بعد عقود من العمل، أطلقت الأمم المتحدة خطة التنمية المستدامة لعام 2030، وذلك خلال قمة التنمية العالمية في نيويورك (25 سبتمبر/أيلول 2015). تغطّي الخطة التي أسهم فيها المجتمع المدني العالمي، 17 هدفًا و169 مقصدًا، وتمثّل إطارًا شاملًا لتوجيه العمل الإنمائي الدولي والوطني على مدى الأعوام المقبلة. وتستهدف تلافي أوجه القصور ومعالجة الثغرات التي اتّسمت بها خطة الألفية الثالثة.

تقوم خطّة 2030 على مرتكزات أساسية هي: ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان لا سيّما “إعلان الحق في التنمية”، وقد رفعت شعار “لا أحد سوف يُترك في الخلف”. استنادًا إلى ذلك، انعقد في القاهرة مؤتمرٌ إقليميٌ لتنفيذها في المنطقة العربية بعد عدد من الأنشطة أسهمت فيها المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالتعاون مع جامعة الدول العربية [1].

لم يعد مفهوم التنمية مقتصرًا على “النمو الاقتصادي” إنما تطور ليصبح المقصود به التنمية البشرية، وذلك بعد صدور تقارير التنمية الإنمائية (العام 1990)، واتخذ لاحقًا بُعدًا أكثر شمولية وترابطًا بالانتقال من رأس المال البشري إلى رأس المال الاجتماعي وصولاً إلى التنمية الإنسانية الشاملة وهو ما اصطلح عليه بالتنمية المستدامة.

باختصار، التنمية تعني “توسيع خيارات الناس” وهذا ما يحتاج إلى مبادئ الحكم الصالح في الإدارة وتوسيع دائرة احترام حقوق الإنسان، وقد تعزّز هذا المفهوم بشكل خاص بصدور “إعلان الحق في التنمية” عام 1986 الذي تم التشديد عليه في قرارات مؤتمر فيينا الدولي لحقوق الإنسان، عام 1993.

ولا يزال الكثير من البلدان العربية يعاني من معوّقات جدّية تحول دون تحقيق التنمية  المستدامة، مثل الحروب والنزاعات المسلحة والأهلية والإرهاب والعنف من جراء اشتداد  التعصّب ووليده التطرّف، وزادها تعقيدًا تفشي جائحة كورونا (كوفيد 19). إضافة إلى الفساد والطائفية والتمييز بحق “المجاميع الثقافية” التي تسمى مجازًا “الأقليات”، وعدم تمكين المرأة ومساواتها مع الرجل، الأمر الذي أدى إلى ضعف أو حتى غياب الاستقرار والسلام المجتمعي والأهلي، وهذا قاد إلى انهيار تجارب تنموية كانت واعدة في عدد من البلدان العربية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لأسباب داخلية كشحّ الحريّات وضعف مبادئ المساواة والعدالة ولا سيّما الاجتماعية منها وعدم الاعتراف بالتنوّع  والتعددية والحق في المشاركة، وأخرى خارجية بهدف فرض الاستتباع والهيمنة[2].

ومن هنا يقع دور أساسي وفعّال على وسائل الإعلام المختلفة في نشر مفاهيم التنمية المستدامة وتعميمها والمشاركة الفعّالة فيها، وفي معالجة القضايا والمشكلات المجتمعية، علماً أن مفهوم الإعلام التنموي والمتخصص في المجالات العلمية والتطبيقية بدأ الاهتمام به في بدايات الثمانينيات من القرن الماضي، وأصبح ضروريًا وفاعلًا في تطوير المجتمع وتنميته، فالإعلام التنموي هو عين الحقيقة التي يجب أن يرى فيها المواطنون ما يحدث حولهم ويؤثر في مصيرهم[3].

يعدّ ويلبر شرام أحد أعمدة استحداث مفهوم الإعلام التنموي، لا سيّما بنشر كتابه “وسائل الإعلام والتنمية” عام 1974، حيث بحث دور الإعلام التنموي وأهميته في التحوّل الاجتماعي والتطوير والتحديث والتغيير المنشود.

ويمكن من خلال الإعلام التنموي توجيه الأنظار والجهود صوب أهداف الحركة التنموية في المجالات كافة، كما ورد في الإعلان العالمي لليونسكو الصادر عام 1970 : تؤدي وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في المساهمة بإزالة الجهل وسوء التفاهم بين الشعوب وتأكيد احترام حقوقها وكرامتها من دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين أو القومية، وفي إثارة الانتباه إلى الآفات التي تتعرض لها البشرية كالفقر وسوء التغذية، وهو ما أكده بيان هافانا الصادر في العام 1979، حين شدّد على دور الإعلام في كل ما يتعلق بالتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للبلدان النامية.

ووفقاً للمفكر المصري محمد سيد أحمد فإن المجتمع والإعلام في حركة مستمرة، وعليه قبل أن تتحرك خطة التنمية من الإحصاءات والتنسيق إلى شكلها النهائي، يكون الإعلام قد سبقها إلى ذلك لإحساسه بمرارة الواقع المتخلف وبضرورة تغييره [4].

وقد حدّدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يومًا عالميًا للإعلام التنموي وهدفها هو لفت انتباه الرأي العام العالمي إلى مشاكل التنمية والحاجة إلى تعزيز التعاون الدولي من أجل حلّها[5]. وقد تطور المفهوم على يد ولبر شرام كما جرت الإشارة إلى ذلك ويرى فيه ثلاث وظائف: أولها الرقابة لاستكشاف الآفاق وإعداد التقارير في هذا الإطار؛ ثانيها اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسات والتشريعات؛ ثالثها التنشئة والتربية لتنمية المهارات وإعداد الملكات.

وإذا كان الإنسان الهدف الأول والأخير للتنمية فلا يمكن تحقيق غاياته إلا بتأمين حقه في المعرفة والتواصل الاجتماعي والتعبير عن ذاته وهويّته، أي توفير المستلزمات والحاجات الضرورية له إعلاميًا وثقافيًا وفي بقية المجالات الاقتصادية والاجتماعية بما يؤدي إلى تكاملها كجزء من عملية التنمية، ويتطلب هذا أن يكون للإعلام التنموي دورٌ رقابيٌ وتوعويٌ وإرشاديٌ وتثقيفيٌ مثلما هو دوره الإخباري، وفي الوقت نفسه دور اقتصادي واجتماعي وسياسي، خصوصًا في تأمين أواصر العلاقة بين المفاصل العليا في الدولة وبين الناس وأفراد المجتمع من خلال فضاء الحوار، فضلاً عن قدرته الإيحائية والإقناعية بحيث يمكنه أن يكون فاعلًا اجتماعيًا أيضًا[6].

 

1 – تحديات العولمة وتكنولوجيا الإعلام

أسهمت الثورة العلمية التكنولوجية، ولا سيّما في مجال الاتصالات والإعلام، في إحداث تغييرات جذرية في حياة الناس أفرادًا وجماعاتٍ وشعوبًا وبلدانًا، فهي لم تترك مجالًا من مجالات الحياة إلّا وتغلغلت فيه، لدرجة جعلت العالم مختلفًا، بفعل هيمنة وسائل الاتصال وتكنولوجيا الإعلام والمواصلات، وبقدر ما زادت من درجة التواصل بين الناس، فإنها في الوقت نفسه وضعت حواجز بينهم، إذْ تقلّص التفاعل المباشر وحلّ محلّه العالم الإفتراضي في الكثير من الأحيان.

وانتقل الإنسان من عالم المعرفة إلى عالم المعلومات، هذه الأخيرة تصل إليها من دون خبرة إنسانية، حتى أن “بعض وسائل الإعلام الجديد” أصبح منتجًا للمعرفة وليس ناقلًا للمعلومات فحسب بل مؤثرًا في كل شيء تقريبًا، من العلم إلى الشائعة ومن الرأي إلى الخبر، سواء كان صحيحًا أم كاذبًا، ومن هتك الأسرار الشخصية إلى الاختراقات وتهديد الأمن الوطني، مما يدفع الحكومات والمجتمعات إلى التفكير في إيجاد معالجات وحلول لمنع التأثير السلبي للظواهر الجديدة، وهو ما نعني به الأمن السيبراني[7].

وهناك رأيان متعارضان بشأن التعاطي مع الظواهر الجديدة في الإعلام:

الأول يريد منع وسائل الاتصال الحديث أو تحريمها أو وضع رقابة شديدة عليها تحت عنوان “الأضرار” التي يمكن أن تلحقها بالفرد أو الجماعة أو الدولة، تلك التي قد تؤدي إلى جرائم، والثاني لا يريد أي نوع من الرقابة كي لا تستغلها الحكومات لحجب الآراء والمعلومات والأخبار، ويدرج ذلك تحت عنوان “حريّة التعبير” التي ينبغي أن تكون مصونة بحسب الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

وبين هذا وذاك هناك رأيٌ ثالث ينحاز إلى حريّة التعبير ولا يريد الحدّ منها، لكنه يفرّق بين حريّة التعبير و”حريّة التشهير” وإلحاق أضرار بالفرد أو المجتمع أو الدولة. لذلك يقتضي إيجاد توازن بين حريّة التعبير وبين الحق في حماية الخصوصية والحفاظ على الأسرار الشخصية والعامة من الأضرار المحتملة أو الناجمة عن الاستخدام غير الشرعي أو غير القانوني لهذه الحريّة، الأمر الذي يؤدي إلى التجاوز على أساسها.

وإذا كان الإعلام القديم منحصرًا بمن يقوم بالوظيفة الإعلامية ليؤرخ اللحظة بحسب توصيف البير كامو للصحافي، فإن أي فرد بإمكانه أن يقوم بهذا الدور في الإعلام الجديد من خلال الإيميل والهاتف النقال وجميع الوسائل التي يطلق عليها الذكية للاتصال smart، بحيث يمكن إرسال خبر وصورة وصوت وبالتفاصيل المحيطة خلال لحظات ليصل إلى العالم أجمع ويتلقّاه مئات الآلاف من الناس، بل الملايين بلمح البصر.

وقد كان التحكّم بوسائل الإعلام ما قبل الجديد: الصحيفة والراديو والتلفزيون والكتاب وغيرها، ممكنًا ويسيرًا، إلّا أنّه من الصعب اليوم التحكّم بوسائل الإعلام الجديدة، تلك التي لها وجه إيجابي يتعلّق بـعولمة الثقافة والعلوم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال والحقوق والمعلومات والجمال، ووجه آخر سلبي قد يكون خطرًا وهو ما يدفع العالم ثمنه باهظًا. تلك إحدى مفارقات ثمن الذكاء الإنساني، إذ يتم عولمة الكراهية والتعصّب ووليده التطرّف وحين يتحوّل الأخير إلى سلوك يصبح عنفًا بالتحريض عليه، وهو بدوره ما يمكن أن يتحوّل إلى إرهاب إذا ما ضرب عشوائيًا، فالأول يعرف الضحية ويقوم بمواجهتها لأسباب عنصرية أو طائفية أو دينية أو آيديولوجية، أما الثاني فهو لا يعرف الضحايا، بل يريد إحداث رعب في المجتمع لتحقيق أهدافه خارج أي اعتبار إنساني.

ومثل هذا الإشكال يطرح المسألة من زاويتها الإنسانية، ما السبيل إلى تنظيم استخدام المنجزات العلمية – التقنية بحيث لا تؤدي إلى إلحاق ضرر بالإنسان من دون أن تحجب حقه في إبداء الرأي والتعبير والحصول على المعلومات وغير ذلك من الحقوق المتعلقة بالثقافة والعلم والتكنولوجيا والتعليم والآداب والفنون؟ يحتاج ذلك ربما إلى وسائل ذكية لمواكبة الذكاء الإنساني بتعظيم الفوائد وتقليص الأضرار، وبوضع تشريعات جديدة لمنع الجرائم التي تحرّض على التعصب والتطرف والعنف والإرهاب والعنصرية وإفشاء الأسرار بهدف حماية الخصوصيات الشخصية والعامة.

 

2 – تغييرات غير مسبوقة

منذ مطلع القرن الحادي والعشرين يشهد العالم تغييرات هائلة في العلوم والتكنولوجيا، ولا سيّما في مجال الاتصالات والمعلومات، تركت تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والسايكولوجية على البشر في كل مكان، ولا يستطيع أحد أن يعفي نفسه منها.

وكانت هذه التغييرات الفائقة السرعة قد بدأت باستخدام الانترنت على نحو تجاري واسع، والحاسوب المحمول (اللابتوب) والهاتف النقال، حتى أصبح هاتفٌ واحدٌ لا يكفي أحياناً، بل يلزم أكثر من هاتف، فضلًا عن الانتشار الشامل لوسائل التواصل الاجتماعي Social Media .

وقد كانت تلك التغييرات تتطوّر وترتقي زمانيًا ومكانيًا عابرة المسافات ما يعني تراكم المعرفة وهو ما سمح للبشرية بالتراكم والبناء. وإذا ما عدنا إلى الخلف قليلًا نجد أن التواصل المجتمعي مرّ بأربع مراحل أساسية تطوّرت من خلالها تكنولوجيا الاتصالات وهي:

أولًا تطوير “اللغة”، بصفتها أداة تواصل فعّال بين أفراد المجتمعات البشرية، وفي الوقت نفسه في تطوير التفكير والفكر الإنساني.

ثانيًا اختراع الكتابة وذلك بتحويل اللغة إلى كتابة بنقل المعلومات وتوثيقها كأساس للتعامل وللتاريخ فيما بعد، وكان لاكتشاف الأبجدية دورٌ كبيرٌ في تطوير الكتابة، ولعل هذا التطور في تكنولوجيا الاتصالات تاريخياً وبالتراكم ساعد على تطوير الكتابة، وساعدت التكنولوجيا على تطوير اللغة وفي التواصل الفعّال أيضًا.

ثالثًا اكتشاف الطباعة التي أحدثت ثورة هائلة في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات وفي نشر المعرفة، وبسببها توسعت وتأسست الجامعات والمكتبات والصحف فيما بعد، ولم تعد المعرفة حكرًا على قصور الملوك والأمراء ورجال الدين.

رابعًا استخدام الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في العصر الرقمي، وكان لشيوع استخدام الانترنت تأثيرات هائلة وجذرية على جميع مناحي الحياة، خصوصًا في مجال المعلومات والمعرفة.

ومن أهم نتائج المرحلة الرابعة التي تعد بحق ثورة أنها سهّلت الوصول إلى المعلومة، فثمّة بنوك للمعلومات الالكترونية يمكن الحصول عليها عبر آليات البحث الالكتروني، وبالطبع فإن أصحاب الشركات الكبرى الخاصة بالمعلومات يستطيعون توجيه حركة المعلومات.

وقد غيّرت طرق التعامل بين الناس على نحو جذري، سواء ما يتعلق بأساليب العمل أم بتطوير الإنتاج والتسويق والبيع، وذلك عبر الانترنت والتجارة الإلكترونية، وأسهمت في خلق فرص رقمية عبر التواصل الاجتماعي، كما أثرت في طرق إنتاج المعلومة وتخزينها ومراكمتهما واستعادتها والتشارك مع الآخر بها، وهذه تصل بسرعة خاطفة إلى المتلقي وفقًا للضرورة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية.

وكان لوصول المعلومة وتسويقها دور في التحضير لحراك شعبي أو التأثير في العملية الانتخابية أو نتائج الحروب حتى قبل حدوثها، مثلما كان لها دور إيجابي في التخفيف من معاناة الناس خلال فترة الحجر الصحي الذي فرضته جائحة كورونا، حين كان التواصل الالكتروني تعويضًا عن التواصل واللقاء الاجتماعي المباشر.

وبحسب الدكتور حسن الشريف[8] هناك سلبيات ترافقت أيضًا مع الثورة الرابعة للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات منها فقدان الموثوقية والصدقية وزيادة الجرائم السيبرانية واختراق خصوصيات الناس والتغيير الجذري في العلاقات الإنسانية والمجتمعية وتغيير طريقة التفكير والبحث، فضلًا عن السرقات الإلكترونية، الأمر الذي خفض مستوى الإبداع والابتكار والتفكير الذاتي.

وهكذا تبقى العلاقة بين الإعلام والتنمية وخصوصًا الإعلام التنموي في العصر الرقمي، علاقة عضوية لا يمكن فصمها بما لها من إيجابيات وهي كثيرة ومن سلبيات وهي غير قليلة.

 

قد يهمكم أيضاً  الاتصال الثقافي وتحديات التربية في عصر المعرفة

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الإعلام #الإتصال #التنمية #الإعلام_والتنمية #العولمة #التنمية_المستدامة #قمة_التنمية_العالمية_2015 #المجتمع_المدني #الإعلام_التنموي #الانترنت #العصر_الرقمي