من نافلة القول التأكيد أن تعدد الطوائف والمذاهب والأعراق والقبائل ليست مشكلة في المجتمعات العربية والإسلامية، ولا عاهة بنيوية. لكن المشكلة عندما يؤدلج هذا التعدد، فتظهر الطائفية وتنتشر في المجتمع بفكر إقصائي يلغي الآخر. فالطائفة معطى إيجابي، تؤمن بالاختلاف والتنوع والتعايش في إطار الوحدة الكلية، بخلاف الطائفية فهي هوية مغلقة، وأيديولوجيا سلطوية، ونزعة اقصائية. لذلك يمكن أن تتحول الطائفة إلى طائفية عندما تتحوّل من انتماء ديني أو عرقي أو هوية مذهبية إلى أيديولوجيا سياسية تُتخذ مطية للنفوذ وإلغاء الآخر، في مقابل العمل على إقصاء كل ما هو مشترك في إطار الوحدة الوطنية الجامعة.

الطائفية إذًا هي السوق السوداء كما يسميها برهان غليون، أو الموازية للسياسة التي تظهر بمقدار ما تفسد سوق السياسة الطبيعية. فهي ممارسة سياسية ملتوية في ميدان الصراع على السلطة[1].

أولًا: الطائفية والفتنة

للطائفية حضور في التاريخ العربي والإسلامي سواءٌ في ثوبها الديني أو المذهبي أو العرقي أو القبلي. فابن الأثير يتحدث عن فتنة الحنابلة في بغداد وصراعهم مع الشافعية سنة 323 هـ[2]. ومن الطائفية العرقية ما كان يحصل للموالي، وهم المسلمون من غير العرب. فالحسن بن زياد سمع أبا حنيفة رحمه الله يقول: كانت ولاة بني أمية لا يدعون بالموالي من الفقهاء للفتيا[3]. والحال نفسها في الصراع القبلي، فخلدون النقيب يرى أن للقبيلة تأثيرًا في الحياة السياسية في التاريخ العربي والإسلامي، فمقتل الخلفاء الثلاثة بعد أبي بكر، لهو دليل على بروز الولاءات القبلية (العصبية)، وما انتصار الأمويين في الواقع إلا انتصار القبلية السياسية على الاندماج الخلقي المعنوي[4].

هذا الحضور لا يزال ملازمًا للمجتمعات العربية إلى اللحظة الراهنة، فالطوائف المؤدلجة تعيش في قلب الدولة وعلى حسابها. لكن ما يميّز الصراع الطائفي الحاصل في الوقت الراهن عن الصراعات الطائفية السابقة، هو أن الصراع السابق كان يحدث في جسم الأمة القوي، فقد تُسبب تلك الصراعات بعض الأمراض الجانبية، لكن سرعان ما تضمحل وتزول، على عكس واقع الأمة المعاصر، فهو واقع هزيل. لم يعد الصراع صراعًا بين السلطة والمجتمع، أو صراعًا داخل المجتمع السياسي، بل أصبح صراعًا داخل المجتمع الوطني برمّته: بين الأهل والأهل. توسّعت ساحته فشملت الأحياء والحارات والنفوس. إنها الفتنة كما يسميها بلقزيز. فإذا كانت الثورة تمزق الدولة والسلطة، فالفتنة تمزق الأمة والجماعة. لأن الثورة صراع بين حاكمين ومحكومين. أما الفتنة فهي الصراع بين المحكومين أنفسهم، صراع المجتمع برمّته[5].

إن إشكالية الطائفية في المجتمعات العربية ممتدة في عمق الزمان المكان، وتزداد الخطورة مع التطورات المتسارعة التي تمر بها المنطقة من تهديد لوحدتها الوطنية عبر طوائف وجماعات مرتمية في أحضان دول أجنبية.

لم تعد الدول الإمبريالية التوسعية بحاجة إلى قوة عسكرية تهيمن بها على المنطقة، بل يكفي زرع طوائف مؤدلجة، تتخذها مطية لفرض سيطرتها وتوسيع هيمنتها. إن الأقليات الطائفية المؤدلجة في الوطن العربي، هي السلاح التدميري الأشد خطورة الذي تمسك به قوى العدوان الأجنبي، وتستخدمه في معظم البلدان العربية كالعراق وسورية ولبنان وليبيا واليمن والمغرب والخليج ومصر وغيرها. ففي عام 2008 كتب عبد الإله بلقزيز أن ما يجري في العراق من حرب الطوائف والمذاهب ليس فصلًا ختاميًا لاستراتيجية التفكيك الكولونيالية الصهيونية، بل مقدمة لها، واختبار سيجري تعميمُه على معظم المحيط العربي، ما دام هناك سنّة وشيعة. فلا تجد السياسة الأمريكية ومن ورائها الغربية أفضل من الانقسام المذهبي مَعْبَرًا نحو إلقاء القبض على المصير الكياني للمجتمعات العربية[6].

فالطوائف المؤدلجة ما كان لجذورها وبذورها وثمارها أن تأتي أُكلها في شرخ المجتمع وانشطار الدولة لولا التدخلات الإقليمية والدولية، فهي صناعة تختلف طرقها وآلياتها باختلاف الصانع والغاية والوسط الذي ستزرع فيه.

ثانيًا: الطائفية.. دولة داخل الدولة

الجماعات الطائفية سجون مغلقة، تفتت الوطن الواحد إلى أوطان متعددة، تصنع العوازل بين الناس، ينظر الواحد منهم إلى غيره بوصفه آخر له. فيضيع الولاء العام لكيان الدولة مقابل الولاء للطائفة أو الأسرة أو المذهب أو الدين. تنعدم المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، وتظهر التمايزات والمراتب الطبقية المصطنعة.

تمثل الجماعات الطائفية انشقاقًا جديدًا عن المجتمع والدولة، وتفلتًا عن ضوابط العلاقات الوطنية الجامعة وأحكامها. تحول الدولة من فكرتها الجامعة إلى الفكرة الضيقة، نتيجة للولاءات المؤدلجة التي يفرضها النظام الطائفي، حتى تصبح الدولة عبارة عن مجموعة مزارع للطوائف وزعاماتها. والحال نفسه في توزع الوظائف وقفًا لأبناء الطائفة أو المذهب أو المنطقة. وهنا يصوّر سليم الحص – رئيس الوزراء اللبناني الأسبق – استحكام الطائفية في المجالات الحياتية والسياسية والاجتماعية، يقول: «لو كنتَ أعظم الضباط شأنًا، فلن تكون قائدًا للجيش اللبناني، ولو كنت أطول القضاة باعًا، فلن تكون رئيسًا للتمييز أو رئيسًا لمجلس شورى الدولة، ولو كنت أغزر الاقتصاديين أو الماليين علمًا ومعرفةً أو أوسعهم خبرة، فلن تكون حاكمًا لمصرف لبنان المركزي، ولو كنت أقدر الناس وأدهاهم، فلن تكون مديرًا عامًا للأمن العام، أجل لن تكون أيًا من هؤلاء إذا لم تكن من ذوي الانتماء الطائفي الذي يؤهلك لهذه المناصب»[7].

فالكثير من أبناء الشعب العربي ما زال يشعر بأن ولاءه الأساسي للعائلة أو للقبيلة أو للمذهب أو للعرق وليس للدولة. فبعض هذه الطوائف يبدو أقوى من الدولة وأشد رسوخًا، والولاء الأهلي لها أمتن من الولاء للدولة والوطن. ذلك على الأقل ما نَلْحظه اليوم في بلدان مثل لبنان والعراق واليمن وسورية وبعض المجتمعات في الخليج وبلدان المغرب العربي.

نتيجة لذلك تنشأ الانقسامات داخل الجسد الوطني وتتهشم وحدته، وتسود حالة من التناقض والصراع بين أبناء الوطن الواحد؛ وتتحول الهويات الضيقة إلى هويات قاتلة كما يسميها أمين معلوف[8]، الأمر الذي ينعكس سلبًا على وحدة الصف الوطني، وعلى الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالطائفية انشطار في الهوية وتمزق وجداني داخلي لدى المواطنين. الطائفية تتجاوز المواطنة في الدولة إلى ولاء لكيانات سياسية ودول خارجية بحجة المشترك الطائفي، حينها لا يكون هناك من معنى للحياة السياسية حتى وإن جرت على مقتضى انتخابي ومؤسسي.

تفتيت الوطن من قبل الطوائف المؤدلجة يعود في أحد أهم أسبابه إلى فشل الدولة نفسها في بناء هوية جامعة تحقق الاندماج السياسي والثقافي والاجتماعي للمواطنين، فتلجأ إلى استمداد شرعيتها من بنى تقليدية طائفية، ترتكز على الغلبة والاستئثار وتغليب عصبية أهلية أو دينية أو قبيلة أو مذهبية على أخرى. كما أن ضياع الديمقراطية وتفشي الاستبداد فضلًا عن التخلف الاقتصادي كل ذلك يُزهد المواطنين في الانتماء إلى هذه الدولة التي عجزت عن خلق الحد الأدنى من الاستقرار، وكانت النتيجة الذهاب إلى انتماءات بديلة كانت قبلية أو عرقية أو مذهبية.

ثالثًا: طائفية الدولة

الأشد خطورة في الطائفية المعاصرة، هي طائفية الدول، فطائفية الدول أخطر من طائفية الجماعات؛ لأن طائفية الدول تخلق طائفيات متعددة وعصبيات اجتماعية. ففي العصر الحديث يقول حليم بركات لم تكتف السلطات العربية في تدعيم سلطتها واستمراريتها بالاعتماد على الجيوش الحديثة والحرس الوطني والرئاسي والأحزاب الموالية والحماية الأجنبية والتحالفات الإقليمية، بل عمدت أيضًا إلى استخدام القبيلة والدين والطائفية في تعزيز مواقعها، واحتواء المعارضة الداخلية أو القضاء عليها، مقرنة خوف الله بخوف السلطة، والشرائع الزمنية بالشريعة الإلهية[9].

فالدولة بما تعني أنها شخصية تمثيلية لجميع أبناء الوطن، هي سيادية ومنفصلة عن تناقضات البنية الاجتماعية، لكن مما يؤسف له أن الكثير من البلدان العربية لم تقم بهذه المهمة في حفظ وحدة كيان الأمة والجماعة الوطنية، بل عملت وبصورة مستمرة في الخفاء حينًا، وفي العلن أحيانًا أخرى، على إحياء مختلف الولاءات الطائفية والعشائرية في المجتمع، بدلًا من العمل على تغييبها واجتثاث أسباب وجودها. فهشام جعيط ينفي صفة العقلانية عن البلدان العربية، لأنها كما يقول مرتكزة على العصبيات والعلاقات العشائرية[10].

السلوك الطائفي للدولة لا يبرره ادعاء تمثيل الأغلبية الطائفية، أكانت دينية أو مذهبية أو عرقية، فمهما كان مستوى هذا التمثيل، فإن وجود أقليات مهمشة أو مقصية أو منبوذة يجعل تمثيل السلطة للتنوع الاجتماعي أمرًا مشكوكًا في صدقيته. من هنا تبرز وتظهر عصبوية الدولة مهما بلغت نسبة السكان المتماثلين معها، فتصبح العراق دولة شيعية تهمّش الأكراد والسنّة، وتمسي السعودية دولة سنية تهمّش الشيعة، وتقصي السنّة الذين لا يتماهون مع المدرسة الوهابية، وتصبح إيران دولة شيعية فارسية تقصي السنّة والعرب، حينها تسود عصبوية الدولة للهوية الضيقة والمنغلقة[11].

تولِّد طائفية الدول صراعًا عميقًا بين الطوائف الداخلية في الدولة نفسها، وحروب تمتد لسنوات طويلة، كما تولِّد صراعًا بين الدول المختلفة أيديولوجيًا، فاحتدام الصراع الطائفي والاستقطاب الإقليمي (السني والشيعي) بين قطبيه إيران والسعودية، هو في جانب منه تعبير عن الصراع الطائفي الجاري في العراق والبحرين ولبنان وسورية واليمن.

هذا الصراع الحاصل في المنطقة العربية يولِّد قناعة أو يقرر قاعدة أنه كلما وجدت سلطة طائفية نجد بالضرورة مشكلة طائفية، حينها تتحول السياسة أو الدولة من جهة محايدة تمثل جميع المواطنين وتتعامل معهم على قدم المساواة، إلى جهة طائفية مذهبية تمثل طائفة أو مذهبًا معينًا بخلاف بقية المذاهب. وبالتالي انقسام الوطن وتشظيه، وانطلاق دوامة الحرب الأهلية والطائفية وأفعال القتل على الهوية.

رابعًا: نار تحت الرماد

رغم خطورة طائفية الدولة ووحشيتها، فهي لا تتمكن من زرع بذور الطائفية إلا يوم تجد تربة طائفية مستقبلة لتلك البذور. فإحياء الصراعات الطائفية التاريخية يجعل الطوائف الدينية والمذهبية والعرقية تَنْشَدّ إلى أحداث تاريخية حدثت منذ عشرات القرون، فتصبح تلك الطوائف حبيسة التاريخ ومرتهنة له، فتؤثر في خلافاتها الاجتماعية والسياسية، كما هو حاصل اليوم في كثير من الموضوعات بين السنّة والشيعة.

ولَّد هذا الارتهان التاريخي تديُّنًا مغلوطًا، فتولدت ثقافة الكراهية للمخالف، وقمعه واستبعاده من واقع الحياة الاجتماعية والسياسية. فالصراعات الطائفية معتمدة على أسس ثقافية، يقول توبي ماثيسن[12].

الموروثات التاريخية نار تحت الرماد، تنتظر من يشغل فتيلها فتنفجر في المجتمع، مخلفة آثارًا تدميرية في المجتمع والدولة معًا، فضلًا عن التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي والنهوض الحضاري.

خامسًا: الطائفة.. شروخ في جدار المواطنة

جاءت المواطنة نتيجة تراكم أفكار وتجارب على مر التاريخ من أجل الخروج من الكوارث الاجتماعية والسياسية، بما ينظم العلاقة البينية بين الأفراد فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى، تجاه تحقيق ذات الفرد والدولة معًا، من خلال المساواة في الحقوق والواجبات. فالمواطنة هي: المساواة في الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية لكل مواطن في الدولة، بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو المذهب، بحكم الانتماء والولاء للوطن.

المواطَنة إذًا ليست مجرد مجموعة من الحقوق والواجبات. إنها انتماء إلى تراب تحده حدود جغرافية. بمعنى آخر، إن الولاء السياسي انتقل من عنصر الدين والمذهب والقبيلة والعرق إلى عنصر الوطن بما يمثله من حقوق وواجبات وحدود جغرافية وترابية.

والمواطنة هنا، ليست بديلًا من الهوية الخاصة، بحيث يعني إقرار إحداهما نفيًا للأخرى، كما أن المواطنة لا تعني الصراع بين الهويات، أو هيمنة إحداها على الأخرى، ولكنها – أي المواطنة – تمثل هوية جامعة لجميع أبناء الوطن الواحد.

رغم الثقوب السود في جدار المواطنة الغربية، إلا أنه لا يمكن نكران ما أحدثته في تلك المجتمعات والدول من إيجاد وتجسيد ثقافة سياسية جديدة، وتلقين شعوبها مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. في المقابل لا تكاد البلدان العربية تشعر بحركة التاريخ من حولها، وتسابق الحضارات العالمية سواء الشرقية أو الغربية، فليس من عمل ماثل للعيان لأغلب السلطات العربية سوى قضايا الأمن الداخلي، وتزويد قوات مكافحة الشغب بمختلف الأسلحة لقمع الحركات الاحتجاجية، والعمل على تزييف وتزوير نتائج صناديق الاقتراع، ومن ثم تغيير الدساتير للبقاء في السلطة، وتفكيك المجتمعات وزرع البذور الطائفية، ثم التنافس على كسب رضى ومباركة الإدارات السياسية المتعاقبة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بدل مباشرة الإصلاحات الضرورية لتعميق الديمقراطية والمواطَنة الكاملة.

ظهور الطائفية يعني تراجع المواطنة، وبالتالي انعدام المساواة وضياع الدولة، فالنظام الطائفي يقوم على التمييز بين أبناء الطوائف، فتظهر التمايزات والطبقات الفئوية بحسب قوة الطائفة وضعفها، فالحديث عن المواطنة لا يستقيم مع الدولة القائمة على الأسس القبلية أو الأسس الطائفية أو الأسس العنصرية العرقية.

يقوم المجتمع الطائفي على الانتماء السلبي للطائفة، وهذا الانتماء يتعارض مع مفهوم المواطنة القائم على الولاء الوطني. فالمجتمع الطائفي نقيض المجتمع المدني؛ لأنه ببساطة مجتمع الرعية لا مجتمع المواطنين، المجتمع الذي يغلب فيه الولاء للطائفة والمذهب على الولاء للوطن والدولة، يقول بلقزيز[13]. فالطائفية تمثل عائقًا أمام المواطنة المتساوية عندما تقوم على أساس المفاضلة وعدم المساواة بين المواطن وابن القبيلة أو ابن المذهب والدين.

سادسًا: من الطائفية إلى التعددية

لمحاولة الخروج من المأزق الطائفي الذي تعانيه المجتمعات العربية، وذلك بالانتقال إلى التعددية والتعايش السلمي والوحدة الوطنية، من البدهي التأكيد أنه لا توجد وصفة علاجية واحدة تتناسب مع كل بلد متعدد الطوائف والهويات؛ لأن لكل بلد صيرورته التاريخية والاجتماعية والسياسية، وموازين قوى طائفية، ومحيطًا إقليميًا متنوعًا له امتداداته الداخلية. وعليه فلكل بلد تشخيص خاص به، فما يمكن نحاجه في العراق مثلًا، ليس بالضرورة أن ينجح في غيره. فمن الأهمية بمكان أن تبقى جميع الخيارات مفتوحة للمعنيين بمعالجة مشكلة الطائفية في كل بلد على حدة. ومع ذلك يمكن تقديم محاولة بوضع الخطوط العريضة التي تسهم في خروج هذه المجتمعات من المأزق الطائفي، ومن ذلك ما يلي:

1 – الوحدة في إطار التعدد

من الصعوبة بمكان إلغاء، أو حتى مجرد التفكير بالعمل على إلغاء، الانتماءات الدينية أو المذهبية أو المناطقية أو العشائرية، فهي مصاحبة للشخصية العربية، ولم تكن غائبة حتى في مجتمع المدينة، المجتمع السياسي الأول في الإسلام.

فالقبيلة مثلًا مكونٌ كبير من مكونات الإرث الثقافي العربي، فهذا النبي (الهاشمي) عليه أفضل الصلاة والتسليم، وذاك الطفيل بن عمرو (الدوسي)، وعنترة (العبسي)، وحاتم (الطائي). وغيرهم الكثير ممن مثلّوا بناء هذه الثقافة. وكانت دولة المسلمين الأولى تحتضن مختلف الأجناس وتعُدُّهم من مواطنيها، فهذا سلمان (الفارسي) وصهيب (الرومي) وبلال (الحبشي) عاشوا بود وانسجام مع أبناء قريش والأوس والخزرج في أول مجتمع إسلامي في المدينة.

من هنا، يصعب القول بإمكان إقامة إجماع سياسي أو ثقافي أو اجتماعي يتخلى الناس فيه عن ولاءاتهم، فتنوع المجتمعات سنّة كونية، وتعدد المشارب الفكرية نتاج طبيعي، لذلك ينبغي السعي للوصول إلى بديل، أو بدائل، لفكرة توحيد الشعب أو المجتمعات تحت سقف أيديولوجي واحد.

المدخل للبحث عن البديل أو البدائل يقوم على فرضية إمكان الوصول إلى إجماع سياسي بدلًا من الإجماع الفكري أو الديني أو الثقافي. فترسيخ قواعد الإجماع السياسي بحاجة إلى إرادة قوية من كل مكونات المجتمع، وهذه الإرادة لا تعني تجاوز الديانات والمذاهب والقبائل والأقوام والأعراق، وإنما بقدر ما يُعترف بها، فإن الإجماع السياسي يتطلب تجاوز الانتماء لها إلى انتماء جامع، من أجل بقاء الهويات الخاصة حية وحيوية. على هذا الأساس يصبح الاختلاف والتعدد عامل إثراء وتنوع.

والخطوة الأولى في هذا الطريق هي الاعتراف بالتعدد والاختلاف لا اخفاؤه، لذلك ينبغي تجنب إخفاء الوحدة عندما تظهر الاختلافات، وتجنب إخفاء الاختلافات عندما تظهر الوحدة، يقول أدغار موران[14]. ثم تلي هذه الخطوة ما أشار إليه علي أسعد وطفة، ففي الوقت الذي يكون المجتمع متعددًا بانتماءات وفئات وجماعات عرقية أو دينية أو سياسية أو اجتماعية، يتوجب على السياسيين العمل على دمج هذه الانتماءات من أجل الوصول إلى هوية مشتركة، تمثل مصالح الجماعة بانتماءاتها الطبيعية المختلفة[15].

2 – قيام جبهة فكرية وسياسية واجتماعية تتولى متابعة الحد من مشاكل الطائفية

رغم أن الأمم المتحدة قد أخذت على عاتقها الاهتمام بموضوع الحد من مشاكل الطائفية في المجتمعات العربية من خلال مشروع معالجة التوترات المذهبية والعِرقية في الوطن العربي، إلا أن الواقع يزداد سوءًا يومًا بعد يوم. فهذه المشاريع وحدها لا تكفي إذا لم تنشأ جبهة داخلية من رجال الفكر والثقافة والسياسة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وكل شرائح المجتمع، تكون مهمتها الأساسية التشخيص المستمر للواقع وحجم المشكلة الطائفية، وتوقي مضاعفاتها والتخطيط العملي لمعالجتها. وتتوقف أهمية وجود هذا الكيان أو الجبهة بمقدار الصلاحيات والإمكانات التي بين يديها، وفي الإرادة الحقيقية المتاحة لها في تفعيل أدوات وآليات تمكنها من ترجمة قدرتها على امتصاص الأفعال الطائفية واستيعاب ردود الأفعال المتوقعة، ومن ثم تعاون الجهات الحكومية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني معها.

وهذه رسالة إلى كل المنشغلين بالفكر من أجل العمل على إرساء فلسفة التسامح والتعايش بين مختلف الطوائف، أكانت دينية أم مذهبية أم عرقية… فالتسامح ركيزة أساسية لبناء نسيج وكيان الأمة.

3 – إقرار مبدأ العدالة الانتقالية

إن محاولة الانتقال من الصراع الطائفي إلى مجتمع التعددية والعيش المشترك والاعتراف بالآخر، مهمة صعبة وعسيرة، قد تأخذ زمنًا طويلًا، لكن هذا الانتقال بحسب بلقزيز ضروري وممكن، وليس من شك في أن نشر ثقافة التسامح في المجتمع والتوافق على قواعد العدالة الانتقالية فيه، وهو ما يسمح بتأهيل المجتمع لتحقيق مثل ذلك الانتقال[16].

مع ملاحظة أنه لا بد لأية أطروحة تستهدف معالجة الطائفية، أن تدرك مدى تشبع ذاكرة الأفراد الذين عانوا التمييز الطائفي، وكذلك المجتمعات التي قاست الويلات من التهميش السياسي والإقصاء الاجتماعي، تلك الذاكرة ممتلئة بصور المعاناة والألم، ولا يتحقق ذلك التناسي إلا بثمن معنوي يُرضي النفوس أولًا، وإلا بقيت تلك الذاكرة أداة تحفِّز على التمرد والثأر من الخصوم، وهذا لا يعني قلب المعادلة وتبديل المواقع، كي يصبح مظلوم الأمس هو ظالم اليوم، بل يعني سيادة العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.

من هنا، تأتي أهمية إقرار مبدأ العدالة الانتقالية، وخصوصًا في البلدان التي تعاني حروبًا أهلية أو طائفية أو مذهبية. فإذا كانت العدالة قيمة مطلقة، فإن العدالة الانتقالية تشترك مع العدالة التقليدية في إحقاق الحق وإعادته إلى أصحابه، وفي كشف الحقيقة وجَبر الضرر وتعويض الضحايا، وخصوصًا لما له علاقة بالقضايا السياسية والمدنية العامة. كما أن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية في كونها تُعنى بالمراحل الانتقالية، مثل الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح أو حرب أهلية إلى حالة السلم والانتقال الديمقراطي، أو الانتقال من حكم تسلطي دكتاتوري إلى حالة الانفراج السياسي والانتقال الديمقراطي. والبلدان العربية ليست غائبة عن تطبيق مبادئ وقواعد العدالة الانتقالية. فعبد الحسين شعبان يستشهد بالتجربة المغربية في العدالة الانتقالية، التي يراها كأحد أهم التجارب العربية والدولية في إمكان الانتقال الديمقراطي السلمي من داخل السلطة[17].

4 – المواطنة المتساوية بدلًا من التمايز الطائفي

ترسيخ قواعد المواطنة المتساوية في الدولة والمجتمع شرطٌ أساسي للخروج من الصراع الطائفي في المجتمعات العربية والإسلامية. والمساواة بين المواطنين تقتضي عدم تَحَكُّم المفاهيم الطائفية في تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، ذلك شرط نشوء رابطة جديدة بين أعضاء المجتمع المُكَوَّن من مذاهب وأديان واعتقادات مختلفة ومتعددة ومتباينة.

وشرط تحقيق هذه الرابطة الوطنية، يقول برهان غليون تكوين مواطنة تُعَبِّر عن ضمان مكانة واحدة للأفراد كافة، مرتبطة هي نفسها بإقرارهم لبعضهم البعض حقوقًا واحدة، يترتب عليها مسؤوليات واحدة وواجبات متساوية أيضًا. وفي هذه المساواة يعاد بناء الفرد كمواطن، ويتم تجاوز تمايزه على مستوى المجتمع المدني كمؤمن أو صاحب اعتقاد مختلف، وعضو في جماعة أهلية متميزة. من دون بناء هذه الرابطة الموحدة من خلال مفهوم المساواة في الحقوق والواجبات، لا يمكن الخروج من نزاعات المجتمع الأهلي واختلافاته وتمايزه، ولا بناء دولة ومواطنة. ثم يؤكد غليون أن بديل ذلك سيكون – بالضرورة – الفوضى والنزاع الدائم بين طوائف وقبائل لا رابط بينها[18].

5 – الأغلبية السياسية بدلًا من الأغلبية الطائفية (الحاكمية الديمقراطية)

حضور الطوائف بشكلها المتصلب والمنغلق يزيح ويغيِّب القيم الديمقراطية من واقع الحياة، وحينها بدلًا من أن يكون العامل الديمقراطي سُلَّم الوصول إلى السلطة، تصبح العوامل الطائفية الطريق السالك للحكم.

في ظل وضع كهذا، لا سبيل إلى الخروج منه إلا بالقواعد الديمقراطية الحاكمة، فالناس في المجتمعات الديمقراطية يتجاوزون حدود انتماءاتهم وطوائفهم إلى بناء مجتمع الدولة الذي ينتمون إليه ويرفعون له مشاعر الولاء. فالديمقراطية هي منطلق العيش والتعايش الحضاري المتكامل بين مختلف الكيانات الاجتماعية. وهي – أي الديمقراطية – ضرورة في ظل التعدد، فهي تحقق التلاحم الوجودي بين مختلف التكوينات الاجتماعية. وحينها تصبح وتمسي الهوية الفردية جزءًا من الهوية المشتركة الجامعة.

فالحوكمة الديمقراطية تُتيح فرصًا متساوية وعادلة للجميع، بصرف النظر عن انتماءاتهم، فتُقيم بذلك دولة المواطنة وحكم القانون والعيش المشترك. وهنا تصبح الدولة دولة المجتمع لا دولة الطائفة. وبمقدار ما تُجسِّد الدولة إرادة المجتمع، وتُعَبّر عن خياراته الممثلة في الأغلبية مع حفظ حقوق الأقلية، فهي تنظر إلى نفسها على أنها دولة المجتمع. فكما يكون المجتمع تكون الدولة على صورته؛ لأن الدولة: دولة المجتمع[19].

6 – إبداع الوسائل التربوية المناسبة لتهذيب العقل الفردي والجمعي

يُعيق الصراع الطائفي والاحتراب الداخلي أي محاولة للنهوض والاستقرار السياسي والاقتصادي، فحالة الحذر والشك بين طوائف المجتمع، وما تولده هذه الحالة من صراع متبادل، توجب التفكير الجاد في برامج توعوية تعمل على إعادة الثقة وتهذيب النفوس وترشيد العقول من أجل تصالح دائم وتعاون مشترك وقبول للآخر.

أولى الخطوات في هذا المسار الاهتمام بالمواطن بوصفه ميدان هذه البرامج التوعوية. فكل وسيلة تساهم في إلغاء الطائفية السلبية عند الفرد، يعني بالضرورة إلغاء للطائفية السلبية عند الطوائف والمجتمع والمؤسسات الأهلية والحكومية، وقبل ذلك عند الأسرة.

ثم تأتي خطوة أخرى، تتمثل بضرورة تجاوز الخطابات الإطلاقية الطائفية التي تنزع إلى إلغاء التعدد وإقصاء الآخرين. من هنا، تبرز الحاجة الضرورية إلى خطاب وطني جامع، يتأسس على الهوية المشتركة والمواطنة السياسية، خطاب يعترف بالآخر وجودًا وفكرًا. خطاب يسعى - بحسب حسن الصَّفار – «لنشر ثقافة التسامح». مؤكدًا أننا نحتاج إلى حالة طوارئ على هذا الصعيد[20]. كما تأتي خطوة أخرى تتمثل بغرس الولاء الوطني بدلًا من الولاء الطائفي، وإحلال التنظيم الحزبي المتحرك محل التنظيم الطائفي والعشائري الجامد[21]. الأمر الذي يضمن التعايش بين أفراد المجتمع، ويضمن الانتقال السلمي للسلطة. من هنا تأتي أهمية دور المناهج التعليمية في المدارس والجامعات، وصوغ استراتيجيات إعلامية شكلًا ومضمونًا، تسهم جميعها في التوعية بخطورة الطائفية على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.

7 – حيادية الدولة

مفهوم حيادية الدولة يعني بأبسط معانيه فصل المفاهيم الطائفية عن سلطة الحكم. وبالتالي إلغاء النظام الطائفي، وهذا لا يعني إلغاء أو تقييد لحرية الطوائف، بل رفع شأن الدولة فوق شأن الطوائف، بحيث تصبح هذه الدولة حامية لأبناء الطوائف حقوقيًا واجتماعيًا[22]. فلا تكون انتماءات المواطن إلى طائفة معينة سببًا في التمييز ضده أو معه. بهذا المعنى تُمثِّل الاعتقادات والمذاهب والأفكار التي يتبناها طرف أو آخر من المجتمع مجالًا للحياة الخاصة. فمفهوم حيادية الدولة يقتضي أن يظل التمييز واضحًا بين ما هو من حقل الحقوق السياسية الواحدة والمتساوية، التي تمثل في الدولة الحديثة مجال العام والمشترك، وما هو من حقل الحقوق الفردية والجماعية المشاعة المتنوعة والمتعددة.

حيادية الدولة المدنية لا تعني محاربة الدولة للمذاهب الدينية وغير الدينية، كما حصل مع النظم الشيوعية، كما أنها لا تعني أنها محايدة في شأن التراث الفكري والثقافي لمجتمعاتها. فلا ينتقص كل ذلك من (لا مذهبية الدولة) إذا كان ثمرة تصويت الأغلبية السياسية فيها، ومن حيث هي أغلبية سياسية. وبالتالي إذا صوَّتت الأغلبية السياسية على اختيار مذهب معيّن للسلطة التشريعية حفاظًا للوحدة الوطنية، لا يؤثر ذلك في مبدأ حيادية الدولة، بشرط عدم مصادرة حقوق الأقليات، وهذا ما يُسميه حسن الترابي التوافق والتكامل والتوازن بين الحرية والوحدة[23]. وعليه، فيمكن أن يكون الدين أو المذهب هو أساس التشريع وبنص دستوري بما يتناسب مع بلد ما، وهو أمر معمول به في بعض الدول الأوروبية كالنرويج التي ينص دستورها على أن الكنيسة الإيفانجليكية اللوثرية هي الكنيسة الرسمية للدولة، ولكن من حق الديانات الأخرى أن تمارس شعائرها بحرية كاملة[24].

وعليه، فالحاكمية الديمقراطية في الدولة الحديثة هي صاحبة القرار، يقول الغنوشي: إذا احتجنا الى سنّ قانون في ظل هذا التعدد، لا بد لنا من آلية، ولعل أفضل آلية توصّل إليها البشر اليوم هي الآلية الديمقراطية، والآلية الانتخابية[25].

فالمرجعية الثابتة هي مرجعية الوطن، لا مرجعية القبيلة، ولا العائلة، ولا المذهب. بمعنى آخر أن فكرة الأوطان والمواطنين فكرة مدنية، تهدف إلى تجاوز العلاقات القبلية والطائفية والمذهبية، التي أثبتت التجارب فشلها في تحقيق المصالح، وتجاوز حدة الخلاف سواء على المستوى القبلي أو على المستويين المذهبي والطائفي.

أخيرًا، أمام الزحف التقسيمي والاحتراب الداخلي في المنطقة العربية والإسلامية باسم المذهبية أو القومية، يتوجب على رجال الفكر والثقافة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وكل شرائح المجتمع العمل على مواجهة هذا التقسيم الطائفي، وصيانة الوحدة الوطنية بالمزيد من التلاحم والانسجام. وتجسيد الدولة المدنية في واقع الحياة هي الضامن الوحيد للحفاظ على وحدة الوطن والمجتمع.

في هذا السياق، وللخروج من هذه الكارثة الطائفية، يمكن السير في طريقين متوازيين: الأول مرحلي، والآخر جذري. يمثل المنهج المرحلي، قيام حركة علمية اجتماعية، تهدف إلى التقريب بين المذاهب والقوميات، وردم الفجوة الحاصلة، وتأسيس قواسم مشتركة لتجسيد لغة التعايش السلمي العام. أما المنهج الآخر (الجذري) تقوم به الدولة الوطنية، من خلال، أولًا: الاعتراف بالتعددية المذهبية والقومية داخل المجتمع كحالة واقعية؛ ثانيًا: تقوم بعملية فصل المذهب عن النظام السياسي، كون النظام السياسي يمثل جميع أبناء الشعب، بجميع طوائفه ومذاهبه وقومياته، لتجاوز أي خلافات سياسية واقتصادية واجتماعية وجنائية، قد تؤثر في المجال العام للوطن ووحده واستقراره.

إن استمرار نزيف الدم العربي والإسلامي بسبب الاحتراب الطائفي في أكثر من مكان يحتم على جميع التيارات السياسية والفكرية ومنظمات المجتمع المدني ورجال الدين أن تعي دورها التاريخي أن تقوم بواجبها في العمل على محاصرة الطائفية والاستبداد والدكتاتورية وتهيئة الوضع والثقافة العامة لتجربة ديمقراطية مدنية تبدأ بطريقة متدرجة تراعي الرفق والمنهج السلمي في تغيير واقع تطبع بالقهر والاستبداد.

 

 

قد يهمكم أيضاً  العرب والمسار الديمقراطي: خيار متاح أم بعيد المنال؟ 

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #اطائفية #طائفية_الدول #التعصب_الطائفي #الدمقراطية #المواطنة #الاحتراب_الطائفي #العدالة_الاجتماعية #التعددية