إن نظرة مدققة في تاريخ العرب المعاصر، ابتداءً من خمسينيات القرن المنصرم إلى اليوم، يمكنها أن تلحظ أن الذي قاد الوضع العربي ككل هو الدولة القُطرية العربية التي رفرف فوقها علم الاستقلال. وعكست الجامعة العربية من خلال مجلسها وقممها صورة للعلاقات البينية ما بين الدول العربية. وذلك في ما اتخذ من قرارات ومواقف وممارسة. وقد استهدفت جميعها، كما يفترض، تحقيق عمل عربي مشترك، والتقدم بصيغ عمل مشترك. ولكنها وضعت جميعاً على الرفوف ليعلوها الغبار، ويبتلعها النسيان. ولم تعرف إحداها طعم التطبيق والتنفيذ.

لم يشهد هذا التاريخ غير لحظات عابرة من تضامن عربي، أو تشارك دفاعي في مواجهة ما شنه الكيان الصهيوني من عدوان، وما ثبّته من وجود وتوسّع. وكانت تلك «اللحظات» تنتهي إلى هزيمة أو فشل. طبعاً أولاً بسبب ما وفرته بريطانيا وأمريكا، والغرب عموماً، من دعم عسكري متفوّق للجيش الصهيوني، ومن تحكم مباشر، وغير مباشر في التسلح العربي، فضلاً عن الهيمنة والضغوط السياسية. ثم ثانياً بسبب عدم توفير عمل عربي جدي مشترك تذهب إليه الدولة القُطرية العربية.

وكان الأمر كذلك بالنسبة إلى كل صيغ العمل العربي المشترك في أي من المجالات الاقتصادية، أو التنموية، أو الثقافية، أو العلمية. ولم تختلف الحال حتى على مستوى تسهيل مرور الأفراد، أو البضائع، ما بين الدول العربية. فكان قرار الدولة القُطرية العربية سلبياً جداً، أو سلبياً عموماً، إزاء أي عمل عربي مشترك. وهو ما شكل سبباً أساسياً في فشل التنمية، مثلاً، حتى على مستوى القُطر العربي الواحد، وحال دون تحقيق أي من أهداف التحرّر والاستقلال والنهوض والوحدة وتحرير فلسطين.

بكلمة، إن الدولة القُطرية العربية الحديثة، طوال تاريخها، هي التي قادت دولتها منغلقة على نفسها، وهي التي قادت الوضع العربي العام، بما في ذلك العلاقة بالخارج الدولي، أو المواجهة مع الكيان الصهيوني.

لهذا يجب أن تعد الدولة القُطرية العربية، هي المسؤولة عن كل ما حدث في الماضي، ويحدث الآن، للوضع العربي العام، كما للوضع الخاص في كل منها. ومن ثم ليس من الصحيح البحث عن أسباب ذاتية تعفيها من هذه المسؤولية، بعد مسؤولية موازين القوى العالمية، والتدخل الخارجي، ووجود الكيان الصهيوني. ومن ثم أيضاً، ليس من الصحيح تحميل المسؤولية لحركة التحرّر العربي أهدافاً وممارسة، أو لصيغ العمل العربي المشترك من تضامن، أو تكامل، أو سوق مشتركة، أو حتى تعاون بأدنى درجاته. فهذا كله لم تُتح له أن يقود، أو يتحقق بصورة جدية، أو عملية قط. فالدولة القُطرية هي التي فرضت قيادتها، وما اعتبرته مصلحتها ورؤيتها على كل ذلك التاريخ.

يمكن أن نستثني لحظة، شذت عن ثوابتها تمثلت بوحدة مصر وسورية 1958-1961. ولكنها (الدولة القُطرية) سرعان ما انقضّت عليها، في ظل ضغوط خارجية وصهيونية وإقليمية، وقُطرية عربية، لتفرض انفصالاً مديداً. وأما مصر الشقيقة الكبرى النزّاعة للقيادة والوحدة، كما عبّر عن ذلك جمال عبد الناصر، مثلاً، فقد انقضّت الدولة العميقة عليها، بعد وفاته، ومع ضغط خارجي وقُطري عربي وكيان صهيوني، لتدمر خطها الوحدوي. وتعيد مصر دولة عربية قُطرية منكفئة على ذاتها.

إذا صحّ ما تقدّم، فعلينا أن نضع الدولة العربية القُطرية، وبتفاوت بالمسؤولية، ومن حيث هي دولة تجزئة عربية، في قفص الاتهام. ونقدّم ضدها دعوى بالمسؤولية عن كل ما واجهته الأمة العربية من فشل، أو من انهيار راهن للنظام العربي، أو من أزمات فكرية واجتماعية، أو استبداد، أو تخلف، أو إخفاق أو تنازلات وتفريط، في مواجهة الكيان الصهيوني والهيمنة الخارجية، مع المرور بما وصلت إليه بعضها من اعتراف بالكيان الصهيوني، أو هرولة تطبيعية مجانية، أو هروب حتى من دعم المقاومة الشعبية ضد الاحتلال والاستيطان، وتهويد القدس، وانتهاك المقدسات الإسلامية والمسيحية، ولا سيما المسجد الإبراهيمي في الخليل، والمسجد الأقصى.

فضرورة وضع الدولة القُطرية في قفص الاتهام تنبع من انفرادها في قيادة الوضع العربي العام، وقيادة قُطرها بعيداً من أيّة علاقات عربية بينية، وإنما قُطر-خارج. هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى، فالمطلوب من «المحاكمة» أن تكشف الطبيعة والسمات العامة المشتركة لدولة التجزئة النزّاعة ضد أدنى أشكال التعاون والعمل المشترك، بعضها بسبب الضغوط الخارجية والإقليمية، والكيان الصهيوني، لتكريس الانفراد القُطري، وبعضها بسبب ما ولّدته التجزئة من تناقضات ما بين الأشقاء: ميْل الأكبر لاحتواء الشقيق الجار والأصغر، أو ميْل الأصغر للاستقلال والنديّة وتكبير الدور، أو ما بين الأشقاء الكبار من تنافس، وتفضيل الصراع على التعاون. فالتجزئة المتفاوتة بين الأقطار العربية في الأحجام والأدوار والجيوسياسة، ولدّت الصراعات والتناقضات، وأعادت إنتاجها.

هذا الواقع الموضوعي كُرّسّ ودُعِم من جانب موازين قوى عالمية وإقليمية، وقد أدت إلى تفاقم تلك الصراعات والتناقضات. وذلك بسبب التجزئة، وخريطة التفاوت بين أقطارها. ثم أضف ما تقرره القوانين الدولية من مساواة نظرية في السيادة بين الدول، وقد سُحِب على دول التجزئة العربية، مما أدخلها في تناقض مع التاريخ، ومع سمة الأمة العربية الواحدة، ومع علاقة الأشقاء ببعضهم، وضرورة العمل المشترك. ناهيك بمستوياتها الأعلى وصولاً إلى الوحدة أو الاتحاد أو السوق المشتركة حتى في ظل جامعة عربية (احتفاظ كل دولة باستقلالها التام).

على هذه المحاكمة أن تطلب من الدولة العربية القُطرية، أن تفسّر لماذا مجرد تسلّم السلطة فيها، يوقع صاحبها بالقُطرية، حتى لو كان يرفضها وجاء لينقضها أكانت خلفيته قومية، أو إسلامية، أو وطنية، أو يسارية عروبية. مثلاً لماذا اتجهت قيادات الحركات الوطنية الأصيلة في المغرب العربي الكبير، لتشكل وحدة في مرحلة النضال، لتمتد إلى مرحلة الاستقلال. ولكن ما إن حكموا، تحت علم الاستقلال في الدولة القُطرية، حتى أصبحوا ذوي نزوع قُطري خالفوا ما كانوا عليه من عهدٍ وحدويّ. وراحوا يعززون الدولة القُطرية لتصبح هدفهم. وقد أورثوها شيطاناً مريداً، لمن جاء بعدهم. وقد حدث في المشرق العربي مثل هذا بشكلٍ أو آخر.

وغير هذا الكثير الكثير مما يجب أن تكشفه تلك المحاكمة إذا صحّ أن الدولة القُطرية مسؤولة عما وصلته هي نفسها الآن من ضعفٍ وتفكك وانحلال، ومسؤولة عما وصل إليه الوضع العربي من وضعٍ يشبه الخروج من التاريخ.

ما تقدّم يشكل واحداً من تعدّد الآراء في تفسير أسباب ما يعانيه الوضع العربي والنظام العربي العام من انهيار وتراجع، ولا سيما على مستوى عدد من الدول القُطرية. وهو قراءة أولية تفتح باب النقاش على مصراعيه. على أن الإجابة عما يجب عمله للخروج من المأزق العربي الراهن، لا بد من أن تبدأ بتحديد الداء وتشخيصه قبل البحث، أو شرط البحث عن الجواب. ويا لصعوبته إذا ما كانت دولة التجزئة القُطرية هي الداء. وداؤها معدٍ. ولم ينفع معه حتى الآن تعقيم أو تطعيم.

 

قد يهمكم أيضاً  نقاط ارتكاز في رؤية عبد الناصر لمواجهة التحديات الراهنة

اقرؤوا ايضاً  ماذا تريد أمريكا من سورية؟ ولماذا تكره القومية العربية؟

احصلوا على كتاب منير شفيق الصادر عن المركز في أيار/مايو 2021 من جمر إلى جمر : صفحات من ذكريات منير شفيق

#مركز_درسات_الوحدة_العربية #منير_شفيق #الوحدة_العربية #الدولة_القطرية #حال_الأمة #القومية_العربية #الوضع_العربي_الراهن