«ما دام القضاء والعدالة في البلاد بخير فكل البلاد بخير»(***)

ونستون تشرشل

مقدمـــــة:

يقول المفكر عبد الرحمن بن خلدون: «الظلم مؤذن بخراب العمران…»، وقد حرصت عدة حضارات على استنباط مفاهيم ووضع بعض الآليات والمؤسسات للحؤول دون تفاقم الانتهاكات. من بين أهم المؤسسات والآليات المتعارف عليها في هذا المجال، القضاء العادل[1].

يضطلع القضاء العادل بدور جوهري في المحافظة على السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي كما يسهم بقسط كبير في إنعاش الاقتصاد بما أنه يشجع رجال الأعمال على الاستثمار (الداخلي والخارجي) دون خشية على أموالهم من السطو عبر الفساد والرشوة، وخصوصاً في غياب وسائل ردع ناجعة.

لذلك يجب أن يتمتع القضاء بمبادئ تُمكّن القاضي من ممارسة مهنته بكل حرية، للمساهمة في إقامة العدل بين الناس وحماية حقوق الإنسان والحريات العامة، من دون خوف أو خشية من ردود أفعال أصحاب السلطة والنفوذ والجاه[2].

ومن بين المبادئ الرئيسية التي طوّرها بعض الفلاسفة وعلماء القانون والسياسة في مجال العدالة، مبدأ استقلال القضاء، وذلك في إطار نظرية الفصل بين السّلط. مع العلم أن السلطة القضائية كانت محل جدل في ما يتعلق بمكانتها صلب السّلط، إذ اعتبرها الكثير من كبار المفكرين المعاصرين جزءاً من السلطة التنفيذية.

لقد كُرِّس استقلال القضاء على مستوى القانون الوضعي المعاصر في الفصل 16 من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن عام 1789. كما اعتنى المجتمع الدولي بهذه المسائل، فوقع تكريس الجمّ من المبادئ على مستوى النصوص والاتفاقيات الدولية (الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة)، حتى تكون مرجعاً قانونياً وأخلاقياً للدول. نذكر في هذا الصّدد، الفصل 10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (1966). كما تطرقت اتفاقيات إقليمية و«إعلانات» متعددة إلى مبدأ استقلال القضاء والمحاكمة العادلة ومبدأ حياد القاضي.

أما على مستوى القانون الداخلي، فيُعتبر القضاء المستقل من أهم الركائز الدستورية. لذا خصّص الدستور التونسي لسنة 1959 باباً للسلطة القضائية، لكن هذا لم يمنع هيمنة السلطة التنفيذية على المؤسسة القضائية، الأمر الذي أدى إلى المزيد من الانحرافات وأصبح من الضروري إدخال إصلاحات كبيرة على المؤسسة القضائية.

يندرج الدستور الجديد (لسنة 2014) في هذا السياق، إذ وردت في الباب الخامس العديد من التنصيصات المتعلقة باستقلال القضاء. واشتمل هذا الباب على ما يقارب 23 فصلاً (مقابل 20 فصلاً للسلطة التشريعية و31 فصلاً للسلطة التنفيذية)، تعلقت بالسلطة القضائية واستقلال القضاء. كما ورد الكثير من المبادئ الداعمة لاستقلال القضاء موزعة بين توطئة الدستور والأبواب المتعلقة بالسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والهيئات الدستورية التي وضعها المجلس الوطني التأسيسي كضمانات دستورية.

فهل أن هذه التنصيصات الدستورية الواردة في الدستور التونسي الجديد كافية للارتقاء بالقضاء التونسي من قضاء تابع وخاضع (قبل الثورة)[3]، إلى قضاء مستقل وناجع؟

وهل من شأن تكريس استقلال القضاء كما ورد في الدستور تمكين هذا الجهاز من سلطات واسعة قد تؤدي إلى تغوُّله (على غرار ما اصطُلح عليه بحكومة القضاة)، وبالتالي إحداث إخلالات في التوازن داخل أجهزة الدولة ووحدتها؟

وهل تتعلق مسألة استقلال القضاء بالدستور بمعزل عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟

نحاول الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال عنصرين رئيسيين:

نبرز أولاً سعي المجلس الوطني التأسيسي وكذلك مجلس نواب الشعب إلى إنشاء قضاء مستقل من خلال بعض الضوابط التي أُقرّت في هذا المجال.

وسنتطرق في الجزء الثاني إلى البحث في العناصر التي تفيد سعي السّلط إلى ممارسة نوع من الرقابة على السلطة القضائية بغية إحداث نوع من التوازن، مع إبراز بعض الصراعات المترتبة على التنصيص على استقلال القضاء.

أولاً: ضوابط استقلال القضاء

يتجلى تكريس استقلال القضاء من خلال العديد من التنصيصات المتعلقة بإنشاء سلطة قضائية في بُعدَيها الهيكلي والوظيفي، ومن خلال إيجاد آليات تضمن استقلاليتها.

1 – القضاء سلطة مستقلة في بعديها الهيكلي والوظيفي

يُعدُّ تخصيص باب للسلطة القضائية (الباب الخامس)، في دستور2014 مؤشراً مهمّاً؛ إذ لا يمكن الحديث عن استقلال القضاء من دون الإقرار بأنّ القضاء سلطة شأنها شأن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. لذا لم يكتفِ المجلس الوطني التأسيسي بالتنصيص على السلطة القضائية من خلال هذا العنوان، بل شدد في صلب الفصل 102 على أنّ القضاء سلطة. كما ذُكرت السلطة القضائية ثلاث مرات صلب القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء.

ولا يُعَد الاعتراف بسلطة القضاء سابقة في القانون التونسي، إذ إن دستور1959 خصص بدوره باباً (الباب الرابع)، اعتبر فيه القضاء سلطة، من دون الإشارة إلى ذلك من خلال الفصول الأربعة (الفصول 64 و 65 و 66 و67)، المخصصة لهذا الباب[4]. كما لم تقع الإشارة إلى السلطة القضائية من خلال قانون المجلس الأعلى للقضاء ولا ضمن بقية النصوص القانونية التي كانت تنظم سير العدالة. واستمر تهميش السلطة القضائية حتى في الفترة الانتقالية (2011 – 2014)، إذ نص الفصل 17 من المرسوم عدد 14 لسنة 2011 المؤرخ في 23 آذار/مارس 2011 المتعلق بتنظيم السلط العمومية، على السلطة القضائية، دون إحداث تغييرات على القوانين التي يجري بها العمل، التي تتمحور حول استقلال القضاء، وقد أثار ذلك استياءً كبيراً.

وقد جاء التركيز على إقرار السلطة القضائية تحت الضغوط التي مارسها القضاة من خلال توصيات المرصد التونسي لاستقلال القضاء الذي أنشئ في الفترة الانتقالية في إثر تعليق العمل بالدستور وحل المجلس الأعلى للقضاء (كانون الأول/ديسمبر 2012).

تجدر الإشارة إلى أن السلطة القضائية في الدستور الجديد لا تقتصر على القضاء العدلي مثلما هو الحال في دستور 1959، بل تشمل القضاءين الإداري والمالي، والمحكمة الدستورية والنيابة العمومية بما أنها جزء من القضاء العدلي حسب الفصل 115 من الدستور. وبهذا تكون المنظومة الهيكلية القضائية قد اكتملت على مستوى الشكل، وأوكلت إليها مهمات حساسة أهمها إقامة العدل وعلوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات (الفصل 102). واللافت للانتباه أن الدستور قد خصّ السلطة القضائية، دون سواها، بحماية الحقوق والحريات من خلال الفصل 49 الذي يُعتبر من الفصول المفصلية في دستور2014 [5].

ويرى بعض الفقهاء أن هذه الوظيفة (حماية الحقوق والحريات)، الموكولة للقضاء تندرج في مفهوم الدولة نتيجة استئثارها بالفصل في النزاعات والخصومات وتحقيق العدالة…، بدلاً من أخذ الأفراد حقوقهم ودفع خلافاتهم بأنفسهم. لا يمكن تحقيق هذه الأهداف من دون إرساء مبادئ استقلال القضاء «وعدم إنشاء محاكم مؤقتة أو استثنائية أو خاصة، بل يجب أن يكون النظام القضائي موحداً ماسكاً بزمام السلطة القضائية بمفرده وذلك كونها تتمتع بالولاية العامة على الأشخاص والأموال جميعاً ولها حقّ الفصل في المنازعات كافة»[6]. وتمشياً مع هذا التصور نص الفصل 110 من الدستور التونسي الجديد على منع إحداث محاكم استثنائية. ونذكر في هذا المقام أن السلط التونسية بادرت سنة 1987 (تاريخ إزاحة الحبيب بورقيبة عن السلطة واعتلاء زين العابدين بن علي سدة الحكم)، بإلغاء محكمة أمن الدولة التي تُعتبر محكمة استثنائية بما أنها تنظر في القضايا ذات الطابع السياسي. وكانت بمثابة سيف مسلط على رقاب المعارضة السياسية.

انطلاقاً من التنصيصات الدستورية التي أشرنا إليها، نستخلص أنّ وظيفة السلطة القضائية متنوعة، ومتشعبة ومنصهرة في دينامية المطالب التي نادى بها الشعب والقضاة أنفسهم وبخاصة بعد الاحتجاجات التي أدت إلى تغيير النظام السياسي التونسي[7]. ولكن الضامن للممارسة الفعلية لتلك الوظيفة هو استقلال القضاء. فالإقرار بأن القضاء سلطة لا يكفي لضمان استقلاليته، بل يجب تجسيد ذلك المبدأ على مستوى الممارسة القانونية، كما يقر بذلك المعنيّون مباشرة بالشأن القضائي وأبرز الفقهاء مثل جيرار كورني (Gérard Cornu).

على هذا الأساس أقرّ المجلس الوطني التأسيسي ضمن دستور 2014 العديد من النصوص ذات الصلة. فجاء في التوطئة أن الدولة «تضمن علوية القانون واحترام الحريات وحقوق الإنسان واستقلالية القضاء والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات». يُفهم من ذلك أن استقلال القضاء جزء لا يتجزأ من منظومة متكاملة تُصان فيها الحقوق والحريات تطبيقاً لمفهوم الديمقراطية الحديثة وبناءً للنظام الجمهوري مثلما أشارت إليه التوطئة في سياق آخر «تأسيساً لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية السيادة فيها  للشعب عبر التداول السلمي على الحكم بواسطة الانتخابات الحرة وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينهما…».

إلى جانب التوطئة، تضمنت بعض الأحكام الدستورية العديد من التنصيصات الهادفة إلى إنشاء قضاء مستقل، فورد صلب الفصل 109 تحجير كل تدخل في سير القضاء. كما أشار القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء في ستة مواضع تقريباً إلى استقلال القضاء (وكذلك استقلال القاضي)، وهذا مؤشر مهمّ.

توازياً مع هذه التنصيصات، نصّ الدستور في الإطار نفسه على بعض المبادئ المتعلقة بالقاضي. فورد بالفصل 102 أنّ «القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون». وإلى جانب هذا النص الجوهري الذي من شأنه حماية القاضي، هناك عناصر أخرى من شأنها تعزيز استقلاليته، على غرار التشديد على النزاهة والحياد (الفصل 103).

بالرغم من أهمية مبدأ استقلال القضاء تبقى لثقافة الدولة وسياستها الكلمة الأخيرة، إذ تفيد العديد من التجارب أن هذا التنصيص لصالح استقلال القضاء لا يؤدي بالضرورة إلى الاستقلال الفعلي، فالكثير من البلدان العربية رغم تضمينها استقلال القضاء لا تزال تشكو بعض الممارسات التي تنال من استقلال القضاء والفصل بين السلط، وقد يصل الحدّ إلى تبرير الدمج بين السلط.

ففي تونس، حاول البعض تبرير ضرورة خضوع القضاء للسلطة التنفيذية في إثر الاستقلال معتبراً أن الدولة الفتية بحاجة إلى سلطة قوية (ومركزية)[8] لرفع تحديات التنمية والقضاء على الأمية والتخلف والنعرات القبلية. لكن هذا التمشي أضرّ بمؤسسات الدولة وبالتنمية، وأصبح القضاء في بعض الأحيان وسيلة لإضفاء نوع من الشرعية على الفساد والاستبداد وانتهاك الحقوق والحريات العامة. واللافت للانتباه أن الضغوط المسلطة على القضاء لا ترد من جانب السلطة التنفيذية فحسب، ذلك أن الإعلام والمجتمع المدني وكذلك العائلة، تنهضُ بدور في هذا المجال.

وحتى خلال الفترة الانتقالية (بعد الثورة)، كان القضاء في تونس موضع تجاذبات، من خلال التدخلات والضغوط التي مورست عليه[9]. على سبيل المثال، اعتبر البعض أن الإجراءات التي أقدم عليها وزير العدل والتي قام بموجبها بعزل 82 قاضياً، تعد انتهاكاً صارخاً لمبدأ استقلال القضاء. وقد كان لهذه العوامل أثر لدفع المعنيين بالشأن القضائي (وبخاصة القضاة) الضّغط من أجل وضع ضمانات دستورية قصد التصدي للانحرافات ومحاولات نسف مبادئ استقلال القضاء.

2 – ضمانات استقلال القضاء

تتمثل أهم الضمانات المكرسة لفائدة استقلال القضاء في تلك المتعلقة بالانتداب وصولاً إلى التقاعد، في تفعيل دور المجلس الأعلى للقضاء وفي إقرار مبدأ الاستقلالين المالي والإداري.

أ – ضمانات لفائدة القاضي

تندرج عدة عناصر ضمن الضمانات التي يتمتع بها القاضي، وتتعلق أساساً بالانتداب، والترقية، والنقلة، والحصانة الجزائية، والعزل، ونظام التقاعد…

في ما يخصّ التسمية فإنها تتمّ بأمر رئاسي بناء على رأي مطابق من المجلس الأعلى للقضاء (الفصل 106). ورغم الانتقادات التي استهدفت هذا الفصل، فإن اللجوء إلى المجلس الأعلى للقضاء والتقيّد برأيه (رأي مطابق)، يعتبر مسألة جوهرية من بين الضمانات التي وردت بالدستور. وتتم كذلك تسمية القضاة السامين بأمر رئاسي بالتشاور مع رئيس الحكومة، بناء على ترشيح حصري من المجلس الأعلى للقضاء (الفصل 106 من الدستور). مرة أخرى يتعرض الفصل 106 للنقد من جانب البعض، وذلك في ما يخص مدلول الترشيح الحصري.

لا يُنقل القاضي إلا برضاه ولا يُعزل، كما لا يمكن وقفه عن العمل، أو إعفاؤه، أو تسليط عقوبة تأديبية عليه، إلا في الحالات، وطبق الضمانات، التي يضبطها القانون، وبموجب قرار يعلله المجلس الأعلى للقضاء. وإذا كان التنصيص على أنّ القاضي لا ينقل إلا برضاه ضماناً مهماً من أجل استقلال القضاء، كونه يمنحه الشعور بالطمأنينة في ممارسته لمهنته، إلا أنّ حسن تسيير هذا المرفق العمومي يتطلب في بعض الأحيان نقل القاضي، ولو بدون رضاه (نقل لضرورة العمل)، مثلما نص على ذلك الفصل 48 من قانون المجلس الأعلى للقضاء.

كما يتمتع القاضي بحصانة جزائية، فلا يمكن تتبعه أو إيقافه ما لم ترفع عنه، إلا وفي حالة التلبس فيجوز إيقافه وإعلام مجلس القضاء الراجع إليه بالنظر الذي يبت مطلب رفع الحصانة (الفصل 104 من الدستور). ويبت المجلس القضائي (العدلي، الإداري أو المالي)، مطلب رفع الحصانة حسب صريح الفصل 45 (الفقرة الأولى) من قانون المجلس الأعلى للقضاء.

هذه الضمانات تهم القضاء العدلي والإداري والمالي وتشمل النيابة العمومية المنضوية تحت السلطة القضائية.

وفي إطار مبدأ حياد القاضي، حرص المجلس التأسيسي على تأكيد هذا المبدأ من خلال الفصل 103 من الدستور الذي نص على أنه «يُشترط في القاضي الكفاءة. ويجب عليه الالتزام بالحياد والنزاهة، وكلّ إخلال منه في أدائه لواجباته موجب للمساءلة. كما نصت الفقرة الثانية من الفصل 45 من قانون المجلس الأعلى للقضاء على أن هذا الأخير يعتمد عند النظر في المسار المهني للقضاة على مبادئ تكافؤ الفرص والشفافية والكفاءة والحياد والاستقلالية. ويراعي لهذه الغاية المقتضيات والمبادئ الواردة بالدستور والمعاهدات الدولية والمعايير والشروط المنصوص عليها بالأنظمة الأساسية للقضاة.

وللتذكير فإن مجلس نواب الشعب تراجع في آخر قراءة لمشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء عن التذكير ضمن الفصل 32 على منع القاضي من الانتماء إلى الأحزاب السياسية ووجوب تقديم تصريح على الشّرف بعدم الانتماء وعدم العضويّة في مكاتب الهيئات التّمثيليّة مع تقديم ما يفيد الاستقالة عند الاقتضاء.

هذه التنصيصات التي تهدف إلى التّحقّق من حياد القاضي لا تعني أنّ هذا الأخير هو مجرد تكنوقراط (Technocrate)، غير مطلع على الواقع السياسي والحقوقي، فالدولة لا تسهر على تكوينه في المواد القانونية تلك التي تمكنه فقط من الاضطلاع بوظيفته، بل يتلقى كذلك تكويناً و«رسكلةً» في حقوق الإنسان. وقد تعزز هذا التمشي في إطار الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والتعاون «مع مكتب الأمم المتحدة للإنماء والتوصل إلى إبرام اتفاقية دعم  قدرها إجمالاً حوالي 4 مليار دولار تخصص للرسكلة والتكوين وتوفير بعض التجهيزات»[10].

كما أن الوضع المعنوي والمادي له تأثير بالغ في القاضي. وفي هذا الشأن يقول أحد القضاة المتحمسين لإنشاء قضاء مستقل بعد الثورة، «… لا بدّ من أن يعيش القاضي في ظروف مريحة من الناحية المادية حتى يتخلص من الضغوط من مختلف الجهات التي يمكن أن تؤثر في أداء القاضي واستقلاليته وحتى لا يتعرض شريف لظلم ولا ييأس ضعيف من عدله. فالجانب المادي مهمّ في حياة القاضي باعتباره يفصل في نزاعات وملفات تتضمّن أطرافاً لها من الجاه والقدرة المادية ما يكفي للتأثير على سير القضايا وحتى لا يظلّ الباب مفتوحا أمام هؤلاء كان لزام الاعتناء بالقاضي من الناحية المادية درءا لأية شبهات ودرءاً لأية إغراءات من الممكن أنّ تطاله»[11].

لهذه الاعتبارات، ورد بالفصل الرابع من قانون المجلس الأعلى للقضاء أن الجلسة العامة (الهيكل الجامع للمجالس القضائية الثلاثة) تضبط المنح والامتيازات المخوّلة لأعضاء المجلس وتصدر قراراً في ذلك ينشر بالرائد الرسمي. وبهدف تجسيد هذه المبادئ المعلنة، قد وقع التنصيص صلب الدستور على بعث المزيد من الآليات والهيئات، أهمها المجلس الأعلى للقضاء.

ب- ضمانات من خلال المجلس الأعلى للقضاء 

ما لا شك فيه أن أهم مؤشر على خضوع القضاء التونسي للسلطة التنفيذية قبل الثورة يتمثل بتركيبة المجلس الأعلى للقضاء، إذ «كان الرئيس السابق يترأسه ويعيّن أغلبية أعضائه، فيما كانت وزارة العدل تديره. وكان المجلس طبقاً للقانون الأساسي للقضاة هو المسؤول عن تعيين القضاة وترقيتهم ونقلهم وتأديبهم، وكانت السلطة تستخدمه أداة لردع القضاة المعارضين[12]. لذا كان أهم مطلب لأغلب القضاة والسياسيين والأكاديميين…، هو صياغة قانون أساسي جديد لا يتيح للسلطة التنفيذية التلاعب بالمؤسسة القضائية.

وبالعودة إلى الدستور والقانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء نجد أن هذا المجلس يتكون من أربعة هياكل هي:

– مجلس القضاء العدلي؛

–  مجلس القضاء الإداري؛

– مجلس القضاء المالي؛

– والجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة.

يضمن المجلس الأعلى للقضاء حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية – في نطاق صلاحياتها – طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها (الفصل الأول من قانون المجلس الأعلى للقضاء). وتقترح الجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة الإصلاحات وتبدي الرأي في مقترحات ومشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء التي تعرض عليها وجوباً، ويبتّ كل من المجالس الثلاثة في المسار المهني للقضاة وفي التأديب (الفصل 114 من الدستور). وهذا ما أقرّه كذلك قانون المجلس الأعلى للقضاء ضمن الفصل 45.

وفي إطار التأديب، من المهم التذكير بأن الهيئة الوقتية للقضاء العدلي، رغم دورها الذي لا يعدو أن يكون مؤقتاً، اتخذت (أواخر شباط/فبراير 2016) بعض القرارات الجريئة تمثلت بعزل 22 قاضياً بتهمة «قبول منافع مادية وفقدان مقومات الحياد والنزاهة والأمانة…»[13]، مع الحرمان من المرتب بتهمة «الإخلال بمبادئ الحياد وإتيان سلوك يمس من شرف القضاء وكرامة القاضي»[14]. هذه القرارات غير المسبوقة تقيم الدليل على وجود إرادة للتصدي للفساد وأن ما قيل أن هذا السلك (من خلال الهيئة الوقتية للقضاء العدلي)، فاقد للاستقلالية ويخضع للمحاباة…، عارٍ من الصحة.

بالرجوع إلى المجلس الأعلى للقضاء، هناك العديد من المبادئ التي تعتبر مكسباً في إطار ضمانات استقلال القضاء، مثل إقرار مبدأ الانتخاب. في هذا السياق ينص الفصل 112 من الدستور على أن كل هيكل من الهياكل القضائية يتركب على النحو التالي:

ثلثا أعضائه قضاة أغلبهم منتخبون وبقيّتهم معيّنون بالصفة، والثلث المتبقّي من غير القضاة، هم من المستقلّين من ذوي الاختصاص، على أن تكون أغلبية أعضاء هذه الهياكل من المنتخبين. ويباشر الأعضاء المنتخبون مهامهم لفترة واحدة مدتها ست سنوات. ينتخب المجلس الأعلى للقضاء رئيساً له من بين أعضائه من القضاة الأعلى رتبة. وتكريساً لهذا التوجّه الدستوري، ورد بالفصول 10 و11 و12 من القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء، بأن المجالس القضائية الثلاثة (العدلي، الإداري والمالي)، تتكون من 15 عضواً، من بينهم 6 قضاة منتخبين من نظرائهم و4 قضاة معيَّنين بالصفة والبقية من المستقلّين.

ج- الاستقلال المالي والإداري

من المتعارف عليه أن الاستقلال المالي والإداري هو أحد أسس استقلالية المؤسسات، حتى لا تكون خاضعة لطرف من الأطراف. ويندرج هذا العنصر ضمن المعايير الدولية لاستقلال القضاء الصادرة عن مركز دعم العمليات الانتقالية الدستورية بكلية الحقوق بجامعة نيويورك.

وجاء إذن الفصل 113 من الدستور التونسي الجديد ليؤكد هذا التوجه، إذ ينص على أن المجلس يتمتع بالاستقلال الإداري والمالي والتسيير الذاتي، ويعدّ مشروع ميزانيته ويناقشه أمام اللجنة المختصة بمجلس نواب الشعب.

في نفس السياق ينص الفصل الأول من القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء على أن هذا الأخير مؤسسة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها. ويتمتّع المجلس الأعلى بالاستقلال الإداري والمالي والتسيير الذاتي وله السلطة الترتيبية في مجال اختصاصه.

إن مجمل العناصر التي أتينا عليها تفيد أن استقلال القضاء في تونس مكسب، ومطلب حقوقي ناضلت من أجله أجيال، منذ نشأة دولة الاستقلال (1956) إلى اليوم بما أن بعض التشريعات ما زالت قيد الدّرس، والتي يُنتظر أن تُسهم في تكريس المنظومة القضائية المنشودة. لكن رغم هذا الإجماع الظاهر على تكريس هذه المبادئ الكونية، شكّل استقلال القضاء موضوع جدال داخل المجلس الوطني التأسيسي ومجلس نواب الشعب والأسرة القضائية والقطاعات التي تعمل وتسهم في إقامة العدالة والدفاع عن الحقوق والحريات، خاصة قطاع المحاماة. وقد أبدى البعض نوعاً من التحفظ عن الصياغة المتعلقة أساساً بتركيبة المجلس الأعلى للقضاء مع تأكيده ضرورة إرساء قضاء مستقل ومتوازن ينسجمُ مع متطلبات وحدة الدولة والمجتمع المدني ودولة القانون…، كل هذا يقتضي إخضاع القضاء لنوع من الرقابة دون المساس بالاستقلالية.

ثانياً: واقع الضغوط على استقلال القضاء

إنّ «إزالة مظاهر تبعية القضاء للسلطة السياسية يفترض حتماً إرساء دعائم قضاء مستقل عن جميع الضغوط التي تمارسها السلطة التشريعية وخاصة السلطة التنفيذية»[15]. لكن يجب أن لا تؤدي تلك الاستقلالية إلى الإخلال بالتوازنات داخل أجهزة الدولة، لأن ذلك يمكن أن يؤثر سلباً في وحدة الدولة ومبادئ العدالة ودولة القانون والمحاكمة العادلة. لهذه الأسباب يعارض العديد من الباحثين البارزين مبدأ استقلال القضاء على غرار ليون ديغوي وموريس هوريو وميشال تروبيه وشارل إيزنمان (Léon Duguit, Maurice Hauriou, Michel Troper, Charles Eisnmann)    ويقرّون بوجود سلطتين (تشريعية وتنفيذية)، لا ثالث لهما، أما القضاء فهو مكلف بتسيير المرفق العام القضائي.

لاستقلال القضاء هناك علاقة وثيقة بمفهوم الدولة ونظام الحكم فيها القائم على تعدد وترابط الوظائف والهياكل المكلفة بتحقيق هذه الوظائف وبضرورة أن يكون كل هيكل مسؤولاً عن أعماله. والحديث عن المسؤولية في هذا الإطار مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم دولة القانون التي تعني أن الدولة هي التي تضع قواعد الحكم وفي نفس الوقت تلتزم هي ذاتها بالخضوع لها. ومن هذا المنظار يرى البعض ضرورة إخضاع السلطة القضائية لنوع من الرقابة.

يبدو أن المجلس الوطني التأسيسي في تناوله للسلطة القضائية كان واعياً بضرورة «تقييد» صلاحيات السلطة القضائية، إذ نصت توطئة الدستور على ضرورة تأسيس «نظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية السيادة فيها  للشعب عبر التداول السلمي على الحكم بواسطة الانتخابات الحرة وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها».

هذه الرقابة المعلنة بالبحث عن التوازن، التي تتم من خلال المجلس الأعلى للقضاء والتي لم تُرض القضاة الذين يتوقون إلى سلطات أشمل، لم تمنع بعض الأوساط (من سياسيين وحقوقيين)، من السعي لمزيد تقليص سلطات هؤلاء.

1 – استقلالية القضاء وضرورة الرقابة

رغم الإرادة الظاهرة داخل المجلس الوطني التأسيسي ومجلس نواب الشعب لإنشاء قضاء مستقل، باعتباره سلطة تضاهي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، فإنّ بعض الأحكام الدستورية والفصول المتعلقة بقانون المجلس الأعلى للقضاء، تشير إلى ضرورة وضع بعض القيود وممارسة رقابة على الجهاز القضائي. هذه الرقابة ليست بدعة، بما أنها تندرج ضمن المعايير الدولية، وهي ما يعبَّر عنها بواجب المساءلة مثلما ورد في الوثيقة التوجيهية الصادرة عن مركز الديمقراطية بنيويورك، الفقرة (د)، التي نصت على ضرورة خضوع القضاة دوماً للمساءلة بشأن سلوكهم، إذ من الممكن صرف أو تأديب القضاة فقط لدواعي سوء السلوك الفعلية، أو غياب الأهلية، أو عدم القدرة؛ وذلك بالاستناد إلى معايير موضوعية ومقاييس يتم تحديدها مسبقاً وعبر إجراءات تتضمّن مراجعة قضائية صحيحة. هذه التنصيصات هي في حقيقة الأمر دعامة لدولة القانون، التي قوامها خضوع جميع السلط للمساءلة ولا أحد فوق القانون (سيادة القانون).

تنسحب هذه الرقابة على المجلس الأعلى للقضاء، بما أنه يضم بعض الأعضاء من غير القضاة وكذلك قضاة معينين بالصفة. ولتعزيز هذه الرقابة سعت السلطة التأسيسية إلى تقليص عدد القضاة المنتخبين صلب القضاء العدلي والإداري والمالي، إذ نصت مشاريع الدساتير الثلاثة المعتمدة تباعاً في كانون الأول/ديسمبر 2012 وفي نيسان/أبريل 2013 وفي حزيران/يونيو 2013 على أن الهياكل القضائية تتركب في نصفها من قضاة منتخبين وفي النصف المتبقي من غير القضاة. لكن أمام إصرار القضاة من خلال نقابتهم وجمعيتهم وبعض الأحزاب أقرّت الصيغة الرسمية المعتمدة في كانون الثاني/يناير 2014، على أن كل هيكل من الهياكل القضائية يتركب في ثلثيه من القضاة. وهنا تتجلى الإرادة لإخضاع المؤسسة القضائية في إطار البحث عن نوع من التوازن.

إن هذه المقاربات المرتبكة تنطبق على المحكمة الدستورية (المنضوية صلب السلطة القضائية)، إذ تخلى المجلس الوطني التأسيسي في النسخة الرسمية للدستور عن مبدأ الانتخاب الذي كان معتمداً في المشاريع الدستورية الآنف ذكرها، واعتمد مبدأ تعيين أعضاء المحكمة (الفصل 118 من الدستور). وهذا قد يدلّ على الرغبة في الإبقاء على الموروث الذي ميز المجلس الدستوري السابق وكذلك المجلس الأعلى للقضاء.

إن التوفيق بين متطلبات الاستقلالية وفرض نوع من الرقابة على السلطة القضائية يمثل مصدر جدال بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية. وهذا الجدال يمتد إلى النيابة العمومية؛ إذ إنه استناداً إلى الفصل 115 من الدستور فإن «النيابة العمومية التابعة للقضاء العدلي، تشملها الضمانات التي يكفلها الدستور. ويمارس قضاة النيابة العمومية مهامهم المقررة بالقانون في إطار السياسة الجزائية للدولة طبق الإجراءات التي يضبطها القانون». وانتقد بعض الأساتذة التنصيص على النيابة العمومية ضمن هذا الفصل، واعتبروا أنه كان من الضروري تخصيص فصل مستقل لذاتها. كما اعتبر البعض أن التنصيص على أنّ قضاة النيابة العمومية يمارسون مهامهم المقررة بالقانون في إطار السياسة الجزائية، فيه مساس باستقلاليتهم، ولا سيَّما أنّ النيابة العمومية، حسب منطوق الفصل 21 من مجلة الإجراءات الجزائية، مطالبة بتقديم طلبات كتابية طبقاً للتعليمات التي تتلقاها حسب الشروط الواردة بالفصل 23 وتتولى بسط الملاحظات الشفاهية بما تراه متمشياً مع مصلحة القضاء.

وتعتبر وظيفة النيابة العمومية من الوظائف التي تكتسي أهمية بالغة بالنظر إلى السلطات التي تتمتع بها مثل إثارة الدعوى العمومية وحفظ الشكايات وتنفيذ الأحكام… لهذا فهي محل خلاف حتى في الدول الديمقراطية. وبالرجوع إلى بعض التجارب المقارنة، نجد دولاً عريقة في الممارسة الديمقراطية، مثل فرنسا، تبقى فيها وضعية القضاء الواقف (النيابة العمومية)، محل انتقاد، لأنه لا يستجيب لمبدأ استقلال القضاء ودولة القانون، وهذا ما صرحت به المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي اعتبرت أنّ النيابة العمومية في فرنسا ليست سلطة قضائية. وقد أصدرت محكمة التعقيب الفرنسية حكماً في نفس السياق، واعتبرت كذلك نقابة القضاة الفرنسية أنّ النيابة العمومية تخضع للسلطة التنفيذية وأن القضاة هم مجرد موظفين. هذه التعليمات التي تصدر من السلطة التنفيذية للنيابة العمومية وتبدو أنها «شر لا بد منه»، تكشف تأثير السلطة التنفيذية في عمل النيابة العمومية، وهذا من شأنه أن ينال أحياناً من استقلالية القضاء.

هذا السجال حول استقلال السلطة القضائية لا يتوقف عند مسألة إجراءات تقتضيها أحياناً «هيبة الدولة» والمصلحة العامة المتمثلة أساساً بحُسن تسيير المرفق العمومي القضائي ودولة القانون، فهناك بعض الأطراف والأوساط التي ترغب في ممارسة السيطرة على المؤسسة القضائية وهو ما أثار في تونس جدلاً واسعاً.

2 – استقلالية القضاء تثير الجدل   

أثار استقلال السلطة القضائية في تونس جدالاً حاداً، لا على المستوى السياسي فحسب (بحكم الترابط الطبيعي والمعقد بين استقلال القضاء والسياسة)، بل كذلك على مستوى العلاقة بين جناحَي العدالة، أي القضاة والمحامين.

أ – نحو فرض وصاية على القضاء 

لا يمكن فهم العلاقة المتوترة بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية إلا من خلال التجارب المريرة على امتداد عشرات السنين. فالرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة جرَّد القضاء من مقوِّمات السلطة وأخضعه لمحاربة خصومه السياسيين (أحزاب ونقابات وجمعيات ومستقلين…)، الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، جعل القضاء أداة، وظّفها بخاصة في محاربة المعارضة على اختلاف أنواعها (يميناً ويساراً). لكن الآلة العنيفة التي استعملها كل من بورقيبة وبن علي لم تمنع العديد من القضاة من التصدي لبعض القرارات الجائرة وعدم الخضوع لبعض الإملاءات وبخاصة تلك التي تتعلق بالحقوق والحريات. وهنا نخص بالذكر القضاء الإداري التونسي الذي استطاع فرض العديد من المبادئ المتعلقة بحقوق الإنسان منذ سنة 1981 من خلال قضية بيار فلكون (Pierre Falcon).

في الفترة الانتقالية واصلت السلطة التنفيذية ضغوطها «ومن ثمة يرى القضاة وهياكلهم النقابية والمدنية أن القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء، سواءٌ في نسخته التي تقدمت بها الحكومة إلى مجلس نواب الشعب أو في النسخة التي توصلت إليها لجنة التشريع العام في المجلس وتمت مناقشتها في الجلسة العامة، لا يستجيب للدستور بل يناقضه ولا سيَّما عندما يتحول المجلس الأعلى للقضاء إلى مجرد منشأة تشرف إدارياً على شؤون القضاة، فاقدة وظيفتَي التفقد والإشراف على المعهد الأعلى للقضاء، اللذين تحافظ السلطة التنفيذية على توليهما…»[16].

وفي السياق نفسه صرح أحد نواب البرلمان أن «المسكوت عنه في خطاب الكتلتين الكبيرتين أثناء مناقشات لجنة التشريع العام، أو في أثناء الجلسة العامة، هو الخشية من تغوّل القضاء وبناء «جمهورية القضاة»، وفق الإيتيمولوجيا المتداولة في كواليس المجلس. وكثيراً ما تتم المقارنة مع القضاء الإيطالي، خصوصاً بعد أن سيطرت عليه المافيا، وحوّلته إلى أداة تضرب به من تشاء، وتحقق عبره ما تشتهيه من المنافع العينية والرمزية»[17].

وربما للأسباب التي أتينا عليها – ولغيرها – أبى وزير العدل السابق الحضور إلى مجلس نواب الشعب لمناقشة مشروع القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، معتبراً أنه يرفض المشاركة في المداولات ذات الصلة  ما دام هذا المشروع لا يؤسس قضاء مستقلاًّ. هذا الموقف لوزير العدل كان السبب، المعلن، لإقالته من منصبه.

وما يشير إلى النية الخفية للالتفاف بعض الشيء على استقلال القضاء هو ما ذكرته رئيسة نقابة القضاة من تضمين مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء الفصل 88 (قبل حذفه)، الذي جاء ضمن الأحكام الانتقالية، والذي ينص على أن دخول هذا القانون (المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء) حيز التنفيذ، لا يتم إلا بعد إحداث المحكمة الإدارية العليا والمحاكم الابتدائية والاستئنافية الإدارية ومحاكمة المحاسبات… كل هذا يتطلب وقتاً طويلاً، وبالتالي تتجه النيات للابقاء على الهيئة الوقتية للقضاء العدلي.

كما أن مصادقة مجلس نواب الشعب على مشروع القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء (23 آذار/مارس 2016) ، تخللته بعض الإخلالات الشكلية وربما الجوهرية أيضاً، ومرّ بعدّة مراحل وبمخاض صعب ومعقد. وهذا ما يفسر مراوحة هذا المشروع أكثر من سنة بين الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب ولجنة التشريع العام والهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين. ويجب التنويه بأن آخر مصادقة تمّت من دون مداولات وبإجماع النواب الحاضرين كافة [18]، وهو ما أثار بعض الاستغراب والاستفهامات، حيث إن هذه المرة الأولى يقع إقرار مشروع قانون بالإجماع (باستثناء القوانين المتعلقة بامتيازات نواب الشعب…).

على كل، يبقى هذا القانون موضوع جدال من حيث ربما وجود إرادة داخل مجلس نواب الشعب، وأيضاً على مستوى السلطة التنفيذية لفرض نوع من الرقابة على المجلس الأعلى للقضاء من خلال تمكين السلطة التنفيذية من ممارسة بعض الاختصاصات التي تمسّ استقلال القضاء وبالتالي فرض نوع من الوصاية. هذه القراءة نلتمسها من مواقف القضاة (رغم التباين بين هياكلها)، وبخاصة من الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين التي عجزت عن حسم النزاع في هذا الشأن لعدم حصول الأغلبية المطلقة. وتم إرجاع القانون إلى رئيس الجمهورية الذي ختمه (من دون استيفاء جميع الإجراءات المتاحة لدفعه من شوائب عدم الدستورية)، بعد استشارة بعض الكفاءات الذين كانت مواقفهم بدورها متباينة في مدى خضوع القانون لمقتضيات الدستور.

كما نشير في إطار هذا الجدال القائم حول السلطة القضائية والمجلس بصراعات وتجاذبات بين قطاع القضاء والمحامات.

ب – تركيبة المجلس الأعلى للقضاء تثير حفيظة المحامين

إن الصراعات حول استقلال القضاء لم تعن السلطة التنفيذية فحسب، بل أصابت خاصة سلك المحامين. وقد تجلى ذلك الصراع على مستوى صياغة الدستور، إذ وقع التنصيص في الباب المخصص للسلطة القضائية على ما يفيد بأن «المحاماة مهنة حرة مستقلة تشارك في إقامة العدل والدفاع عن الحقوق والحريات. يتمتع المحامي بالضمانات القانونية التي تكفل حمايته وتمكنه من تأدية مهامه»[19]. نعتقد أن وضع فصل يخص المحاماة في هذا الباب لا يجدي على مستوى الشكل. في الحقيقة لا نستطيع الإلمام بهذه الخلفية إلا بالرجوع إلى بعض الممارسات بين القضاة والمحامين على امتداد سنوات؛ ففي بعض المناسبات أقدم قضاة على إيقاف محامين بحجة حسن تسيير مرفق العدالة، وإحالتهم على التحقيق.

كما شكّل تكوين المجلس الأعلى للقضاء نقطة ساخنة «بين لسان الدفاع والهيئات القضائية قبل أن تصل الأمور إلى التصادم الحقيقي إبان بدء مناقشة مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء إذ تضاربت المصالح وتم إعلان حرب الهيمنة والتموقع داخل المجلس حيث يتهم كل طرف الآخر بمحاولة استئثاره بالقضاء لتتعمق القطيعة بينهم»[20].

وانعكس هذا التصادم (بين قطاع المحاماة والقضاء) على مستوى نسبة تمثيل المحامين صلب الهياكل القضائية، فبعد التذبذب على مستوى مشاريع القوانين في هذا الشأن، أقر القانون في نسخته الرسمية على أن يكون عدد المحامين صلب هيكل القضاء العدلي ثلاثة (الفصل 10)، وثلاثة محامين صلب مجلس القضاء الإداري (الفصل 11) ، ومحاميان صلب مجلس القضاء المالي (الفصل 12).

وقد نادت الهيئة الوطنية للمحامين بإنشاء هيئة مستقلة لمراقبة القضاة لمزيد من الشفافية على أن يكون قطاع المحاماة ممثلاً داخل المجلس بثلث الأعضاء. وبغض النظر عن الخلفية السياسية لهذه المواقف، فإن هذه الاقتراحات تستمد شرعيتها من القانون الدولي والقانون المقارن الساعيين إلى تشريك أعضاء مستقلين. وفي هذا المقام ترى اللجنة الأوروبية للديمقراطية من خلال القانون، المعروفة بلجنة فينيسيا، وهي الهيئة الاستشارية للمجلس الأوروبي في الشؤون الدستورية «أن الجزء الجوهري أو غالبية أعضاء المجلس القضائي يأتي عن طريق الانتخاب من جانب القضاة أنفسهم. وعلاوة على هذا فإن الميثاق الأوروبي بشأن النظام الأساسي للقضاة (1988) ينص على تدخل سلطة مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، يكون نصف الجالسين فيها على الأقل من القضاة الذيـن انتخبهـم نظراؤهم في أعقاب ترتيبات تكفـل أوسع تمثيل ممكن للقضاة».

وفي الحقيقة إن القضاة لم يرفضوا تشريك بعض الاختصاصات، لكنهم اعتبروا المحامي جزءاً من السلطة القضائية ولا تتوافر فيه صفة الاستقلالية مثلما ينص عليه القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء.

وفي إطار مفهوم الاستقلالية يجب الإشارة إلى المغالطات السياسية التي سادت بلادنا على الأقل خلال الفترة الانتقالية، إذ تفيد بعض الدراسات حول المجتمع المدني في تونس أن أغلب الجمعيات ليست مستقلة[21]، بل إنها لا تعدو أن تكون امتداداً للأحزاب السياسية. هذا ما لا حظناه أيضاً من خلال تكوين ما يسمى «حكومة التكنوقراط» (حكومة مهدي جمعة خلفاً لحكومة علي لعريض)[22]، إذ إن الكثير من الوزراء الذين انضمّوا إلى الحكومة تحت لافتة الاستقلالية والكفاءات، لهم انتماءات صلب أحزاب سياسية.

خاتمــــــة

من المؤكد أن السنوات العجاف التي مرّ بها القضاء التونسي (وسائر المؤسسات)، كان لها وقع بالغ التأثير في وضع الأسس الدستورية التي سيبنى عليها أهم جهاز كفيل بحماية الحقوق والحريات. من هنا تناول المجلس الوطني التأسيسي السلطة القضائية بنوع من الموضوعية والحساسية، إذ إن قراءة الأحكام الدستورية تفيد سعي السلطة التأسيسية إلى عدم تكرار التجارب الماضية التي أخضعت القضاء لإملاءات عديدة أفرغته من مضمونه. هذا ما جعل المؤسسين لمستقبل القضاء حرصاء على التنصيص على ضرورة الفصل بين السلط واستقلال القضاء، من دون إهمال الآليات والضمانات التي تحول دون الالتفاف على تلك المبادئ والقيم التي تمثل أسس دولة القانون والمحاكمة العادلة…

لم يغفل المجلس التأسيسي أيضاً عن دسترة الضمانات التي خص بها السلطة القضائية، فوقع التنصيص على المجلس الأعلى للقضاء الذي أُسندت إليه الكثير من المسائل بالغة الحساسية التي تخص القاضي طوال مسيرته المهنية من حيث الانتداب والترقية والنقلة والتأديب والعزل والتقاعد…

هذه المكاسب الدستورية لمصلحة القضاء (والمتقاضي) لم تحجب الخشية من تأسيس سلطة متغولة لا تخضع لأية رقابة وتبدو كأنها منفصلة عن الدولة. فوقع البحث عن شيء من التوازن من خلال إيجاد آليات تمكن الدولة من بسط نوع من النفوذ على السلطة القضائية من دون المساس باستقلاليتها.

ولا بد من الإقرار كذلك بأن استقلال القضاء في تونس أثار صراعاً معلناً بين القضاة والمحامين، من خلال سعي الطرفين لتعزيز بعض المواقع، وهذا يدل على أن استقلال القضاء يكتسي بعداً سياسياً. كما لاحظنا أن السلطة التنفيذية سعت في مناسبات كثيرة، وبخاصة في إطار تركيبة المجلس الأعلى للقضاء، إلى الحد من نفوذ السلطة القضائية واستقلالها وجعلها خاضعة لنوع من الوصاية (من خلال سياسة التوصيات والإملاءات…). يذكرنا هذا بالممارسات التي كانت عليها المؤسسة القضائية قبل الثورة. وهو مؤشر خطير يدل على أن التغيير الحقيقي في سير عمل المؤسسة القضائية واحترام القانون والممارسة الديمقراطية لا ينحصر في تغيير القوانين وإنما في تغيير العقليات والسلوك والثقافة من خلال استبطان كثير من المفاهيم. وهذا ينسحب كذلك على القضاة، فالنصوص (وآليات الرقابة مهما علت)، لا يمكنها أن تؤسس لقضاء مستقل في غياب السلوك الحضاري للقاضي والأخلاق والوعي والشعور بالمسؤولية الجسيمة، فالقاضي صورة للمجتمع فإن هو صلح، أصلح القضاء وإن هو فسد، أفسد القضاء… كل هذا يجعل نيل استقلال القضاء هدفاً صعباً، وعسيراً ومعقداً أيضاً.

 

قد يهمكم أيضاً  الثقافة السياسية الحضرية في الوطن العربي: العلاقة بين الاتجاه نحو الديمقراطية والاحتجاج السياسي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #القضاء #القضاة# القضاء_التونسي #تونس_بعد_الثورة #دراسات