على الرغم من اندماج الكثير من الوسائل التكنولوجية في عالمنا الزمكاني، وانعكاسها على أنظمة خدماتنا، إلا أن هذا لم يخف عمق أزمة التواصل المجتمعي، زيادة على تعثر الدعوة إلى التنمية لإقامة مجتمع المعرفة التي تبقى بدورها محدودة في منظورها العلمي، والتي يفترض أنها تبدأ من تكنولوجيا التربية التي لا تزال بدورها منعزلة بفعل تصحر الفكر وبعيدة من تغطية الفجوة البيداغوجية للتمكين من الإقلاع نحو بناء الفرد من الداخل، والتركيز على مشروع الإنسان الثقافي بنية وحداثة؛ إذ إن آثار الثقافة لم تكن بعيدة من محتويات العولمة المتعددة الاتجاهات، ولكي يتم للعولمة مرادها لتسلك سبل تفتيت بعض الخصوصيات وفك الارتباط بين عناصرها وجعل بعضها معزولاً وإقامة حدود بينها وبين الرجوع، أمكن فرض قيم حديثة أكثر إثارة وأكثر التصاقاً بالمواد الاستهلاكية، حتى لا يجد الفرد الخاضع لها تعارضاً بين سلوكه نحو اتجاه الحياة وبين ثقافته التي اكتسبها في إثر هذا الانفتاح، وتصبح هذه العملية عبارة عن مسخ لتقاليده الأصلية ولشخصيته الحقيقية.

وأخطر ما تقوم به العولمة من طريق أجهزتها الإعلامية والوسائط الاتصالية هو محاربة الأفكار وضرب الاعتقاد وتفكيك روابط التمييز، أي تحطيم بنية الخصوصية وتفعيل سبل التعميم التي تنتجها رموز الرأسمالية الليبرالية، وهي تسعى حثيثاً إلى الاستثمار في رأس المال الثقافي لاستلابه، قبل الاستيلاء على التراب والماء والهواء. وخير دليل على ذلك ما جرى للمستعمرات في العالم الثالث، بمعنى الرجوع إلى المقولة الهيغلية التي تفيد أن الفكر يؤسس الوجود الاجتماعي قبل أن يقلبها ماركس ويجعل منها مؤسسة اقتصادية تؤصل المسألة المادية كراهن يقتضي تحديد الوعي المجتمعي كخلاصة رمزية يتألق من خلالها الفرد والمجتمع…

في هذا، تؤدي العولمة الثقافية من طريق اختراق الذهنيات، إلى تبعية فكرية، أكثر عمقاً من التبعية الاقتصادية. والغاية من هذا الإمساك بزمام العقل الذي تنقاد وراءه العوالم الأخرى للأشياء. ولكي تسهل عملية الانقياد التي توجهه إلى نزعة استهلاكية للمواد الثقافية وتكيفها بحسب العصر المتسم بالسرعة والاختصار والتخفيف في الكلفة والوقت، فإن النشاطات الترفيهية بدورها تعمق السذاجة المقصودة لتزييف العقل، المرفقة ببرامج سطحية خفيفة هي أقرب إلى التهريج منها إلى الصدق والحقيقة. وفي ذلك يقول عبد الإله بلقزيز: «تبدو الثقافة على مستوى من الهزل والفقر والسطحية يثور معه التساؤل المشروع عن مستقبلها الإنساني وتشبه ثقافة العولمة سائر مواد الاستهلاك، معلبات ثقافية تتضمن مواد مسلوقة جاهزة للاستهلاك في إخراج مثير يضعه تحت وطأة إغراء لا يقاوم»‏[1].

ومن جانب آخر، يبدو أن التطورات الاجتماعية تحصل كلما تطورت في المقابل الأدوات التكنولوجية والوسائط الاتصالية، ومن تأثير هذه الوسائط في التغييرات الاجتماعية تتطور أيضاً التطلعات وتتوسع دائرة الحاجات، وهو الأمر الذي يغلب على طابعه المجتمع الاستهلاكي. ونتيجة كل ذلك هي العوامل المؤدية إلى غياب حدود جغرافية للاتصال، وهذا يبقى من الصعوبة بمكان تجفيف منابع تدفق المعلومات التي تدخل محيطها، وبدورنا نتساءل هل التأثيرات العولمية نابعة من قوتها، أي من آلياتها؟ أم من ضعف مناعة المتلقي الذي تبدو علاقته بقيمه وتقاليده هشة وسطحية، وهو ما أدى بها إلى التأثر بسهولة أم نابعة من الطابع التربوي المضطرب الذي لم يُحِطْ بكل أنساقه الاجتماعية على المستوى النظري والتطبيقي، وهو ما كان محل إشكالنا المطروح، وهو مفاده: ما مدى أثر الاتصال الثقافي المعولم في البيئة الاجتماعية والتربوية المحلية؟ ومنها ما يمس بأسس الأبعاد المادية للحدود من التسريبات الشبكية والتأثيرات الإلكترونية، وهو ما عكس افتراضنا بمعنى أن للاتصال الرمزي الخارجي تأثيراً كبيراً في السيادة الوطنية، أي تحقيق شروط القابلية الإعلامية للاستعمار، بحسب دلالة نظرية الباحث عزي عبد الرحمن لهذا المفهوم المقتبس من مفهوم الفيلسوف مالك بن نبي، وهي من الأسباب التي من شأنها أن تحدد لنا الهدف في ضبط آليات التحكم في النسيج الإلكتروني بما فيها النسيج النصي بتعبير بارت، والسيطرة على معالجة قيم المدخلات من جهة، ومتابعة نتائج المخرجات من جهة ثانية.

أولاً: الهيمنة الثقافية والفضاء العمومي

يشير الصادق الحمامي حول علاقة الإعلام والاتصال بالمجتمع إلى أنه في ظل الفضاء العمومي الذي تمارس فيه عمليات النقد والحوار في المسائل الاجتماعية السياسية التي تراهن عليها ظروف المجتمع، فإن النقاش الذي يحصل بين الدوائر الثقافية، كما يحصل بين الأفراد والمجتمعات عبر آليات الهيمنة وقنوات محددة أيديولوجياً، يساهم في بلورة النسق الثقافي العام للمجتمعات؛ إذ يرى هابرماس أنه في عصر التحولات، فقد إشهار الأفكار، الذي يتخذ شكل المحاججة والمواجهة الفكرية والنقاش العقلاني، جوهره وتم استغلال هذه الأبعاد الفكرية من قبل المنظمات السياسية التي تمارس فيه الدعاية لأغراض سياسوية، ولم يعد كما كان ذلك النقاش الثقافي الهادف العقلاني. وفي هذا أصبح الاتصال ثقافة معرفية عبر الشبكات الإلكترونية المهيمنة والمتحكمة في البرمجة والتوجهات والسيطرة من خلال الاتصال الاستراتيجي الذي يحدد نمط الإنتاج وعمليات الاستهلاك‏[2].

في المقابل، يتخذ الاتصال الثقافي أبعاد المنظومة الرمزية التي تتوقف عليها البناءات المجتمعية، وفي هذا يعرف الأستاذ الهيتي الاتصال الثقافي بأنه «النسيج الثقافي المتمثل في الآراء والأفكار والمهارات والخبرات والأحاسيس والاتجاهات والقيم وطرق الأداء المختلفة ينتقل من شخص إلى شخص ومن جماعة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر ومن جيل إلى جيل عبر عمليات الاتصال»‏[3]، مضيفاً في إطار هذا الاحتكاك ومجموعة القيم والتقاليد والنظم، أن الاتصال المحدد على أسس عملية يعبر عن الفن المبني على تحويل المعاني من شخص إلى شخص أو من طرف إلى طرف آخر، وهو أمر يتوقف على عمليات التفاعل الاجتماعي الذي يعتمد بدوره على الاتصال وما ينطوي عليه من تبادل في الخبرات والآراء والأفكار، فالتفاعل لا يتم بخصائصه كامـلاً، إلا إذا كان هناك اتصال فاعل قائم على عملية التأثير والتأثر.

وفي هذا الإطار ينعكس النظام التربوي الذي يؤسس حالة قيمية وأيديولوجية تمارس فعل التنميط الثقافي أيضاًً، كما يشكل بعداً رمزياً خفياً يؤثر في المدى البعيد في بنية المعايير الاجتماعية والثقافية، وفي هذا الطرح يبرر غرامشي الهيمنة الثقافية بوساطة استخدام المنهج التربوي كمدخل لاختراق الآخر ثقافياً والاعتماد على هذا البعد التربوي في تحقيق جانب الهيمنة وممارسة العنف الرمزي على الآخر المختلف، كما عبر ميشال فوكو أيضاً في هذا البعد بمفهومه طقوس الحقيقة التي تفرض باسم الحداثة والدعوة إلى الاهتداء بها، والتي تمثل الملكية الخالصة للغرب وحده‏[4].

ومن ذلك، نعتبر أن الاتصال الثقافي يعبر كذلك عن البعد الفاعل في حركية المعنى ونشاطه والداعم المادي الحقيقي للثقافة، وخصوصاً في احتكاكها وتأثرها مع بقية نظيراتها الثقافية الأخرى، ويزيح بدوره الاغتراب والعزلة والهامشية. وفي ذلك يحدد زكي نجيب محمود المقياس الحقيقي للحكم على هذه الاختلالات المعرفية بالمعيار المستقبلي، لا الحالة الرجعية، بل ما سوف يكون بحيث لو طرح سؤال حول قضية معينة مثل ظاهرة السلوكات الجديدة للأفراد أو عملية ضبط قانون وفق التشريعات الحديثة أو ظهور مستجدات حضارية وثقافية تهم المجتمعات المعاصرة، فإن القياس لا يمكن أن نستحضر فيه المعايير التقليدية وسلوكات الماضي للأفراد من الآباء والأجداد، بل الجواب الصحيح هو العبرة بالنتائج لهذه السلوكات والقضايا المطروحة في حاضرنا، فإن كانت النتائج تعبر حقيقة بصورة إيجابية عن موقف أفضل فمن حقنا التمسك بها ودعمها معيارياً لأنها تعطي المزيد من الحرية والمعرفة والوعي الاجتماعي‏[5].

وفي هذا، هل التأخر الذي نلحظه اليوم نتيجة عدم الفاعلية، كما يصفها مالك بن نبي؟ أم هي صفة مجانبة لحياة المجتمعات العربية كما يعبر عنها المفكر محمد أركون بسيكولوجية الإخفاق نتيجة التعرض للصدمات الحداثية والانبهار بروافد الآخر؟ يذكر أحد الباحثين أن الثقافة تتطور برعاية اللغة وتنميتها في الوسط الاجتماعي المحلي؛ إذ إن للثقافة ارتباطاً باللغة، فتعكس هذه الأخيرة طبيعتها بالانتماء والتأثير والتفاعل الاجتماعي والتحولات نتيجة التبادل والاتصال الحاصل بين الأفراد والمجتمعات، وهو ما يشكل وعياً إنسانياً وحضارياً، وبصورة ما فإن النهوض باللغة العربية هو عامل كبير في تطوير الثقافة. لذلك، يذكر طه حسين أنه أكد ذات مرة بقوله: «إن اللغة العربية لن تتطور ما لم يتطور أصحابها أنفسهم، ولن تكون لغة حية إلا إذا حرص أصحابها على الحياة ولن تكون قادرة على الوفاء بحاجات العصر إلا إذا ارتفع أصحابها إلى مستوى العصر ثقافةً وسلوكاً وإسهاماً وأخذاً وعطاءً»‏[6]. وباعتبار أن الثقافة هي نسيج من الأفكار والمعايير والقوانين والأعراف والتقاليد الاجتماعية التي تعطي الوجه الحقيقي للمجتمع وتعكس آفاقه وطموحاته، فإنه كلما كانت منظومة القيم أكثر حضوراً ورسوخاً ورقياً، تألق مجتمعها وتطورت سبل حياته ونمت أطواره، وهو الشيء نفسه الذي أشار إليه الجابري، بأن الثقافة يمكنها إن ارتفعت أن ترتفع بالوطن العربي من مجرد رقعة جغرافية إلى وعاء للأمة العربية‏[7].

ثانياً: انفراد الإنسان وحده بالثقافة

من ترسيم مواد تشريعية إلى معلبات استهلاكية، كلها تعكس غاية محددة في المنظومة الاجتماعية تهدف إلى التركيز على البنى الثقافية؛ إذ إن تأثير الثقافة يبقى مستمراً باستمرار الإنسان ووجوده، لأن الميزة الكبرى في العنصر البشري أنه كائن ثقافي يحمل منظومة الرموز الثقافية معه، وهذا ما يميزه من الموجودات الأخرى، وهو السؤال الجوهري الذي طرحه العالم الاجتماعي محمود الذوادي مفاده، هل الإنسان كائن ثقافي بالطبع؟ زيادة لما حلله الفلاسفة والمفكرون أن الإنسان كائن اجتماعي بالطبع، وترتكز دلالة الذوادي على ارتباطات هذا الكائن الإنساني بالخاصيتين العلميتين الطبيعية والاجتماعية، أي أن استهداف الإنسان هو تحطيم فكره وتوجيه سلوكه، ويلخص فكرته في بعض النقاط التي تؤكد أن الإنسان كائن ثقافي قبل أن يكون كائناً اجتماعياً ‏[8]. ومن بينها أن الإنسان يتميز بطول العمر مقارنة مع بقية الكائنات الأخرى، وإلى كون نمو جسمه بطيئاً خلافاً للكائنات الأخرى. وكذلك باعتباره مزدوج الطبيعة (مادي – روحي)، فضـلاً أن الرموز الثقافية من اختصاصه وحده، إضافة إلى خاصية سيادته للعالم. ويتبين من خلال نظرية الذوادي أن ما يخلد وراء الإنسان بعد فنائه مادياً هو المنظومة الرمزية الثقافية أي الفكر، وهو ما تميزه هذه المنظومة من بقية الكائنات الأخرى التي تنتهي بانتهائها. ويركز من منظور هذه الرموز الثقافية على عنصرين مهمين هما: اللغة والدين؛ فاللغة تبقى أهم الرموز الثقافية الأخرى المختلفة من فكر وعلم ومعرفة وقوانين وأسطورة ومعايير ثقافية وغيرها من الرموز الأخرى، وهي تمثل الحجر الأساسي لهذه المنظومة، والدين من جانبه يعتبر المؤسسة التي تضبط الاتجاهات وطبيعة الأنماط الثقافية. وكذلك الدليل على مركزية هذين العنصرين في الإنسان هو هجوم الاستعمار عليهما في كل المستعمرات، وبخاصة في مستعمرات الوطن العربي ومجهود المستشرقين نحو دراستهما آنذاك، خير دليل على ذلك، من فسخ للقيم الدينية وطمس معالم اللغة باعتبارهما محور الحديث في تشكيل الهوية الثقافية للمجتمع.

ثالثاً: أثر الإعلام التربوي في التحولات المجتمعية

يمكن في إثر هذا العنصر أن نوضح مفهوم الإعلام التربوي الذي يعني تأطير التربويين لأداء مهام العملية الاتصالية من منظور تربوي، وبذلك تصبح النظرة متكاملة مع مجموعة القيم الاجتماعية. وهذا بحسب ما ذهب إليه الباحث عبد الجبار دولة، إذ ترتبط في علاقة عضوية مع الإعلاميين ووظائفهم الاجتماعية التي تؤمن حاجات الأفراد من ترشيد سلوكاتهم وتهذيب طبائعهم ومراقبة الانحرافات وتمكنهم من التطلعات المستقبلية، ويتم في هذه الاستفادة من الممارسة التكوينية للمؤطرين التي تؤدي إلى إكسابهم الأبعاد الثقافية والسياقات الاجتماعية وبأن الظاهرة الاتصالية هي ظاهرة مجتمعية والبعد الإعلامي ظاهرة تقنية، فإن الطرفين لكل من الإعلاميين والتربويين يواجهان تأثيرات قوية من قبل المنظومة القيمية الثقافية والاجتماعية، وهذه العملية تؤدي بطبيعة الحال إلى التأثيرات الجانبية من قبل النظم الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والتربوية لهؤلاء الفاعلين الاجتماعيين في الحقلين الإعلامي والتربوي، وبفضل الاحتكاك المتواصل بينهما، أي بين التخصصين، فإن التربويين يستطيعون توظيف العمليات الاتصالية الإعلامية في المضامين العملية التعليمية، وهو ما ييسر عملية الاندماج للحقلين الإعلامي والتربوي وتأثيرهما في المقابل في التحولات المجتمعية. وعموماً، فإن التربية لها علاقة عضوية مع الإعلام؛ فتحليل الخطاب التربوي والبحث في جذوره هو بمثابة إسهام في تقويم البعد الإعلامي‏[9].

إن الإعلام يبرز في طياته الثقافة المحلية والعالمية مبيناً التناقضات والمتشابهات في سياقات الثقافات المجتمعية المتعددة، وعبر الأفكار والمواقف الإنسانية والاجتماعية. وهذه الميزة على عكس الأبعاد التربوية، التي تقتصر عناصرها على الجوانب المدرسية المحددة في الحقل المعرفي بما هو مقرر فقط، مما يتناسب مع مقدرات واستعدادات المتعلم، بناء على الحصر الأيديولوجي الذي تعالجه التربية بصيغة ضمنية على عكس وسائل الإعلام، حيث إن هذه الأخيرة تعطي انتشاراً واسعاً لمحتوياتها لجمهور عريض، أي بمعنى أنها تقوم بإشباع حاجيات الأفراد والجماعات بما تتصوره الآنية والحدث، في حين أن التربية تكرس أشياء جامدة لا تتماشى أحياناً مع سرعة العصر وتجديداته، زيادة على الالتزام والانضباط بالقانون الأساسي للمؤسسة التربوية. وهذا ما يتناقض مع وسائل الإعلام التي تتيح الحركة في التلقي والفرصة في اختيار المضامين. إضافة إلى ذلك، فإن الإعلام ووسائطه المختلفة لها تأثيرات قوية أحياناً على جمهورها من خلال فاعلية الصورة وقوة الإقناع وحجتها، فضـلاً عن الحركة والألوان والأصوات والديكور وفنيات الإخراج، وفي اختيار الوقت والنص وحبكة التقديم. كل ذلك له تأثير مباشر في الأفراد وعلى اختلاف أذواقهم وأعمارهم وتخصصاتهم.

وقد يعود هذا الضعف إلى عدم وجود آليات تربط العلاقة بين المؤسسات التربوية والدراسات الحالية للإعلام؛ ففقدان المعايير التعليمية الاتصالية (تعليمية التكنولوجيا) ضمن حقل العملية التربوية يشكل عائقاً إبستيمولوجياً، فضـلاً عن الجانب البيروقراطي القانوني. وهذا الأمر يصعب من مهمة التنسيق بين المؤسستين التربوية والإعلامية. والسؤال المطروح: إلى متى نبقى أميين في عدم إدراكنا الخلفية المركبة للإعلام التي نستهلكها يومياً؟ وهل نحتاج إلى مهارات ذهنية وممارسة آلية في هذا الإجراء لتجدد ميكانيزمات موروثنا بغية مضاعفة جهود منظومتنا المعرفية لاختراق أسجية التعتيم الإعلامي لاستثمارها تربوياً، وكشف المحجوب وفضح المستور واستظهار عمليات التشفير لهذه الرسالة الإعلامية، كما عبر عنها أحد الأساتذة‏[10]؟

ما زال الإعلام عندنا يتردد على الحقل التربوي بصورة محتشمة لدراسة مشاكله الداخلية، وظل يعالج مشكلات ظرفية وتغطية الأخبار عنه عموماً، إضافة إلى كون الإعلام له اتجاه أحادي الخط، مما عثّر من تبادل الآراء واندماج البرامج التلفزيونية أو الإذاعية في الميدان التربوي، نظراً إلى القصور المهني في هذا التخصص، وفهم الرسالة الإعلامية التربوية بين الطرفين، وفي غياب الإعلام التفاعلي (التلفزيون التفاعلي) الذي أجل تطور العملية التعليمية الاتصالية باستثناء بعض المحاولات التلفزيونية، أو ما يحدث في التواصل الاجتماعي بالإنترنت، وربما هذا النقص قد يكشف عن دخول قنوات تربوية أجنبية على الخط تعوض هذا النقص، لكن بهذا الفعل تزداد المعركة ضراوة من مسخ وسلخ وفسخ للقيم الاجتماعية المحلية‏[11].

رابعاً: الصناعة الثقافية والمجتمع الاستهلاكي

تتمحور التكنولوجيا الحديثة على أساس تحول صناعة الثقافة إلى طابع اقتصادي، تساهم في دعم الدخل الوطني وتنميته؛ ومن بين مميزات الصناعة الثقافية أنها أصبحت تصدر على أشكال سلع ومنتجات ساعدت على التطور الاقتصادي، وقد تكلم في هذا الباب أصحاب مدرسة فرانكفورت مبكراً على ما يسمى الصناعة الثقافية، وكيفية تحويل المعرفة إلى تجارة رائجة تساهم في الاقتصاد الوطني. كما كتب في هذا المجال ولبور شرام في ستينيات القرن الماضي دراسة «الإعلام والتنمية الوطنية» وبيّن الدور الذي تؤديه وسائل الإعلام والاتصال في تحريك دواليب التنمية الاقتصادية للدول. ويضيف كل من أرمان ماتلار وجون ماري بيام، أنه قد تم الاعتراف بأن وسائل الإعلام صناعة، واكتسب هذا التعريف مشروعية واضحة، أصبح إنتاج هوركايمر وأدرنو مقرران حقيقة‏[12].

وعبر حلقات التاريخ تحققت رؤية كل من هذين العالمين المنتميين إلى المدرسة النقدية، وبصحة طرحهما في مسألة الصناعات الثقافية التي يترجمها الواقع من خلال لوبيات الإعلام والاتصال والمساحة التي تحتلها هذه الإمبراطوريات بما يتعلق بالإعلام والثقافة وميادين البرامج الإشهارية وعمليات التسويق والتوزيع وبث محتويات الترفيه والنشاطات الثقافية. وفي هذا تعبر المدرسة النقدية عن نموذج ماركسي، وإن كان بخلاف الحتمية الاقتصادية التي أعطت الاعتبار للآثار الفكرية والثقافية الجماهيرية، وكيفية بروز المجتمعات الاستهلاكية، إذ نجد أن رائدي المدرسة قاما بتحليل مختبر الصناعات الثقافية وانعكاسها على الإنتاج الاجتماعي الرأسمالي واستقراره في تحقيق التحولات السياسية وتحررها، مركزين على الأبعاد التكنولوجية الثقافية وآثارها الاجتماعية مما يتحتم ظهور آليات حديثة تعمل على الضغط والهيمنة لتنميط السلوك والقيم الاجتماعية‏[13].

وما أثبته الراهن في تنقل هذه الثقافات على شكل سلع ينتقل معها الفكر والأيديولوجيا وصور الهيمنة لذلك البلد. وبذلك يحدث نوع من التأثير النفسي والاجتماعي والثقافي، أي أن الصناعات الثقافية تحمل معها الخصوصيات الفكرية، وهو الأمر ذاته الذي أكده حسن حنفي بقوله إن المعركة بين الخصوصية والعولمة ليست بريئة حسنة النية أكاديمية علمية بل تمس حياة الأوطان ومصير الشعوب‏[14]. ويفسر سمير أمين أيضاً هذا الصراع بتصور آخر حيث يرصد في هذه الجزئية أن مصدر التباين الحاصل بين المجتمعات والدول ليس مصدره اختلاف الثقافات وتنوعها فحسب، بل يعود كذلك إلى اختلاف المواقع التي تتبوؤها الدول على رأس سلم المنظومة الرأسمالية الليبرالية‏[15].

ومن خلال هذا الاختلاف يحدث نوع من التصادم للقيم التي تنشرها العولمة، فتتولد حرب دائمة تحاول الهيمنة بتلك القيم على اعتبار أنها قيم عالمية مقدسة. ويشير عبد الإله بلقزيز إلى أن العولمة الثقافية ما هي إلا التعبير المكشوف عن السيطرة الثقافية الغربية التي توظف مكتسبات الثورة المعلوماتية لهذا الغرض، ومنه طرحت العولمة نفسها كأيديولوجيا تعبر عن النسق القيمي للغرب على حساب النسق القيمي للحضارات الأخرى، بحسب ما جاء في سياق سمير أمين‏[16]. وفي هذا، ما إذا كتب لثقافة ما السيطرة على العالم بوسائلها، يصبح مسارها مركزياً وباقي المسارات الأخرى للثقافات الثانوية. يضيف حسن حنفي أن تعدد المسارات يعود إلى تعدد الثقافات عبر الحقب الزمنية وتعاقب التاريخ، والعولمة في رأيه هي أحد أشكال الهيمنة الغربية الحديثة التي تعبر بشكل أو بآخر عن المركزية الأوروبية من عهد الحملات وأيام الاستعمار إلى ثورة الاتصالات‏[17]، أو بتعبير سمير أمين هو تجميد ثقافة الأطراف لصالح ثقافة المركز الرأسمالي، ومن منظور الدفاع عن الثقافة المحلية ضد التهديدات المستمرة من قبل خطر العولمة.

يذكر حنفي أنه لا يتأتى الدفاع عن الهوية الثقافية ضد مخاطر العولمة من طريق الانغلاق على الذات ورفض الآخرين، فهذا تصحيح خطأ بخطأ… إنما يتأتى ذلك بإعادة بناء الموروث القديم المكون الرئيس للثقافة الوطنية بحيث تزال معوقاته وتستنفر عوامل تقدمه‏[18]؛ ففقدان التأسيس يتبعه الضبابية في المنهج والرؤية. وفي هذا الاتجاه، يحلل عبد الله الجسمي أبعاد ثقافة الاستهلاك، بأنها طغت على ساحة العقدين الأخيرين، وأضحت سمة غالبة في عصر العولمة، والحالة التي أدت إلى توسعها هي نتيجة تقهقر الفكر التنويري وطمس معالمه، وبخاصة بعد ظهور الأحادية القطبية وتشتت الكتلة الاشتراكية، وبروز المحور الرأسمالي كبديل وحيد على الساحة الاقتصادية العالمية. وقد شكلت هذه الثقافة ثقافات فرعية عززت محيط تواجدها أمام تحلل الفكر وضروبه المختلفة، منها ثقافة غريزة التملك وثقافة الجنس وثقافة التسويق.

نوعت هذه الثقافات في السلوكات والممارسات، فأدت هذه الموجة إلى تراجع وتقلص دور القيم الاجتماعية، وزادت من حدة القيم الانتهازية وتغليب المصالح الخاصة والمطامح الشخصية، رغبة في تحقيق المنفعة الفردية المادية بشتى السبل والوسائل المتاحة. ومن ذلك تشرب الإنسان قيماً وثقافة جديدة متناسبة مع التحصيلات الواقعية لم يستطع التخلص منها‏[19]. وعندما يتكلم عبد الكبير الخطيبي على المسألة التقنية كمشروع منطلقه الذاتية يدفع بنا إلى حساب عملية الاقتناع بها كونها رافداً خارجياً، لأنها ببساطة تتبنى قيماً تقتضي تجسيدها، حيث يعيب على الخطاب العربي المعاصر، أنه لم يتحرر من سجنه اللاهوتي، ولم يقم بخطوة ببناء نظرية. كما يذكر أن استيراد الآلات والنماذج التنموية الغربية، هي بمثابة نسيج علاقة الإنسان واحتكاكه بالآخر بقدر هذا الاستثمار، باعتبار أن تبني مسألة التقنية للاستخدامات هي في الحقيقة تبني نظرية وما تنطوي عليه من تجليات معرفية وكيفيات للوقائع الفعلية، وتالياً، هي تجذر للفكر والثقافة والاعتقاد، لا نستطيع الفكاك منها في النهاية‏[20].

خامساً: الاغتراب أو السيادة ما بعد الإلكترونيات

في السياق ذاته، يذكر أحمد أبو زيد أن الاغتراب هو حالة نفي الآخر، وهو جانب من البعد النفسي والاجتماعي يوجه الإنسان نحو آفاق مجهولة تتسم بنوع من الرفض المتبادل للثقافة، وقد تتنوع مظاهر حالات الاغتراب، مثل الاغتراب عن البيئة الاجتماعية، فضـلاً عن الاغتراب عن الذات؛ فالمكان أحياناً يرفضك ويلفظك ويعاديك كنوع من العقاب الاجتماعي، فيتيه الإنسان في غياهب الأمكنة الغريبة وإن كانت توحي بجانب من الحرية والتحرر. لكن تزداد التأثيرات والهيمنة من خلال غرس قيم الآخر وأخلاقياته، ضمن الأسلوب القهري للعولمة وتعميم صور الاستهلاك. وفي هذا، يتضح أن أساليب الاتصال والتواصل الحديثة، أصبحت وسائل تساعد على العزلة الاجتماعية، على العكس من المظهر الذي يوحي خلافاً لذلك، مما يعزز الاغتراب عن الذات من خلال البعد الافتراضي واللاشخصاني في الحياة الاجتماعية العادية؛ إذ إن الوسائل الإلكترونية أحدثت نوعاً من الاغتراب وشرخاً في مفهوم العلاقات الاجتماعية التقليدية وبين التفاعلات الإلكترونية، وهو ما يشكل انفصالاً عند الفرد عن الطبيعة الإنسانية، وتتشكل علاقة حميمة مع مجتمع آخر، وهو المجتمع الافتراضي الذي يعيش فيه الإنسان مزدوج الشخصية ويحدث بداخله تناقضاً معيشياً بين الواقع الفيزيقي وفجوة الاتصالات، نتيجة تطور وسائل العولمة وامتداد مساحتها لمختلف مناطق العالم‏[21].

بهذا التصور، يصف حليم بركات أيضاً ظاهرة الاغتراب في الثقافة العربية، بأنها نكسة في الفكر وفي التطبيق معاً؛ إذ تحيل الأوضاع المتردية الإنسان العربي إلى كائن مغترب عن نفسه وعن مجتمعه وحتى عن مؤسساته، ويبدو في مسعاه وتحدياته المتكررة نحو التموقع بقوة للتكيف مع ظروفه الجديدة والمريرة في الوقت نفسه، ويبذل ما في طاقته تجاه هذا التأقلم نفسياً واجتماعياً بدلاً من الاهتمام لكسب رهان تغيير واقعه وفرض ذاته من خلال التفاعل الاجتماعي والمشاركة في التخطيط والتنمية‏[22].

وبكيفية أخرى، ونظراً إلى الصراع الداخلي الذي يعيشه الإنسان العربي من خلال الازدواجية بين التمسك بالتقاليد والوقوف على الموروثات الاجتماعية من جهة، والانفتاح الاعتباطي على ثقافة الآخر المتسمة بالنزعة الاستهلاكية من ناحية أخرى، أصبح لا يختلف الفرد المنغلق على التراث الثقافي التقليدي الذي يسعى بهذا التمسك إلى رد الفعل عما يلهث قرينه عنه للخروج من شرنقة المهانة والالتحاق بالنموذج الغربي الذي يخفف عليه وطأة التخلف بحسب نظره، وأن يحذو حذو النعل ليس في الجوهر والإبداع، بل في المظاهر والسطحيات. وفي كل من هذين الصنفين قد ابتعدا عن تطوير قدراتهما الداخلية الإبداعية والنقدية، للمساهمة في محاولة بناء معرفة إنسانية مستقلة، وعجز الاثنان معاً عن خلخلة الواقع وزحزحة المجتمع العربي من موقعه الهامشي‏[23].

وفي نظرة متأنية تصف الموسوعة العلمية السيادة من منظور البعد السياسي؛ إذ تعرفها بأنها «امتلاك الدولة للقدرة على التحكم الحصري في نطاقها الداخلي، وفي الأفراد سواء كانوا من البلد أو من الأجانب العابرين لهذا النطاق الجغرافي، كما أنها تملك الشرعية الحصرية لاستخدام القوة في هذا المجال». لكن هذا الشكل الحداثي للاختراعات الإلكترونية لم يرد في النطاق التحكمي عبر الحدود الجغرافية، حيث تنتقل المعلومات من إقليم إلى آخر بكل حرية من دون رقيب أو متابعة عبر شبكات الإنترنت والفضائيات، مما يفرض على المتلقي ثقافة أخرى غير متجانسة مع ثقافته وتقاليده. وينعكس ذلك على حرمة السيادة الوطنية وتجاوز تقاليدها وهيبتها وفي ذلك يحلل إبراهيم بعزيز هذا المعنى للسيادة من حيث الغزو والأمن الثقافيين يقول: «أي سيادة لدولة تستقبل يومياً كماً هائلاً من المضامين الإعلامية الأجنبية، وتتلقى أنماطاً ثقافية وأشكالاً متعددة من الغزو الفكري، وأي سيادة لدولة لا تقدر على التحكم في المعلومات التي تتدفق إلى حدودها عبر شبكة الإنترنت أو الفضائيات وأي سيادة لدولة لا تنتج المعلومات والمضامين الإعلامية محلياً، وأي سيادة لدولة تستورد مناهجها التعليمية»‏[24].

ويبقى الاستهلاك لهذه الثقافات والعوامل الفكرية سبيـلاً إلى تغذية الشعوب المختلفة التي تتعرض سيادتها للانتهاك الإلكتروني، وقد تعددت فنون الاستعمار من الاستعمار المادي (السياسي والعسكري) إلى الاحتلال الفكري والمعلوماتي والهيمنة على الصناعة الثقافية، والتحكم في إنتاجها وتوزيعها. ويحدد في ذلك برهان غليون بقوله: «إن الاستعمار الجديد لم يعد في حاجة إلى استخدام وسائل الإكراه والقسر والعنف المكثف لتعميم طرائق حياة وسلوك وتفكير»‏[25].

وفي ذلك، تنوعت إحداثيات الهيمنة وأصبحت التكنولوجيا هي القوة الحقيقية الحديثة التي عمت أرجاء الكون، وفرضت سياستها، وهو النموذج الأحادي لمضامين فكرية وإعلامية لتزيح المحتوى المحلي وإحلال محله، إذ يتوقف محمد عابد الجابري في تعريفه للعولمة بأنها تشير إلى تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله. وفي رأيه، فإن العولمة نزعة توسعية تهدف إلى التوسع والهيمنة واحتواء العالم لتعميم إنتاجها المرتبط بالرأسمالية. أما العالمية، فهي تختلف في نظره من العولمة وتشكل الارتقاء بالخصوصية إلى المستوى الإنساني العالمي، وتعني الانفتاح على الفضاءات الأخرى للكون‏[26]. وعبر هذه الملاحظة، فإن العولمة تأخذ صورة السيطرة والحجر على ممتلكات الآخرين، في صفة هيئة استعمارية إمبريالية غير مرئية أحياناً، تستخدم الأفكار والصناعات الثقافية كحقل للصراع والمنافسة وللهيمنة. وفي المنحى نفسه، تشير عواطف عبد الرحمن إلى أن «العولمة هي احتواء للعالم وفعل إرادي يستهدف اختراق الآخر، وسبل خصوصيته الثقافية بينما تعد العالمية تفتحاً على ما هو كوني وعالمي تستهدف إغناء الهوية الثقافية»‏[27]، مما يتأكد أن العولمة نهايتها احتواء الثقافات الداخلية وخصوصياتها، وفي ظلها تمارس فعل التنميط الثقافي لتوحيد اتجاهاتها.

سادساً: نقد الثقافي نقد الاحتمالات

كشف الناقد العضوي عبد الكبير الخطيبي في النقد المزدوج الذي يطرح نقداً أيديولوجياً نحو البنية الثقافية والتركيبة التراثية للمجتمعات التقليدية من جهة، وبين نقد الخطاب الغربي الاستعلائي في سياق الحداثة المتأخرة والمتأصلة على عملية الخلخلة والإزاحة وبنى الاختلاف والاختلالات، ومنه تبقى كل الاحتمالات قائمة بين التأثير والتأثر راهن الظروف والزمن. وهي حالات نسبية بحسب الانفتاح والانغلاق للمجتمع. وكذا مواكبته للتطورات، إذ يسمح لنفسه بإضافة نماذج جديدة تفسح له في المجال في الكثير من الحقول المعرفية. وفي هذا الصدد يشير أحمد أبو زيد إلى أن التكنولوجيا تساهم في رفع مستويات التعليم، وتعمل على توحيد الرؤى بالنسبة إلى الأفراد وحتى للمجتمعات نتيجة توسع دائرتها. لكن رغم ذلك فإن التكنولوجيا تعمل كذلك على المزيد من العزلة والانفرادية والتهميش في كثير من الحالات. وهو الشيء نفسه الذي أكده لويس ممفورد بقوله إن «الحضارة التكنولوجية تدمر قدرة الفرد على المشاركة، فتكنولوجيا الاتصال إذاً تساعد على تفتيت الثقافة في المجتمع و[على] نشأة ثقافات خاصة أو حتى ثقافات فردية. وهذه هي المفارقة في أبلغ صورها، حيث تؤدي إلى الفردية بدلاً من الجماعية»‏[28].

بهذه الاعتبارات: هل من الأفضل أن نواجه العولمة الثقافية بالانغلاق بعد ما فات الأوان؟ وهل تكون هناك ضمانات بأن لا تحدث انفجارات اجتماعية طلباً للانفتاح والتطلع نحو الآخر؟ أم نتتبع الخيار الثاني الذي يحدث فيه الاندماج الكلي في ثقافة الآخر والاستفادة منه وأخذ الغث والسمين من دون رقيب ولا اعتبار للمعايير المعرفية التي تكون بمثابة مصفاة؟ أم نأخذ من المرحلة ما يلزمنا ونترك ما يضرنا ولا نتيح لأنفسنا إلا ما يتناسب مع قيمنا وثقافتنا وتقاليد مجتمعنا؟ وبذلك يكون الطريق الوسط أسلم حيث يترك هامشاً للعودة، وربما هذا السبيل الأخير يعتبر الاحتمال الأقرب للصواب، لأنه كما يقول مالك بن نبي استيراد منتجات الآخرين، لا تصنع حضارة، بل الحضارة هي التي تلد منتجاتها. يكشف هذا القول الكذبة التي جاء بها الاستعمار الفرنسي آنذاك للجزائر، بأنه سيدخل هذا الشعب في الحضارة والمدنية المعاصرة. وعلى وقع الخطوات نفسها، جاءت العولمة أيضا تسعى إلى الانفتاح وترفع من مستويات الدول المتخلفة اجتماعياً وثقافياً.

وتترجم هذه الكذبة كذلك الشركات العابرة للقارات والمتعددة للجنسيات التي أغرقت الأسواق بالمواد الاستهلاكية من دون أن تؤسس هذه المجتمعات المحلية أدنى قاعدة مادية واقتصادية صلبة. والأمر هنا يتطلب مساحة من الحرية من دون تورط في قيم الآخر كما لا ينبغي الانغلاق على الثقافات الأخرى حتى لا يتشكل لدينا مركب نقص أو عقدة انهزامية من خلال تدفق روافد الآخر اللامتناهية. وبفضل هذا الاتصال نفهم الرموز الثقافية والاجتماعية للآخرين المختلفين منا، ونستطيع من خلاله كذلك أن نتبادل العلاقات الإنسانية، ونبلور عمليات احتكاك معرفية وتطلعات مشتركة، كنقل المخزون التراثي بين الأجيال، والمساهمة في تمكين الاستقرار الاجتماعي.

في هذا السبيل، فإن الربط بين الحرية والرقابة صعب جداً، وفي المقابل، الانغلاق والتحجر عن التقاليد أمر أصعب، لأن العولمة تحمل الكثير من الإيجابيات في شتى الميادين العلمية والتقنية، وتتيح الكثير من الفرص لحل المشكلات وتسهل السبل للإنتاج والإبداع وتعمل على التحولات المرغوب فيها والتغيرات المناسبة للمجتمع وللأفراد. وكما يقول ماكلوهان، إن العالم أصبح عبارة عن قرية، وإن كانت هذه الأخيرة دوافعها غير متجانسة، متضمناً بذلك الحقيقة التقنية لهذا المجال، إلا أن التأثير يكون بالقيم وليس بالوسيلة. فقد أكد ذلك عبد الرحمن عزي في نظريته الحتمية القيمية للإعلام صور التأثيرات الثقافية لهذه الوسائل على المجتمع، وفي ذلك يعيش الفرد العربي بين البينين؛ لا هو استفاد من العولمة ولا هو متمسك بتراثه، بل خسر الاثنين معاً، والبديل الثالث يراهن على المنافسة أو يبقى في المنفى مغترباً في وطنه دفين ثقافته الوحيدة من دون أن يصنع آليات حديثة تمكنه من المشاركة والتفاعل مع الآخر. وباعتبار أن الفرد هنا غير مستقر، فإن الاحتمالات مفتوحة على تنوع الاتجاهات وتعدد المتناقضات وحتى وإن انضم هذا الفرد إلى الثقافة المهيمنة، فإنه يحس بعقدة الهامشية نظراً إلى أنه لم يمارس ولم يشارك في صنع هذه الثقافة كفاعل اجتماعي، وتالياً، يبقى مبعداً نفسياً لأن الأنساق المنعكسة من هذه الثقافة المركبة لم تشمل جذوره وأصوله، ومنه تظل مشاركته على هامش الحضارة التكنولوجية، على الرغم من تواصله واستهلاك منتجاتها.

والعبرة في ذلك، كما تقول ماري تيريز عبد المسيح، ليست في إلغاء الانتماء إلى الوطن أو رفض جغرافية المكان أو الاستهلال بالآخر وبتعدديته الثقافية وخصائصها المتفتحة، بل العبرة في إعادة النظر في المفاهيم الثقافية القومية التقليدية التي تراهن على تجاوز السياق الأيديولوجي وللإطار المنهجي المحدد للأنساق الفكرية‏[29]، وأن التمسك بحداثة الآخر ليس مشروعاً مجتمعياً، وإنما يدخل في دائرة عملية التكديس. وهذه الأخيرة لا تصنع حضارة بتعبير مالك بن نبي، ولأن الحداثة كذلك ليست قرارات فوقية ترتجل لتطبق، أو هي عبارة عن تعليمات وتدابير تتخذ فتكون، إنما هي في الأصل فعل تحقيبي يتأسس على التقليل من تأثيرات التراث التقليدي في المعتقد الفردي والمجتمعي، مما يدفع بعملية المزيد من التحرر‏[30]. ومن هذا، فإن الفعل الحداثي لا يمكن ممارسته كأنطولوجيا، إلا من زاوية الخصوصيات الثقافية على حد ما أشار إليه محمد أركون، وإن العودة إلى الحفر في التراث ونقد مادته لا يولد لنا حداثة جاهزة، لأن المشروع الهادف هو الانفتاح على الراهن ومستجداته، وبفهم التراث يساعدنا على عملية الاندماج في فضاءات الحداثة والحوار العقلاني‏[31].

خاتمة

باعتبار أن الصراعات التقليدية والاحتلالات لاقت رفضاً مضاداً لتأثيراتها في خلخلة التوازن وتحريك النسيج الفكري، لكن الغزو الثقافي الفضائي كان أكثر ممارسة عقلية، فأدى بدوره إلى اختراق سيادة الدولة تكنولوجياً بعدما أدت هذه العولمة إلى اختراق الذهنيات المنغلقة، وبلا شك فإن تحول مفهوم السيادة نتيجة هذه الموجات الاتصالية التي دخلت الأوطان والبيوت من دون استئذان، قد عبّرت عن تحولات في ميكانيزمات التعامل وتغير في النظرة التقليدية للسيادة كحدود جغرافية على مستوى الأرض التي تعبّر عنها القوى العسكرية السياسية، وهي ضوابط أصبحت من الكلاسيكيات، التي سبق أن أشار إليها برهان غليون، بأن القوة العسكرية تجاوزتها المرحلة. وبدأت مرحلة القوة المعرفية الحديثة من طريق الأبعاد الفضائية وحرب الاتصالات.

ونتيجة لهذه العولمة، هناك حرب إلكترونية فعلية ليست تقليدية، وصلت إلى حد المس بأمن الوطن والمواطن، شكلت نسبة عالية فاقت كل التصورات، التي استهدفت أمن الأشخاص والهيئات، وخلخلت الجوانب الاجتماعية بكل خصوصياتها الثقافية واللغوية، وهو الاتجاه ذاته الذي دفع بالمطالبة بأن يكون هناك تشريع رسمي، يحمي المنظومة المعلوماتية بالوطن من جرائم الإنترنت على المدى البعيد. وبالمختصر، فإن مضمون ذلك إما أن نكون أو لا نكون، على حد قول شكسبير، فهي حرب قائمة في الفضاء كبديل من الصراعات التقليدية، وهو ما شكل نوعاً جديداً من الاستعمار المروِّض للعقول ضمن الصناعات الثقافية التي تتمشهد على قصف المنظومة الرمزية الوطنية تعكسها جدية ما يسمى «الاحتلال الرمزي». وهذا قد يؤدي إلى إمكان الحديث عن سيادة ما بعد الإلكترونيات، وهو مفهوم حديث يحتاج إلى ضوابط أكثر تقنية، شكلت أيضاً تأثيراً عميقاً في النسق التربوي، وهو ما يحتم الأمر على المختصين أن يحددوا قواعد معرفية حديثة تتماشى والعالم المتحول. كما بالمثل نغير نحن من تصوراتنا ومفاهيمنا، قبل أن تجبرنا المرحلة على البقاء على الحافة، أو تدفعنا نحو تجذير الهامشية واللامفكر فيه، بحسب تعبير أركون.

 

قد يهمكم أيضاً  التربية الإعلامية والرقمية وتحقيق المجتمع المعرفي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التربية #المعرفة #العمولة #الثقافة #الاتصال_الثقافي #التكنولوجيا #وسائط_الإتصال #تكنولوجيا_الإتصال #تحديات_التربية #الهوية_الثقافية #الإعلام #الإغتراب #المجتمع_الإستهلاكي #الفضاء_العمومي #الإعلام_التربوي #الحروب_الإلكترونية #جرائم_الإنترنت