يخوض الفلسطينيون منذ أكثر من عشرين عاماً غمار عملية سلمية وجولات تفاوضية لامتناهية، بعد أن قررت قيادة منظمة التحرير الممثلة عن الشعب الفلسطيني أن تستبدل طريق الكفاح المسلح والمقاومة بمسار سلمي تفاوضي في سبيل تحقيق الاستقلال. ولا تشير المعطيات العامة لهذه المفاوضات ونتائجها حتى اليوم، وابتداءً من السياق الزمني الذي قامت في إطاره جولات التفاوض، وانتهاء بما وصلت إليه المواقف التفاوضية تجاه قضايا الحل النهائي، والتي تعكسها تصريحات قيادتي الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، إلى إمكان تحقيق استقلال حقيقي للفلسطينيين.

وقد يكمن الخلل الرئيسي لعملية السلام الفلسطينية ـ الإسرائيلية في أنها تقوم على أساس مقاربتين متناقضتين لطرفيها، كما أنها تأتي في سياق من عدم التوازن بين قوتي هذين الطرفين، وهو ما جعل النتائج العامة لهذه العملية تميل إلى مصلحة تحقيق مقاربة الطرف الأقوى في معادلة التوازن على حساب مقاربة الطرف الفلسطيني.

تقوم المقاربة الإسرائيلية لعملية السلام على أساس تخلي إسرائيل عن سيطرتها عن جزء من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967، ذات الكثافة السكانية العالية، في شكل حكم ذاتي للفلسطينيين، لكن دون التخلي عن السيادة الفعلية على الأرض. فإسرائيل تؤكد عدم انطباق قرار مجلس الأمن 242 على الضفة الغربية، كما ينطبق على سيناء والجولان[1]. إن إسرائيل تسعى للتخلص من العبء القانوني والأخلاقي لاحتلال الأراضي الفلسطينية، لكن من دون أن تتنازل فعلياً عن سيطرتها السياسية والأمنية والاقتصادية.

في حين أن جوهر المقاربة الفلسطينية لتلك العملية السلمية يقوم على أساس تحقيق الاستقلال التام والسيادة الكاملة على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وتحصيل الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده، انسجاماً مع قرارات الشرعية الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وأحكام القانون الدولي وعلى رأسها بنود اتفاقيات جنيف. وعلى الرغم من أن المقاربة الفلسطينية للعملية السلمية تقوم على أساس شرعي وقانوني، إلا أن ما وصلت إليه نتائج المفاوضات حتى الآن تعكس التطور في تحقيق مقاربة الجانب الإسرائيلي على حساب المقاربة الفلسطينية.

أولاً: السياق الزمني للجولات التفاوضية
في غير مصلحة تحقيق المقاربة الفلسطينية

منذ انطلاق العملية السلمية الفلسطينية ـ الإسرائيلية وجولاتها التفاوضية كان السياق الزمني يعمل في غير مصلحة الفلسطينيين وتحقيق مقاربتهم من العملية السلمية؛ بل على العكس، فقد استخدم ذلك السياق من قبل إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة للضغط عليهم لتقديم تنازلات تخدم المقاربة الإسرائيلية لهذه العملية.

افتتحت عملية السلام الفلسطينية ـ الإسرائيلية برمَّتها مع بداية العقد التاسع من القرن العشرين، عندما تبنّت الولايات المتحدة استراتيجية جديدة لسياستها الخارجية تتناسب مع الواقع الدولي الجديد الذي نتج من انهيار الاتحاد السوفياتي، القطب المنافس لها في معادلة القوة العالمية. وبعد أن باتت الولايات المتحدة القطب الأوحد في عالم أُحادي القطبية، توجهت إلى منطقة الشرق الأوسط باستراتيجية تقوم على أساس ترتيب أوضاعها، بما يتناسب مع التغير العام في بيئة النظام الدولي، وبما يحقق أقصى درجة ممكنه من مصالحها. فشنت حربها على العراق، للقضاء على آخر الأقطاب السلبية تجاه مصالحها في منطقة الخليج العربي، ورتبت لعقد مؤتمر للسلام، لإعادة صوغ المعادلة السياسية في المنطقة، بين إسرائيل، الحليف الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة، وباقي البلدان العربية، للحد من حالة الصراع القائم، وتوفير حالة من الاستقرار فيها.

وبمبادرة من الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، عُقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، في سياق زمني حُكم بعدد من العوامل المحددة لمسار هذه العملية ومفاوضاتها.

1 ـ تغير معادلة التوازن في الشرق الأوسط بعد انهيار الاتحاد السوفياتي

ـ رجحت كفة إسرائيل العسكرية في ميزان قوى منطقة الشرق الأوسط بشكل واضح في تلك الفترة، في إطار هزيمة العراق، ومبادرة بوش المعلنة في حزيران/يونيو عام1991 بفرض الرقابة على المنافذ المتاحة للبلدان العربية لسوق السلاح المتطور[2].

ـ تراجعت مكانة البلدان العربية التي كانت تمتلك الرغبة والقدرة على مواصلة الصراع مع إسرائيل، والتي كانت تعتمد على مظلة الحماية والدعم والالتزام السوفياتي تجاهها، في حين تعززت مكانة البلدان العربية المؤيدة للتسوية السلمية مع إسرائيل، حلفاء الولايات المتحدة[3].

2 ـ الانقسام العربي

ـ انقسم النظام العربي بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 للمرة الأولى بين معسكرين شبه متوازيين، فرفضت إثنتا عشرة دولة عربية الغزو العراقي للكويت، بينما رفضت تسع دول عربية التدخل العسكري للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في العراق[4]. ويُعَدّ هذا الانقسام الأخطر في التاريخ العربي الحديث.

ـ فشلت آليات العمل العربي المشترك، حتى بين البلدان العربية التي شاركت في الحرب ضد العراق إلى جانب الولايات المتحدة، فاختلفت تلك البلدان في ما بينها حتى حول صيغ الأمن وهياكله. على سبيل المثال، أعلنت السعودية والكويت عدم ترحيبها بوجود قوات كل من مصر وسورية في أراضيها، مفضلة ترتيبات ثنائية مع الولايات المتحدة.

ـ أصبحت إسرائيل ضمنياً حليفة لبعض البلدان العربية وجزءاً من الشرق الأوسط خلال الحرب على العراق وبعدها، كما لم يجعلها حدث آخر خلال أربعين عاماً من تاريخها[5].

3 ـ ضعف الوضع الفلسطيني

ـ عانت منظمة التحرير الفلسطينية قبيل انطلاق مؤتمر مدريد عام 1991 من أزمة خانقة كادت تعصف بمصيرها. فبعد الانتكاسة التي واجهتها بخروجها من لبنان عام 1982، واجهت القيادة الفلسطينية ضغوطاً سياسية وتكبيلاً لنشاطها وانحساره في تونس.

ـ وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1988، تصاعدت مكانة الحركة الإسلامية داخل الأراضي المحتلة، كما برزت قيادات محلية فلسطينية حصدت تأييداً جماهيرياً وعربياً ودولياً، على حساب مكانة المنظمة.

ـ وازداد وضع منظمة التحرير تعقيداً بعد وقف الدعم السياسي والمالي العربي، نتيجة لموقفها من حرب الخليج المؤيد لصدام حسين.

ـ تفاقمت الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، على مدار سنوات الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت عام ١٩٨٧.

مالت معادلة التوازن في المنطقة بشكل صارخ إلى مصلحة إسرائيل، وخصوصاً بعد هزيمة العراق، وباتت مقاربة تحقيق السلام أقرب، وبالأخص بعدما تصاعدت مكانة الدول المؤيدة للسلام مع إسرائيل، وأصبحت جدلية فرض الحلول ممكنة في ظل ضعف عربي عكسه الانقسام بعد أزمة الخليج، وتفاقم أزمة منظمة التحرير. فشاركت البلدان العربية والفلسطينيون في عملية مدريد للسلام تحت وطأة الضغوط الأمريكية وقبلت بالشروط الأمريكية، بما فيها دول الخليج، التي لا تمتلك حدوداً مع إسرائيل، والمعسكر العربي الذي عارض الحرب ضد العراق.

قام مؤتمر السلام في مدريد ومفاوضاته بوساطة أمريكية بدل أن يكون برعاية الأمم المتحدة، وجاء على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام وقراري مجلس الأمن (242 و338)، بدل أن تقوم على أساس القرارات (181 و194 و242 و338 و225) التي دعا إليها قرار الجمعية العامة (45/68) عام 1990. وحُرمت منظمة التحرير الفلسطينية المشاركة في المؤتمر وتمثيل الفلسطينيين، رغم أن قرار الجمعية العامة الذي سبقت الإشارة إليه، أوصى بضرورة تمثيل منظمة التحرير للفريق الفلسطيني في مؤتمر للسلام يعقد برعاية الأمم المتحدة وبمشاركة جميع الفرقاء، والأعضاء الخمس الدائمين في مجلس الأمن[6]. وقامت المفاوضات على مسارين، الأول متعدد يهدف في الأساس إلى تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، والمسار الآخر ثنائي جمع بين إسرائيل من جهة مع كل من لبنان وسورية والأردن، وضم الوفد الأردني وفداً فلسطينياً في إطاره، في رفض حاسم لاستقلالية الوفد الفلسطيني.

وفي سياق زمني لا ينفصل عن سياق مؤتمر مدريد، خرجت مفاوضات أوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل عام 1993، باتفاق مؤقت، أجَّل البحث في جميع المسائل الأساسية، من دون حصول الفلسطينيين على حق السيادة على الأرض، ولا على ضمانات بشأن إقامة الدولة الفلسطينية، ومن دون أن تكون القدس الشرقية جزءاً من مناطق الحكم الذاتي. ووافقت المنظمة على وقف الانتفاضة ونبذ العنف والإرهاب، وأعلنت أن الفقرات ذات العلاقة في الميثاق لم تعد سارية المفعول[7]. وفي نص بيان الاعتراف المتبادل اعترفت منظمة التحرير بإسرائيل وبحقها في الوجود في سلام وأمن، في المقابل اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير ممثلة عن الشعب الفلسطيني فقط[8]، بدل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في تكريس للمصلحة الذاتية للقيادة الفلسطينية، على حساب المصلحة الوطنية الفلسطينية. وقد وصف دينس روس مواقف المنظمة تلك بالمرونة غير المعهودة[9].

جاءت الدعوة إلى مفاوضات كامب دايفيد الثانية (1999/2000)، كأول مفاوضات حول قضايا الحل النهائي، من قبل الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون في مسعى لتحقيق اختراق سياسي في نهاية ولايته الرئاسية الثانية، وتلبية لرغبة أبداها أيهود باراك رئيس وزراء إسرائيل السابق[10]، وبضغط على ياسر عرفات الرئيس الفلسطيني السابق، الذي اعترض على توقيتها، وأبدى عدم يقينه من نتائجها. فلم يكن السياق الزمني لانعقادها مناسباً للفلسطينيين، وخصوصاً في ظل صعوبات سياسية وإدارية وأمنية واجهت السلطة الفلسطينية، وسيادة حالة من عدم الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وكانت إسرائيل قد ماطلت في تنفيذ استحقاقات اتفاقيات أوسلو، وتأخرت في تنفيذ المرحلة الثالثة من إعادة الانتشار، بالانسحاب من 13 بالمئة من أراضي الضفة الغربية المحتلة[11]، التي أقرت ضمن لقاءات «واي ريفير» عام 1995، في عهد رئيس الوزراء نتنياهو، ما أنتج تصاعداً لحدة التوتر بين الطرفين.

اعتقد باراك أنه يستطيع المساومة خلال لقاءات كامب دايفيد الثانية لإخراج اتفاق يضع نهاية لمطالب الفلسطينيين، ويجعل إعادة انتشار المرحلة الثالثة جزءاً منه[12]، بسقف مطالب فلسطينية منخفض، يتناسب مع الموقف الفلسطيني في مفاوضات أوسلو، ومع الواقع الفلسطيني على الأرض. وعلى الرغم من فشل هذه المفاوضات فإنه تم انتزاع موافقة فلسطينية على مبدأ تبادلية الأرض، ودولة فلسطينية منزوعة السلاح[13]، باتت أساساً لأي مفاوضات تالية.

وفي سياق زمني شبيه بذلك الذي حكم أجواء مؤتمر مدريد، وفي خضم استعدادات الولايات المتحدة لحربها التالية على العراق، دعت واشنطن إلى خطة خارطة الطريق عام 2002، في ظل تبعات أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001، والحرب التي شنتها على الإرهاب، والتي بدأت بالحرب على أفغانستان. كما جاءت تلك الدعوة لهذه الخطة أثناء حرب شنتها إسرائيل لقمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ومحاولاتها تقويض قدرة السلطة الفلسطينية ومكانتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فأعاد شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق احتلال مناطق عديدة من أراضي الضفة الغربية، عقب فشل مفاوضات كامب دايفيد الثانية.

وعكست دعوة الرئيس بوش الابن إلى المفاوضات حول خطة خارطة الطريق الأهداف الحقيقية التي وقفت وراءها، حيث أكد أنها تقوم على أساس مبادرة ولي العهد السعودي (الأمير/الملك عبد الله) خلال مؤتمر القمة العربية في بيروت في آذار/مارس 2002‏[14]، انطلاقاً من إقامة سلام عادل وشامل، وانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، مقابل تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل[15]، بما لا ينفصل عن ترتيباتها للمنطقة قبيل حربها على العراق، وهو ما تم تأكيده أيضاً في قمة شرم الشيخ اللاحقة. وأكد بوش استعداد إسرائيل إقامة دولة فلسطينية، لكن بالتشديد على ضرورة التوصل إلى تسوية من خلال المفاوضات. وارتكزت خطة خارطة الطريق عموماً على محاربة «الإرهاب» سواء على المستوى العربي، أو الفلسطيني، واشترطت وجود قيادة فلسطينية ديمقراطية قادرة على ذلك[16].

وعكست مراحل تنفيذ تلك الخطة الهدف منها، حيث اشترطت في مرحلتيها الأولى والثانية قيام السلطة الفلسطينية بإصلاحات أمنية وإدارية، تمثلت بالقضاء على المقاومة الفلسطينية، في جانبها الأمني، وإجراء تعديلات دستورية باتجاه تكبيل صلاحيات الرئيس لمصلحة رئيس الوزراء في النظام السياسي الفلسطيني، في جانبها الإداري. وحسب الخطة، يمكن للفلسطينيين الانتقال إلى المرحلة الثالثة، الخاصة بمفاوضات الحل النهائي، بعد أن يتم الحكم على أدائهم من قبل الطرف الأمريكي[17]. وبينما طرحت الخطة قضايا الحل النهائي بشكل شديد العمومية، بما لا يدع مجالاً للشك في أنها لم تكن الهدف الرئيس من وراء هذه الخطة.

ووافقت السلطة الفلسطينية على خطة خارطة الطريق بلا تحفظات، ونفذت البند الخاص بالأمن وأجرت التعديلات الدستورية المطلوبة، بينما رفضت إسرائيل مسودتَي الخطة الأولى والثانية وسجلت أربعة عشر تحفظاً عن المسودة الثالثة.

أهم التحفظات التي وضعتها إسرائيل على الخطة[18]:

  • اشترطت إسرائيل أن تبادر السلطة الفلسطينية بتفكيك المقاومة قبل أن تبدأ إسرائيل بتجميد الاستيطان وتفكيك ما أقيم منه منذ عام 2001.

 

  • واشترطت أن تكون الولايات المتحدة وحدها الحَكم على أداء الطرفين في تطبيق التزامات خطة خارطة الطريق، وذلك بدل اللجنة الرباعية كما أشارت الخطة.

 

  • كما اشترطت تحرير الخطة من الإطار الزمني الذي فرضته لتطبيق كل مرحلة من مراحلها الثلاث. وجاء ذلك مضافاً إلى رفض إسرائيل الإقرار بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، أو الإقرار بالسيادة الفلسطينية على الأراضي. وعادت الولايات المتحدة وأكدت ما جاء في خطة خارطة الطريق فلسطينياً في قمة العقبة التالية.

 

في سياق زمني مثير للجدل، وعلى مشارف نهاية الولاية الرئاسية الثانية للرئيس جورج بوش الابن، عادت السلطة الفلسطينية إلى المفاوضات مع إسرائيل حول قضايا الوضع النهائي، من خلال مفاوضات أنابوليس في تشرين الثاني/نوفمبر 2007، عقب أحداث الانقسام الفلسطيني، الذي أضفى مزيداً من الضعف والإحراج لمكانة السلطة الفلسطينية. فدخل الفلسطينيون إلى المفاوضات من دون التمسك بشرطهم الخاص بضرورة تجميد إسرائيل للاستيطان.

وفي ظل تصاعد حدة الاضطرابات السياسية والأمنية في المنطقة العربية بأسرها، في إثر انطلاق حالة من الثورة والثورة المضادة فيها، وعلى الرغم من أن الانقسام الفلسطيني لم ينته بعد، وافق الفلسطينيون على الانخراط في مفاوضات جديدة حول قضايا الحل النهائي مع إسرائيل، أطلقها جون كيري وزير الخارجية الأمريكي الحالي في تشرين الأول/أكتوبر 2013 لمدة تسعة أشهر. قبلت السلطة الفلسطينية الانخراط في هذه الجولة من المفاوضات دون إقرار إسرائيلي بأنها على أساس الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، إضافة إلى تمسكها برفض تجميد الاستيطان خلال فترة المفاوضات. وقدّم كيري خطة إطار، بعد أن شارفت المدة المفترضة للمفاوضات على الانتهاء (نيسان/أبريل 2014) من غير أن تحرز أي نتائج تذكر.

ومن دون أي تلميحات بتجميد الاستيطان، وبالمواقف الإسرائيلية نفسها التي دخلت المفاوضات الحالية على أساسها، وبإصرار إسرائيلي على ضرورة تمديد المفاوضات الحالية، تضمنت خطة كيري، الحدود الموجهة لاستمرار المفاوضات، والمبادئ التفصيلية التي سيتم التفاوض على أساسها، وفي إطار تسلسل محدد، بهدف التوصل إلى تسوية دائمة حتى نهاية عام 2014‏[19]، وهو ما جعلها تختلف عن خطة خارطة الطريق التي طرحها جورج بوش الابن الشديدة العمومية. ويبدو أن ترتيب كيري للقضايا في إطار الخطة، التزم بما أصرت عليه إسرائيل في بدء جولات التفاوض الحالية التي انطلقت في تشرين الأول/أكتوبر (2013)، حيث التزمت الخطة بحل قضايا الأمن والحدود أولاً، بما فيها قضية الاستيطان[20]. وأبدى كيري في خطته تلك اهتماماً خاصاً للاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، دون مواربة، في حين عرض صيغاً غامضة في قضايا القدس والحدود واللاجئين.

لم يساعد السياق الزمني، الذي انطلقت خلاله الجولات التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الفلسطينيين على تحقيق مقاربتهم حول عملية السلام، لأنها جاءت في إطار تحديات واجهتها القيادة الفلسطينية المفاوضة على الصعيدين الداخلي أو الخارجي أو كليهما معاً، الأمر الذي قوّض قدرة المفاوض الفلسطيني على المناورة السياسية المطلوبة خلال المفاوضات. فجاء مؤتمر مدريد ومفاوضاته وكذلك مفاوضات أوسلو في إطار ضعف مكانة منظمة التحرير الفلسطينية وقدرتها، بينما انعقدت مفاوضات كامب دايفيد الثانية في ظل انتقادات واجهت السلطة الفلسطينية إدارياً ومالياً وسياسياً، وتأزم علاقاتها مع إسرائيل. وما بين حرب الولايات المتحدة على «الإرهاب»، وحرب شارون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي كادت تعصف بالسلطة الفلسطينية، جاءت مفاوضات خطة خارطة الطريق. ولم يختلف السياق الزمني الذي صاحب مفاوضات أنابوليس ومفاوضات كيري الحالية عن جولات المفاوضات السابقة، فجاءت مفاوضات أنابوليس عقب الانقسام الفلسطيني، وانطلقت المفاوضات على خلفية أحداث الثورات العربية. ودون إغفالٍ لواقع القوة على الأرض الذي يميل بقوة إلى مصلحة إسرائيل، والدعم المطلق لها من قبل الولايات المتحدة، تصبح عوامل المعادلة السياسية للمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين محددة لنتائجها التي مالت بإجحاف ضد تحقيق المقاربة الفلسطينية للعملية السلمية.

ثانياً: تحقيق المقاربة الإسرائيلية للعملية السلمية على حساب المقاربة الفلسطينية

خلال العملية السلمية، وعلى مدار عملية تفاوضية أدارها الطرف الإسرائيلي باقتدار، واستمرت أكثر من عقدين من الزمان، استطاعت إسرائيل أن تقترب كثيراً من تحقيق مقاربتها السياسية مع الفلسطينيين، في حين تراجع الفلسطينيون عن تحقيقها إلى حدٍ كبير.

1 ـ المقاربة الإسرائيلية للعملية السلمية الفلسطينية ـ الإسرائيلية

بدأت تتبلور المقاربة الإسرائيلية باتجاه الحل مع الفلسطينيين بعد حرب عام 1973، حيث توصل اليسار في إسرائيل إلى عدم جدوى استمرار احتلالها للأراضي العربية التي استولت عليها خلال حرب عام 1967. وبدأت في عهد حكومة غولدا مائير ترتفع أصوات تدعو إلى التفاوض مع أي جهة فلسطينية تعترف بدولة إسرائيل وبالقرار 242 وتتحفظ عن استخدام القوة ضدها، إلا أن منظمة التحرير الفلسطينية لم تكن مقبولة كشريك للحوار بعد. وفي عامي 1978 و1979 طرحت إسرائيل خلال مفاوضات كامب دايفيد الأولى إمكان منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً في الضفة الغربية وقطاع غزة لإدارتها، لكن من دون انسحابها من المستوطنات أو تخلّيها عن السيادة عليها. وفي عام 1985 سن الكنيست الإسرائيلي قانوناً يمنع الاتصال بالمنظمة، في استمرار لاستبعادها من الحوار. ورغم مصادقة المنظمة على إعلان الجزائر عام 1988، الذي اعترفت فيه بإسرائيل وقبلت بقراري مجلس الأمن (242 و338) وحل الدولتين[21]، فإن إسرائيل لم تتراجع عن رفضها التعامل معها.

جاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1988 لترسخ لدى إسرائيل مفهوم التخلص من عبء احتلالها للأراضي الفلسطينية[22]، وخصوصاً بعد تصاعد حدة الانتقادات ضد ممارساتها الاحتلالية. وصرح شامير، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، الذي شارك في مفاوضات مدريد على غير إرادته، أن مشاركته جاءت لجرّ الفلسطينيين في محادثات طويلة والاستمرار في مفاوضات حكم ذاتي لمدة عشر سنوات، بينما تقوم إسرائيل بإحداث التغيير المطلوب على الأرض[23].

ومن الواضح أن رؤية شامير للمفاوضات مع الفلسطينيين تقوم على أساس ما عرضته إسرائيل في اتفاقية كامب دايفيد الأولى، التي بقيت الأساس الذي قامت عليه اتفاقيات أوسلو ولا تزال تحكم العملية السلمية ومفاوضتها حتى اليوم.

2 ـ المقاربة الفلسطينية للعملية السلمية الفلسطينية ـ الإسرائيلية

تقوم المقاربة السياسية الفلسطينية على أساس تحقيق الاستقلال التام والسيادة الكاملة على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وتحصيل الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني في جميع أمكنة وجوده، عبر تطبيق قرارات الشرعية الدولية وأحكام القانون الدولي في ما يخص القضية الفلسطينية.

وباختيار مسار المفاوضات طريقاً لتحقيق المقاربة الفلسطينية للعملية السلمية، يؤكد الفلسطينيون حقهم في تقرير المصير، بإنهاء الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة على حدود عام 1967، وسيطرة الدولة الفلسطينية بشكل تام على حدودها، وأن تكون مدينة القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية. كما تشترط المقاربة الفلسطينية تواصلاً جغرافياً واقتصادياً كاملاً، بما يضمن وجود دولة قابلة للحياة، تسيطر على مواردها الطبيعية بما فيها المصادر المائية، وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين[24].

3 ـ التطورات التفاوضية لصالح المقاربة الإسرائيلية

جاءت تطورات العملية التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، طوال سنوات عمرها، لتقويض المقاربة الفلسطينية لعملية السلام، لمصلحة تحقيق المقاربة الإسرائيلية، مترافقةً مع تجسيد المقاربة الإسرائيلية فعلياً على الأرض، اعتماداً على قوة إسرائيل وتباين موازين القوة لمصلحتها بامتياز، وضمان إسرائيل الحماية والدعم الأمريكيين المطلقين لممارساتها.

جاءت اتفاقية أوسلو لتتخطى بعيداً ما رسمته قرارات الشرعية الدولية من حقوق للفلسطينيين على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وتقر قرارات الشرعية الدولية مبدأ عدم جواز حيازة دولة لأرض دولة أخرى بالقوة، كما تجيز مقاومة الاحتلال، إلا أن وثيقة إعلان المبادئ فرضت على الفلسطينيين القبول بالاحتلال إلى أن يتم تسويته عبر المفاوضات وحدها، الأمر الذي سمح لإسرائيل اعتبار الأراضي الفلسطينية المحتلة أراضي متنازعاً عليها. كما نفت اتفاقيات أوسلو عن الفلسطينيين الحق القانوني بمقاومة الاحتلال، عبر إقرار منظمة التحرير نبذ العنف، الذي عادت وأكدته السلطة الفلسطينية مرة أخرى بالتزامها بمحاربة «الإرهاب» في خطة خارطة الطريق. إن من شأن ذلك الإقرار والالتزام الفلسطيني إقصاء أحد الخيارات الفلسطينية المتاحة لتحقيق الاستقلال، التي كفلتها للفلسطينيين أحكام القانون الدولي، بل إن حصر تحقيق المقاربة الفلسطينية عبر المفاوضات وحدها، يخفض سقف مطالب الفلسطينيين، ويتيح فرص القبول الفلسطيني بحدود ما تريده أو تسمح به إسرائيل، في ظل اختلال موازين القوى لمصلحتها، والدعم الأمريكي المطلق لها.

أ ـ السيادة

حصلت إسرائيل على تنازلات حول الأمن في وثيقة إعلان المبادئ وملاحقها، الأمر الذي أفقد السلطة الفلسطينية السيادة الفعلية على الأراضي التي انسحبت منها إسرائيل. فإضافة إلى السيطرة الإسرائيلية المطلقة على المعابر الحدودية البرية والبحرية، وعلى المجال الجوي، جاء في نص إعلان المبادئ المتفق عليه: «إن انسحاب الحكم العسكري لن يمنع إسرائيل من ممارسة الصلاحيات والمسؤوليات التي لم تنقل إلى المجلس»، كما تم الاتفاق على أن: «حماية المستوطنين سوف يبقى شأناً إسرائيلياً ولن يتحول للمجلس الفلسطيني»[25]، ناهيك بما ورد في الاتفاق حول حق إسرائيل بالمطاردة الساخنة للمطلوبين الفلسطينيين داخل أراضي السلطة الفلسطينية، الأمر الذي سمح لإسرائيل بالبقاء عسكرياً في المناطق الفلسطينية التي تم الانسحاب منها، بحجة ضمان الأمن. فبينما تمسَّك المفاوض الفلسطيني بصلاحيات السلطة الإدارية (التعليم والثقافة والصحة والرعاية الاجتماعية والضرائب المباشرة والسياحة) في وثيقة إعلان المبادئ في ظل عدم سيطرة السلطة الفلسطينية الفعلية على الموارد الطبيعة بما فيها مصادر المياه، تمسّك المفاوض الإسرائيلي بالسيطرة الأمنية على المناطق التي ستنسحب منها إسرائيل، وهو ما جسَّد السيادة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية.

واستُخدم الهاجس الأمني الإسرائيلي بعد ذلك في المفاوضات حول قضايا الحل النهائي، لتقويض مبدأ السيادة عن الدولة الفلسطينية المفترضة؛ فبعد فشل مفاوضات كامب دايفيد الثانية، التي افتتحت المفاوضات حول قضايا الحل النهائي، سعى الإسرائيليون لفرض مقاربتهم للسلام عبر التركيز على الجانب الأمني ومحاربة «الإرهاب» كأولوية على أي قضايا تفاوضية أخرى. ومنذ ذلك الوقت باتت القضية الأمنية ومحاربة «الإرهاب» جوهر ما تركز عليه المفاوضات.

انتزعت إسرائيل موافقة فلسطينية على دولة منزوعة السلاح، خلال مفاوضات كامب دايفيد الثانية[26]، رغم أن الفلسطينيين كانوا يحاولون الاحتفاظ بدولة محدودة التسلح[27]، فتحت الطريق واسعاً أمام مطالبات أمنية متصاعدة، تُفقد الدولة الفلسطينية السيادة الفعلية على الأرض.

وطالبت إسرائيل في مفاوضات كامب دايفيد الثانية، باستمرار سيطرتها على المجال الجوي للدولة الفلسطينية المتوقعة، مع إمكان استخدامه فلسطينياً، وزرع محطات إنذار مبكر فيها، وإبقاء وحدة طوارئ لردع الأخطار المتوقعة، وتوفير مخازن سلاح لخدمتها[28]، الأمر الذي يعني احتفاظ إسرائيل بمواقعها العسكرية في أراضي الدولة الفلسطينية، كما طالبت بوجود مراقبين غير مرئيين على معابرها الحدودية. وبقيت تلك المطالبات حاضرة خلال جولات المفاوضات التالية. وهي تأتي بحجة حماية أمن إسرائيل، وخصوصاً المستوطنات التي ستبقى تحت السيادة الإسرائيلية، وكذلك المناطق الاستراتيجية المطلة على إسرائيل من الدولة الفلسطينية.

كذلك طالبت إسرائيل بالاحتفاظ بغور الأردن، والسيطرة على المناطق الحدودية فيه لمدة اثني عشر عاماً خلال مفاوضات كامب دايفيد الثانية[29]. ووافق أولمرت على استقدام طرف ثالث للمرابطة في غور الأردن بعد انتهاء تلك المرحلة الانتقالية، خلال لقاءات أنابوليس[30]. في حين يشترط نتنياهو خلال المفاوضات الحالية، عدم تحديد مواعيد أو جداول زمنية تقيّد مدة وجود إسرائيل فيها، ويرفض أي وجود لقوات طرف ثالث في المستقبل، وأن تكون الوحدة التي تقوم بدوريات على طول نهر الأردن مقاربة للوحدة الموجودة حالياً، كما يطالب بوجود منطقة عازلة، على أساس أن منطقة غور الأردن تشكل خط الدفاع الأول ضد التهديدات من الشرق، وخصوصاً في ظل الواقع الاستراتيجي القائم[31].

يسعى الفلسطينيون لتحصيل دولة فلسطينية ذات سيادة، إلا أن ما تشير إليه تصريحات القيادة الفلسطينية، بأنها ستكون دولة منزوعة السلاح، وأنه سيسمح ببقاء قوات طرف ثالث للمرابطة على الحدود مع الأردن[32]، ونية إسرائيل إبقاء محطات مراقبة، ووحدات طوارئ، ومخازن سلاح، وسيطرة على المجال الجوي، إضافة إلى السيطرة على الحدود البرية ومراقبتها، ينفي عن الدولة الفلسطينية أي صفة سيادية، مع العلم أن السيادة أحد الشروط الثلاثة لوجود الدولة.

ب ـ الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧

نجحت إسرائيل في عدم تكبيل سياستها الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، فلم يرد نص صريح في اتفاقيات أوسلو يقيّدها، رغم عدم شرعيتها القانونية. ورغم سعي الفلسطينيين، خلال مفاوضات أوسلو، لتحصيل نص صريح يقيّد الاستيطان خلال المرحلة الانتقالية من الاتفاق[33]، غير أنهم لم ينجحوا إلا في تحصيل صيغة غامضة، سمحت للإسرائيليين بالتلاعب في تفسيرها. وجاء النص الخاص بقضية الاستيطان في اتفاقية أوسلو: «بعدم جواز قيام أي طرف بإجراءات أُحادية الجانب من شأنها أن تجحف وتؤثر في قضايا الحل النهائي»[34]، اعتبرته إسرائيل لا ينطبق على الاستيطان.

استمرت إسرائيل على مدار العملية السلمية الممتدة مع الفلسطينيين في تصعيد سياسة الاستيطان داخل الأراضي المحتلة، حيث تضاعف عدد المستوطنات والمستوطنين خلالها أكثر من ثلاث مرات. وتؤكد إسرائيل عدم نيتها التنازل عن الكتل الاستيطانية الكبرى التي باتت تقتطع أكثر من 13 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، بينما تؤكد الولايات المتحدة عدم إمكان إغفال الواقع الاستيطاني على الأرض في المفاوضات، حسب ما جاء على لسان بوش الابن، ثم أعاد تأكيده كيري خلال المفاوضات الحالية.

وانتزعت موافقة فلسطينية خلال مفاوضات كامب دايفيد الثانية على مبدأ التبادلية[35]، كأساس يسمح لإسرائيل بالاحتفاظ بجزء من تلك المستوطنات ضمن سيادتها. ورغم أن الحديث كان يدور حول تعديلات متبادلة لا تزيد على 1.9 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، وبنسبة 1:1، وبالقيمة والمثل نفسيهما[36]، إلا أنه، ومنذ ذلك الوقت، تركزت المفاوضات حول الاستيطان بين الفلسطينيين والإسرائيليين حول نسبة مساحة المستوطنات التي تنوي إسرائيل الاحتفاظ بها من المساحة الكلية[37]. وعرض باراك خلال مفاوضات كامب دايفيد الثانية احتفاظ إسرائيل بـما يراوح من 10 بالمئة إلى 13,5 بالمئة من أراضي الضفة الغربية لإبقاء تلك المستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية المباشرة[38]، بينما انخفضت في عهد أولمرت نسبتها إلى10 بالمئة[39]، وعادت النسبة وارتفعت في إطار المفاوضات الحالية إلى الحديث عن أكثر من 13 بالمئة[40]، من دون أن تحدد إسرائيل الأراضي التي تنوي مبادلتها في أي من تلك الجولات.

كما تطالب إسرائيل بإبقاء سيطرتها على منطقة غور الأردن التي احتلتها عام 1967، بحجة الاعتبارات الأمنية. وتشكل منطقة غور الأردن حوالى 25 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، ووصل عدد المستوطنات التي أقيمت فيها منذ احتلالها إلى إحدى وعشرين مستوطنة. ويسعى الكنيست الإسرائيلي لإقرار قانون يضمها إلى إسرائيل كالقدس الشرقية.

وتعتبر مطالبة إسرائيل بالاحتفاظ بالمستوطنات ومنطقة غور الأردن غير شرعية أو قانونية، لأن هذه الأراضي احتلت عام 1967، ويدعو قرار مجلس الأمن 242 الصادر عام 1967 إلى «انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضي التي احتُلت خلال النزاع الأخير»[41]. ويتجاوز مبدأ تبادلية الأرض الذي أقرّت به السلطة الفلسطينية حدود شرعيته، كما يتخطى حدود شرعية قرار مجلس الأمن 446 الذي يدعو إسرائيل صراحة إلى الانسحاب من جميع المستوطنات التي أُقيمت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويتعدى حدود مقاربة الفلسطينيين للعملية السلمية، وخصوصاً أن القرار الأممي 242، طبِّق فعلياً قبل ذلك على الحالة المصرية، وتم الانسحاب من سيناء وتفكيك جميع المستوطنات الإسرائيلية فيها.

ج ـ قضية القدس

يصرّ نتنياهو في تصريحاته حول مدينة القدس على ضرورة بقائها موحدة تحت السيادة الإسرائيلية[42]، ورفض التفاوض حولها خلال المفاوضات الجارية، وتحدث عنها كيري بشكل غامض خلال مبادرته الحالية لخطة الإطار. وتضم مدينة القدس الشرقية مئتي ألف مستوطن يسكنون في ثلاث عشرة مستوطنة بُنيت بعد احتلال المدينة عام 1967، تمتد شمالاً لتفصل مدينة القدس عن مدينة رام الله، وجنوباً لتفصلها عن مدينة بيت لحم، وفي الوقت نفسه تتصل تلك المستوطنات مع أحياء القدس الغربية، في عملية تطويق مبرمجة لمدينة القدس الشرقية.

وأبقت جميع الأطروحات الإسرائيلية التفاوضية السابقة حول مدينة القدس، السيادة الفعلية لإسرائيل، والإصرار على بقائها موحدة. فوافقت إسرائيل في كامب دايفيد الثانية على تقسيم المدينة، بالسماح لسيطرة إدارية فلسطينية على الأحياء الخارجية الفلسطينية منها، على أن تبقى السيطرة الإسرائيلية كاملة داخل أسوار القدس، مع إعطاء مكانة خاصة للمسجد الأقصى، مع رفض السيطرة الفلسطينية على منطقة الحرم[43]. واستعد أولمرت لتقسيمها بين الفلسطينيين والإسرائيليين حسب الأحياء، مع بقاء عمدة يهودي للمدينة بحجة أن اليهود يشكلون أغلبية سكانها، على أن يتم تدويل المدينة القديمة تحت إشراف خمس دول هي إسرائيل والولايات المتحدة والسعودية والأردن وفلسطين[44].

تمحورت المفاوضات حول مدينة القدس الشرقية على تقسيمها بين الأحياء الفلسطينية والإسرائيلية[45]، إلا أن تقسيمها يمكن أن ينفذ فقط على الخرائط، بينما عملياً في ظل وضع القدس القائم والتداخل الكبير الذي خلقته إسرائيل على أحياء المدينة، واختلال التوازن على الأرض لمصلحة إسرائيل، يجعل تطبيق التقسيم مستحيلاً. إضافة إلى أن تقسيم المدينة بين الأحياء الفلسطينية والإسرائيلية يتناقض مع المقاربة الفلسطينية حول مدينة القدس الشرقية، التي تسعى لتحقيق السيادة الفلسطينية الكاملة على المدينة القديمة والمناطق المجاورة لها التي احتلت عام ١٩٦٧‏[46]، وبما يتفق مع قرارات مجلس الأمن (242/1967 و252/1968 و476/1980)، ولا تمتلك إسرائيل الحق القانوني في أي جزء من أجزائها، وتعتبر جميع إجراءات التهويد فيها باطلة قانونياً.

د ـ قضية اللاجئين

يُعَد عدم الإقرار بالمسؤولية التاريخية والأخلاقية والقانونية عن مأساة اللاجئين الفلسطينيين، العامل المشترك بين جميع الحكومات التي تفاوضت مع الفلسطينيين حول هذه القضية، إلاأن حكومة باراك استعدت لإبداء الأسف لما حصل للاجئين الفلسطينيين، خلال مفاوضات كامب دايفيد الثانية.

ومن بين أربعة ملايين لاجئ فلسطيني ينتشرون في أصقاع الأرض، قبلت إسرائيل أن تستوعب أعداداً ضئيلة على أساس إنساني (لمّ الشمل)، راوحت ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف لاجئ على مدار عشر سنوات، خلال مفاوضات كامب دايفيد الثانية[47]، ووصلوا إلى ألف لاجئ على مدار خمس سنوات، خلال مفاوضات أنابوليس[48]، في حين تنصَّل نتنياهو من أي التزامات خلال المفاوضات الحالية، وهو ما حدا بكيري على تقديم صيغة غامضة في اقتراحاته لخطة الإطار بخصوص قضية اللاجئين. ويُذكر أن الكنيست سن مؤخراً قانوناً يمنع رئيس الوزراء من التفاوض حول قضيتي القدس واللاجئين دون نيل موافقة الأغلبية البرلمانية، وأي مفاوضات حول هذين الملفين من دون إقرارها يعد غير ملزم.

إن كل ما عرضته إسرائيل حول قضية اللاجئين، يفرغ قرارات الشرعية الدولية حول هذه القضية من مضمونها القانوني، ولا يلبي الحدود الدنيا لمقاربة الفلسطينيين لحلها. وضمن القانون الدولي حقوق اللاجئين الفلسطينيين، سواء كان ذلك في القرار الصادر عن الجمعية العامة (194) عام 1947 أو في المادة (13/1) من نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1948، أو في نص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في مادته (12/4)، أو قراري اللجنة الفرعية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان في المادتين 110 و310. كما تشير لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التمييز العنصري في المادة 5 والمادة 18 إلى هذا الحق.

ورغم أن المقاربة الفلسطينية تقوم على أساس الاعتراف بحقوق اللاجئين الفلسطينيين، واعتراف إسرائيل بمسؤولياتها عن خلق هذه المشكلة وإقرارها بالمبادئ والحقوق المتعلقة باللاجئين الفلسطينيين، ومن ضمنها حقهم بالعودة إلى ديارهم وأراضيهم التي رحلوا عنها بالقوة، والحق باستعادة الأراضي والممتلكات التي انتهكت وسلبت، والحق بالتعويض عن الخسائر المادية والمعنوية[49]، فإن الموقف التفاوضي يؤكد أنه في ظل حرية الاختيار للاجئين، لن يختار أغلبيتهم العودة إلى بلادهم الأصلية، كما صرح الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتنازله عن حقه بالعودة إلى صفد، وإنما قد يختار أغلبية اللاجئين الفلسطينيين التوطين في البلد المضيف أو في الدولة الفلسطينية المستقبلية أو في دولة ثالثة. كما يعرض الموقف التفاوضي الفلسطيني تطبيق حق العودة على مراحل، من أجل معالجة مخاوف إسرائيل الديمغرافية[50]، ودون مطالبة إسرائيل بتحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية والقانونية بحق اللاجئين. إن حل هذه القضية يبدأ بإقرار إسرائيل بالمسؤولية تجاهها، ثم بالتزامها بتنفيذ قرار الجمعية العامة (194)، وبالتالي تتحول صلاحيات تحديد أعداد اللاجئين العائدين إلى اللاجئين أنفسهم، لا إلى إسرائيل. كما أن ذلك الإقرار يلغي عملياً مطالبة إسرائيل الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، التي تضعها شرطاً تعجيزياً لإتمام أي اتفاق سلام مع الفلسطينيين.

يلاحَظ مما سبق أن ما طرحته إسرائيل، عبر سنوات التفاوض الطويلة مع الفلسطينيين، في ما يخص قضايا الاستيطان والحدود والأمن والقدس، وما نفذته عملياً على الأرض، يتعارض مع ما جاء في القرار (٢٤٢)، حول الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧، كما ينفي إمكان تحصيل الفلسطينيين للسيادة المفترضة على الأراضي الفلسطينية التي تنوي إسرائيل الانسحاب منها، بما يضمن تحقيق المقاربة الإسرائيلية للعملية السلمية التي أعلنت عنها منذ عقود، ودون تغيير أو تبديل في جوهرها. في حين أنتجت تطورات الجولات التفاوضية تنازلات فلسطينية متصاعدة، بدأت بمبدأ التبادلية، فدولة منزوعة السلاح، ثم الأخذ بالاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، في تقويض للمقاربة الفلسطينية للعملية السلمية. والراجح أن تلك العملية السلمية قوّضت تلك المقاربة تدريجاً، ورسخت واقعاً احتلالياً دون رفض أو مقاومة، لعقدين من الزمان، واستمرار الانخراط الفلسطيني ضمن هذه العملية، يرجح تمديداً لاحتلال مسكوت عنه لعقود أخرى.

خاتمة

إن ما قدمته إسرائيل، عبر سنوات التفاوض الطويلة مع الفلسطينيين، في ما يخص قضايا الاستيطان والحدود والأمن والقدس، ينفي أي نية إسرائيلية بإعطاء السيادة للفلسطينيين على أرضهم، حتى وإن انسحبت إسرائيل منها. ومن الواضح أن ما تم توقيعه فلسطينياً خلال اتفاقيات أوسلو، وما تم التفاوض حوله خلال جولات التفاوض المستمرة، لم يصل إلى سقف قرارات الشرعية الدولية أو حدودها، التي يسعى الفلسطينيون لتحصيلها، وليس من المتوقع أن ينجحوا في ذلك، في إطار أي مفاوضات تخضع للسياق الزمني الحالي وموازين القوى التي تحكمه. وإن توقيع أي اتفاق يمس بالحدود الشرعية أو القانونية للمقاربة الفلسطينية للسلام من شأنه أن ينفي حقوقاً للفلسطينيين أقرتها قرارات الشرعية، لأن الاتفاقات الموقعة تعَدّ أحد مصادر الشرعية.

وإن كان على الاحتلال أن يبقى، فليبقى، لكن بلا غطاء من الفلسطينيين، فانسحاب إسرائيلي أُحادي الجانب كما تهدد إسرائيل، أفضل من توقيع اتفاقيات تنتهك الحقوق الوطنية الفلسطينية، لأن السيادة العليا على الأرض ستبقى للمحتل أيضاً، حسب ما تشير إليه الطروحات الإسرائيلية. وعلى الفلسطينيين البدء في البحث عن خيارات جديدة، تسمح لهم بالمناورة، لكن بعيداً من المساومات السياسية، لتحقيق المقاربة الفلسطينية المشروعة، حتى ولو بعد حين. فرغم هذه العملية السلمية الطويلة، لا يزال العالم يعتبر استمرار السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية بأنها احتلال، وعلى الفلسطينيين أن يبدأوا العمل ضمن هذا السياق. إن حدود القوة متغيرة في عالم السياسة، فمن كان يتوقع أن يساند العالم الغربي الأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا ضد الأقلية البيضاء ونظام الفصل العنصري فيها؟.