يُنظر إلى روسيا قوة لها ثقلها، على الصعيد الدولي، على أساس ثلاث حقائق: أولاها أنها واحدة من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وما يعنيه ذلك من امتلاكها حق النقض؛ ثانيتها، أنها لا تزال تمثل بلداً شاسع المساحة، مع كل ما تملكه هذه الأراضي من موارد معدنية وطبيعية؛ وثالثتها، قوة قواتها المسلحة والترسانة النووية التي تملكها.

وعلى الرغم من هذه الحقائق، فإن عناصر القوة هذه، هي ليست عناصر قوة بالمطلق، إذ يقابل حقها في النقض أربع دول أخرى تملك الحق ذاته، وهذه الدول لها مصالحها الخاصة التي تتضارب في العموم مع مصالح روسيا؛ إن هذه الأراضي الشاسعة تفتقر في الأغلب إلى المناخ الملائم والتربة الصالحة للزراعة، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية افتقاد البلاد إلى المنافذ البحرية المفتوحة؛ كما أن ديمومة تطوير الترسانة النووية وإدامة قوة قواتها المسلحة يحتاج إلى تخصيصات مالية خاصة وكبيرة، وإذا ما علمنا أن الاقتصاد الروسي يعتمد في الأغلب على إيراداته من بيع النفط والغاز، وأن هذين الموردين عرضة للصعود والهبوط المستمر، فإن ديمومة هذه التخصيصات المالية ستتعرض بالنتيجة إلى زيادة ونقصان مؤثرة في حالة الاقتصاد الروسي ودرجة معافاته.

وإذا ما أضفنا إلى كل هذا البيئة الإقليمية المتوترة المجاورة لروسيا، وأقصد هنا تحديداً الدول التي خرجت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وردود الأفعال الروسية التي جَرت بالنتيجة إلى فرض عقوبات اقتصادية عليها من قبل شركائها الغربيين، فإن التساؤل الذي قد يُثار، تبعاً للظروف السياسية المحيطة بروسيا في الوقت الراهن، هو: هل هنالك فرصة ما تستغلها روسيا لترجيح الكفة الدولية لمصلحتها لتؤدي دوراً بارزاً في الساحة الدولية؟

تنطلق أهمية الدراسة من تحديات الأوضاع غير المستقرة التي تعانيها المنطقة العربية والتي تشمل تذبذب أسعار النفط، إضافة إلى حالة عدم الاستقرار الأمني المحيطة بها (العراق، سورية، اليمن)، وعدم وضوح أو توحيد الرؤية العربية لمواجهة هذه الظروف وحلها بالطرائق السلمية، حتى أمست المنطقة تشغل حيزاً واسعاً من الأخبار الدولية، ولكن هذه الأخبار، يصب جلّها في الثورات والإرهاب والحروب واللاجئين.

إن تغيُّر سياسات الولايات المتحدة، واستخدامها استراتيجيات جديدة تختلف من استراتيجيات التدخل المباشر كما جرت العادة، مثـلاً عام 1990 عند غزو الكويت أو بعد 11/9 والتدخل المباشر في أفغانستان، ومن ثَم العراق، ترك المنطقة تغرق في الفوضى إلى أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه الآن من عدم استقرار سياسي واضطراب أمني يرمي بشرره محاولاً التغلغل إلى بقية الدول. يقابل هذا الوضع محاولات إبراز الدور الروسي من خلال تقديم نفسه طرفاً «وسيطاً» في المنطقة العربية.

اعتماداً على ما سبق، تهدف الدراسة إلى إلقاء نظرة تحليلية لخلفيات الموقف الروسي من الأزمة السورية والأبعاد الاستراتيجية والسياسية لهذا التحرك وانعكاساته على الصعيد الخارجي الدولي والإقليمي المرتبط بالأزمة السورية، ولا سيَّما أن النظرة الروسية لحل هذه المشاكل مغايرة لما تريده بقية الأطراف. وعليه تطرح الدراسة عدة تساؤلات، هي: إلى أي درجة كانت التوجهات الروسية فاعلة في التعامل مع الأزمات التي حدثت في المنطقة العربية؟ ما هي الأبعاد الجيوستراتيجية والجيوسياسية الروسية التي تقف وراء سياساتها هذه؟ وما هي ردود الفعل الدولية والإقليمية على التحركات الروسية؟ وقد انقسمت الدراسة إلى عدة محاور في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات.

أولاً: المرتكزات الاستراتيجية الروسية في سياستها الخارجية

ترتكز سياسة الأمن القومي الروسي على أساس وثيقتين هما: وثيقة مفهوم الأمن القومي، ووثيقة مفهوم السياسة الخارجية لروسيا؛ ومن أبرز النقاط التي اهتمت بها هاتان الوثيقتان هي مكافحة الإرهاب.

تنطلق الرؤية الروسية لخصائص الإرهاب الحديث من أنه يستند إلى الرؤية الدينية المتعصبة وروح عدم التسامح، فضـلاً عن إمكان انتشاره انتشاراً واسعاً، متجاوزاً كل الحدود الدولية. وإن أبرز ما يميز الجماعات الإرهابية هو مصادر تمويلها الآمنة، وإمكان حصولها على الأسلحة والتكنولوجيا المتقدمة، إلى جانب علاقاتها الوثيقة بشبكات الإجرام.

ترى روسيا أن الجهود التي تبذلها جماعات مثل القاعدة وداعش لاستعادة «الخلافة العظمى» يعَدُّ تهديداً بالغ الخطورة على رقعة واسعة من العالم، تمتد من ليبيا إلى أفغانستان، مروراً بالعراق وسورية، حاصدةً في سبيل تحقيق هذه الغاية الكثير من الأرواح[1].

وتُحمِّل روسيا الولايات المتحدة مسؤولية نمو الإرهاب بسبب تبنّيها استراتيجية الفوضى الخلاقة. إن سياسات الولايات المتحدة، بحسب وجهة نظر روسيا، أدت إلى تنامي التطرف في جميع أنحاء العالم، ابتداءً من المساعدات الأمريكية «للمتشددين الأفغان» بالضد من الاتحاد السوفياتي في ثمانينيات القرن المنصرم، التي أسفرت عن ظهور تنظيم القاعدة، إلى الجهود الغربية لإزالة نظام القذافي في ليبيا، والتي أدت إلى انتشار الأسلحة والأيديولوجيات المتطرفة في شمال أفريقيا، فضـلاً عن دعم الجماعات المعارضة للحكومة السورية مباشرة، والذي أدى إلى تشكيل جماعات متطرفة في سورية والعراق[2].

وبما أن التوجهات الاستراتيجية لأي دولة لا تأتي من فراغ، بل انعكاساً لواقعها السياسي والأمني والاقتصادي، فإن هذا هو ترجمة عملية لواقع الحال في مواقف روسيا تجاه الخارج. فقد حددت الاستراتيجية العسكرية الروسية المكان الذي تقاتل فيه القوات العسكرية الروسية، والجهة التي تقاتلها، وكيفية مقاتلتها. وأكدت هذه الاستراتيجية أن أي خطر يمس المصالح العليا الروسية، أو الأمن الروسي سيتم إيقافه وبحزم شديد[3].

اتساقاً مع عنوان الدراسة، فإن الاستراتيجية الروسية على الصعيد الخارجي، حُددت على أساس فهم واقعي للمصالح الوطنية الروسية في الشرق الأوسط، والمتمثلة بالدعوة إلى تعميق التعاون مع هذه الدول، بناءً على المصالح المشتركة، والمتمثلة بوقف انتشار الاضطرابات ومحاولة وضع حد للإرهاب لضمان الحفاظ على أمن المنطقة واستقرارها قبل أن يزعزع استقرار روسيا وجيرانها[4].

ثانياً: نبذة تاريخية عن مواقف الاتحاد السوفياتي من أزمات المنطقة العربية

مرّت العلاقات الروسية – العربية بعدة مراحل؛ ففي مرحلة الإمبراطورية الروسية، كان جل الاهتمام ينصب على حماية مصالح الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين. أما التركيز الحقيقي، فكان على توسيع نفوذها في المناطق المحيطة بها مثل القوقاز وآسيا الوسطى وبلاد فارس والصين، فضـلاً عن محاولات إيجاد مواطئ قدم في المياه الدافئة، تاركة المنطقة العربية للنفوذ العثماني، ومن ثم الأوروبي. واستمرت الحال حتى بعد قيام الدولة السوفياتية، ولغاية نهاية الحرب العالمية الثانية، وتبلور نظام ثنائي القطبية.

لقد ارتهنت علاقات السوفيات بالمنطقة العربية بالحرب الباردة ومحاولة النفاذ إليها أو – على أقل تقدير – التأثير في النفوذ الأمريكي فيها، وقد نجحت السياسة السوفياتية نوعاً ما في اختراق هذه المنطقة وإيجاد تحالفات مع عدة دول، مثل سورية ومصر والعراق والجزائر واليمن وليبيا. كما نجحت في تحويل هذه الدول إلى مراكز ثقل في مواجهته مع المعسكر الغربي، مقابل حصولها على مكاسب استراتيجية وعسكرية واقتصادية. واستخدم حق النقض في عام 1946 لمنع تمديد الانتداب الفرنسي على سورية، إضافةً إلى التعاون العسكري ما بين الجانبين والذي ابتدأ منذ عام 1956، فضـلاً عن بناء سد أسوان في مصر ومصانع الصلب في الجزائر، إضافة إلى بيع الأسلحة بمبالغ زهيدة وبدفعات آجلة مقارنة مع التوريدات الغربية. إلا أن هذا الدعم لم يصل إلى الحد الذي كان العرب يطمحون له لمعالجة قضاياهم المصيرية والتي أتت على رأسها، في ذلك الحين، القضية الفلسطينية. فلم يرغب الاتحاد السوفياتي في تحويل دعمه لحلفائه في المنطقة خلال فترة السبعينيات إلى مواجهة حقيقية مع الغرب، بل حتى الأسلحة التي تم توريدها وصفت بأنها أسلحة دفاعية لا هجومية، والتي لا يمكن لها أن تقارَن بمدى تطور الأسلحة الغربية آنذاك، ناهيك بالسماح بهجرة اليهود إلى إسرائيل، وهو ما أثار الكثير من الاستياء، على اعتبار أن الغرب يمدهم بالأسلحة المتطورة، والسوفيات يمدّونهم بالقوة البشرية. واستمر منحنى العلاقات هذا في الهبوط لأسباب تخص الطرفين، العربي والسوفياتي، ابتداءً من طرد الخبراء الروس من بعض الأقطار العربية، مروراً بتوقيع اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وانتهاءً بتخبطات الوضع السوفياتي الداخلي خلال الثمانينيات، الذي أدى إلى تفككه وانتهاء الحرب الباردة، وزوال القطبية الثنائية، ومن ثم ظهور روسيا المنهكة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، والتي تبنت نهجاً براغماتياً مغايراً كلياً لنهج الاتحاد السوفياتي. إلا أن النتيجة كانت على العكس مما كانت تأمله روسيا، فقد عانت اقتصاداً متدهوراً وقلة الدعم الغربي، بل ضم بعض دول الاتحاد السوفياتي إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي.

ثالثاً: الموقف الروسي من أزمات المنطقة العربية

سنركّز هنا على دراسة أهم أزمتين في منطقة الشرق الأوسط خلال حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهي أزمة العراق والأزمة السورية.

1 – الموقف الروسي من أزمة العراق عام 2003

إن المتتبع تسلسلَ الموقف الروسي من الأزمة ما بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية في ما يخص أزمة المفتشين الدوليين على أسلحة الدمار الشامل، يلاحظ أن روسيا الاتحادية حرصت على تحقيق التوازن بين المصالح التجارية في العراق مع الرغبة في الحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن وجهة نظر روسيا توافقت مع توجهات الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب، إلا أنها رفضت اعتبار العراق دولة راعية للإرهاب. ومع ذلك، لم تكن روسيا تميل إلى أن يفسد هذا الموقف علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت تصريحاتها تصب في ضرورة دعم الجهود الدولية لضمان نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية؛ ففي تصريح لبوتين، أكد أن «المهمة الوحيدة التي تواجه المجتمع الدولي هي إما أن يقتنع بأن العراق ليس لديه أسلحة دمار شامل، أو أن يعثر عليها ويجبر العراق على تدميرها»[5].

وتمثَّل الموقف الروسي من الأزمة ما بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية بدعوة المجتمع الدولي إلى تحمُّل مسؤوليته لضمان عدم تطوير العراق أسلحة الدمار الشامل، والتأكيد أن العراق لا يشكل خطراً على الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيّما أن هذه الأخيرة لم تقدم أي دليل يثبت عكس ذلك، إلى جانب الدعوة إلى ضرورة مواصلة الحوار بين العراق والأمم المتحدة وعودة المفتشين. مع استمرارية تأكيدها أن استخدام القوة سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة بأسرها.

إلا أن أبرز ما مَيز هذا الموقف هو عدم الرغبة الروسية في استخدام حق النقض لإحباط أي عملية عسكرية ضد العراق. وهو ما أكده بوتين في 12 شباط/فبراير عام 2003 بقوله «إن أي عمل عسكري، تشنه الولايات المتحدة وحلفاؤها على العراق، من دون موافقة الأمم المتحدة، يعد عمـلاً غير مشروع وغير مبرر.. إنني أثمِّن وحدة مجلس الأمن، وعليه فإنني لا أرى أي حاجة لاستخدام روسيا لحق النقض… إلا أن روسيا ستعمل على عرقلة أي إجراءات من شأنها أن تؤدي إلى استخدام غير مبرر للقوة»[6].

لم يتوقف الموقف الروسي من الأزمة عند هذا الحد، بل إنه ذهب أبعد من ذلك؛ إذ طلب من الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين التنحي عن السلطة لتجنيب بلاده ويلات الحرب، وهي المهمة التي قام بها يفغيني بريماكوف في 22 شباط/فبراير عام 2003‏[7]. اتخذ موقف روسيا منحنى آخر من خلال الترحيب بسقوط النظام «إن إطاحة صدام حسين أمر إيجابي، غير أن الخسائر البشرية والدمار الذي لحق بالعراق والكارثة الإنسانية التي يواجهها، كلها أمور سلبية»[8].

إن دلالات الموقف الروسي حملت احتمالين: الأول، دلَّ، وبلا أدنى شك على أن روسيا لم تكن راغبة في استخدام حق النقض لمنع أي اقتراح من قبل الولايات المتحدة، خشية أن يؤدي هذا الموقف إلى تضاؤل أهمية مجلس الأمن الدولي في حال المضي في طريقها إلى الحرب، وتالياً تفقد روسيا واحدة من ركائزها الأساسية على الصعيد الدولي. أما الاحتمال الثاني، فتمثل بالخشية من تأثير نجاح روسيا سلباً في علاقاتها مع الولايات المتحدة، وهو ما لم تُردْه روسيا في ذلك الوقت. وكانت النتيجة أن خاضت الولايات المتحدة حربها على العراق بعد أن فشلت روسيا في حمايته على الرغم من أنه كان حليفها الأبرز. وهو ما نفسره بأن العراق لم يكن بالنسبة إلى روسيا كل شيء أو نهاية كل شيء. لقد وضعت روسيا في حساباتها مكاسب أهم هدفت إلى الحصول عليها. كان منها: إلغاء أمريكا خططَ الدفاع الصاروخي، وعضوية منظمة التجارة العالمية وزيادة التجارة؛ وغيرها من مجالات التعاون. وتالياً، حاولت روسيا تجاوُز فشلها في الحفاظ على العراق، ولم تضعه حجر عثرة في طريق صداقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية.

2 – الموقف من الأزمة السورية

ابتدأت جذور الأزمة السورية مع التظاهرات التي اندلعت في مدينة درعا، جنوب البلاد، في آذار/مارس عام 2011، وقد تطورت إلى أن أدَّت إلى استخدام القوات الحكومية والمعارضة، القوة العسكرية، وعلى حد سواء، وانتهت بقتل وتشريد مئات الألوف من الشعب السوري، وإنهاك البنى التحتية، وغدت منطقة جذب للكثير من المتطرفين.

منذ بداية هذه الأزمة، تمايز الموقف الروسي كلياً عن الموقف الأمريكي؛ ففي حين ترى الولايات المتحدة وحلفاؤها، أن التخلص من بشار الأسد، هو أولى الخطوات التي يجب أن تتم، يرى الجانب الروسي أن القضاء على الإرهاب ومصادره هو ما يجب وضعه في قمة الأولويات. إلا أن ما يثير الانتباه، أن الولايات المتحدة غير راغبة في التدخل بصورة مباشرة لتغيير النظام في سورية كما فعلت مع العراق. في المقابل، لم نجد تحركاً روسياً للتدخل المباشر، للقضاء على تنظيم داعش، إلا بعد مرور سنوات على بدء هذا الصراع، وكأن الأمر كان متروكاً لمحاولات المد والجذب والتصريحات والمؤتمرات المتبادلة. فتمثل الموقف الأمريكي بتسليح المعارضة وتدريبها وتقديم الدعم اللوجستي، مقابل دعم روسيا نظام الأسد سياسياً وعسكرياً.

لقد أخفقت جميع المحادثات الدولية لإحلال السلام في سورية؛ فعلى الرغم من حصول اتفاق لوقف إطلاق النار في 7 شباط/فبراير عام 2016، إلا أننا لا نعلم إذا ما سوف ينجح أم سيتم خرقه كما حصل في نيسان/أبريل عام 2012. لقد بقيت الجهود لإيجاد حل للأزمة السورية رهن التجاذبات المتبادلة. وما زلنا ننتظر ما ستؤول إليه محادثات جنيف في نيسان/أبريل عام 2016 بين الحكومة والمعارضة. وقد تميز الموقف الروسي المعلن من الأزمة السورية، بأنه ينظُر إلى النظام السوري على أنه الممثل الشرعي، وإلى ضرورة الاتعاظ من نهج التغيير الذي حدث في العراق وليبيا بإسقاط رؤوس النظام وترك هذه البلدان في حال من الفوضى غير المنتهية.

وتحمِّل روسيا الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها مسؤولية أزمة اللاجئين السوريين بسبب سياساتهم غير المدروسة، والتي أدت إلى زعزعة الأمن والاستقرار؛ إذ أكد الرئيس الروسي «أن أزمة اللاجئين كانت متوقعة؛ لقد حذرنا مراراً من قضايا واسعة النطاق قد تظهر في حال استمرار شركائنا الغربيين باتباع سياساتهم الخارجية التي قلت دائماً إنها خاطئة، ولا سيّما ما يمارسونه حتى الآن في بعض مناطق العالم الإسلامي وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من سياسات فرض القيم الغربية متغافلين الخصائص التاريخية والدينية والقومية والثقافية لتلك المناطق»[9]. وهو ما أدى إلى انتشار الفكر المتطرف الذي أفضى إلى زعزعة قاعدة الثقافة العالمية من خلال تدمير الصروح الأثرية والثقافية.

باختصار، فإن حل الأزمة السورية من وجهة النظر الروسية يتلخص في توحيد الجهود للقضاء على التنظيمات الإرهابية. إلى جانب إجراء إصلاحات سياسية وإعمار الاقتصاد والمنظومة الاجتماعية في سورية والبلدان المجاورة لها التي تعاني الإرهاب، وبما يتناسب والتاريخ والتقاليد والمعتقدات الدينية لشعوب هذه الدول. وإن صاحب الحق الوحيد في تقرير مصيره هو الشعب السوري.

رابعاً: الأبعاد الجيوستراتيجية من التحرك الروسي

لقد تبنت روسيا سياسة تكتيكية ذات منحى تصاعدي تدريجي من الأزمة السورية. فمن دعم النظام السوري سياسياً وعسكرياً إلى التدخل المباشر للقوات الجوية والبحرية الروسية لمقاتلة ما يسمى المتطرفين الإسلاميين في سورية، معتبرة أن ذلك هو الطريق الوحيد للقضاء على الإرهاب الدولي. ولكن هل هذا هو الهدف الوحيد للاستراتيجية الروسية تجاه سورية؟

إن المجازفة الروسية للدخول طرفاً فاعـلاً ومباشراً في الصراع الدائر في سورية لم يأتِ من فراغ، وإنما بناءً على رؤية جيوستراتيجية روسية حذرة ومترابطة تقوم على أساس استغلال نقاط الضعف والفوضى لدى الأطراف الأخرى لتعزيز وجودها الاستراتيجي في المناطق التي ترى روسيا أنها تعزز ثقلها وتعطيها المنافذ الحيوية التي تفتقدها وتصحح الواقع الجغرافي والسياسي الذي نشأ بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. فابتدأت بتدخلها المباشر في دعم استقلال الأقاليم الموالية لها في كل من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في جورجيا (البوابة إلى حوض بحر قزوين وآسيا الوسطى)، مروراً بدعم الانفصاليين في أوكرانيا وإعلان استقلال القرم (منطقة البحر الأسود)، وصولاً إلى تعزيز وجودها على البحر المتوسط من خلال تكثيف وجودها العسكري في ميناء طرطوس، فضـلاً عن القاعدة الجوية في اللاذقية في إطار التعاون مع النظام السوري لمحاربة الإرهاب. وهي بهذا تحاول التغلب على «الكارثة الجيوسياسية» التي أصابت روسيا بتفكك الاتحاد السوفياتي، بحسب تعبير بوتين.

وبما أن صانع الاستراتيجية الروسية يدرك أن نجاحه لا يعتمد فقط على الإرادة والقدرات الروسية؛ لذا نجده يسعى إلى استخدام تكتيكات مختلفة لكنها مترابطة في الوقت ذاته لتحقيق هذه الغاية؛ فهو من ناحية يسعى إلى تعزيز موقف النظام السوري على الأرض، ومن ناحية ثانية يسعى إلى توحيد جهود كل الأطراف المعنية بهذه الأزمة. ففي تصريح لبوتين قال فيه «إن الحل الأمثل يكون من خلال تفاهم مشترك لتشكيل تحالف إقليمي واسع لمواجهة الإرهاب»، وتتمثل هذه الأطراف – بحسب ما أعلنه – بالولايات المتحدة وتركيا وإيران والسعودية والأردن ومصر وشركاء آخرين.

إلى جانب إبداء الاستعداد لإجراء اتصالات مع المعارضة «المعتدلة» للبحث في إمكان مشاركتها في العمل لوضع عملية تسوية سياسية للأزمة، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن روسيا مستعدة للمساهمة في توحيد جهود الجيش السوري العربي والجيش السوري الحر لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية ومجموعات إرهابية أخرى، بما في ذلك التنسيق مع طلعات الطيران الروسي.

لكن التساؤل الذي قد يتبادر إلى الأذهان هو: مَن هي المعارضة السورية التي سوف تشارك في الانتخابات، ولا سيَّما أن مصير بشار الأسد لم يحسم بعد؟

إن ما يمكن ملاحظته تجاه الأزمة السورية تعدُّد أطراف المعارضة السورية، فضـلاً عن وجود تباين في وجهات نظرهم. وقد أتاح هذا الأمر لكل الأطراف المعنية بالأزمة السورية، بالتعامل مع الجماعات والأفراد المفضّلين لديها.

خامساً: أبعاد التحركات الجيوسياسية الروسية في سورية

إن دعم روسيا سوريةَ يدخل في صميم الأهداف الجيوسياسية الروسية، وهي لم تتوانَ – في طريق تحقيق غاياتها – عن سلك كل الوسائل لتقديم الدعم السياسي والعسكري والأمني إلى سورية، في سابقة قلَّ نظيرها في التوجهات الروسية الحديثة.

إن أي متابع للتحرك الروسي من الأزمة السورية يستطيع أن يلاحظ أنها قد استخدمت سياسة النفَس الطويل فضـلاً عن جس النبض وتصعيد موقفها التدخلي، إرباكاً للحسابات الأمريكية والأوروبية بالدرجة الأولى، ولا سيّما أنها تجد نفسها تحت ضغوط سياسية واقتصادية متزايدة من قبلهم، وهو أمر لم تتخذه في موقفها من أزمات لحلفاء سابقين في منطقة الشرق الأوسط، العراق أنموذجاً. فلم يتجاوز موقفها التلويح باستخدام حق النقض للحيلولة دون استخدام القوة العسكرية، في حين أنها استخدمت الفيتو المزدوج لمرتين في 4 تشرين الأول/أكتوبر عام 2011 و4 شباط/فبراير 2012، في تحدٍّ صريح للانفراد الأمريكي والغربي عموماً في الأزمة السورية، ولإبراز الدور والمصالح الروسية في هذه المنطقة.

إذا أردنا الدخول في مقارنة بسيطة نلاحظ إصرار روسيا، في كل المؤتمرات الدولية التي عُقدت بخصوص سورية، على بقاء بشار الأسد في الحكومة السورية، وأنه هو الممثل الشرعي للبلاد لغاية إجراء انتخابات يقرر فيها الشعب مصيره؛ في حين نحا الموقف الروسي من العراق إلى الطلب من الرئيس العراقي آنذاك التنحي عن السلطة ليقي بلده الحرب.

وحتى بعد عام 2003 لم يكن لروسيا أي موقف فاعل تجاه العراق، فلم نلحظ أي موقف سياسي روسي بارز تجاه كل الأزمات وحالة الاقتتال الطائفي التي طحنت بالعراق، في حين لم تفتأ روسيا تدعو إلى عقد مؤتمرات دولية في بلدان محايدة وحتى داخل روسيا للتوصل إلى حل للأزمة السورية. لا بل إن روسيا ذهبت إلى ربط أمنها القومي بأمن سورية؛ ففي تصريح لسيرغي إيفانوف، رئيس الجهاز الإداري لبوتين، «أن روسيا قررت التدخل في الأزمة السورية، لحماية روسيا ذاتها من متشددي التنظيم، وليس لتحقيق بعض أهداف السياسة الخارجية، أو لتحقيق أي طموح نحن هنا نتحدث عن مصالح الأمن القومي الروسي.. إن موسكو قلقة من زيادة أعداد الروس الذين جندهم التنظيم للقتال معه، ولذلك، فإن من الحكمة أن تتخذ موسكو خطوات استباقية، وأن تفعل ذلك في جبهات بعيدة، بدلاً من مواجهة القضية هنا، في ما بعد»[10].

على الرغم من تعدد وجهات النظر التي طُرحت حول الأهداف الجيوسياسية الروسية، جراء دعمها النظام السوري، إلا أنها في النهاية تصب في خانة واحدة. فهنالك من يرى أن الموقف الروسي من سورية، يأتي ضمن خطة روسية ترى ضرورة وجود قوات بحرية روسية في المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، لمواجهة تطور حلف شمال الأطلسي واقترابه من حدود روسيا. وهي لهذا السبب، تعتزم تحويل البحر المتوسط إلى منطقة تنعم بالاستقرار العسكري والسياسي[11].

وهنالك من رأى أن التحرك يهدف إلى تعزيز موقف روسيا للظهور بمظهر الشريك الدولي الذي يتّمتع بصدقية بناءة، فضـلاً عن تعزيز حرب روسيا ضدّ المسلّحين في شمال القوقاز[12].

إضافة إلى أن الضربات، وعلى الرغم من كل الانتقادات والاتهامات التي وجهت لها على أنها موجهة للمعارضة المعتدلة وليس للقضاء على داعش، إلا أنها أظهرت روسيا بمظهر الدولة القوية ذات الإمكانات العسكرية والتقنية العالية، وأعطت دعاية لقدراتها العسكرية من خلال استخدام صواريخ بعيدة المدى أطلقتها من بحر قزوين عبَرت ما طوله 1500 كم عبر الأراضي الإيرانية والعراقية لضرب أهداف محددة في سورية.

سادساً: ردود الفعل الدولية والإقليمية على الاستراتيجية الروسية في سورية

إن المحاولات الروسية الثابتة لتغيير موازين القوى في سورية لمصلحة بشار الأسد، فضـلاً عن حال الفوضى التي نتجت من هذا الصراع وما أفرزه من أزمة إنسانية وزيادة هائلة في أعداد اللاجئين وانعكاسات ذلك على البنية الاجتماعية الغربية، أربك حسابات القوى الدولية والإقليمية وزاد من انقسام مواقفها. فاندفع بعض من هذه القوى الرافضة بقاء بشار الأسد إلى إبداء مواقف أكثر مرونة، في حين بقي عدد من الدول الغربية رافضاً للتحرك العسكري الروسي متهمة إياه بأنه يسعى إلى الحفاظ على بقاء النظام وضرب المعارضة أكثر من مقاتلة داعش. وأتت فرنسا على رأس هذه الدول المتبنية هذا الموقف والمُصرة على موقفها المتشدد في ضرورة التخلص من الأسد أولاً لحل الأزمة السورية. إلا أن إعلان داعش مسؤوليته عن سلسلة تفجيرات باريس في 13 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2015 التي أودت بحياة المئات وأخلّت بشعور الأمن والاستقرار في أوروبا، قربت من المواقف بالاتجاه الذي يسير مع الرؤية الروسية في ضرورة محاربة الإرهاب أولاً، على الرغم من أن الطرفين ما زالا غير متفقين على مصير الأسد.

أما بالنسبة إلى الموقف الألماني، فكان واضحاً في إعلان المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل عن «ضرورة مشاركة جميع الفرقاء في الأزمة السورية في المفاوضات للتوصل إلى حل سلمي، وهو ما يشمل كـلاً من الأسد والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، فضـلاً عن القوى الإقليمية المؤثرة في هذه الأزمة».

على الرغم من أن الموقف الأمريكي وحلف شمال الأطلسي قد انصب على اتهام روسيا، كونها لم تنسِّق بما فيه الكفاية في عملياتها العسكرية مع التحالف، وأن غاراتها الجوية لم تستهدف داعش وإنما فصائل معارضة للرئيس بشار الأسد. وعلى الرغم من رفض الولايات المتحدة تبادل زيارة الوفود الرسمية رفيعة المستوى ما بين البلدين[13]، إلا أن الطرفين اتفقا على أن يجري العسكريون اتصالات في ما بينهم لتحاشي حصول أي حادث عسكري بين الطائرات الروسية، وطائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة[14].

أما بالنسبة إلى تركيا، فإنها أبدت منذ البداية معارضة شديدة لأي طروحات لإبقاء الأسد أي مدة في المرحلة الانتقالية السورية. وهو الأمر الذي تجلى من خلال بعض التحركات التي مثلت استفزازاً للوجود الروسي، مثل حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا، حليف الناتو، التي طالما أبدت امتعاضها من خروق تحليق الطائرات الروسية فوق أراضيها. وهو إن دل على شيء، فعلى أن تضارب المصالح بدأ يُنفد صبر الأطراف المعنية في الأزمة السورية، ولا سيَّما مع كل الدلالات التي تشير إلى انقطاع إمدادات بيع النفط المهرَّب وشرائه من سورية، فضـلاً عن المساس بالحلفاء المقرَّبين من هؤلاء الأطراف.

أما عن ردود أفعال البلدان العربية، وعلى الرغم من أن الموقف الروسي من الأزمة السورية قد انعكس سلباً على بعض العلاقات المتبادلة، وتحديداً الخليجية، التي اتسمت بنوع من الفتور؛ ولا سيَّما أن هذه الدول ترى أن الموقف الروسي يتناغم مع الموقف الإيراني وحليفه الأبرز حزب الله اللذين تعتبرهما الدول الخليجية التهديدين الرئيسين، وأن روسيا بموقفها هذا تساعد إيران في جعل سورية ضمن هلال النفوذ الإيراني المتزايد، ولا سيَّما بعد بروز ما يسمى قوى «4+1» (روسيا وسورية وإيران إلى جانب حزب الله والعراق)، وهو ما دعا قطر للإعلان عن عدم ترددها في إقامة تحالف مع السعودية وتركيا للتدخل العسكري في سورية دعماً لبعض عناصر المعارضة.

مع ذلك، فإن التدخل الروسي المباشر في سورية قد دفع باتجاه تفعيل زيادة زيارات المسؤولين الخليجيين إلى روسيا، بغية إقناع الجانب الروسي بالعدول عن دعمه نظام الأسد والتقريب ما بين وجهات نظر الطرفين، وهو ما قد يعطي نبضاً جديداً للعلاقات المتبادلة. إلا أن الاختلافات في مواقف الطرفين ما زالت قائمة، ويأتي بالدرجة الأولى منها مصير الأسد[15].

أما مصر، فقد حاولت إمساك العصا من الوسط، فما بين تأييدها الغارات الجوية التي تشنها روسيا في سورية، على اعتبار أنها «ستساهم في محاصرة الإرهاب والقضاء عليه»، وما بين رفضها بقاء الأسد في محاولة تجاوزه حفيظةَ الدول الرافضة للتحركات الروسية.

من بين كل هذه المواقف غير المتفقة في ما بينها، يظهر التنسيق الحاصل ما بين الجانب الروسي والجانب الإسرائيلي؛ إذ اتفق الطرفان على تشكيل فريق لتنسيق العمليات الجوية والبحرية، ولتجنب التشويش على أنظمة الاتصالات لأي من الجانبين، وتحديد آلية للتعرف إلى قوات الطرف الآخر لتفادي حدوث أي تصادم فوق الأجواء السورية أو قبالة سواحلها[16]. إلا أن ما يثير الاستغراب هنا، هو تعارض الأهداف «المعلنة» لكلا الطرفين؛ ففي حين تهدف الطلعات الجوية الروسية إلى دعم نظام الرئيس الأسد، نجد أن هدف زيادة غارات الطائرات الإسرائيلية على سورية هو منع تسليم إمدادات أسلحة روسية وإيرانية – بحسب ما تقوله إسرائيل – إلى حزب الله اللبناني الذي يقاتل إلى جانب نظام الأسد.

بعامة، يمكننا القول في هذا الجانب، إن روسيا، على الرغم من استمرار علاقاتها المتوترة مع الغرب، نجحت في استغلال الفرصة للخروج من العزلة التي فرضها عليها الغرب، جراء دعمها الانفصاليين الأوكرانيين وضم القرم، من خلال تحويل الانتباه إلى تحركاتها العسكرية تجاه سورية. ليس هذا فحسب، وإنما تمكنت من تشتيت الموقف الموحد للتحالف الدولي الذي كان يشترط تنحي الأسد أولاً حـلاً للأزمة السورية، وجعل هذا الموقف أكثر مرونة في التركيز على أوليّة التخلص من الإرهاب حـلاً للأزمة السورية.

لكن، يبقى التحرك الروسيي يمثل تحدياً كبيراً لكل الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، والأيام المقبلة كفيلة بمعرفة ردود أفعالها الحقيقية، ولا سيما أن التحركات الروسية ما زالت غامضة، والوضع السوري معقد بما يكفي لدرجة عدم إمكانية التنبؤ بما قد يحصل؛ إذ حتى بعد أمر بوتين المفاجئ في 14 آذار/مارس عام 2016 بسحب القوات الرئيسة من سورية، ما زالت القوات المتبقية تقدم الدعم والإسناد اللوجستي الفاعل للجيش السوري العربي في تحركاته لإعادة سيطرته على المدن الخارجة عن سيطرته. مع الأخذ بالاعتبار، أن حلفاء لروسيا وللأسد ما زالوا فاعلين على الأرض السورية.

إن كل ما يمكننا قوله، إلى جانب كل الذي قيل من تحليلات، إن هذه الخطوة أتت للضغط على الأسد لتقديم تنازلات، أو إنها أتت لأسباب اقتصادية، فإن تفسيري هو أن روسيا لربما أرادت مسايسة كل الأطراف المعنية لتتمكن من الاستمرار في تواجدها في هذه المنطقة الحيوية أطول مدة ممكنة، من خلال محاولات الإبقاء على سورية الصديقة؛ سواء بوجود الأسد أو بدونه. فأتت هذه الخطوة لتهدئة ردود أفعال الأطراف الرافضة للتحركات الروسية، الذين وصفوا هذه الخطوة بالإيجابية، مُسقطة بذلك عن نفسها تهمة أنها بلد طامع ومحتل للأراضي السورية، وهو ما دأبت بعض الأطراف المعارضة على نعتها به.

إن ما نشهده اليوم هو الفعل الروسي، ولكن ما زالت ردات أفعال الأطراف الأخرى التي تتعارض وجهات نظرها مع التحركات والأهداف الروسية غير واضحة. إن هذا الفعل قد يفتح على روسيا أكثر من باب؛ فإما أن تكون ردّات الفعل انتقامية، وإما يفتح لها باب للمساومة وعقد الصفقات مع الأطراف الرافضة بقاء الأسد.

خاتمة

إن النزعة نحو استخدام القوة العسكرية باتت أبرز سمة في المنطقة العربية؛ فلا جهود دبلوماسية ولا تحالفات دولية نجحت في تقريب وجهات النظر أو التنازل عن بعض المطالب من أجل المطلب الأسمى وهو إحلال السلام وحفظ كرامة المواطن العربي الذي يدفع ثمن هذا الفشل الدبلوماسي الكبير.

مما لا يقبل الشك، أن أساس الفوضى التي عمت المنطقة كان نتيجة سياسات الولايات المتحدة والقوى الغربية من ناحية، وتشتت الموقف العربي فضـلاً عن غياب شبه كامل للدبلوماسية الفاعلة والطرائق السلمية لحل النزاعات، من ناحية أخرى. لقد أصبح اللجوء إلى القوة العسكرية هو الخيار المفضل لدى الأطراف المتصارعة مع غياب الرغبة في مد عمر المفاوضات.

لقد استغلت روسيا «لحظة» من الضعف الأمريكي، إن صح التعبير، لتعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط. ولا نعلم ما إذا كان ضعفاً حقيقياً، جاء نتيجة تأثر القوات الأمريكية من خوضها حروباً طويلة في أفغانستان والعراق، أودى بها إلى أن تتردد في تأدية دور الشرطي العالمي من جديد، أو أنه ضعف النفوذ الدبلوماسي لإدارة أوباما، أو أنها سياسة مقصودة لإغراق المنطقة في فوضى حقيقية، مما أفسح في المجال أمام روسيا لتفرض نفسها طرفاً له ثقله على بقية الأطراف المعنية بحل الأزمة السورية.

تبقى المشكلة في الأزمة السورية في عدم وجود نهج مشترك حول كيفية حلها، وذلك لوجود عدة أطراف فاعلة تؤدي دوراً بارزاً على الأرض السورية. وقد طال أمد هذا الصراع جراء الموقف الأمريكي الذي يترجح ما بين أولوية رحيل الأسد أو التركيز على محاربة داعش، وموقف دول الخليج وتركيا الذي يوازي الموقف الأمريكي، إلا أنه أكثر إصراراً على أن التخلص من الأسد أولوية غير قابلة للتفاوض، وما بين الموقف الروسي الذي يتقاطع مع هذه المواقف، ويتصدر وجهة النظر التي تؤكد أن لا غنى عن الأسد في محاربة الإرهاب، ووضع حد لأي تدخل أجنبي يتجاوز الموافقة الحكومية السورية. وتتطابق هذه الرؤية مع رؤية حلفائها المتمثلين بإيران والصين وبعض العرب.

لم يقتصر الأمر على اختلاف مصالح القوى الدولية والإقليمية تجاه حل الأزمة السورية بل تعدّاها إلى اختلاف وجهات نظر المعارضة السورية ذاتها؛ فقد عانى الائتلاف الوطني السوري صراعات داخلية، حالت دون تقديم نفسه قوة موحدة يعتمد عليها، فضـلاً عن أن معظم أعضاء هذا الائتلاف يقيمون في الخارج. أما المعارضة الداخلية، فهي أيضاً معارضة منقسمة بين قوات محلية، وأخرى «إسلامية – جهادية» وهنالك نسبة ممن انتمى إليها من خارج سورية.

على الرغم من تأكيد أعضاء المعارضة تجاوز كل الخلافات، إلا أن التساؤل الذي يحتاج إلى إجابة هو: ما الذي سيجبر قوى المعارضة الإسلامية الحاملة للسلاح، والتي تسيطر على مساحات من الأراضي السورية، على الامتثال لأي اتفاق لإقامة دولة مدنية تحترم كل الطوائف، بحسب أهداف الثورة السورية؟ إن النظر إلى التجربة العراقية والليبية، يمكن أن يعطينا تصوراً واضحاً عما سيؤول إليه الوضع في سورية.

في الإجابة عن مدى فاعلية التحركات الروسية في المنطقة، فإن روسيا نجحت، حتى اللحظة، في معظم أهدافها الرامية إلى الاعتراف بدورها في سورية، وما عكسه ذلك من إعادتها إلى مركز الصدارة الدولية؛ وإعادة التوازن إلى قوات الأسد على ساحة المعركة، مما حال دون تغيير النظام من قبل قوى خارجية، فضـلاً عن جمع المتخاصمين إلى طاولة المفاوضات، محققة ما دعت إليه منذ بداية الأزمة في أن عملية الانتقال السياسي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال المفاوضات. والأهم من ذلك كله، هو الحصول على موطئ قدم استراتيجي في سورية؛ إلى جانب التخلص من «الجهاديين» الروس في ساحة المعركة السورية.

لكن لا أحد يعلم ما الذي تخفيه الأيام المقبلة، وما إذا كانت الانتخابات المفترضة ستأتي بنظام موالٍ أم مُعادٍ لروسيا، وما يعكسه ذلك على مصير قواعدها الجوية والبحرية في طرطوس واللاذقية. لكن مما لا شك فيه، أن روسيا لن تضحي بتواجدها الاستراتيجي، وهو ما قد يفسر لنا محاولات دعمها الجانب الكردي – على الرغم من رفض النظام والمعارضة، على حد سواء – ضماناً لحليف مستقبلي ولاستخدامه ورقة ضغط بالضد من تركيا وسياساتها الاستفزازية. وفي النهاية، فإن روسيا كانت واضحة في تحركها تجاه سورية وهو ضمان مصلحتها. ولا نعلم إلى ما ستفضي هذه المصلحة من نتائج وانعكاسات على واقعنا.

إن كل الأطراف ترى حل الأزمة السورية من زاوية مصالحها الخاصة وأهدافها الوطنية. أما بالنسبة إلى واقع الحال السوري، فإننا يجب أن لا ننكر وجود معارضة حقيقية لنظام الأسد، ولكن على الطرف الآخر يجب الإقرار أيضاً، بأنه ما زال هنالك من يؤيد بقاءه. إن هاتين الحقيقتين يجب أخذهما بالاعتبار من قبل جميع الأطراف حتى لا تدخل سورية وبعد كل هذه المعاناة في حرب أهلية، مثلما جرى في تجارب مماثلة.

 

قد يهمكم أيضاً  قضايا العرب والشرق الأوسط في ظل السياسة الخارجية الأمريكية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الأزمة_السورية #العلاقات_السورية_الروسية #الحرب_في_سوريا #الدور_الروسي_في_سورية #الموقف_الروسي_من_الأزمة_السورية #التدخل_الروسي_في_الشرق_الأوسط