– 1 –

يمثل العقل التكفيري – إنْ جازت تسميتُه عقلاً – الثمرة المُرّة لميراثيْن ثقيليْن يجثمان على حاضر مجتمعاتنا وثقافتنا: ميراثٌ ثقافي تكفيري حَفِل به تاريخُ الإسلام، وناهضتْهُ تيارات العقل والاجتهاد والتسامح فيه؛ وميراث اجتماعي – اقتصادي – سياسي معاصر من الحيْف والتهميش والاستبداد، كانت مجتمعاتُنا العربية، وفئات واسعة من الشعب فيها، عرضةً له. واجتمع الميراثان معاً في تكوين ظواهر اجتماعية شاذة وكارثية عدّة منها ظاهرة الجماعات التكفيرية، الذاهبة بنزعتها الرفضوية الاحتجاجية إلى الحدود التي تنذر بإطاحة كيان الجماعة الوطنية في كلّ بلدٍ من البلدان العربية المنكوبة بأفعالها!

يتعلق الأمر في تكوين ظاهرة التكفير بتداخل عوامل عديدة مركّبة، لا بعامل واحد بسيط. قد يبدو التكفير ظاهرةً ثقافية – دينية تتصل بنوعٍ من الفهم خاطئٍ لنصوص الإسلام؛ وهي كذلك من غير شك. لكن أسبابها وعواملها أعمق من مجرّد إساءة القراءة والفهم، وأبعد من مجرَّد القصور المعرفي في إدراك مقاصد الأحكام الشرعية؛ وبيانُ ذلك أن هذا القصور ليس جديداً على المسلمين، في تاريخهم الحديث والمعاصر، ومع ذلك لم يجنح منهم أحدٌ لتكفير الناس وسفك دمائهم باسم الدين. ثم إن التكفير غالباً ما أطلّ على مجتمعاتنا في أوضاع الأزمة الاجتماعية – السياسية، ونما في بيئات طحنتها أوضاعُ الأزمة تلك. وهو ما يقوم به الدليل على اتّصال الظاهرة بعوامل الاجتماع والسياسة والاقتصاد…. إلخ. وما لم تُدْرَك هذه الحقيقة (= حقيقة اتّصال ظاهرة التكفير بالعوامل الاجتماعية – السياسية)، سنُسِيء الردّ عليها، ونُخطِئ طريق استيعابها أو احتواء أخطارها، وربما قد تسقُط ردودُ فعلنا تجاهها في فخّ مفاقمةِ أسباب تجديدها واستفحال أمر مخاطرها تلك.

إذا صحَّ القول إن التكفير من الثمرات المُرّة للاجتماع السياسي العربيّ المعاصر – وهو صحيح – فلا مهْرب من القول إنّ ارتفاع الظاهرة (= التكفير) لا يكون بغير العمل على ارتفاع أسبابها المولِّدة: أزمة الاجتماع السياسي العربي. وليس يخامرنا شكٌّ في أن الأزمة هذه مركَّبة وعميقة وبنيوية، بل قابلة – لتلك الأسباب – لأن تصبح أزمةً انفجارية من فرط تراكماتها وتداخُل أبعادها. إن الفقر، والتهميش، والاستبداد، والفساد، وسوء توزيع الثروة… عدوٌّ مبين للحاضر والمستقبل، لأنها جميعها بيئة خصبة لإنتاج ظواهرَ من الرفض والاحتجاج عديدة قد يَرْكبُ بعضُها مرْكب العنف الأعشى للردّ على قسوةِ الأوضاع بأفعالٍ انتحارية أشدّ قسوة، على مثال ما يجري اليوم مع جماعات التكفير المسلحة، بل على مثال ما بدأ يُفصح عن نفسه منذ سنوات الثمانينيات من القرن العشرين الماضي!

التكفير، بهذا المعنى، هو الترجمة الثقافية السياسية لأوضاع البؤس الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي ينخر عمران هذا الاجتماع العربي: المتأخّر، العصبوي والمهزوم. والردّ عليه (= على التكفير) لا يكون فقط من طريق سياسات الاستئصال الأمني؛ فهذه ما نجحت يوماً في إنهائه: لا في الجزائر، ولا في أفغانستان، ولا في مصر، ولا في الصومال… إلخ، إذْ ما يلبث بعد كلّ ضربةٍ أن يُطِل بأكثر من رأس بعد قطع رأسه الأولى! والمستفاد من هذا أن ظواهر من هذا الضرب تنشأ من أسباب اجتماعية عميقة، لا يمكن القضاء عليها بتصفية أعراضها، وإنما باستئصال الأسباب والجذور التي ولَّدتْها وأَنْبَتَتْها. وهكذا، ما لم تتقدم مجتمعاتُنا العربية في السعي نحو إنتاج نظام سياسيّ حديث يكفل حقوق المواطنة، والحريات العامة، والمشاركة السياسية، وما لم تَهْتَد إلى وضع حدٍّ للفساد وهدْر الثروة والمال العام، وتحقيق الإنماء المتوازن، والحدّ من الفوارق الطبقية الفاحشة، عبر إعادة توزيع الثروة توزيعاً عادلاً أو أكثر عدلاً، فلن يكون في الوسع إنهاء ظاهرة كبيرة وخطيرة مثل ظاهرة التكفير وجماعاته السياسية والمسلّحة.

أمّا إذا صحَّ القولُ إن التكفير من الثمرات الـمُرّة لميراثٍ ثقافي إسلامي معادٍ للعقل والاجتهاد والتسامح، وضَيِّقٌ الأفق في فهم نصوص الدين – وهو صحيح – فإنّ على ذلك يترتّب القولُ إننا سنكون – في حينها – في مسيس الحاجة إلى اجتراح استراتيجيةٍ فكريةٍ: تربوية – تعليمية وثقافية – تنويرية لصدِّه والردّ عليه، وإضعاف نفوذه في الوعي والمجتمع. وعلينا هنا أن نعترف، ابتداءً، بأن تراثنا العربي الإسلامي – شأنُه شأن أي تراث ثقافي في التاريخ الإنساني – فيه الغث والسمين، الرديء والجيد، الظلامي والتنويري، وأنه مثلما حَوَى تيارات العقل والتجديد والاجتهاد والتسامح، كان فيه القدرُ الكبير من تيارات التحجُّر والجمود والانغلاق والتكفير والتشرنُق على الذات. ومثلما نشأت الإصلاحية الإسلامية النهضوية الحديثة (في القرن التاسع عشر) مستلهمةً تيارات الاجتهاد في ذلك التراث، نشأت الإحيائية الصحوية الإسلامية (وحفيداتها من الحركات التكفيرية) مستلهمةً تراث الانغلاق والجمود والتكفير. لن يفيدنا، كثيراً، إنكار حقيقة وجود مصادر لهذا الفكر الظلاميّ المنغلق في تراثنا، أو التستّر عليها بدعوى تنقية صورة الماضي وصورة الإسلام؛ إذْ مَن قال إنّ صلةً ما تربط هذه التيارات بالإسلام حتى نخشى عليه من أن يُؤخذ بجريرتها؟ بل نحن نذهب إلى الظن أن تنقية صورة الإسلام إنما تكون من طريق تحريره من ذلك التراث المنغلق والظلامي، ومن طريق تحريره اليوم من محاولات السطو عليه من قِبل تيارات التكفير وجماعاته.

– 2 –

لهذه الاستراتيجيا الثقافية (في مواجهة التكفير) برنامج عمل ووسائل عمل؛ فأما برنامج العمل فمدارُهُ على جملةِ أهدافٍ مترابطة، متضامنة في غاياتها العليا، وفي جملتها إشاعة وترسيخ قيم العقل والتسامح والاجتهاد وروح التجديد، وقيم السِّلم والحوار والانفتاح على الغير، ونبذ التعصّب، وتحرّي النسبية في التكفير..، أي مجمل القيم التي أنتجت اللحظات المجيدة والمشرقة والحضارية في التراث العربي الإسلامي، ومكَّنت حضارة الإسلام من أن تتبوّأ الصدارة، بل مكَّنتها من الصيرورة حضارةً كونية. أما وسائل العمل المطلوبة لتحقيق هذه الأهداف فمتعددة، تعليمية – تربوية، وثقافية، ودينية، وإعلامية، تتضافر هذه الأدوات والمؤسسات كافة للنهوض بإنجازها في نطاق خِطَّة عمل كاملة ومدروسة، وتشارك فيها – شراكةً كاملة – الدولةُ والمجتمع المدني على السواء.

يتطلب حصار ثقافة التكفير، ابتداءً، ثم تصفية وجودها ثانياً، عملاً ثقافياً طويل المدى والنَّفَس. يبدأ الجَهد المبذول، في هذا النطاق، من البرامج التربوية والتعليمية في المدارس (الابتدائية والثانوية)، وخاصة في المواد الدينية والتاريخية التي يتأهل بها وعيُ الناشئة. لا مهْرب من إقرار سياسةٍ تعليمية تقوم على مبدإ التربية على قيم التسامح، والعقل، والتفكير الحرّ، وعدم تقديس نصوص القدامى أو رَفْعها من مرتبة الرأي إلى مرتبة النصّ الديني الـمُلْزِم، ونبذ التعصب، واحترام الرأي الآخر ومواجهته بالحوار والحجة، ونبذ العنف بما فيه العنف اللفظي. ولا بدّ من أن تجد هذه المنظومة من القيم مكانها في البرامج الدراسية المقررة في المدارس والجامعات، من أجل أن تتشبّع بها الأجيال الجديدة والقادمة، وتتحلى بها في التفكير والسلوك. ولا بدّ، في الوقت عينِه، من أن يُصَار إلى إصلاح منظومة تكوين المعلمين والأساتذة، وتمكين المكوَّنين فيها من التأهيل العلمي والتربوي الحديث والرصين لتأدية أدوارهم التعليمية على النحو الأمثل، وبما يخدم أهداف برنامج إعادة تربية الناشئة على القيم الآنف ذكرها. إن المدرسة هي المعمل الذي يُصْنَع فيه المواطنون، وعلينا أن نقرّر أيَّ نوعٍ من المواطنين نريد لمجتمعاتنا: هل نريد مواطنين إيجابيين متأهلين علمياً يخدمون مجتمعهم والدولة، ويحرصون على رفعتهما وأمنهما، أم مواطنين يطلِّقون شعبهم ودولتهم ويمتشقون في وجههما السلاح باسم الكفر والإيمان؟ وفي ضوء هذا السؤال يتقرر أيُّ نوع من التعليم والتأهيل نحتاج إليه.

وليس يَسَع البرنامج التعليمي وحده أن ينجز هذه المهمة الكبيرة من التربية على قيم العقل والحوار والتسامح، وإنما ينبغي استكمال الاعتناء بهذه البذرة الطيبة من طريق إطلاق برنامج ثقافي تنويري شامل في المجتمع يرسّخ تلك البذور، ويتعهَّدها بالرعاية والصيانة والإنماء، من خلال إشاعة ثقافةٍ تنويرية تصحِّح النظرة إلى الإسلام وتعاليمه، وتميط اللثام عن مقاصده الكبرى وقيمه العليا، وتُوطِّن قيم الفكر الحديث في الوعي العربي على النحو الذي ينخرط فيه المواطن العربي في العالم المعاصر، ويتشبّع فيه بقيمه الكونية: العقل والحرية والإبداع. ومن النافل القول إن المثقفين: مفكرين وباحثين وأدباء ومبدعين؛ هُم مَن يَقَع على عواتقهم أن ينهضوا بأداء هذا الدور، وإنجاز هذا المشروع الثقافي التنويري، لأنهم حَمَلَةُ الأفكار ومنتجوها. لكن ضمان نجاحهم في أدائه يتوقف على ما يمكن للدولة أن تقدّمه لهم من أسباب مادية ومعنوية مساعدة على النجاح وحسن الأداء. والأسباب هذه ليست كناية عن الموارد المادية، التي لا غنًى عنها للنجاح في الأداء، من بُنى تحتية ثقافية وتشريعات وقوانين مناسبة (في ميدان الثقافة)، وإنما هي – أيضاً – مساحة الحرية التي توفرها الدولة للفاعلين الثقافيين لممارسة أدوارهم. وهذه مسألة نشدّد عليها هنا، كثيراً، لأن هذه المساحة تكاد تكون في حكم الغائب من فرط ضِيقها في الأعمّ الأغلب من البلدان العربية! إن الثقافة هي الجبهة الحقيقية لإلحاق الهزيمة بعقل التكفير، وعلى الدولة – قبل غيرها – أن تدرك ذلك، وأن تَبْنِيَ على الشيء مقتضاه.

– 3 –

لعلماء الدين، أيضاً، دور في هذه المعركة ضد التكفير. وهو يبدأ من التكوين في المدارس الدينية – في البلدان العربية التي فيها هذا النوع من المدارس – إلى التأهيل في الجامعات الخاصة بالعلوم الشرعية، إلى خطب الجمعة والفتاوى والتأليف في الموضوعات الدينية، ناهيك بالمجلات والدوريات التي تشرف عليها وزارات الأوقاف ودور الإفتاء والمجالس والهيئات العلمية الدينية. وغنيٌّ عن البيان أن فئة علماء الدين من أكثر الفئات تضرُّراً من صعود حركات التكفير، ليس فقط لأن هذه الحركات تحرِّض عليها وتشنّع، وتكفّر رجالاتها وتستهدفهم (= اغتيال رمضان البوطي في سورية مثلاً)، ولكن أيضاً لأن جماعات التكفير تزاحم علماء الدين على دورها الديني، التربوي والتثقيفي، وتحاول أن تصادر الرأسمال الديني منها. على أن قيام فئة علماء الدين بهذا الدور، على النحو الأمثل الذي يشل فاعلية خطاب التكفير في المجتمع، رهنٌ – هو نفسُه – بمدى النجاح في إعادة تأهيل هذه الفئة علمياً، من خلال إعادة تأهيل مؤسساتها التعليمية والعلمية، من مدارس وجامعات ومجالس علمية… إلخ، ذلك أن مستواها العلمي تدهور، في العقود الأخيرة، وبات أداؤُها شاحباً وغيرَ قادر على جذب جماهير المؤمنين إلى صفّ الخطاب الديني الرسمي، بل كان شحوبُه وعجزُه من الأسباب التي مكَّنت للتيارات السياسية الإسلامية («الإخوانية» والسلفية و«الجهادية»…)، ووفَّرت لها فرص الصعود والفُشوّ. وما أغنانا عن الحاجة إلى القول إن انحصار الخطاب الديني الرسمي في أطره ومناهجه التقليدية يقف حائلاً دون قدرته على صدّ الغُلاة في الدين، وإشباع حاجات جمهور المؤمنين الفكرية. وما لم تَجْرِ إعادةُ نظرٍ شاملة في طرائق التفكير ومناهجهِ، لدى علماء الدين، وفي كيفية تكوين الأجيال الجديدة منهم، وما يقترن بهذا التكوين من فتْح وعيها على آفاق المعرفة الإنسانية المعاصرة، فإن دور هذه الفئة سيؤول إلى الزوال لا محالة، وستحتل مكانتها تياراتُ الإسلام الحزبي التي تعرف كيف تخاطب ضائقة الناس ومظلوميتهم.

– 4 –

وأخيراً، لفئة الإعلاميين والصِّحفيين دورٌ كبيرُ التأثير في التدليل على خطورة ظاهرة التكفير، والتنبيه إلى سُبُل مواجهتها. غير أن اتصالهم اليومي بمصادر المعلومات، وقدرتهم الفنية على توظيفها في إنتاج مادة صحفية أو إعلامية تثقيفية، لا يكفيان – على أهميتهما – لإحداث التأثير الكبير في الرأي العام، إنْ لم يقترن ذلك بإفساح مساحةٍ معتَبَرة، في المنابر الصحفية والإعلامية، للمادة الفكرية التي يقدّمها باحثون مختصّون في الدراسات الإسلامية، وتاريخ الفكر، وعلم الاجتماع الديني، وعلم الأديان المقارن، وسوى هذه من التخصصات، من خلال برامجَ حوارية، أو مقابلات، أو ندْوات وحلقات نقاشية. ومع أن ذلك يحدث في صحف ومحطات تلفزية عديدة، إلا أن الغالب على المستَكْتَبين للكتابة في الصحف، والمستَضَافين في البرامج التلفزية، أنهم ينتمون إلى فئة «الخبراء» في الحركات الإسلامية. وهؤلاء – مع كل الاحترام لمساهماتهم – لا يعرفون، في معظمهم، المقدمات الفقهية والفكرية للخطابات الإسلامية المعاصرة، ومرجعياتها القديمة في أصول الفقه، وعلم الكلام، وفقه السياسة الشرعية؟، الأمر الذي يحرم الجمهور من فرصة التعرّف إلى الظاهرة المبحوثة من خلال معرفة ما تسوِّغ به نفسها دينيّاً. وليس معنى ذلك أن على وسائل الصحافة والإعلام أن تُقْلع عن استكتاب «الخبراء» واستضافتهم، وإنما أن تفسح، إلى جانبهم، مساحةً لأهل العلم بتاريخ الإسلام الديني والفكري، قصد تحقيق التوازن المطلوب في المادة الإعلامية المقدَّمة إلى الجمهور، وقصد تمكين الخطاب الفكري من الوصول إلى أوسع فئات الشعب عبر الحامل الثقافي الأهمّ في عصرنا، والأخطر تأثيراً: الإعلام.

* * *

إن أيّ استراتيجيا ثقافية لمواجهة التكفير، وإبطال مفعوله في وعي فئات عريضة من المجتمع، لن تنفع مثقالّ ذرَّةٍ من النفع بوجود مَن يغذّي أسبابه: قَصَدَ ذلك أم لم يقصده؛ إذ لا بد من أن تتوقف مياه الحنفية التي منها يرتوي فكر التكفير ومؤسساته وجماعاته، حتى لا يجد من الموارد ما به يتغذى وينمو ويستشري كالورم في جسم الاجتماع العربي. ونحن نعني بهذه الحنفية مورديْن اثنيْن: المورد التعليمي، والمورد المالي – السياسي، وهُمَا اليوم عماد جماعات التكفير ومبدأ استمرارها وظهورها على غيرها من الجماعات الاجتماعية.

1 – أُنفِقت أموال طائلة، وما زالت تُنْفَق من غير حساب، على مدارس التعليم الديني وعلى المراكز «العلمية» الدينية في بعض البلدان العربية لغرض تكوين الناشئة على «الأصول» الإسلامية «الصحيحة» التي لا شوْب فيها. أُنْفِق نظيرُها على المؤسسات عينِها التي أُنشِئت في العالم الإسلامي، وفي المهاجر الأوروبية والأمريكية، قصد نشر الإسلام في أوساط الأجانب، وتربية أبناء المسلمين المهاجرين تربية دينية تحميهم من الذوبان في محيطهم الاجتماعي الحاضن وغير المسلم. ومعظم هذا الإنفاق، الذي قامت به الدولة والمنظمات الأهلية ذات اليسار والرخاء، أشرفت عليه «المؤسسة الدينية» التي لها الاعتبار الكبير في بعض تلك البلدان. وكانت النتيجة أن هذه المدارس خرّجت عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف، من الشباب الذين أصبحوا في جملة جيش النَّقَمَة الرافضة لمجتمعاتهم ودولهم، بل الذين حمل الآلاف منهم السلاح في وجه الدولة والمجتمع بدعوى أنهما كافران!

ما الذي يمكن أن ننتظره من مدارس من هذا النوع لم يكن لها من رسالة سوى إعداد أجيال من الشباب مكوَّنة دينيّاً على أصول معيَّنة، منظوراً إليها بوصفها الأصول الوحيدة «الصحيحة» للدين؟!، وماذا لو كانت الثقافة الدينية التي تشرّبها مئات الآلاف من المتعلمين أولاء، في المدارس تلك، تقوم على تكفير مذاهب أخرى في الإسلام غير مذهبها، وتبيح لأتباعها محاربة البدع باليد، حتى وإن كانت أضرحة أنبياء ومقامات دينية مُبَجَّلَة لدى أتباع تلك المقامات، وتُحَرّض ضدّ حقّ النساء في التعليم والعمل والولاية، وتدعو إلى حرمانهن منه لأنه يجافـي تعاليم الدين؟ وماذا لو كانت الثقافةُ تلك تَحضّ على الجهاد بحسبانه فرض عين، وتحدّد لذلك الجهاد وجوهاً تأخذ المخاطَبين به والمدعوين إليه إلى نقله إلى «دار الإسلام» نفسها، وتحويله إلى فتنة؟!، ثم ماذا إذا كانت «المعرفة» المُلَقّنة في تلك المدارس تقليدية ومُغْلَقة ونصّية جامدة، تعتمد استظهار النصوص، ورفْع الحديث النبويّ إلى مرتبة القرآن الكريم، ونصوص فقهاء بعينهم إلى مرتبة الحديث والقرآن، ورفض العقل والاجتهاد واستنكارهما، وتبديع التجديد والتأويل، وإبطال حجّية القياس، وتسفيه فقه المقاصد، وحسبان الوافد من خارج ثقافة الإسلام فاسداً وتكفير الآخذين به، أو المنتهلين منه؟!

ما الذي يمكن أن ننتظره من تعليمٍ ظلاميّ منغلق نظير هذا «التعليم الديني»، الذي تنفق عليه دولٌ عربيةٌ للمؤسسةِ الدينية الكلمةُ العليا فيها، غير تخريج جحافل من المنغلقين المتعصّبين من الذين يتصوّرون أنفسهم رُسُلاً يحملون الهداية للعالمين، والذين لا يرون في الإسلام إلا السيوف، وجزّ الرؤوس، وبَقْر البطون، وسبْي النساء، وفرض الجزية على بني الوطن من غير المسلمين، ولا يتخيلون – لحظةً – أن الإسلام يمكن أن يعنيَ شيئاً آخر غير ذلك مثلما يعنيه عند غيرهم من المسلمين؟!. إن هذه المدارس مصانع للتفكير: تصنِّع وتنتج الغُلاة من المكفِّرة المتطرفين، وتهيِّئهم – حتى إن لم تقصد – ليصبحوا جيشاً من الأطر والقواعد للجماعات المسلّحة تتزوَّد به وقوداً لحروب «الفتح» التي تخوضها في ديار المسلمين! لقد نبّهت أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 إلى خطورة هذا المورد في إنتاج التطرف وتغذيته. ولقد وُجِّهت أصابع الاتهام إلى ذلك «التعليم»، وطُلِب إصلاحُه لئلا يستفحل الأمر على الجميع، لكن دار لقمان بقيت على حالها، وها إنّ من وفّروا أسباب إنتاج ثقافة التكفير يعانون نتائج ذلك على مجتمعاتهم ودولهم!.

2 – ولا يقلّ المورد المالي – السياسي للتفكير خطراً عن فعل المورد التعليمي – التكويني؛ فهو من الأخير بمنزلة الحامل الذي ينقل خطره من القوة إلى الفعل (= بلغة أرسطو)، وخاصةً حينما يزوّد فعلَه بالهدف السياسي، ويمكّن له من الأسباب ما به يصير فعلاً ذا أثرٍ مادي. وهنا علينا أن نعترف أن أموالاً كثيرة أُنفقت، منذ حرب أفغانستان في سنوات الثمانينيات، دعماً وتمويلاً لجماعات مسلّحة تحت عنوان الجهاد. وإذا كان الذين أنفقوا تلك الأموال، ووفّروا المساعدات اللوجيستية لِـ «المجاهدين»، أرادوا الجهاد موضعيّاً وحصريّاً في مواجهة العدو الشيوعي السوفياتي وجيشه في أفغانستان (أو في الشيشان بعد ذلك)، أو العدو الشيوعي الصربي في البوسنة والهرسك، فإن الذين تلقوا الدعم منهم – سلاحاً ومالاً وتسهيلات وغطاءً سياسياً – لم يكتفوا بالعمل تحت سقف أهداف المتموّلين، وفي نطاق جدول أعمالهم السياسي، وإنما ساروا في جدول أعمالهم الخاص، فضربوا في عمق بلاد أصدقائهم لينقلوا ساحة المعركة إلى بلدانهم التي موّلتْهم أنظمتُها وسلّحتْهُم!.

ومع أن بعض السياسة العربية المسخِّرة للجماعات «الجهادية» المتطرفة لُدِغَت من جُحر تلك الجماعات مرةً ومرتيْن وعشراً، منذ النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين الماضي، وأجبِرت على فتح حروبٍ أمنية مستمرة مع شبكاتها وخلاياها – النائمة واليقظة – إلا أنها لم تتّعِظ بدروس التجربة المُرّة من المحالفة مع التنظيمات والجماعات المسلّحة تلك؛ إذْ ما لبث وهْمُ ترويضها وتسخيرها أن تجدَّد مرةً أخرى، في امتداد سياسات تصفية الحساب مع غرماء آخرين، فسارعت إلى تكرار مشهد الحضانة والتمويل والتسليح والتغطية السياسية لفرق الموت، ظنّاً أن مفاعيل عملياتها لن تبرح مسارح المواجهة في البلدان التي حُددّتْ لها هدفاً «وحيداً» لِـ «الجهاد»!. ولكن الذي نراه، وتوقعناه منذ أعوامٍ ثلاثة، أن حساب الحقل والبيدر لم يَقُم على التناسب؛ فها هي قوى الدعم المالي – السياسي تكتشف متأخرةً أنها أخطأتِ التقدير، وفتحت على نفسها الأبواب عينَها التي فُتحت على خصومها!. لقد انطلق العفريت من قمقمه، ولن يكون في وسع طائرات أمريكا وأخواتها أن تعيده إلى حيث كان…

يمكن للمرء أن يروِّض كلباً يحرسه، ويردّ عنه غائلة الخصوم، لكن جماعات التكفير ليست من جنسِ من يمكن ترويضُه على هذا النحو؛ فليس من وفاءٍ لديها لمن يمدّ لها يد العون، لأنها وفيّة لما تؤمن به، وما تسعى فيه فحسب. وحين تتمكّن، تلدغ اليد التي أطعمتها. إن تحالُف الضرورة، القائم على الغشّ المتبادل، لا ينتهي إلا إلى واحدةٍ من نتيجتين: انقلاب الداعم على المدعوم، بعد انقضاء الحاجة إليه، أو انقلاب الثاني على الأوّل بعد استيفائه الغرض من محالفته. ماذا يحدث اليوم غير هذا؟!

إن التغذية المالية والسياسية لقوى التكفير فصل خطير من فصول السياسة العربية المعاصرة، بل لعله أخطرُ فصولها جميعاً، وأكثرُها دمويةً ودراماتيكية؛ إذْ يكفي أنه قاد إلى تخريب أوطان، وتمزيق أواصر، وإنشاب فتنٍ وحروب أهلية في جسم المجتمع والدولة، وإطلاق قوى الموت في يوميات الناس!. وما لم تتوقف هذه السياسة الخرقاء، وتُطْوى صفحتُها إلى الأبد، ويتوقف معها إنتاج ثقافة التكفير في المدارس، فلن تتوقف معاناة هذه البلدان العربية مع ظاهرةٍ تذكِّرها بأسوأ ما في ماضيها؛ والأنكى: تَعِدُها بما هو أسوأ ممّا كان سيّئاً في ذلك الماضي!، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

 

للمزيد من المواضيع ذات الصلة وللكاتب نفسه تفضلوا بالضغط على  المذهبية: تاريخاً وراهناً وأخطاراً