطة السياسية‏[36]. هذا ما يزيد من إضعاف الأحزاب السياسية وتقزيمها وبالتالي فقدان المواطنين الثقة فيها وفي باقي المؤسسات التمثيلية الأخرى.

ب – التعيين في الوظائف المدنية السامية

كما هو معلوم، حتى يتمكن الفريق الحكومي من ضمان تنفيذ برنامجه بالشكل المرغوب فيه وإنجاح سياساته القطاعية في مختلف المجالات، يجب أن يتمتع بصلاحيات واسعة في مجال تعيين الأشخاص الذين يرى أنهم يؤمنون ببرنامجه وأهدافه من جهة، ومؤهلون لتدبير الشأن العام بمهنية ومسؤولية من جهة ثانية.

تحقيقاً لهذا الغرض، أعطى الدستور الجديد صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة، في هذا المجال، لتمكينه من تدبير الشأن العام والإشراف على الإدارة العمومية والقطاعات الحيوية في البلاد. في هذا الاتجاه ينص الفصل 91 من الدستور على ما يلي: «يعين رئيس الحكومة في الوظائف المدنية، في الإدارات العمومية وفي الوظائف السامية في المؤسسات والمقاولات العمومية».

أكيد أن دستور 2011 قلّص اختصاصات الملك في مجال التعيين في المناصب السامية، بتمكينه رئيس الحكومة من سلطات مهمة في هذا الباب، لكنه قيدها في الوقت نفسه بمقتضيات الفصل 49 على مستويين:

أولاً، استثناء بعض الوظائف الحيوية والحساسة وإخراجها من مجالات سلطة رئيس الحكومة‏[37]. في هذا الاتجاه ينص الفصل 49: «يتداول المجلس الوزاري في القضايا والنصوص التالية: […] التعيين باقتراح من رئيس الحكومة، وبمبادرة من الوزير المعني، في الوظائف المدنية لوالي بنك المغرب، والسفراء والولاة والعمال، والمسؤولين عن الإدارات المكلفة بالأمن الداخلي، والمسؤولين عن المؤسسات والمقاولات العمومية الاستراتيجية».

ثانياً، بخلاف الفصل 91 الذي يتحدث عن «المؤسسات والمقاولات العمومية» يتحدث الفصل 49 عن «المؤسسات والمقاولات العمومية الاستراتيجية التي سيحدد قانون تنظيمي لائحتها»‏[38]. وهذا ما يطرح إشكالاً كبيراً يتعلق بتحديد المعايير التي قد تجعل من مؤسسة أو مقاولة عمومية معينة تكتسي طابعاً استراتيجياً دون غيرها وبالتالي إدخالها ضمن المجال الخاص بالملك دون رئيس الحكومة‏[39].

لقد كان تأويل هذين النصين موضوع خلاف كبير بين الباحثين المغاربة؛ ولعل ذلك يرجع إلى كون الخلاف في شأن هذين الموضوعين هو مظهر من مظاهر الخلاف حول جوهر السلطة السياسية بالمغرب وصراع حول من له أحقية ملكية القرار السياسي الاستراتيجي: هل المؤسسات المنتخبة أم المؤسسة الملكية؟ بمعنى آخر إن الصراع حول هذين الموضوعين يحيل ضمنياً على الصراع حول المؤسسة التي تستحق تجسيد السيادة.

إن المشرع المغربي لم يشر إلى القطاعات الواردة في الفصل 49 بشكل عرضي أو عفوي بل تم انتقاء هذه القطاعات لأهميتها الحيوية بالنسبة إلى سيادة البلاد: الأمن، الخارجية…، فضـلاً عن أن إدراجها في الباب الخاص بالملكية له أكثر من معنى بحيث يدخل في المجال الحصري للمؤسسة الملكية التي تنفرد بتجسيد السيادة دون غيرها من المؤسسات الدستورية الأخرى أياً كان مصدر شرعيتها. لو لم يكن الأمر بهذه الأهمية لما تم اللجوء إلى استخلاصها من سلطة رئيس الحكومة، الذي بالرغم من كونه مؤسسة منبثقة من صناديق الاقتراع وبالتالي مظهراً للتعبير عن الإرادة الشعبية كحال من أحوال تجسيد سيادة الشعب، فهو يمثل سيادة محدودة من الناحية الزمنية وبالتالي وجوده في مرتبة أدنى من تلك التي يجسدها الملك: أي سيادة الأمة التي يعد الاستقرار روح استمرارها ودوامها، الأمر الذي يقتضي التحكم في وسائل القرار الاستراتيجي بمعنييه الاقتصادي والسياسي، اللازمين لضمان الاستقرار السياسي للبلاد‏[40].

هذا من جهة. ومن جهة ثانية، حتى إذا ما افترضنا عرضاً أن سلطة الملك في هذا الباب تتوقف عند التداول بدل التعيين، فإن رئاسة الملك للمجلس الوزاري ليست رئاسة شرفية أو فخرية بقدر ما هي رئاسة فعلية‏[41]، والتداول بشأن القضايا المطروحة عليه، تعطي للملك، الممثل الأسمى للدولة، السلطة المطلقة في قبول أو رفض أي اقتراح. بحيث لا أحد يلزمه بقبول الاقتراح موضوع التداول، لكن رأيه ملزم لكل أعضاء المجلس الوزاري.

2 – السلطة التأسيسية الفرعية

تكتسي السلطة التأسيسية، بنوعيها الأصلية والفرعية، أهمية بالغة. إن السلطة التي تمتلك السلطة التأسيسية هي التي تتحكم في مصير كل السلطة‏[42] السياسية ومترتباتها. لهذا الاعتبار، كانت موضوع صراع حاد بين الأحزاب المنبثقة من الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية‏[43]. صراع انتهى في آخر المطاف لصالح هذه الأخيرة لاعتبارات عدة نذكر من بينها: تمتع المؤسسة الملكية بمشروعية تاريخية، ضاربة في القِدم، تتجاوز تلك التي تتمتع بها الأحزاب الوطنية من جهة، وانفرادها بالمشروعية الدينية التي تجعل من الملك – أمير المؤمنين، راعياً، باسم عقد البيعة، لأمور الرعية (الأمة) من جهة ثانية. في هذا الاتجاه يقول الحسن الثاني: «هذا الدستور […] هو قبل كل شيء تجديد للبيعة المقدسة التي جمعت دائماً بين الشعب والملك»‏[44].

لقد جاء دستور 1970 بتعديلات جوهرية في مجال السلطة التأسيسية، قيَّدت على نحوٍ ملحوظ سلطة البرلمان وأقصت الوزير الأول عن أي مبادرة في هذا المجال. وهو وضع، جعل الأحزاب السياسية تعي مدى استحالة إمكان قيامها بأي مبادرة من داخل قبة البرلمان، لتلجأ إلى أسلوب المذكرات كوسيلة جديدة للمطالبة بالإصلاحات الدستورية. وهو سلوك يفسر بمنزلة اعتراف ضمني بانفراد المؤسسة الملكية باختصاص السلطة التأسيسية.

حرصت كل الدساتير المغربية منذ عام 1970 حتى التعديل الدستوري الأخير على تمكين المؤسسة الملكية من التحكم في كل مظاهر ممارسة السلطة التأسيسية وآلياتها‏[45]. في هذا الاتجاه يقول الملك: «[…] قررنا تعديل دستوري شامل يستند على سبعة مرتكزات أساسية»‏[46].

انسجاماً مع روح القواعد التي أرساها دستور 2011 والتي تتمحور حول ترسيخ وتأكيد هيمنة المؤسسة الملكية، كمؤسسة تنفيذية فاعلة وحاكمة، على باقي المؤسسات الدستورية الأخرى، عضد المشرع المغربي جانب المؤسسة الملكية بصلاحيات حيوية جديدة في مجال السلطة التأسيسية الفرعية على حساب المؤسسات التمثيلية‏[47]. إن توسع صلاحيات المؤسسة الملكية في مجال السلطة التأسيسية جاء في انسجام تام والارتقاء بالملك من ممثل أسمى للأمة إلى ممثل أسمى للدولة‏[48].

إلى جانب صلاحيته التقليدية المتمثلة بعرضه مشروع تعديل دستوري مباشرة على الاستفتاء الشعبي‏[49] يمكن للملك «أن يعرض بظهير على البرلمان، مشروع مراجعة بعض مقتضيات الدستور»‏[50] ولا يقيد من مبادرته في هذا الاتجاه إلا إجراء شكلي يتوقف عند استشارة رئيس المحكمة الدستورية. تضيف الفقرة الرابعة من الفصل نفسه: «ويصادق البرلمان، المنعقد، باستدعاء من الملك، في اجتماع مشترك لمجلسيه، على مشروع هذه المراجعة، بأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتكون منهم». وهو ما يفيد أن اختصاص الملك لا يقتصر على عرض المشروع على البرلمان، بل يمتد إلى مرحلة المصادقة التي لن تتم إلا باستدعاء الملك للبرلمان بالاجتماع المشترك لمجلسيه، وذلك ما يمكن من ضبط الأمور ومعالجتها حتى تكون مواتية للوصول إلى الهدف المرجو.

إن هذه المسطرة الجديدة تعد بمنزلة تأمين مزدوج للصلاحية الملكية على حد قول رقية المصدق، «إنها أولاً تؤمن الملك من اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي الذي لم تعد نتائجه مضمونة وبالتالي قد يتحول إلى مجازفة خطيرة العواقب، إنها تجنب الملك المجازفة بإعادة النظر في بعض الانفلاتات التي قد تتخلل مضمون الدستور ويضطر إلى تداركها…»‏[51]. إنها بمنزلة سلاح احتياطي « تقويم بعض الاختلالات الموجودة في الدستور»‏[52].

أما الاقتراح الذي يتقدم به رئيس الحكومة في هذا المجال، لا بد له أن يعرض «على المجلس الوزاري بعد التداول بشأنه في مجلس الحكومة»‏[53]. أي وجوب المصادقة الملكية عليه قبل عرضه على الاستفتاء بظهير.

أما في ما يتعلق بالمبادرة التي يتقدم بها عضو أو أكثر من بين أعضاء أحد مجلسَي البرلمان، فلا تتم الموافقة عليها إلا بتصويت أغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منه المجلس‏[54].

من هذا المنطلق نلاحظ أنه ليس هناك توزيع عادل للسلطة التأسيسة الفرعية، بقدر ما يتأكد شبه احتكار لهذه السلطة من جانب الملك – رئيس الدولة، الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال تصور إجراء أي تعديل لمقتضيات الدستور من دون مباركته، ما دام هو الوحيد الذي يملك صلاحية عرض أي مشروع أو مقترح لتعديل الدستور على الشعب من أجل الاستفتاء بمقتضى ظهير، حتى لو لم يكن هو من اتخذ المبادرة بإجراء التعديل. من هذا الباب، يتحكم الملك بمفرده في جميع السبل المؤدية إلى تعديل الدستور. لقد أصبح الملك هو المتحكم الوحيد في السلطة التأسيسية الفرعية، أياً كان مصدرها، بعد أن كان غير معني بها في دستور 1962.

خاتـمة

يتبين من خلال ما سبق، أن هذا التصور، الذي يجسده الفصلان 2 و42 من الدستور المغربي، يعطي للسيادة مفهوماً ينفصل فيه مبدأ التمثيل عن مؤسسة الانتخاب. فـ «النيابة لا تستند إلى اختيار تصويتي، وإنما الأصل فيها هو امتياز دستوري»‏[55]. بمعنى آخر، إذا كان البرلمان هو ممثل الأمة، فالملك هو الممثل الأسمى للدولة، بكل مكوناتها وعناصرها، الذي يتمتع بحق الاتصال المباشر بها وبالتعبير عن حاجاتها متجاوزاً بذلك المؤسسات الوسيطة والمنتخبة حتى لا تغدو حجاباً يحول دون التواصل بين الراعي والرعية‏[56]. وهذا يجعل المؤسسات المنتخبة تابعة للمؤسسة الملكية وجزءاً لا يتجزأ منها كونها مصدر كل السلط ومنبعها.

أمام هذا الوضع لا يمكننا إلا أن نتساءل حول وظيفة الأحزاب السياسية والانتخابات في النظام السياسي المغربي، وبخاصة أن دستور 2011 أقر باعتبار المغرب ملكية برلمانية.

إن الأحزاب السياسية، على اختلاف أنواعها وأيديولوجياتها، لا تمثل أفراد الشعب داخل المؤسسة التشريعية‏[57]، بل تعمل على ترجمة ثقافة الاختلاف التي تميز المجتمع المغربي على المستوى المؤسسي من أجل تأطير الاختلاف وصياغته في قالب إجماعي يحقق وحدة الأمة المغربية حول المؤسسة الملكية، وبالتالي الانسجام بين الراعي والرعية‏[58]. وهذا ما يفرغ المؤسسة التشريعية من مدلوليها الدستوري والسياسي في التعبير عن إرادة الأمة وتجريدها من ممارسة السلطة السياسية، كونها مجرد مؤسسة تعين الممثل الأسمى للدولة (إلى جانب الوزراء) على حمل أعباء الدولة ليس إلا. هذا التصور يفرغ الانتخابات، كآلية للتداول على السلطة السياسية، من مضمونها لتتخذ معنى يتمشى وخصوصية الثقافة السياسية بالمغرب، الذي يجعل مفهوم السلطة السياسية يتنافى مع أي ممارسة سياسية تتطلع إلى السلطة السياسية‏[59].

 

قد يهمكم أيضاً  مفارقات المشهد الديني المغربي: الملامح والمآلات

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الثقافة_السياسية_المغربية #المؤسسة_الملكية_في_المغرب #السيادة #المغرب#السيادة_في_المغرب #الشرعية_الديمقراطية_في_المغرب #الشرعية_الملكية_في_المغرب #الأحزاب_السياسية_ف_المغرب