يطرح بندكت أندرسون رؤيته عن «الهويَّة المتخيَّلة» كمقدمة ضرورية لبناء الدولة؛ فهي تمهيد نفسي لتشكيل المجتمع في عقول منتسبيه حتى قبل بناء قواعده وترسيم حدوده. ويقترح أندرسون لبناء هذه الهوية ثلاثة مكونات أساسية: اللغة والحدود والسيادة. تمكن اللغة أفراد المجتمع من التواصل تمهيداً لبلورة علاقات تفاعلية، ويتبعها عادة رسم حدود للعمق الجغرافي المتاح في ظل هذه العلاقات. وهو الأمر الذي يرتبط في الغالب بالقدرة على تشكيل سردية تاريخية مشتركة بدرجة ما، قسراً أو طواعية، والأهم اتصاله بمصادر القوة المادية لتوسيع حدود «الوطن الوليد». وتكلل هذه الجهود بإنتاج «الدولة» وبلورة سيادتها، بداية في عقول قاطنيها، ولاحقاً في الفضاء الدولي‏[1]. وتكمن جوهرية «الهوية المتخيّلة» في قدرتها على صهر الانتماءات الفرعية للأفراد المواطنين لضمان عدم تخطيهم سيادتها القانونية والمادية عليهم.

فعلياً، لم تعدم الدولة العربية منذ نشأتها على مدار القرنين الماضيين تحديات تشكيل هذه «الهوية المتخيَّلة». فالدول غير المكتملة الأركان، بدرجات متفاوتة، واجهت صعوبات بلورة الهوية الجماعية مقابل تشتت الانتماءات الفرعية، سواء العرقية أو الدينية أو القبلية أو المذهبية أو الجهوية. واستطاعت مجدداً، بدرجات متفاوتة، تخطي ذلك من خلال إحكام آليات الضبط الاجتماعي والأمني. إلا أن الصراعات السياسية والاجتماعية التي نشبت خلال السنوات الأخيرة أدت إلى إضعاف قدرات الدولة على ممارسة هذا الضبط، من جانب، وأفرزت، من جانب آخر، حالة من السيولة في العلاقات البينية؛ فبات هناك حالة ملحوظة من انتهاك الحدود بين البلدان العربية، فيما أطلق عليه «الحدود تراب». يضاف إلى ذلك، تشكل الكثير من التحالفات استناداً إلى انتماءات فرعية لطالما توارت في الفضاء العربي. ومن ثم، تراجعت بالتبعية الكثير من مظاهر سيادة الدولة وهيمنتها على الفعل القانوني والمادي داخل حدودها.

بناء على ذلك، أسعى في هذا البحث لدراسة التحولات في مفهوم «الهوية المتخيَّلة» للدولة العربية من خلال تقصي تأثير الانتماءات الفرعية في مكونات المفهوم الثلاثة السابق ذكرها. وأفترض أن «الهوية المتخيَّلة» الهشة التي قامت عليها الدولة في الوطن العربي تواجه تحدياً بنيوياً من جانب الانتماءات الفرعية. فالأخيرة، بخلاف توفيرها العديد من الخدمات الاجتماعية والتنشئة التعليمية، أصبحت قادرة على عقد تحالفات سياسية تتخطى جدران الدولة التقليدية، بما يعني انتهاكاً صريحاً لحدودها وسيادتها. ويكمن التأثير الأعمق لهذه التحولات ليس فقط في الانتهاك الآني، بل في نشأة جيل جديد من مواطني الدول العربية يرتكزون في ولاءاتهم على الانتماءات الفرعية، سواء العرقية أو الدينية أو الجهوية أو القبلية أو المذهبية، وبدرجة أقل انتماءات النوع والطبقة. وهو الأمر الذي تدعمه بصورة غير مباشرة صحوة عالمية للانتماءات الفرعية في مواجهة تدفقات العولمة الثقافية.

وأناقش هذه الفرضية استناداً إلى أطروحة أندرسون عن «الهوية المتخيَّلة»، وبالاستعانة بنظرية الأصول الاجتماعية لتقصي علاقة الدولة بالانتماءات الفرعية، وبحث تأثيرها في تشكل الهوية المطلوبة من عدمه. وأستعين بالمنهج التفكيكي لتحدي المقولات التقليدية عن محدودية مساحات الانتماءات الفرعية في الدولة العربية.

تنقسم الورقة إلى مبحثين؛ يناقش الأول أصول تشكل «الهوية المتخيَّلة» في الدولة العربية. ويتتبع الثاني مواطن التحديات والتحولات في ملامح هذه الهوية ارتباطاً بدور الانتماءات الفرعية، وبخاصة خلال السنوات الأخيرة. وأسعى في الخاتمة لاستشراف مستقبل هذه الهوية في ضوء تنامي قوة الانتماءات الفرعية وتأثيرها في الواقع العربي.

أولاً: أصول «الهوية المتخيَّلة» في الدولة العربية…
هشاشة البنيان

يناقش هذا المبحث، استناداً إلى رؤية بندكت أندرسن عن مكونات الدولة القومية، أصول تشكل «الهوية المتخيَّلة» في الدولة العربية؛ ويتتبع تحديات بلورة هذه الهوية الجمعية خلال مراحل النشأة، التي أدت إلى هشاشتها مع التركيز على اللغة والحدود والسيادة.

1 – اللغة

كانت اللغة العربية بمنزلة النعمة والنقمة على «الهوية المتخيَّلة» للدولة العربية. فمن جانب، سهلت اللغة المشتركة حركة الأفراد والتواصل بين مجتمعات المنطقة، وسمحت بسيولة في العلاقات والمعاملات، فضـلاً عن الترابط الثقافي والفكري الملموس. إلا أنها قد تكون أحد التحديات الجوهرية لبلورة «الهوية المتخيَّلة» للدولة القومية العربية. فقد رصد أندرسن أن تلاشي القداسة عن اللغة اللاتينية، بوصفها لغة المسيحية، ساعد على ازدهار اللغات المحلية للقوميات الأوروبية. ومن ثم، تشكلت تدريجاً، وبخاصة مع انتشار طباعة الكتب بهذه اللغات، هويات لغوية وثقافية مشتركة بين سكان مناطق بعينها، استندت إليها لاحقاً جهود تكوين التاريخ المشترك وعمليات ترسيم الحدود‏[2].

وعلى النقيض من ذلك، في الحالة العربية، احتفظت اللغة العربية بقداستها كلغة للدين الإسلامي، ولم تكن عامـلاً مساعداً على ترسيم حدود ثقافية أو لغوية بين الدول القومية العربية، إن لم يكن العكس‏[3]. ويرتبط ذلك بالانتماءات الفرعية على مستويين.

أ – تحدي تمايز الثقافة

مثلت اللغة العربية وعاءً لخلق المشترك الثقافي بين المجتمعات العربية بمساحة محدودة من التمايز بين «دوله القومية». ولم يكفِ تعدد اللهجات لتوصيل رسالة تنوع «الهوية المتخيَّلة» لكل دولة على حدة. وأعاق ذلك، بدرجات متفاوتة وإن كانت ملموسة، توفير سردية تاريخية متباينة للدول القومية على أساس الفواصل اللغوية عما حولها، بخلاف الحال في أوروبا. في المقابل، ظهر التمايز داخل حدود الدولة القومية بين الجماعات اللغوية المختلفة؛ فكافح الأكراد والأمازيغ للحفاظ على لغاتهم، بالرغم من مقاومة دولهم. ويبدو النموذج العماني في التعدد اللغوي أكثر تعايشاً، وإن كان فعلياً أقل اندماجاً وبلورة لهوية جمعية‏[4]. ومؤخراً، تفاقمت الأزمة باتجاه آخر في المجتمعات الخليجية لمصلحة شيوع اللغة الإنكليزية، وبدرجة أقل اللغات الآسيوية‏[5].

ب – تحدي المشروع البديل

طرح المفكرون مشروع «القومية العربية» كإطار ثقافي لمشروعات جامعة لعدد من «الدول القومية» الناشئة. وأدى ذلك إلى استنكار الأقليات غير الناطقة بالعربية لهذا المشروع، وتعمّق ارتباطها إما بالاستعمار أو تقوقعها حول انتماءاتها اللغوية، مثل الحالات الكردية والأمازيغية. هذا لا ينطبق على الموارنة إذ بدأت العلاقة بالاستعمار قبل نشوء القومية العربية. كما تحدَّى هذا المشروع جهود بناء خصوصيات الدول القومية؛ فكرس أسس الوحدة بدلاً من التمايز. واستبدالاً للوحدة العربية قدمت الانتماءات الفرعية ملاذاً لتعريف الذات في إطار الانتماء الجهوي أو القبلي أو الديني ذي اللهجة الثقافية المشتركة، وهي ليست بالضرورة متقاطعة مع الحدود السياسية/السيادية، كالأكراد في تركيا والعراق وسورية، وتجمعات القبائل العابرة للحدود ما بين ليبيا ومصر. وأضاف الإسلام كمشترك حضاري صعوبات جمة في هذا الصدد؛ فالذات المتخيَّلة امتدت فيما بين «المحيط» و«الخليج» لتكون أممية الطابع. و«أصبحت اللغة المقدسة لغة قومية»، ومن ثم اختلط المتخيل العلماني بالديني، وأصرت «أوساط واسعة نسبياً على استخدام العربية لتخيل أمة دينية وليست أمة قومية»‏[6].

واقعياً، لم تكن اللغة العربية أداة دافعة لبلورة تمايز الدولة القومية. فالمشترك الثقافي والديني فيها أكثر من محاور التمايز؛ وبدلاً من إغلاق الأقواس على سرديات الدولة القومية وحدودها فتحت هذه الأقواس فيما وراء الحدود أو ضاقت عليها داخلياً.

2 – الحدود

تبدو إشكالية الحدود الأكثر تعقيداً وتشابكاً في إطار جهود تشكل «الهوية المتخيَّلة» في الدولة العربية؛ فهي في معظمها بلا أسس تمايز. فبخلاف الحال في أوروبا، لم تشترك المجتمعات العربية في عمليات ترسيم الحدود، وجاء جلها في إطار توزيع النفوذ بين القوى الاستعمارية. واشتهرت اتفاقية سايكس – بيكو الموقعة بين المندوبين الفرنسي والبريطاني عام 1916 في هذا الصدد‏[7]. تنبع إشكالية ذلك من جانبين: أولهما، إغفال العناصر السكانية ومصالحها بصورة ملموسة؛ فالكثير من القبائل ذات امتدادات اقتصادية واجتماعية متخطية الحدود، ويشترك في ذلك عدد من الانتماءات الجهوية والطائفية والعرقية. فالجماعات الكردية تمتد عبر حدود العراق وتركيا وسورية، وقبائل الطوارق في الجزائر ومالي والنيجر وليبيا، وكذلك قبائل عربية كشمر والبكارة في شبه الجزيرة والعراق وسورية.

وثانيهما، اضطرار نظم الاستقلال، في غياب تبرير الحدود وسيولة الثقافة العربية والإسلامية، إلى عقد تحالفات وتقديم محاصصات اقتصادية وسياسية على أسس جهوية أو قبلية أو طائفية. مثـلاً، نص صراحة في الدستورين اللبناني والعراقي على محاصصات طائفية لبعض المناصب السياسية، ولا تخلو الدول الخليجية من محاصصات اقتصادية لتوزيع الثروات النفطية. وبالتالي، أعيد ترسيم الحدود بصيغ جديدة، وإن حافظت على التماسك المرحلي لدولها، إلا أنها في الحصيلة أضرت بجهود بناء «هوية متخيَّلة» في إطار الحدود المرسومة على الخرائط. فبينما تفتقر الدولة إلى هوية متخيَّلة متماسكة الأركان ذات سردية تاريخية، تواجه انتماءات فرعية متنوعة ذات عمق تاريخي واضح، إن لم يكن متزايد من جراء الضغوط الثقافية أو السياسية‏[8].

ويمكن القول إن الدولة العربية تمكنت، بدرجات متفاوتة ولفترات طويلة، من تحويل تراب الحدود إلى جدران فاصلة بين الدول. إلا أن ذلك ارتبط بالأساس بقدراتها الأمنية، ومن ثم فلم تبلوَر «هوية متخيَّلة» بقدر ما أحاطت واقعها بسياج شائك. وترك هذا السلوك فراغاً لتبلور هويات متخيَّلة متنوعة لا علاقة لها بالحدود المصطنعة؛ منها الطائفي والقبلي والمذهبي والعرقي واللغوي. ونازعت هذه الهويات الدولة في المخيلة النفسية للمواطنين، كأنما باتت تتحين الفرصة للتعبير عن ذواتها عند تراخي القدرات الأمنية أو السياسية أو الاقتصادية للدولة.

3 – السيادة

ترتبط سيادة الدولة بالقدرة على احتكار استخدام أدوات القوة وممارسة التشريع وإنفاذ القوانين في مساحة مكانية محددة. وبالتالي، فهي الرابط التطبيقي بين الرؤية «المتخيَّلة» والواقع العملي؛ حيث قبول المواطنين أو رعايا الدولة لهيمنتها على النظام الأمني والإداري والقانوني سعياً وراء تحقيق المصلحة العامة المشتركة. يؤكد وائل حلاق أن امتلاك الدولة مؤسسات إداريةً وقانونيةَ تضطلع بوظائف محددة هو أحد الأركان الرئيسية لسيادة الدولة‏[9]. وبعيداً من التحولات الراهنة الواردة بتوسع في المبحث الثاني، فإن ركائز الدولة العربية واجهت تحديات في صميم أدوارها السيادية. ويمكن رصد ذلك في مدى «احتكار» الدولة أدوات القوة وعملية التشريع وإنفاذ القوانين على مواطنيها.

فمن جانب أدوات القوة، لا تغيب منازعة بعض القوى المجتمعية لاحتكار الدولة حمل السلاح والتنظيم العسكري. وقد يكسر هذا الاحتكار بصورة غير قانونية، تتخذ إزاءها الدولة خطوات تصعيدية لاستعادة كامل سيادتها، كجهود القضاء على التنظيمات المسلحة، أو حيازة الأسلحة بصورة غير رسمية. وهو الأمر الذي يتضح في المحاولات العراقية للقضاء على تنظيم الدولة، ومثيلتها المصرية لمواجهة فرع التنظيم في سيناء، وكذلك الحال في تونس بوتيرة أقل. كما انخرطت الجزائر خلال تسعينيات القرن العشرين في محاولات مشابهة.

إلا أن المفارقة تكمن في وجود حالات «قانونية» تتعايش فيها بعض البلدان العربية مع ظاهرة التنظيمات المسلحة، بدرجات تنظيمها المتباينة، كأحد مكونات المجتمع. وتتعدد مبررات هذا التعايش، كمقاومة العدو الصهيوني أو السماح للتنظيمات القبلية أو العرقية بفرض الأمن في مناطقها‏[10]. وينطبق ذلك على دور القبائل اليمنية مثلاً ذات النفوذ المقبول حكومياً، أو على انضواء فصائل الحشد الشعبي العراقية تحت القوات الحكومية في وقت لاحق على تأسيسها وانتشارها. تتمحور هذه التنظيمات حول انتماء فرعي ما، سواء الجهوية أو القبلية أو الدينية أو الطائفية. وهو الأمر الذي يثبت استمرارية هذه الانتماءات في جذب الأنصار واستقطابهم مع/ضد الدولة. وبغض النظر عن المبررات والملابسات، تظل الإشكالية في غياب الاحتكار اللازم لتمام السيادة.

من ناحية أخرى، تبرز المجالس العرفية كنموذج لعملية تشريعية وقانونية موازية في داخل البلدان العربية. فتضطلع بعض التجمعات الفرعية بتشكيل مجالس تتمتع بسلطة بت منازعات يكون أحد طرفيها على الأقل من المنتمين لهذه التجمعات. وتسري الأحكام على الطرفين، بغض النظر عن موافقتها للقوانين الوطنية. ويقبل عدد من البلدان العربية، سواء ذات الأغلبية القبلية أو غير ذلك، هذه الأحكام، بل تحظى هذه الأحكام أحياناً بمباركة السلطات المحلية. مثـلاً، يحضر ممثلو الحكومة المصرية هذه المجالس، ويقبلون أحكامها.

وقد يشير البعض إلى موافقة الدولة الضمنية أو العلنية على حالة التنظيمات العسكرية «القانونية» أو المجالس العرفية باعتبارها من مؤشرات السيادة. كما أن أحكام القضاء العرفي قد تغبن حقوق بعض مواطني الدولة لمصلحة آخرين من دون وجه حق أو في غياب محاكمات عادلة، أو تفرض عليهم أحكاماً عبثية، كحكم التهجير الجماعي الذي يفرض أحياناً على المسيحيين في مصر. ويجرح ذلك إجمالاً من تمام سيادة الدولة الوطنية في المجتمعات العربية.

والخلاصة، إن أركان «الهوية المتخيَّلة» كما وصفها بندكت أندرسن، قد واجهت تحديات ملحوظة في حال الوطن العربي. وبخلاف النموذج الأوروبي وبعض دول أمريكا اللاتينية التي درسها أندرسن، لم تتطور هذه الأركان نحو بلورة «هويات» متمايزة بين الدول العربية، وهو الأمر الذي ظلت معه هذه الدول كيانات هشة، بدرجات متفاوتة، في المخيلة النفسية لشعوبها، واحتاجت معه إلى حوافز اقتصادية أو سياسية أو أمنية لضمان التماسك.

ثانياً: تحديات «الهوية المتخيَّلة» وتحولاتها في الدولة العربية… سيولة الكيان

بالرغم من الصعوبات التي عرضتها في المبحث الأول في تشكيل الهوية المتخيَّلة في البلدان العربية، فإن هذه الهوية صمدت، صموداً شكلياً على الأقل، خلال العقود السابقة. وعقب ثورات الربيع العربي، تجلت عدة تحديات وبرزت تحولات جعلتها مجدداً موضع تساؤل وتشكيك. وللمفارقة لم تأتِ هذه التحديات من شعارات «الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية» التي رفعتها هتافات الثورات، بل من الانتماءات الفرعية الكامنة في محاضن الدولة. يرصد هذا المبحث تحديات الانتماءات الفرعية للهوية المتخيَّلة، ويتقصى التحولات الآنية للأخيرة.

1 – تحديات الانتماءات الفرعية

أعتمد على تعريف إجرائي للانتماءات الفرعية بوصفها «الانتماءات الطبيعية لأفراد المجتمع، سواء الدينية أو المذهبية أو الجهوية أو القبلية أو العشائرية». ولا تؤدي الانتماءات الفرعية دوراً ملحوظاً بمجرد وجودها، إلا أنها قد تتحول إلى تحدٍّ لتشكل «هوية متخيَّلة» لمواطني دولة ما على مستويات ثلاثة.

أ – الإدراك

إن إدراك الانتماءات الفرعية كعنصر أساسي، أو على الأقل مؤثر، في التمايز عن «البقية»، أو محفز للتلاحم مع «المتشابه»، يعد خطوة أولية ممهدة لتفعيل دور هذه الولاءات. وتبرز في إطار الإدراك المشترك، نماذج الأقليات العرقية والدينية والمذهبية التي يتم التعامل معها قمعاً/تدليـلاً بصورة جماعية في الدول العربية، وهو ما يخلق حالة من التكاتف بين أفرادها على تباينهم‏[11]. فالشيعة والأكراد عوملوا في العراق بصورة جماعية، قمعاً في عهد صدام حسين، وتدليـلاً فيما بعده. ينسحب ذلك على علاقة الحكومة المصرية بالمسيحيين، حيث يُنظر إليهم كأقلية دينية، وليس في إطار قواعد المواطنة. والحديث عن هيمنة الشيعة على اليمن يغفل أن ميليشيات الحوثي تنتمي للأقلية الجعفرية، بينما أغلبية شيعة البلاد من الزيدية، ناهيك بتحالف الأولى مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح ذي الانتماء السني. وتفرض التعاملات الجماعية للأقليات عقلية «وحدة المصير» على المنتمين إلى الأخيرة، بغض النظر عن تبايناتهم. ويتشابه ذلك مع حال قبائل أو مناطق بعينها. كما الزنوج مقابل العرب البيضان في موريتانيا، أو مناطق الساحل مقابل الداخل التونسي.

ويتبادر إلى الأذهان التساؤل حول الأفراد اللامنتمين إلى قبائل أو أقليات أو تجمعات جهوية بعينها، على تفاوت أعدادهم في المجتمعات العربية. يضاف إلى ذلك نماذج الأفراد المتحللين من انتماءاتهم الفرعية الأولية كنتاج لجهود التحديث والانتقال إلى الحضر في مجتمعاتهم. ويعيدنا ذلك إلى إخفاقات الدولة العربية في بلورة «هوية متخيَّلة» متماسكة وفقاً للأركان الثلاثة الواردة في المبحث الأول. فالشرائح الحضرية وغير المنتمية، أو غير وثيقة الصلة، إلى الانتماءات الفرعية واجهت تحدياً في تعريف ذواتها وفقاً لمشروع قومي متكامل‏[12]. لا شك في أن بدايات معظم البلدان العربية قد اقترنت بمقاومة الاستعمار أو بدايات التحديث، وهو ما ساعد على شيوع حالة من التعبئة العامة لهذه الفئات على الأخص. إلا أن انحسار المشروعات الوطنية، سواء لانتهاء الاستعمار أو تراجع زخم بدايات التحديث، ترك فراغاً من تعريف الذات، سرعان ما استجابت له أطروحات الانتماء الديني أو المذهبي؛ ومن ثم ظهرت التيارات الإسلامية المتنوعة‏[13]. فاستقطبت حركة الإخوان المسلمين هذه الشرائح الحضرية في عدد من البلدان العربية على مدار عقود متتالية. وتبعتها على مستوى أكثر تهديداً الحركات المذهبية/الطائفية الأقل قدرة على التعايش مع حدود الدولة‏[14]. ويثير ذلك تساؤلات بنيوية حول إمكان قيام الدولة القومية وفقاً للنموذج الأوروبي في حالة المجتمعات المسلمة ذات التصور الأممي‏[15].

ب – المؤسسات الوظيفية

إن إمكان تطور هذه الهويات نحو مؤسسات وظيفية متمايزة عن بقية المجتمع، وإن ظلت في إطار الدولة ذاتها، ينقل هذه الانتماءات من المخيِّلة النفسية إلى التجليات الواقعية، التي بدورها تعيد إنتاج الإدراك الذاتي وتغذيته. تشمل هذه المؤسسات الوظيفية؛ القضاء العرفي السابق الإشارة إليه، والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، وأخيراً الأحزاب والتكتلات السياسية. وبالتركيز على المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، فباستثناء دول النفط الخليجية، تدهورت القدرات الاقتصادية لمعظم البلدان العربية تباعاً. وبالتالي، باتت عاجزة عن توفير الخدمات الاجتماعية لمواطنيها، أو على الأقل باتت مضطرة إلى المفاضلة بين الخدمات أو المواطنين. وأضيفت إشكاليات الإهمال التنموي إلى مناطق كاملة، كنوع من أنواع عقاب الجماعي لأهله، كالأكراد أو جنوب السودان أو اليمن الجنوبي سابقاً، أو لتعقيدات سياسية كحالة سيناء في مصر‏[16]. وتركزت جل الجهود التنموية في مناطق الحضر.

تصدت شبكات الانتماءات الفرعية لسد هذا الفراغ التنموي وتوفير الخدمات الاجتماعية، في حدود إمكانياتها المتاحة. وبالرغم من مراقبة الدولة العربية لهذه المبادرات، فهي شاركت، بقصد أو من دون قصد، في تدعيم الوجود الوظيفي للانتماءات الفرعية. وفي تقديري أن المؤسسات الأبرز في هذا السياق كانت مؤسسات التنشئة الاجتماعية والمدارس؛ فقد دعمت حالات التقوقع للمنتمين فرعياً في مراحل العمر الأولى‏[17]. كما شكلت فعلياً «هويات متخيَّلة» فرعية، عجزت من جانبها الدول عن إيجاد التلاحم الكافي بينها، وليس مجرد التواجد والرفقة المكانية. فهناك المدارس المسيحية والإسلامية، وبداخلها مدارس الطوائف، ومدارس الأقليات المواطنة الناطقة بلغاتها‏[18]، ومدارس الدولة التي تشرف عليها فعلياً قبائل المنطقة. ولا تكاد تستثنى دولة عربية من هذا التشرذم في مرحلة التعليم.

ولا تعدم معظم الدول العربية الجمعيات الخيرية الإسلامية والمسيحية، على تنوع الطوائف، التي تقدم هذه الخدمات لأبنائها على الأخص، وغيرهم بدرجة أقل. وبالرغم من وجاهة دور المجتمع المدني في توفير هذه الخدمات في المجتمعات الغربية، إلا أن اقتصارها على مؤسسات الانتماءات الفرعية، نظراً إلى تقييد الدول العربية النظائر المدنية الحديثة، جعل منها معول هدم لا أداة بناء للهوية المتخيَّلة الجماعية. ووفقاً لحليم بركات لم تترك الدولة «مواطنيها» لكثير من الخيارات، ومن ثم اتجهوا نحو روابطهم التقليدية‏[19].

ج – التحالفات السياسية

إن تطور دور الانتماءات الفرعية إلى المشاركة في العملية السياسية، حتى وإن كان لمصلحة النظام/الدولة، لهو تهديد جدي للهوية المتخيَّلة لهذه الدول. فقد قامت البلدان العربية، باستثناءات محدودة، على تحالفات عصبية أو طائفية أو قبلية ذات طابع خلدوني. ولم تتواكب معدلات التحديث اللاحقة في المجتمعات مع تحولات ضرورية لإضفاء أسس شرعية حداثية الطابع على الدولة العربية‏[20]. وبالتالي، ظلت التوازنات والتحالفات مع الانتماءات الفرعية مكوناً أساسياً في السياسة العربية‏[21]. وليس سراً وجود انتخابات تمهيدية لدى بعض القبائل الكويتية والأردنية مثـلاً لتحديد مرشحيها في الانتخابات النيابية، بحيث يلتزم المنتمون إلى القبيلة بتأييد مرشحهم. يحدث ذلك بغض النظر عن برنامج المرشح السياسي؛ كما يتجلى دور الانتماءات الفرعية في حالات الاستقطاب السياسي أو الخطر الشديد على نظم الحكم/الدولة‏[22].

2 – تحولات «الهوية المتخيَّلة»

تكشف التحديات السابقة عدم غياب الانتماءات الفرعية عن الواقع العربي، بل تواريها نحو صيغ تفاهمية، أو قمعها، من جانب النظم الحاكمة، وسرعان ما ظهر ذلك مع تراخي آليات الضبط الاجتماعي والأمني. وبالتالي، أتصور أن السنوات الخمس الأخيرة ربما كانت كاشفة أكثر منها مؤسسة لـ «تحولات» الهوية المتخيَّلة في الدولة العربية. وتصب جل هذه التحولات في مزيد من «السيولة» في فكرة «الهوية المتخيَّلة» وتجلياتها في الدولة العربية. يمكن رصد ذلك بالتداخل مع أركان «الهوية المتخيَّلة» الثلاثة.

أ – إعادة تعريف الذات

إن مجرد انطلاق شرارة الربيع العربي في تونس كان كفيـلاً بامتداد الخط نحو بلدان عربية أخرى، بالرغم من تشديد كل نظام/دولة على خصوصية نموذجه. واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالتفاعل بين الشباب العربي، وسهّلت وحدة اللغة تفعيل ذلك. وتخطت هذه الحالة مشاعر الدعم أو التعاطف لتؤسس لوحدة شعورية لم يشهدها الشباب العربي منذ عقود. ووفقاً لنظرية الدومينو، انطلقت حالات الحراك، المتفاوتة، في جل البلدان العربية.

في هذا السياق، لم تستنكف التيارات الإسلامية من الحديث بصور ضمنية وعلنية عن الأهداف السياسية والاقتصادية المتخطية لحدود الدولة القومية. وهو الأمر الذي واكبه قبول ملحوظ من شرائح واسعة من الشباب العربي. فانخرط العديد منهم في النزاعات المسلحة في ليبيا وسورية والعراق، وبدرجة أقل في اليمن، سواء لتوفير الدعم الإغاثي أو العسكري.

ومن جانبها، أقدمت النظم/الدول العربية ذاتها على توظيف انتماءات فرعية محسوبة لمصلحتها لتثبيت دعائمها؛ كالتشديد على الشرعية الدينية في السعودية والمغرب، وتجديد القبائل بيعتها بإعلانات مدفوعة بالصحف المحلية الأردنية وبعض الخليجية، أو تقديم وعود براقة لإرضاء أقليات متذمرة في الجزائر. يضاف إلى ذلك، تردّي الأوضاع في البلدان التي انقلبت ثوراتها من السلمية إلى التسليح، حيث جرى التشديد من جانب مختلف أطياف «الثورة» والنظم/الدولة على التشبث بالانتماء الفرعي، سواء علنياً أو ضمنياً. ومن ثم، استدعت الأطراف المتعددة انتماءاتها الفرعية المتنوعة على حساب «الهوية المتخيَّلة» الهشة. ولم تشفع عقود الضبط الاجتماعي في ضمان سلامة النتائج‏[23].

ب – تشرذم الولاءات الفرعية

إن حالة التخبُّط في تعريف الذات المقترنة بهيمنة الشباب على زخم الربيع العربي ترتب عليها تشرذم الولاءات الفرعية. فبقدر عودة الجيل الأصغر سناً لولاءاته الفرعية في مواجهة «هوية وطنية» متعثِّرة، فإنه لم يكن بالضرورة معتنقاً أنماط حركتها المتواترة. بعبارة أخرى، نالت هذه الولاءات نصيبها من التشظي والتشرذم بسبب سيولة تدفق الأفكار المستحدثة. ويمكن النظر إلى هذا الجانب بوصفه أحد تأثيرات عمليات التحديث التي غيرت بنية الولاءات الفرعية ولم تستبدلها. ويبدو ذلك في تمرد الشبان على أنماط التديُّن التقليدي، بالرغم من لجوئهم إلى الانتماء الديني كهوية‏[24]. فحاولوا تطوير أنماط جديدة، على متصل من الإلحاد وحتى الجهاد، يجمعها غياب الطابع الهرمي على حساب المؤسسات الدينية الرسمية أو الشيوخ المشاهير، بل حتى معارضة القيادات التاريخية لتيار الإسلام السياسي. وامتد هذا التشرذم إلى الانتماءات القبلية والجهوية والعرقية، بدرجات متفاوتة، وهو ما لم يمنع التنافس، وأحياناً التقاتل في ما بينها.

يفتح هذا التشرذم آفاقاً للتعدد والتنوع في السردية التاريخية والسلوك السياسي والاجتماعي للولاءات الفرعية. وهو الأمر الذي يوفر مساحة، بالتأكيد متنامية، للنقد والمراجعة على البنية الراهنة لهذه الولاءات. إلا أنها ليست بالضرورة ضماناً لمزيد من الانفتاح على الفئات الأخرى من المجتمع. وهي بالتأكيد تحتاج إلى الكثير من الجهد لبناء «هوية متخيَّلة» وفقاً لسرديات تاريخية متصالحة وحدود متفق عليها وسيادة مقبولة؛ أي مواطنة كاملة.

ج – تخطي الحدود

بعد سنوات من الربيع العربي باتت اتفاقية سايكس – بيكو المؤسسة لحدود الكيانات العربية موضع تساؤل. فالقليل من مظاهر صرامة الحدود المتخيَّلة بات واقعياً، واتجه الوضع نحو إعادة تشكيل الحدود، بما لا يكون بالضرورة متطابقاً مع الحدود السياسية المعتادة. فعلى مستوى المشروع السياسي، حقق التيار الإسلامي نجاحات ملموسة في الانتخابات النيابية، والرئاسية في مصر. وبغض النظر عن تقويم إخفاقاته السياسية، فقد طرح مشروعه الأممي بصورة واضحة. ومن ناحية أخرى، قدمت التنظيمات العنيفة نماذج على اختراق الحدود دعماً أو صداً لنظيراتها خارج دولها. كما مثل نموذج «تنظيم الدولة الإسلامية» اختراقاً جدياً للحدود على أساس هوياتي لتفتح الحدود العراقية – السورية في مؤشر عنيف على انهيار سايكس – بيكو‏[25]. ولم يكن الاختراق التركي للحدود العراقية، ومن قبلها السورية، لمواجهة تمدد الأكراد، وبدرجة أقل تنظيم الدولة، إلا مؤشراً إضافياً على ذلك. ولم تقتصر إشكالية الحدود على الدول ذات الصراعات أو التنظيمات المسلحة، بل أعيدت مناقشة قضية الحدود المغاربية مجدداً. كما تداعت قضية ترسيم الحدود البحرية المصرية مع السعودية لتطرح جدلاً صاخباً حول مفارقة تعديل الحدود على يد النظام/الدولة ذاتها بعد عقود من استقرارها. وقدمت إشكالية اللاجئين السوريين، قراءة جديدة للسيولة الحدودية وأعبائها الداخلية، وعلى الأخص في الحالة اللبنانية التي تعاني هشاشة التوازن الاجتماعي والصعوبات الاقتصادية، إلا أنه تعذر إغلاق الحدود عملياً أمام تدفق مئات الآلاف من اللاجئين.

ووفقاً لبندكت أندرسن، تكمن أهمية الحدود في حصر نطاق العمق الجغرافي وبناء سرديته التاريخية وضمان السيادة عليه. وبالنظر إلى صعوبة الحصر الجغرافي، فإنه باستخدام الضبط الأمني، وتراجع إمكانات بلورة السردية التاريخية المتمايزة، تبقى السيادة الفعلية موضع تساؤل. وهو الأمر الذي مهدت له تدفقات العولمة في العقدين السابقين، وكرسته أحداث السنوات الأخيرة. ومن الجدير بالذكر أن تخطي الحدود لم يقتصر على طرح سيولة الحركة، بل شمل دعاوى للانعزال للتعبير عن مخاوف فقدان مزايا نسبية في حال التدفق الخارجي، مثلما برزت مخاوف المسيحيين في لبنان من التأثير في وزنهم النسبي أمام تدفق اللاجئين السوريين وأغلبيتهم من السنة. ولا يعبر ذلك عن تبلور «هوية متخيَّلة» وطنية، بقدر ما يعكس مخاوف ذات طابع مصلحي.

د – تراجع السيادة

دشنت العولمة مرحلة انتقالية لسيولة سيادة الدول، اتسمت بالتوافق القانوني والسياسي الدولي على حركة هذه التدفقات. وتقدح المؤشرات الحالية في قدرات عدد من البلدان العربية على بسط سيادتها بصورة تامة على نطاقها الجغرافي. فمن ناحية، تنامت السيولة الحدودية التي تعقِّد تفعيل النطاق الجغرافي واقعياً. فلا حديث «واقعي» عن السيادة على الحدود في دول المشرق العربي، أو ليبيا. ومن جانب آخر، تعضد دور الانتماءات الفرعية في تسيير واقع مناطقها، وبخاصة في دول النزاعات المسلحة، في مقابل تراجع شبه كامل لدور الدولة. فهناك سيادة كاملة للقبائل الليبية في مناطقها، وتسهم القبائل اليمنية بصورة ملحوظة في دعم جهود استعادة الشرعية. وتمارس المعارضة السورية الإسلامية هيمنة كاملة على تسيير الشؤون اليومية في مناطق سيطرتها، وهو الأمر الذي تشاطرها فيه الميليشيات الكردية في شمال البلاد.

الإشكالية الأهم في تقديري هي أن حالة الاعتياد على تراجع أو غياب الدولة في جل مناحي الحياة اليومية يهدم نفسياً، ثم فعلياً، أسس قيامها، وإن ظلت واقعاً هشاً. ومن ثم، تتبلور «هويات متخيَّلة» موازية للدولة الوطنية لدى الأجيال الناشئة. فيلاحظ أن الشرائح الأصغر سناً هي الأكثر تأثراً واستجابة لعوامل الانفتاح ومحفزات التواصل عبر الحدود، وأحياناً التقوقع والخوف من الآخر. ولا يعاب ذلك إلا في اقترانه بلحظات تخبُّط وإعادة تعريف للذات تفتقر إلى مشروعات وطنية جامعة في مجتمعات يمثل الشباب نصفها. وقد استعاضت بعض البلدان العربية من ذلك بمحاولات للتعبئة خلف إنجازات اقتصادية ظرفية، وأحياناً هواجس التقشف في دول الرفاهة، فضـلاً عن مخاوف الإرهاب. ويواجه الأخير بدوره سيولة في التعريف، والأخطر تضارباً في التصنيف من دولة عربية إلى أخرى. إلا أنها فعلياً لا تزال غير كافية لبلورة «هوية متخيَّلة» وطنية.

خاتمة

تطورت «الهوية المتخيَّلة» في البلدان العربية كبنيان هش لم تتوافر المقومات الكافية لصلابته؛ فكانت فعلياً أركان هذه الهوية، وهي اللغة والحدود والسيادة، دافعة لتوسيع الهوية إلى ما وراء الحدود، أو لتضييقها إلى أقل من إقليم الدولة. ببساطة، لم يكن هناك الكثير من المحفزات الثقافية والنفسية، بل أحياناً الاجتماعية والاقتصادية، لبناء الهوية داخل «الحدود السياسية» القائمة في العديد من الدول العربية، مع التشديد على التفاوت النسبي.

تقترن محاولات استشراف مستقبل «الهوية المتخيَّلة» في الدولة العربية بسؤالين؛ أولهما عن مقومات البقاء، وثانيهما ماهية جهود التفكيك. فأولهما معني بإعادة النظر في واقع أركان «الهوية المتخيَّلة» لأندرسن، بحيث تعالج برؤية ابتكارية لصهر الانتماءات الفرعية، وربط منتميها وغيرهم بمخيلة نفسية وطنية. يشار هنا إلى ممارسات الدول الأوروبية في تفكيك الانتماءات الفرعية داخل مجتمعاتها كتمهيد ضروري لبلورة هوية متخيَّلة قومية. وهو الأمر الذي لم يحدث، ولا نرغب في حدوثه، في الحالة العربية. إلا أن البديل قد يكون حالة من المواطنة الكاملة والديمقراطية التشاركية التي تجعل من الانتماءات الفرعية مرجعية ثقافية أكثر منها تصنيفاً للذات وأداة للفعل السياسي والاجتماعي. فازدهار الانتماءات الفرعية اقترن بالمحاصصات المتنوعة، لا بمجرد الوجود في المجتمعات العربية. وبالتالي، يضطلع الأفراد بحماية حدود أوطانهم، ويقبلون سيادة النظم على أقاليمهم الجغرافية، ليس قمعاً، بل شراكة مجتمعية. أما ثانيهما المتعلق بماهية جهود التفكيك، فيصب في تقويم مساعي الأطراف المجتمعية المختلفة، أفراداً وجماعات ونظماً، للتنازع على الانتماءات الفرعية. وكما يجب مراجعة سلوكيات الأفراد والجماعات، ينبغي قراءة مساعي النظام/الدولة في ممارسة الاستقطاب السياسي بتوظيف هذه الانتماءات. إن عملية التفكيك تراكمية وجماعية، ومن ثم فلا يلقى باللوم على جهة دون الأخرى فيها.

لا يمكن الجزم بسعادة أو تعاسة الأجيال الحالية، وبخاصة الشباب، لمعاصرتهم هذه الفترة التاريخية الانتقالية في مسار المجتمعات العربية. إلا أنه غالباً ما ستسهم خياراتهم بصورة جوهرية في تشكُّل الخريطة السياسية والثقافية في مجتمعاتهم لأجيال تالية. فعظم التأثير من ثقل المهمة.

 

للمزيد حول الهوية العربية اليكم الرابط  العرب والتجدد الحضاري