في المذهبية والتمذهب
I

هل يمكن للانتماء إلى دين، أو للتديُّن، أن يَحْصُل من دون تمذهُب، أي من دون التعبير عن نفسه من خلال الشعور بالتمايُز داخل البنية الاعتقادية الواحدة، ومن دون الانصراف إلى تنمية ذلك التمايز وحراسته في وجه عوامل الاشتراك والتوحيد دَاخل تلك البنية الاعتقادية الجامعة؟

نظريّاً: نعم، أمّا عمليّاً فلا!

يمكن للتديُّن أن ينشأ بمعزلٍ عن التمذهب، بل تلك حالُه في تكوين أيّ دين، أي في لحظة الإنشاء من ذلك التكوين؛ وبيانُ ذلك أن التدين اعتقادٌ بفكرةٍ عليا، وتعبيرٌ طقوسي: وجداني، وسلوكي، واجتماعي، عنها: أكانت مجسَّدةً في نصّ (= وحي)، أو كانت تعاليم، أو منظومَةَ قيمٍ دينية وأخلاقية يحملها صاحب دعوة. والغالب على أتباع الدين، في مراحل التأسيس، أن يمارسوا تديُّنهم على نحوٍ من البساطة شديدٍ، وأن يكونوا في غَنَاءٍ عمّن يقوم مقام الوسيط بينهم وبين النصّ أو التعاليم، إِذِ العلاقة بهما (النصّ والتعاليم) تكون مباشِرة، ولعلها تكون كذلك مع صاحب الدعوة أو الرسالة. هكذا بدأت الأديان التوحيدية الثلاثة: خالية من التمذهب، ومن أسباب الانقسام الذاتي على حدود الاعتقادات الفرعية. بل هكذا، أيضاً، بدأت سائر الأديان في آسيا القديمة.

تتكوّنُ الجماعةُ الاعتقادية الكبرى كجماعة موحَّدة، يؤسِّس النصُّ، أو تؤسِّسُ التعاليم، شعورَها بالانتماء المشترَك الواحد. بل إنها عادةً ما تخرجُ من واقع الانقسام على حدود هويّات اجتماعية متمايزة إلى واقع الالتحام في كيانية جديدة موحَّدة. وتتغذى وحدتُها الدينية، مع الزمن، في مواجهة جماعات مِلّية أخرى تُخالفُها الاعتقاد والشرائع. وغالباً ما يكون إيقاعُ نموِّ التمركُز الذاتي على فكرة التميُّز والتمايُز لدى جماعةٍ اعتقاديةٍ ما حين تُجَاورها في المكان تلك الجماعاتُ الأخرى المخالفة. وهو يَعْظُم أَكثر حين يكون الجوار قريباً، كأن تنتمي هي وسواها من الجماعات إلى مجتمعٍ واحد مثلما حصل في تاريخ المجتمع العربي الإسلامي. في مواجهة الآخر (الاعتقادي) لا تختلف الجماعة على نصّها، ولا تنقسم في فهمه، بل لعلّها لا تلتفت إلى ما تمور به بيئتُها الداخلية من أسباب التباين في النظرة إلى الدين الجامع وتعاليمه؛ ففي غيرها، ممّن يخالفها المِلّة، كثيرٌ من الرصيد الذي يَصُبّ في وحدتها، ويرفع من مكانة نصّها التأسيسي في وجدانها، ويدفع نحو تماهيها مع ذلك النصّ بوصفه عنوان وجودها.

إن هذه الصّلة بالنصّ ثابتةٌ في الأديان التوحيدية كافة، وشديدةُ الحضور والظهور حين يقع الاحتكاك بين أتباع الديانات على حدود مجتمعات متجاورة، أو داخل مجتمع واحد متعدّد الانتماءات الدينية. وهي تولِّد، باستمرار، عوامل اللحمة والتماسك في جسم كل مجموعة اعتقادية. ويكون ذلك في الأحوال كافة، وحتى حينما لا يقع تماسٌّ واتصال مباشر بين جماعة دينية وجماعات أخرى، فإن الجماعات يستبطن بعضُها البعضَ، ويستدعيه في الوعي أو المتخيَّل الجمْعي، فقد يكفي الصراع على تمثيل الحقيقة (= الدين القويم) كي تستحضر الجماعةُ الواحدةُ غيرَها، فتتمسك بنظرتها إلى نفسها بصفتها الكيان البشري الذي تتجسّد فيه الحقيقة العليا في نقائها وصفائها، والمؤتَمن على إبلاغها إلى العالم (ذلك ـ مثلاً ـ ما يعنيه الصراع بين أتباع الأديان التوحيدية الثلاثة على التمثيل الصحيح للعقيدة التوحيدية الإبراهيمية).

غير أن التمسّك بالنصّ/التعاليم، والنموذج النبويّ، وبفكرة الجماعة الواحدة الموحَّدة في مواجهة غيرها من الجماعات الاعتقادية، لا يوفّر ـ دائماً ـ ضمانةً ضد الانقسام والتمذهب، أو مادةً لتجديد وحدة الجماعة الدينية في التاريخ: في مطلقِ مكانٍ، وفي مطلق زمان؛ ولم يحصل أن ديناً من الأديان ـ التوحيدية وغير التوحيدية ـ ظلّ محافظاً على وحدة الجماعة التي تعتنقه، أو خَلا من أيِّ شكلٍ من أشكال التفرُّق والانقسام فيها، على الرغم من جوامع النصّ والكيان الاعتقادي، و ـ أحياناً ـ الدولة الواحدة. وليس السبب، في الانتقال من حال التوحُّد إلى حال التمذهُب، نقصاً في الإيمان، أو انحرافاً في فهم التعاليم، أو خيانةً للأصول، أو ما في معنى ذلك من النظائر، وإنما مأتاهُ من أن انتقالاتٍ موضوعيةً تحصل داخل كلّ دين، وتُلقي بنتائجها على المنتسبين إليه: الانتقال من النصّ الديني إلى الجماعة، الانتقال من الجماعة الدينية إلى الجماعة السياسية، الانتقال من السلطة العليا (الإلهية) للدين إلى السلطة البشرية (الفقهية، الإكليروسية، السياسية) للدين، الانتقال من النصّ الديني أو من الرأي إلى المؤسسة (= مأسسة الدين)… إلخ. هذه جميعُها عوامل تصنع شروط ذلك الذي سمّيناه الانتقال من التوحُّد إلى التمذهب.

هكذا نتأدّى إلى القول إن التمذهب ظاهرة تاريخية في الأديان كافة، أو ظاهرة في تاريخ الأديان ذات أسباب تفسّرها، وليست حالةً شاذة أو مجافية لمنطق الدين؛ وبيانُ هذا أن منطق الدين غير منطق النصّ الديني والتعاليم، فالدين ليس النصّ فحسب ـ أو حصراً ـ وإنما هو أيضاً الناس (= الأتباع) الذين يقرأونه، ويفهمونه نوعاً من الفهم المتناسب مع مستوى مداركهم العقلية، ومع ظروف تلقي النصّ (وهي ظروفهم الاجتماعية والسياسية…)، ومع شروط ذلك التلقي المتغيّرة بتغيّر المكان والزمان، ثم تناسباً مع المصالح التي تصنع أنواعاً مختلفة من الفهم للتعليم الديني. وبكلمة، إن التاريخ جزء من بنية الدين، لأن النصّ لا يبقى نصّاً معزولاً، وإنما يدخل في نسيج التاريخ حين يتمثله من يعتنقه. والذين يعتنقونه بشرٌ تحكمهم المصالح والأهواء والإرادات المتضاربة، كائنات يصنعها التاريخ المادي الموضوعي، لا كائنات تخرج من رحم النصّ وتعلو على التاريخ.

غير أن تقرير هذه الحقيقة (= التمذهب ظاهرة تاريخية) لا يعني، بحال، أنها شرعية ومشروعة، من وجهة نظر المؤمنين في الأديان كافة، وإنما هي ـ في حقيقتها ـ قرينةٌ على وجْهٍ من أشدِّ الوجوه قتامةً وبؤساً في تاريخ الأديان، وفي تاريخ الإسلام بخاصة. غير أن الحكم على التمذهب، بأي نوعٍ من أنواع الحكم، فعْلٌ معياريّ، وليس فعلاً معرفيّاً، وهو ـ لذلك ـ لا يستقيم إلا بفهمه كظاهرة لها في التاريخ أسباب.

II

لا يمكن النظر إلى ظاهرة التمذهب، إذن، بوصفها، فقط، تعبيراً عن ضيقِ أفقٍ في النظر إلى النصّ وتعاليمه، وإلى الجماعة الدينية والسياسية التي تجسِّدهُ، أو يتجسَّد فيها، ومَن هُمْ أولئك الذين يستحقون ـ داخل تلك الجماعة ـ أن ينطقوا باسمه، أو يحتكروا تمثيلَه والتعبيرَ عنه. إن ضيق الأفق هذا واقعٌ تاريخي، وثقافي، وديني، لا يَقْبَل الإنكار ولا الاستصغار، لكنه ليس يكفي ـ وحده ـ لتفسير ظاهرة التمذهب في تاريخ الأديان، وفي تاريخ الإسلام على نحوٍ خاصّ. إن العودة إلى سياقات التطور التاريخي للإسلام والجماعة الإسلامية، وما أنتجه ذلك التطور من ظواهر سياسية واجتماعية كبرى ـ والصراعات الداخلية وجْهٌ منها ـ تُطْلِعنا على الأدوار الكبرى التي نهضت بها عوامل مختلفة في إنتاج هذه الظاهرة وترسيخها في الاجتماع الإسلامي لذلك العهد الأول منه: الذي تولدت فيه حركات التمذهب. وهي تُطْلِعنا، بالمقدار نفسِه، على دور العوامل الخارجية، في الماضي والحاضر، في التلاعُب بالتمذهب وتحريكه، كطاقةٍ تدميرية، في تناقضات الاجتماع العربي والإسلامي.

سنتناول، في ما سيلي، أدوار ستة عوامل في توليد ظاهرة التمذهب في تاريخ الإسلام: دور العامل السياسي (= الصراع على السلطة)؛ دور العامل الاجتماعي (= البُنى القبلية العصبوية)؛ دور العامل الثقافي (= الميراث الثقافي والديني قبل ـ الإسلامي)؛ دور العامل الجغرافي (= المكان)؛ دور العامل المعرفي (= التلقي والتأويل)؛ ثم دور العوامل الخارجية: قديماً وحديثاً. من الصعب تمييز أثرِ كل عاملٍ من هذه العوامل في توليد تلك الظاهرة، غير أن كثيراً ممّا يبدو عوامل باهتة، أو غير ملحوظة، ذو أثرٍ شديد، وإن هو بَدَا خفيّاً.

ـ1 ـ

التمذهب ثمرةٌ من ثمار المنازعات السياسية والصراع على السلطة داخل الجماعة الإسلامية منذ عهدها الأول. أيّ قارئٍ لمصادر التاريخ الإسلامي يعرف ذلك؛ ما إن اندلعتِ الحرب الأهلية، عقب مقتل الخليفة عثمان، حتى تشظَّت وحدةُ الجماعة وتبدّدت لتنشأ من شظاياها جماعاتٌ فرعية مغلقة سرعان ما صارت مذاهب. ما عُرِف في تاريخنا باسم «العثمانية»، و«الحزب الأموي»، و«الخوارج»، و«الشيعة» هو أبْكر تلك الثمْرات نضوجاً في أبْكر لحْظات ذلك الصراع (بين العام الثاني والثلاثين للهجرة والعام الواحد والأربعين). وسيُطلِق اصطفافُها التقاطبي موجةً ثانية من التمذهب بدأت بميلاد «المرجئة» قبل أن «تنتهي» بقيام «أهل السنّة والجماعة».

ليس صدفةً أن الصاعق الذي فجَّر التمذهب، في ذلك الإبّان، هو مسألة الإمامة والموقف منها، وما يرتبط بها ويتفرّع منها من أسئلةٍ حول الأحقية، ونصاب الشرعية والمشروعية، وصلة الدين بالإمامة… إلخ. ولقد حصل ذلك السجال السياسي، ابتداءً، متوسّلاً مفرداته السياسيةَ المباشرة قبل أن يَؤُولَ إلى جَدَلٍ عَقَدي، أو جدالٍ في العقيدة (= علم الكلام). ويُطْلِعنا هذا التلازمُ التكويني بين التمذهب وجداليات الإمامة على العامل التحتي والتأسيسي لظاهرة المذهبية في الإسلام: العامل السياسي، وتحديداً عامل النزاع على السلطة.

كما أنه من غير المصادفة أن انطلاق ظاهرة التمذهب اقترن بما أصاب مركز الخلافة، ومنصب الخليفة، من تدهور في هيبته ورأسماله المعنوي (والكارزمي) جرّاء الاجتراء عليه، منذ الثورة على الخليفة عثمان إلى إِبَايَةِ كبار الصحابة الاعترافَ لعليّ بن أبي طالب بشرعية خلافته. لقد كانت الخلافةُ تعيش نزيفها المديد حين باتت موْطن تنازعٍ ونزاع، وفقدت مرجعيتها، بل سلطانها على أراضيها والأمصار. ومِن مِداد ذلك النزيف كُتِبَتْ أولى أسطر المذهبية في الإسلام.

ومع أن ضَعْف نظام الخلافة الراشدة، في عهده الثاني بين ثلاثينيات القرن الهجري الأوّل وأربعينياته، وتآكُل هيبته في أعين المعارضين لعهديْ الخليفتين الثالث والرابع، وما استجرَّهُ ذلك الضعف من صراعات طاحنة على السلطة، ومن فتنةٍ عمياء عامّة ومعمَّمة…، كان السبب في توليد ظاهرة المذهبية والتمذهب في الإسلام، مثلما أَلْمَحْنا إلى ذلك، إلا أن استعادة «الخلافة» وحدَتَها وسلطانها، بعد تولية معاوية وتنازل الحسن بن علي بن أبي طالب عن الحكم لصالحه، لم تضع حدّاً للتفكك داخل وحدة الجماعة الإسلامية، إذا كان قد استعاد وحدة الدولة وهيبتها، إذِ استمر التمذهب والاستقطاب المذهبي نشِطاً مثلما كان، بل إن وتائرَهُ والشروخَ التي أحدثها في جسم الجماعة زادت قوةً وشِدَّةَ مفاعيل. وتفسيرُ ذلك لا يتعصّى؛ فالذي انتصر واحْتَاز سلطةَ الدولة لم يكن إلا فريقاً واحداً من الفرق التي تنازعت على السلطة. لذلك ما رأتِ الخوارجُ والشيعة، مثلاً، في الدولة الجديدة الموحَّدة دولتَها، بل سلطة اغتُصبت من الجماعة اغتصاباً.

لم ينتهِ الصراع على السلطة بنجاح الأمويين في توحيد الدولة وبسطِهم سلطانَها على أرض الإسلام كافة، وإنما هو استمرّ يُفصح عن نفسه في صورٍ شتى من الإفصاح: ثورات عنيفة (= ثورة ابن الزبير، وثورة ابن الأشعث)، ومواجهات لم تنقطع (مع الخوارج خاصة)، واعتراض سلميّ وعلني (من الشيعة)، ونقد صريح من الفقهاء (الحسن البصري خاصة)، ومن بعض المرجئة… إلخ. وكانت خاتمتهُ التحالف العريض الذي نُسِج بين العباسيين والعلويين والخراسانية، وقاد إلى «الثورة العباسية» التي أسقطت الحكم الأموي. ولأن ذلك الصراع على السلطة استمر طيلة هذه الفترة، من سلطان الأمويين، لم يكن للتمذهب سوى أن يستمر ويرسخ أكثر، وخاصة أنه كان غطاء «فكرياً» للأحزاب والقوى السياسية المتقابلة، أو كان هو الشكل «الأيديولوجي» المتاح، لحظتئذ، للتعبير عن الرؤى والخيارات السياسية لدى تلك القوى.

على أن القاع السياسي للتمذهب والمذهبية لم يكن لِيَحْجُبَه جنوحُ الفرق السياسية الإسلامية للتعبير عن نفسها بمفردات عقَدية مثل: مرتكب الكبيرة، الكفر، الإيمان، المخلَّد في النار، المعصية، الجوارح، الإرجاء… إلخ؛ فالمفردات هذه ـ وقد مهَّدت لنشوء الجبرية والقدرية، ولميلاد علم الكلام ـ وُلِدَت في سياقات تاريخية ونزاعية خاصة لم يكن من الممكن إلا أن تستدخل المسوِّغات الدينية لتأسيس أيّ موقفٍ سياسي؛ فلقد كان سؤال الإمامة ـ وهو أمّ الأسئلة حينها ـ سؤالاً دينيّاً بمقدار ما كان، في الوقت عينِه، سؤالاً سياسيّاً، إذ هو ـ ابتداءً ـ سؤالُ الشرعية من وجهة نظر الدين، أو قُلْ من وجهة نظر نصوصه المُؤَوَّلَة والمحمولة على معانيَ متعددة بتعدُّد المُتَأَوِّلة. والنزاع، لذلك السبب، إنما كان يجري على تمكين روايةٍ بعينها للشرعية من السيادة على روايات أخرى، قصد التسويغ لموقف سياسي بعينه، وإحاطته بالحُجِّية والشرعية الدينيتين.

لم تتغيَّر صورةُ التمذهب، بما هو استقطابٌ سياسي داخل الجماعة الإسلامية، بميلاد علم أصول الدين (= الكلام)؛ فلقد ظلت ظلال السياسة حاضرة في موضوعات الكلام: في مسائل الإمامة، والعدل، وحرية الأفعال الإنسانية، والجبر، والخلاف على مرتكب الكبيرة وحكمه في الشرع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… إلخ، لكنها (موضوعات) أخذت منحىً كلاميّاً تجريديّاً لم يكُن التمييز فيه بين العَقَدي والسياسي ميسوراً دائماً، وإن كان غير ممتنع. وإذا كان التمذهب اخترق علم الكلام، فوزَّعَهُ بين اعتزالٍ وأشعرية وماتُريدية، فهو اخترق علوماً أخرى ـ لم تكن الجدالات الداخلية فيها بعيدة عن السياسة ـ مثل الفقه وأصول الفقه: صار للسنّة فقه خاصّ بهم، وللشيعة فقه، وللخوارج (الإباضية) فقه… كما ذابت مدارس في أخرى، فأصبح للفقه الإمامي الجعفري غلبةٌ عند الشيعة، كذلك ذاب فقه الأوزاعي والفقه الظاهري في غيره، فانتهى الأمر إلى مذاهب سنّية أربعة غالبة. هكذا رُسِمت حدود المذاهب في الفقه، وباتت علاقة المسلمين بنصوص الدين وتعاليمه تمرُّ بوسيطٍ هو المذهب، وما سار عليه الأتباع من تقليد الإمام المؤسِّس.

لم تكن السياسة غائبة في ذلك كله: كانت حاضرة حضوراً قويّاً؛ فالناس تأخذ بالاعتزال أو الأشعرية في العقيدة تبعاً لما تبغيه السلطة، وهي تكون على مذهب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، لأن السياسة قضت بذلك. واستمرتِ الحال في ما بعد؛ فرض الصفويون التشيّع في إيران، وفرض العثمانيون مذهب أبي حنيفة في أنحاء إمبراطوريتهم…، فكانت السياسة، التي أنتجت التمذهب، هي عينُها التي تعيد إنتاجه…

ـ2 ـ

لم تكن العوامل السياسية وحدها مسؤولة عن توليد ظاهرة التمذهب في الإسلام، وإن كانت هي العواملُ الأساس والأشدُّ تأثيراً؛ كان إلى جانبها عوامل أخرى ذات طابع اجتماعي، مثل عامل المكان أو الموطن، وعامل البنية الاجتماعية القَبَلية وما يرتبط بها، وينتج منها، من ظواهر التضامن والاعتصاب؛ فهذه جميعُها فرضت في الإسلام، وفي بيئةِ اجتماعه السياسي، أحكامَهَا التي ليس يحْسُن بالتحليل التاريخي والعلمي، لتاريخ الاجتماع السياسي الإسلامي، أن يتجاهل ما كان لها من عظيم أثرٍ في توجيه حياة المسلمين وصراعاتهم الوجهةَ التي أخذتْها في التاريخ. ومع أن دعوة الإسلام أتت عابرةً حدود الجغرافيا، وحدود البنى القبَلية التقليدية الموروثة، ورامَتْ صَهْر الجماعات المختلفة في بنية عَقَدية اجتماعية موحَّدة، وتوليد كيانية جامعة قوامُها التوحيد (بمعنيَيْه الديني: وحدانية الله؛ والاجتماعي: وحدة الجماعة)، إلا أن تاريخ الإسلام، وما اكتنفه من تناقضات وصراعات داخلية، يُطْلِعنا على ما كان لتلك العوامل من أدوار في صُنْع فصول منه، وفي إنتاج ظواهر نُظِر إليها ـ دوماً ـ بصفتها تُجافي منطق الرسالة المحمدية.

التمذهب هو إحدى تلك الظواهر التي بَدَت كذلك، والتي لم تكن بعيدة عن فعل عوامل الجغرافيا والاجتماع الأهلي. وليس من شك في أن هذه الصورة (المُبْهَمة) من صُور الاقتران بين التمذهب وأسبابه الاجتماعية، تستبين أكثر، ويرتفع عنها الإبهام أكثر، كلما أخذنا في الحسبان ما حصل، في تاريخ الإسلام وصراعاته، من تَمَفْصُلٍ بين العوامل السياسية والعوامل الاجتماعية؛ فالكثير ممّا بَدَا خلافات دينية بين المسلمين، حول فهم تعاليم دينهم في الشأن العام (= الإمامة تحديداً)، إنما كان جوهرهُ سياسيّاً، وإن هو استعار مفردات الدين للتعبير عن نفسه. غير أن هذا الطابع السياسي (= التأسيسي) لتلك الخلافات، كان محمولاً على حوامل اجتماعية (= قبلية ومناطقية في الأساس)، وهو ما أكسب الخلافات تلك طابع الاحتداد والعنف؛ فلقد كان لكل رأيٍ أو موقفٍ سياسي جماعتُه الأهلية (القبلية والمناطقية) التي تزوّده بالقوة التي إليها يحتاج، وكان انتصار موقفٍ على آخر وقْفٌ على الشوكة والعصبية التي له، لا على الحُجّية الدينية، أو على صدق الالتزام الديني.

يتعصّى على التحليل العلمي بناءُ فهْمٍ موضوعي للتمذهب، بما هو شكلٌ من أشكال الانغلاق الفكري على عقيدة (= دوغما)، بمعزلٍ عن رؤية ما كان من صلات بينه وبين الاعتصاب، بما هو الشكلُ التاريخي الرئيس لعلاقات التضامن الأهلي في الاجتماع العربي الإسلامي؛ ذلك أن الغالب على التمذهب أن يُفْصِح عن نفسه داخل بيئة اجتماعية منغلقة، تقوم في نطاقها تضامنات داخلية يصنعها النّسب، أو تدْخُل علاقات الموطن والجوار في تشكيلها. الذين شكلوا نواة الخوارج كانوا ـ مثلما تفيد مصادر التاريخ ـ من القرَّاء ومن القبائل الطَّرَفِيَّة التي نظرت إلى المركز (= المدينة) بريبة شديدة، وظلّت متحسّسة من سيطرة قريش على السلطة والثروة. وحين تبلورت الموضوعات الخارجية (أو الخوارجية) في مسائل الإمامة، وشكّلت جوهر المذهب، لم يكن صعباً إدراك مغزى الإلحاح الخارجي على أن الإمامة حقّ مشاع في الإسلام، وليس من أحكار أحد؛ فلقد كان في ذلك ردٌّ صريح على الاحتكار القُرشي للسلطة بوجهيه: الأموي ـ وتالياً السّنيّ ـ الذي يحصر الأحقية في قريش، والعلويّ (الشيعي) الذي يحصرها في نصابٍ قُرَشي مخصوص: آل البيت.

ما يقال في التمذهب الخارجي يقال في التمذهب الشيعي، وفي سواه من تمذهبات؛ قام المذهب على عصبية هاشمية عامّة، في مواجهة عصبية أموية، لكنه ارتكز إلى اعتصابٍ علويّ خاصّ، تمييزاً وتميُّزاً من الاعتصاب العباسي. وليس إلحاح الإمامية ـ كما الإسماعيلية ـ على عقيدة الإمامة بما هي حقٌّ محصور في آل البيت، يُتَنَاقَل بالوصية لا بالاختيار، إلا التعبير المباشر عن التمفصل بين المذهبي والعصبويّ. غير أن الاقتران بين التمذهب والاجتماع الأهلي، في الحالة الشيعية (كما في غيرها)، تعزَّز بتأثير عامل المكان أو الجغرافيا (= روابط الجوار المناطقية)؛ فالتشيع لآل البيت لم يَبْق محصوراً في قسمٍ من العصبية الهاشمية، بل أضحى معمَّماً على سائر الكوفة ومعظم العراق. وهو، هنا، لا يختلف عن التعصب الشامي لبني أمية وسلطانهم الذي بدأ أمويّاً، ثم ما لبث أن عمَّ سائر بلاد الشام.

ويمكن للباحث في تاريخ تكوُّن المذاهب وتطوّرها، في الإسلام، أن يَلْحظ تأثير المكان حتى في تشكّل مذاهب الفقه الإسلامي. إن حظوظ أيِّ مذهب فقهي من مذاهب الفقه الإسلامي في الانتشار، في مِصْرٍ ما من الأمصار، إنما هي ـ فضلاً عن دور العامل السياسي السلطوي ـ من ثمْرات عوائد وأعراف ذلك المِصْر، فكلّما تقاربتِ الشقة بين منظومة العادات والأعراف ومنظومة التشريع في فقهٍ بعينه، كانت فرصتُه في الفُشوِّ والانتشار أعظم، وكلّما تباعدتِ الشقةُ تلك صِيرَ إلى العمل بأحكام غيره إن كان بينه وبين المنظومة بعضُ الجِنَاس. وإذا كان الفقه نفسُه قد استدخل العرف والعادة في منظومة أحكامه، فما ذلك إلا لأنّه تواصَل مع مواريث المكان والاجتماع الأهلي.

ـ3 ـ

بمقدار ما يمكن النظر إلى التمذهب بوصفه ثمرةً لفعل العوامل السياسية والاجتماعية والجغرافية، يمكن قراءته في سياق تأثيرات المواريث الثقافية والحضارية التي كان المجتمع العربي الإسلامي عرضةً لها، وشكَّلت فيه فاعلاً، ملحوظَ الآثار، في تكوين اجتماعه الديني والثقافي. والمواريث، التي نعني، كناية عن جملة العقائد والأفكار والتيارات الدينية والثقافية التي تعرَّف إليها العرب، من طريق الاحتكاك المباشر بأتباعها، من الشعوب التي خضعت أراضيها لسلطان الإسلام، سواء منهم من ظلوا يعتنقونها، مثل النصارى واليهود والصابئة والمانوية… إلخ، أو مَن دخلوا في الإسلام، وبقيَ في وعيهم شيءٌ ـ كثيرٌ أو قليلٌ ـ من بصماتها. والمواريث هذه، وقد بدأت مغْلَقَة في بيئاتها الاجتماعية الأصل، لم تَعُد كذلك بعد توسُّع حركة الاندماج السكاني في المجتمع العربي الإسلامي، وإنما شاعت وفَشَت، أكثر فأكثر، في امتداد اتساع نطاقِ التبادل الاجتماعي، والثقافي، والقيمي، بين الجماعات الاجتماعية المختلفة التي تألّف منها ذلك المجتمع، فكان لشيوعها في البيئة الإسلامية آثارٌ، على درجةٍ كبيرةٍ من الأهمية، في المجاليْن الديني والثقافي.

من نافلة القول إن خروج الإسلام والمسلمين من حدود جزيرة العرب إلى المحيط، من طريق الفتوح الكبرى في العراق والشام ومصر وبلاد فارس، هيّأ لأدوار المواريث تلك شروطها. وليس معنى ذلك أن العرب ما تعرَّفت على بعض هذه العقائد الجديدة قبل الفتوحات، فالتاريخ يُطْلِعنا على حقيقتين لا سبيل إلى إهمالهما في التحليل: أولاهما أن الجزيرة العربية كانت متعددة الديانات، قبل دعوة الإسلام وأثناءها، فكان فيها يهود ونصارى وصابئة، فضلاً عن الوثنيين ـ ابتداءً ـ والمسلمين (تالياً). ولم يكن عسيراً على عرب تلك الفترة أن يتعرّفوا إلى عقائد تلك الجماعات التي احتكوا بها وتواصلوا معها، قبل الدعوة، ثم جادلوها في آرائها بعد الدعوة. وثانيهما أن اتصالاً لم ينقطع بين اليمن والحجاز وبين بلاد الشام، بسبب التجارة وانتقال القوافل، كان إطاراً للعلاقة بين أهل الجزيرة وجوارها الشمالي، ومناسبةً مستمرة للوقوف على وجوهٍ من العِلْم بما يكتنف العالم الخارجي من أفكار وعقائد مخالفة. غير أن الفتوح الكبرى، والاتصال الواسع بالعالميْن البيزنطي والفارسي، والإقامة في العراق والشام ومصر وسواها، والاختلاط والتزاوج… نقل علاقات التبادل الثقافي إلى ذُرىً لا سابق لها.

ومن الطبيعي أن تختلف الصورة، بعد الفتوح، عمَّا كَانَتْهُ قبْلها، وأن يكون أَظْهَرُ المتغيّرات فيها هو مفاعيل التأثير المتبادل. ويَسَعُنا أن نرصُد، سريعاً، وجهيْن لتلك المفاعيل: أولهما يتمثَّل في نوع تمثلات الإسلام لدى منِ اعتنقوه من أتباع الديانات الأخرى، وثانيهما نوع الأثر الذي خَلَّفَتْه لدى العرب المسلمين معاشرتُهم لغير المسلمين، أو للمسلمين الجدد المعتنقين ـ سابقاً ـ لأديان وعقائد أخرى، واختلاطهم بهم، ومصاهرتهم لهم، وحتى مجادلاتهم معهم.

لا نملك، في المسألة الأولى، أن نتجاهل حقيقةً تاريخيةً ـ وفكرية ونفسية ـ غير قابلة للإهمال في التحليل، ومقتضاها أن الوافد على عقيدةِ جديدة ـ الإسلام في حالتنا ـ لا يمكنه أن يتحرّر، بسهولةٍ أو يُسْرٍ، من تأثيرات عقائده وقيمه التي كان عليها قبْلاً، وخاصة حينما يكون اعتناقُه للدين الجديد (= الإسلام) ناجماً من حاجة مـوضوعية ضاغـطة (= التحلُّل من ضريبة الجزية، مثلاً، أو السَّعي في الاندماج السياسي وتحصيل مغانم في السلطة). وتلك كانت حالة أكثر من اعتنق الإسلام من «أهل الكتاب»، أو من أتباع العقائد الفارسية القديمة، كما تقول كتب التاريخ. وليس معنى ذلك أن الوافدين على الإسلام كانوا، جميعاً، من هذا الضرب، فلقد كان فيهم من جنح له بوازع النداء الداخلي والإيمان، لكن ذوي المصالح في اعتناقه كانوا كثرةً كاثرة. وفي الأحوال جميعاً، لا بدّ من أن يَظلّ في نفوس هؤلاء وأولئك شيءٌ مما كانوا عليه، قبل وفودهم على الإسلام؛ ليس على صعيد التعاليم بالضرورة، وإنما على صعيد فهم رسالة الدين الجديد من خلال شبكة معرفية قبْلية، متكوّنة داخل الثقافة الدينية السابقة. ولم يكن عبثاً أن مؤرّخين مسلمين كثراً توقفوا، طويلاً، عند ظاهرة «الإسرائيليات»، مثلاً، فرأوا فيها تعبيراً عن دسٍّ ووضْعٍ أتاهُ مَنْ كانوا على دين اليهودية قبل إسلامهم، إمَّا لِغَرَضٍ سيىء مثل تحريف تعاليم الإسلام، وبلبلة فهْم المسلمين لها، أو من دون قصدٍ مُغْرِض، ما خلا الاعتقاد بأن الإسرائيليات تضيء ما غمض في نصوص الإسلام!

أمّا في المسألة الثانية، فلا يخفى أن المسلمين من العرب تأثروا كثيراً، في تمثُّلاتهم، لتعاليم دينهم، بما روَّجه غيرُ العرب من الأفكار والعقائد، سواء كان هؤلاء ممَّن أسلموا ـ بعد الفتح ـ أو ممَّن بقوا على أديانهم وعقائدهم، وكانوا من «مواطِني» الدولة. لقد توقّف باحثون كثر ـ غربيون[1] وعرب[2] ـ أمام بعض ظواهر وعلامات ذلك التأثير، وهم يدرسون الفرق الإسلامية وعقائدها، مثل الإسماعيلية أو بعض تفرعاتها الدرزية، والعلوية (= النصيرية)، وحضور بعض بصمات المسيحية والديانات الهندية والفارسية فيها، وبعضهم[3] ذهب إلى البحث في تلك المصادر المسيحية، حتى في فكر الشيعة الاثنيْ عشرية وبعض عقائده (الغيبة، الرجعة… إلخ)، فضلاً عن البحث في تأثيرات المسيحية والعقائد الهندية في التصوف الإسلامي[4].

ومن النافل القول إن تأثيرات غير المسلمين في المسلمين لا تنحصر في هذه المساحات التي ذكرنا؛ فهي شملت مساحات أوسع من ذلك بكثير، وطالت حتى العلوم والمعارف التي نظر إليها السواد الأعظم من الناس بوصفها العلوم الشرعية النقلية التي هي، عندهم، موطن إجماعٍ، كالفقه وأصول الفقه، وعلم أصول الدين؛ إذ لم يعُد لدينا، اليوم، من شك في أثر القانون الروماني، والأنظمة المستقاة من العالميْن البيزنطي والساساني، في الكثير من التشريع الإسلامي (الخراج مثالاً)، كما لم يعُد ممكناً تجاهُل أثر الجدل اللاهوتي المسيحي في بعض قضايا علم الكلام. وتتسع دائرة التأثير كلّما اتجهنا صوب العلوم العقلية العربية الإسلامية (الفلسفة، والمنطق، والهندسة، والحساب، والفلك، وعلوم الطبيعية… إلخ)، حيث تتبيّن بوضوح بصْمات المصادر الإغريقية والهندية فيها. على أن هذا النوع من التأثيرات كان محموداً في تاريخ الثقافة والحضارة، لأنه أطلق دينامية التقدّم والتراكم فيها، وفَتَحَ الجماعة الإسلامية على عصرها والتاريخ، وهو ـ بهذا المعنى ـ يختلف عن ذلك الذي ليس من ثمراته سوى تغذية التمذهب والمذهبية في الإسلام، والتأسيس للفرقة والانغلاق في جسم الاجتماع العربي الإسلامي.

– 4 –

أدخلت حركةُ الفتوحات العواملَ الخارجية في نسيج الداخل الإسلامي حين حوّلتْ إمبراطوريات وأمماً مجاورة إلى جزءٍ من نسيج الكيان الإسلامي، يخضع لسلطانه السياسي، وإنْ لم يَدِنْ ـ كلُّه ـ بدينه. على أن هذا الداخلَ الجديد لم يكن ـ دائماً ـ داخلاً إلا بمعنىً محدودٍ جدّاً؛ بمعنىً سياسيّ، على وجه التحديد. أما في ما دون ذلك؛ في كيانيته الثقافية والدينية ـ خاصة ـ فقد ظلّ خارجاً إلى حدّ بعيد، مرتبطاً بأوهى الروابط بالداخل الإسلامي. ولا تتعلق الملاحظةُ، هنا، بمن ظلوا على عقائدهم، في الدولة الإسلامية، مستفيدين من حال التسامح مع المخالفين في الدين، فلقد كان من هؤلاء مَن تمسَّك بدينه، لكنه، في الوقتِ عينِه، اندمج في المجتمع العربي الإسلامي الجديد اندماجاً شبهَ كامل (كما في حال المسيحيين العرب)…، وإنما هي تتعلق حتى بمَن اعتنقوا الإسلام من دون أن ينفصلوا، تماماً، عن خلفياتهم الدينية والثقافية السابقة. ولقد كان أكثر هؤلاء من العالم الإيراني القديم.

بدأ العامل «الخارجي» عاملاً ثقافياً ـ دينيّاً مندغماً في داخلٍ إسلامي خاضعٍ له خضوعاً سياسيّاً. لم تكن أحلام الاستقلال السياسي لتبارح بعض قوى ذلك «الخارج»، خاصة بعد تراجُع نفوذه في الدولة (عقب «نكبة البرامكة» مثلاً)؛ فلقد استعاد الشعور بالمظلومية الذي تَفَشَّى في بيئاته الاجتماعية قبلاً، إبان سيطرة الدولة الأموية، وإقامة نظام حكمها على العصبية العربية (القَبَلية القرشية أساساً)، وعلى استبعاد الأعاجم، وأعاد إنتاجه على النحو نفسه من موالاة فئةٍ معارِضة بعينها، ومستبعَدة مثلها من السلطة، هي شيعة آل البيت. لذلك، ما كان مستغرباً أن تتكاثر الدعوات إلى الأئمة الأوصياء، في هذا المجال الفارسي من الدولة الإسلامية، وأن تقوم فيها حركات عسكرية ثائرة باسم إمامٍ من أئمة آل البيت، وأن يُدْعى الجمهور إلى الثورة ضد النظام الجائر باسمه… إلخ. وحين دخلت جماعات من العالم التركي قلب الإمبراطورية الإسلامية، مستغلة حال الوهن في الخلافة العباسية، مقيمةً سلطتها (السلاجقة، ثم العثمانيون)، كانت تنتشر في الآفاق باسم مذهبٍ بعينه («أهل السنّة والجماعة») يرادف انتشار غيرها (البويهيين، الفاطميين) باسم المذهب الشيعي. هكذا أحدث دخول العامل الخارجي، في قلب أحداث التاريخ الإسلامي، استقطاباً مذهبيّاً لم يكن يعبّر عن نفسه، بالحدّة عينها، حين كانت أمور الدولة والاجتماع السياسي بيد العرب، وإن كانت بذوره قد بُذِرت في عهدهم منذ الفتنة، أو الصراع على السلطة بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان.

لا يعني هذا، بأية حال، أن التمذهب في تاريخ الإسلام بدأ مع الأعاجم (الفرس، والترك، والديلم… إلخ)، فلقد كان عربيّاً صرفاً في ابتداء أمره، مع أوّل انقسامٍ حادّ في جسم الجماعة الإسلامية، فكان رموز الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والعثمانية، والأموية، وأهل السنّة والجماعة، عرباً، وهم من وضعوا لمذاهبهم الأسس، وصاغوا مقالاتها الأولى التدشينية، غير أن الغلوّ المذهبي، وحمْلَه على المشروع السياسي أو على السلطات والدول، إنما اقترن، تاريخيّاً، بدخول الأعاجم إلى مسرح الأحداث، ومصير الدول ونظم الحكم إليهم. ولقد نشأت، في امتداد ذلك، ظواهر مثيرة من قبيل تغيير الدولة مذهبها الرسمي تمييزاً لها من مذهب دولةٍ أخرى تتهددها من الخارج؛ وذلك ما ينطبق، مثلاً، على إيران في عهدها الصفوي حين فرضت مذهب الشيعة الإمامية، في مجتمع غالبيتُه سنّة، كي تتمايز من مذهب الدولة العثمانية (السنّي). لقد ظل العامل الخارجي عاملاً حاسماً، طيلة العهد الإسلامي الوسيط، في تغذية التمذهب وتسخيره في السياسة وصراعاتها وحروبها. ولم تكن الدولة قد فقدت في الإسلام طابَعَها الديني (الإسلامي) الجامع، بزوال الخلافة، حتى كانت تكتسب طابعاً مذهبيّاً في هذا المِصْرِ أو ذاك، وتنقسم دويلات على حدود الانقسامات المذهبية!

على أن الأثر السلبي للعامل الخارجي في تغذية المذهبية، واستنفار عصبياتها، وتشجيعها على القيامة مجدَّداً، وعلى التمأسُس، إنما بلغ ذراه في حقبة الاجتياح الكولونيالي للبلاد العربية: منذ القرن التاسع عشر والى حين قيام «الدولة الوطنية» الحديثة بين العشرينيات والخمسينيات من القرن العشرين الماضي. نعرف الكثير من وقائع السياسة الكولونيالية الفرنسية في جبل لبنان، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على هذا الصعيد، وما جرّتْه من مداخلات بريطانية وروسية خطيرة في شؤون جماعات أهلية أخرى في ذلك البلد. وهي سياسة تكرّرت، بصور أشدّ قتامة، بعد «اتفاق سايكس ـ بيكو» لاقتسام المشرق العربي، حيث بلغت الهندسة التقسيمية على القواعد الطائفية ـ المذهبية ذروتها في سورية، وبعد قيام «لبنان الكبير»، وفي فلسطين بعد «وعد بلفور»، ثم في العراق، وكان التطبيق الأشدُّ قسوةً لها في لبنان حيث كرّس «ميثاق» العام 1943 اقتساماً للسلطة بين الطوائف، سرعان ما ولَّد بدوره إعادة توزيع لحصصها على المذاهب داخل الطائفة الواحدة.

ولقد استمرت السياسة الكولونيالية الجديدة في تغذية المذهبية والتمذهب في المجتمعات العربية، بعد استقلال دولها السياسي، وسخَّرت نتائج ذلك لمصلحة استراتيجياتها الكبرى في منطقة «الشرق الأوسط». ولفترة طويلة، كان حصان رهان السياسة الكولونيالية في البلاد العربية (هو) الطوائف المسيحية بحجة حماية وجودها وحقوقها من الأكثرية المسلمة. وكان أن هُنْدِست حروب تفجيرٍ عدّة للمجتمعات العربية، ونسيجها الوطني، من هذا المدخل التقسيمي، بعد إنضاج نفسيّ وسياسي مديد لعوامل التفجير الداخلية (= اللعب على وتر المخاوف والمشاعر الأقلّاوية، تحريك «الأصوليات» الإسلامية ودفعها إلى الصدام مع الجماعات الأهلية المسيحية، كما في لبنان ومصر والسودان). ولم تكن النتيجة أن حروباً أهلية اندلعت، وأخرى تهيأت لها الشروط في الكمون فحسب، بل كانت ـ أيضاً ـ أن الاعتصاب الطائفي والمذهبي تعاظم في البيئات الإسلامية الأكثرية التي بدأت تتصرف بمنطقٍ وسلوكٍ أقلَّاويَيْن.

غير أن الطور المتأخر، الراهن، من هذه السياسة الكولونيالية المتجددة، المتلاعبة بمصائرنا، هو الذي نشهده اليوم، ومنذ مطلع القرن الجديد، في شكل تغذيةٍ مكثفة لآفة المذهبية، وتسعيرٍ لها على أوسع نطاق عربي. فمنذ غزو العراق واحتلاله، ومنذ اغتيال رفيق الحريري، تركَّبَت معادلات تقسيمية جديدة طرفاها، هذه المرة، السنّة والشيعة، وليس المسلمين والمسيحيين، كما كان قبْلاً. انتقل الاستقطاب المذهبي إلى داخل الإسلام، وقد ينتقل ـ غداً ـ إلى داخل السنّة أو داخل الشيعة. وكما أخطأ المسيحيون العرب والمسلمون العرب عدوَّهم الواحد المشترك (= الصهيونية)، فرأى كل فريق في الآخر عدوّاً، يخطئ السنّة والشيعة العدوّ نفسه حين يتبادلان العداء، ويقتتلان على «نفوذ» وهمي! هل كان يمكن وقوع هذا الانحراف القاتل في السياسة والاجتماع لولا مداخلات العامل الخارجي؟

ـ5 ـ

التمذهب، «فكريّاً»، فعلٌ معرفي ينجم من التعدّد والاختلاف في تلقّي أو استقبال النصّ الديني، وقراءته وخَلْع المعنى عليه. ليس يمكن إدراك هذه الحقيقة إلا من طريق إعادة النظر في المعنى الكلاسيكي، والمألوف، لمفهوميْ النصّ والتلقي، بوصفه معنىً قاصراً ومحدوداً وغيرَ مناسب لفهم البنية المعقّدة للقراءة بوصفها بنية غيرَ أوحديةِ العلاقة، أعني بوصفها بنية يُرَكّبها طرفان معاً (= النص/المتلقي)، ويتألف المعنى من تركيبها، مثلما تُعَلّمنا المناهج الحديثة في تحليل الخطاب (اللسانيات، السيميائيات، الهيرمينوطيقا… إلخ).

لا حجّيةَ للقول المأثور إن النصّ دالٌّ بنفسه، أو ناطق بذاته؛ أكان نصّاً أدبيّاً أو فكريّاً أو دينيّاً. تتفاوت النصوص في درجة وضوحها للمتلقي، لكن «وضوحـها» ـ على تفاوته بين نصّ وآخر ـ ليس معطىً موضوعيّاً قابلاً للاستقبال بما هو «بديهي» عند الجميع. الذين يقولون بانطواء النصّ على معناه «الواضح»، أي الذي يجعل معناه «واحداً» عند الجميع، يتجاهلون حقيقة التعدُّد والاختلاف في فهمه؛ ما الذي يبرّر ذينك التعدُّد والاختلاف، إذن، إذا كان النصّ ـ مثلما يعتقدون ـ واضحاً بذاته، وواحداً؟!

مشكلة فكرة انطواء النصّ على معناه، ووضوح ذلك المعنى، أنها لا ترى من العلاقة المعرفية إلا طرفاً منها هو النصّ/الخطاب/المُرْسِل، بينما تتجاهل الطرف الثاني في تلك العلاقة: المستقبِل أو المتلقي. وهي، في أفضل أحوال استحضارها لهذا المتلقي، تَحْسبه سلبيّاً لا يجاوِز فعْلُه المعرفي حدّ استقبال المعطى «الواضح» المرسَلَ إليه. والحال إنّ التلقي ـ كما يعلّمنا التحليل الهيرمينوطيقي[5] (= التأويليات الحديثة) ـ جزءٌ لا يتجزأ من عملية بناء معنى النصّ ومضمونه؛ فالمعنى شراكةٌ بين النصّ والمتلقي، لذلك لا يعني النصّ ـ أيُّ نصٍّ ـ المعنى عينَه لدى الجميع، وإنما يُخْتَلف فيه باختلاف المتلقين: باختلاف فهومهم واستعداداتهم المعرفية، ومنطلقاتهم، وتحزُّباتهم، وأغراضهم، وظروف التلقي المكانية والزمانية… إلخ، فهذه جميعُها تدخل في تحديد التلقي، وفي تكييف طريقة استقبال النص والتفاعل مع معطياته.

مثلما يختلف القراء والنقاد في استقبال النصّ الأدبي أو الفكري، فيتوزّعون على مدارس واتجاهات في النقد الأدبي أو في الفكر، يختلف قراء النصّ الديني، في الأديان كافة، في استقبال ذلك النصّ وأحكامه وتعاليمه، فيتوزّعون ـ بذلك المقتضى ـ على مذاهب وتيارات في اللاهوت (= الكلام)، والشريعة، والتفسير. الانقسام المذهبي، بهذا المعنى، وفي هذا الوجه المعرفي منه، تعبير عن انقسامٍ في الفهم، وعن تعدُّدٍ أو تنوُّعٍ في المقاربة والقراءة. والانقسام هذا طبيعي أو موضوعي لذلك السبب بالذات، حيث يستحيل على المُتَلقِّين أن يكونوا واحداً، وحيث يستحيل على النصّ أن يكون ناطقاً بذاته وواضحاً في الأذهان كافة أتمَّ الوضوح. لِنَقُل إنّه تعدُّدٌ مشروع شأن التعدُّد في الفكر عموماً، وشأن التعدد في السياسة، وهو أدعى إلى التسليم به كحقيقةٍ موضوعية من التسليم بأزعومة المذهب الواحد الأحد: الأورثوذكسي القويم الذي «يمثل» روح الدين؛ وهو ما يزعمُه كلُّ مذهب من المذاهب الدينية (= في الأديان كافة) لنفسه مُخَطِّئاً غيره، ومُبْطِلاً إياه، بل يجعله في جملة المنحرف والضال والزائغ عن محجَّة الحق الواحدة!

لم يفعل علماء الكلام المسلمون: معتزِلةً وأشاعرةً وماتُريدية (والأوّلون منهم خاصة)، سوى ما فعله مَن سبقهم، وجَايَلهم، وتَلاهُم، من علماء اللاهوت اليهود والمسيحيين من ملاحظة الحاجة إلى تأويل النصّ الديني: في تعليمه العقدي وأحكامه التشريعية. والملاحظةُ هذه تَرُدُّ إلى واقع أن النصّ ليس ـ دائماً ـ صريحَ الدلالة (أو قَطعيَّها، كما يقول بعض علماء أصول الفقه)، وأنه لا سبيل إلى فهمه واشتقاق معناه إلا من طريق تأويله، وخاصة حينما يكون المجاز عنصراً تكوينيّاً في بنية النصّ ولغته، كما في اليهودية والمسيحية والإسلام. إن فهم النصّ الديني يتوقف على العقل، أي على تدخُّل فاعلٍ من خارج النصّ هو المتلقي/القارئ، فالنصّ (= القرآن مثلاً) ـ في قولةٍ للإمام عليّ بن أبي طالب ـ يوجد بين دفتيْ كتاب لا يَنْطق ، وإنما الرجالُ مَن يُنطقونه. وهي عبارةٌ شديدةُ البيان على أن المعنى الديني ليس معطىً جاهزاً، وأن ما ينطوي عليه النصّ الديني يحتمل أكثر من معنى (ومن هنا يُفهم قولٌ آخر للإمام علي بأن «القرآن حَمَّالُ أوْجُه»)، وبالتالي فالقارئون في النصّ هُمْ مَن يخلعون عليه هذا المعنى أو ذاك، ويختلفون في فهمه تَبَعاً لاختلاف شروط إدراكهم.

ولقد يَظُنُّ ظانٌّ أن التأويل خسِر معركتَه في الإسلام بانتصار فكر السلف النصّيّ على الاعتزال. والحقّ أن العقلانية هي التي خسرتِ المعركة، أما التأويل فاستمرَّ لصيقاً حتى بالنزعة النصّية الضيقة في صيغتها الحنبلية، وليس عند الأشاعرة فقط الذين بقيَ فيهم شيء من الاعتزال، على كل حال، ذلك أن فَرْض سلطة النصّ على حساب العقل إنما هو ـ بدوره ـ تأويل؛ أي تدخُّلٌ في النصّ من خارجٍ، ولكن على مقتضىً َيحيد عن قواعد العقل.

انقسامُ الدين الواحد إلى مذاهب هو، إذاً، كانقسام الفكر إلى تيارات ومدارس نتيجةٌ حتمية للاختلاف في فهم (= تلقي) النصّ الديني، لكنه ليس معزولاً كانقسامٍ معرفي عن الانقسام الاجتماعي والسياسي والصراعات على السلطة والنفوذ، والتأثر بالمؤثرات الاجتماعية والخارجية، وغير ذلك، لأن هذه جميعها تشكِّل بيئة التلقي والاستقبال التي تدخل في تكوين الفهم وتكييفه. ويمكن القول إنه يبدو، من هذه الزاوية، انقساماً مشروعاً أو مفهوماً، وإن المشكلة بالتالي ليست فيه بقدر ما هي في ادّعاء نقيضه: وحدة الفهم والإدراك. غير أنه يتحوّل إلى انقسام ضارّ وغير مشروع، حين يجنح مذهبٌ (المذاهبُ جميعُها) إلى الانغلاق الذاتي، والتشبُّع بالفكرة المزعومة عن حيازة الحقيقة المطلقة، وتكفير المخالفين، وإخراجهم من الملّة، أو حتى تبديعهِم وعدّهم في جملة الضالين والمنحرفين. هذا التمذهب المغلَق خطيرٌ في الوعي وفي النتائج الاجتماعية والسياسية، لأنه يتخلى عن كونه اجتهاداً في فهم الدين، ويجنح للُعْبَة الاستيلاء على المعنى قصد احتكار الدين! وهذا ما يفتح الباب أمام المَأسسة السياسية والاجتماعية للمذهبية، فيحوّلها إلى عصبيات متباغضة مُقْفَلَة على بعضها البعض، وتقوم العلاقة بينها على التخاوُف أو على الاقتتال والإفناء المتبادَل!

ـ6 ـ

يمكن تعريف التمذهب بأنه انغلاق فكريّ ونفسيّ داخل أسوار فكرةٍ تصير مع الزمن، فكرةً عَقَدية راسخةً في الوعي، وعصيةً على التبديل. والانغلاق هذا إنما يتولَّد، حكماً، من طريقةٍ ما في التأويل (= تأويل النصّ الديني) يتماهى، عندها، فهمُها مع النصّ المؤوّل تماهياً يصيران فيه معاً كياناً واحداً. وليس التأويل هذا مجرّد اجتهادٍ فكريٍّ مجرّدٍ يتمايز من اجتهادات أخرى مزامنة أو سابقة في الزمن، وإنما هو يقترن، في الغالب، بشروط موضوعية يقع فيها (= التأويل)، أو تكون حاملةً عليه، ولسنا نعني بها، حصراً، الشروط الزمانية والمكانية، وإنما أيضاً ـ وربما أساساً ـ شروط الجماعة الاجتماعية التي يَصْدر منها ذاك النوع من الفهم للنصّ الديني، ويتغذّى هو من متخيّلها الجماعي. والشروط هذه اجتماعية وسياسية، في المقام الأوّل، وتتخذ شكل تعبير دينيّ.

وكما يتولّد التمذهب، بهذا المعنى، من شروط سياسية ـ اجتماعية تأسيسية سابقة، وينشأ تعبيراً عنها، يخْلُق ـ في الوقت عينه ـ حقائق اجتماعية وسياسية جديدة تصير جزءاً منها. والغالب على المذهبيات في تواريخها كافة أن تنتقل من مجرّد إيمانيات أو يقينيات عَقَدية إلى مؤسسات اجتماعية وسياسية لجماعات متمايزة ومنغلقٍ بعضُها على بعض. ولا يحْدُث ذلك عرضاً، أو بمحض الصدفة، وإنما يأتي ـ في الغالب ـ مَسَاقاً حتميّاً لكلّ تمذهب. غير أن الأهمّ من بيان حتمية مساره، التنبيه إلى الوظيفة التي ينهض بها التمأسُس بالنسبة إلى كل مذهب؛ إنها وظيفة إعادة إنتاجه كمذهب، من طريق الاستمرار في تصنيع اللحمة الداخلية ـ الفكرية والنفسية والروابطية ـ التي تشدّ المنتسبين إليه بعضهم إلى بعض، وتُكرِّس الشعور لديهم بالانتماء المشترك إلى فكرةٍ/بنية؛ وهي وظيفة تؤديها طقوس خاصة في التديُّن، والأحوال الشخصية، والمَنَاكح، والمآتم، والعلاقات العامة، والقيم المتبادلة والمتعارَف عليها داخل الجماعة المذهبية.

وليس من شك في أن شرطاً تحتيّاً لإنتاج التمذهب لا بدّ من توفّره قبل أيّ ميْلٍ إلى التمأسُس؛ وهو يتمثل في عملية التأصيل الفقهي والكلامي للمذهب، العملية التي ينهض بها جسمٌ عُلَمائي (= فقهي)، ويَستنزِل المذهبُ معطياتها لتصبح ثقافتَه الجمْعية الجامعة، ويضع لإشاعتها الأطرَ والأقنية المؤسّسية من مدارسَ ودورِ تعليمٍ وجامعات (في مراحل لاحقة). إنّ مذهباً ما لا يمكن أن يتكوّن ويبقى مستمراً إلا متى أمكن تجهيز وعي الجماعة المكوِّنة له بأصول عقيدتها، وتنشئة أجيالها المتعاقبة على مقتضى تلك الأصول. وهذه الوظيفة التأسيسية، التي ينهض بها الجسم العالِم في كلّ جماعة، هي عينُها التي قادت إلى مأسسة عمل أولئك العلماء ـ حَمَلَة العلم الديني المذهبي ـ أي إلى تكوين المؤسسة الإكليريكية المرجعية والمأذونة في كل العصور الوسطى المسيحية والإسلامية، وهي التي أحكمت ـ دائماً ـ روابط الوشيجة العضوية بين المؤسّسة السياسية والمؤسّسة الفقهية.

استمرت العلاقة بين المؤسستين حتى في العصر الحديث، في الحالتين العربية والإسلامية، لأن الوظيفة (العلمية) ـ المذهبية عينَها ظلت مطلوبة حتى في نطاق الدولة (الوطنية الحديثة) عقب الحقبة الكولونيالية؛ فلقد استمر الجسم العُلَمائي الرسمي ينهض بدور إشاعة أصول المذهب ـ في العقيدة والفقه ـ من خلال مؤسساته الرسمية (الأزهر، الزيتونة، القرويين، النجف، قُم، المجالس العلمية التابعة للدولة، مؤسسات الإفتاء الرسمية… إلخ)، كما من خلال خطب الجمعة، وبرامج التعليم الديني في المدارس، التي توضَع بعد موافقة (السلطات الدينية) المأذونة، والبرامج الدينية في وسائل الإعلام السمعية والبصرية، ناهيك بالتأليف الفقهي للكتب والرسائل من طرف مَن يُحسبون مراجع للمذهب من علماء مرتبطين بالدولة، ارتباطاً وظيفياً، أو مستقلين عنها.

غير أنّ جديداً جدَّ على مشهد المذهبية والتمذهب، في البلاد العربية والإسلامية المعاصرة، منذ ما يزيد على ثمانية عقود، مع ميلاد «الإحيائية الإسلامية» ومؤسسات «الإسلام الحزبي»؛ فلقد باتت هذه الأخيرة تنافس المؤسسات العُلَمائية في وظيفة تمثيل المذهب، والتعبير عنه، ونشر أصوله وأفكاره، وتجهيز وعي الناس بها. ولكن فيما كانت المؤسّسة العلمائية تقوم بذلك باسم الدولة، بات «الإسلام الحزبي» يقوم بذلك باسم المجتمع والأمة، من دون أن يلاحظ أن الدولة ـ وإنْ كانت من مذهبٍ وعلى مذهبٍ بعينه ـ تأخذ غيرَ مذهبها في الحسبان، أما مذهبية «الإسلام الحزبي» فتختزل الدين فيها مصادِرةً إياه من الجميع!

III

يَسَعُ الباحث في ظاهرة المذهبية في الإسلام أن يرى فيها تعبيراً صريحاً عن حالٍ من النقص الحادّ في الاندماج الديني؛ فهي تبدو ـ للوهلة الأولى ـ في شكل فسيفساء عَقَدية متنافرة، أو غير متجانسة، كما لو أن شيئاً لا يجمع بينها مع ادعاء كلّ مذهب منها أنه الدين الصحيح. وإذا كانت المذهبية ـ بما هي ثمرة مسلسلٍ من الانشقاقات في الإسلام ـ قابلةً لأن تُقْرأ بوصفها اجتهادات كلامية وفقهية، في نظر من يلتمس لها وجْهَ شرعيةٍ ممّا بينها من مشتَركات وجوامع، فهي قابلة ـ بالقدرِ عينِه من المشروعية ـ لأن تُقرأ بوصفها معازلَ وأقفاصاً تقوم بينها علاقاتُ تَنَافٍ وتَلاَغٍ وإنكار متبادل، وكأن لا شيء يجمع بينها في كيانٍ مشترك. وفي الحاليْن تكون المذهبية تمثيلاً لظاهرة انعدام الاندماج الديني في الإسلام، وفي غيره من الأديان التوحيدية التي عانت ظاهرة المذهبية.

القائلون إن المذاهب اجتهادات، لا يتبدَّدُ معها المشتَرَكُ العَقَدي الجامع، لا يُحسنون الظن ويخترعون وحدةً قيصرية من أرخبيل من المقالات المتنافرة، وإنما هم يتوسلون في ذلك مَقُولَ القدماء أنفسهم (= بعضهم على الأقلّ) ممَّن جادلوا الخصوم في الكلام والفقه من دون جنوحٍ للتفكير أو حتى للتبديع، وعَدُّوا مقالات هؤلاء الخصوم في جملة مقالات أهل الإسلام[6]. فما قرره القدماء أنفسهم هو عينه ما يقرّرهُ القدماء أنفسُهم، وهو عينُه ما يقرِّره قارئوهم اليوم حين يستحسنون اختلافاتهم ولا يحسبونها خلافات، وإنما اجتهادات أدَّاهم إليها تفكيرهُم. والقائلون إن المذاهب سجون مغلقة ومعازل فاصلة، لا يسيئون الظن أو يتربصون بوحدة الإسلام والمسلمين، وإنما يعثرون في مَقُول قدماءَ آخرين على قرائن عدّة على انعدام الجامع بينهم وبين خصومهم في الرأي. وأوّل ما يعثرون عليه من القرائن تلك، اندفاعُهم إلى تكفير غيرهم وإخراجه من الملّة. هكذا يردّد المعارضون من القراء ـ مسلمين ومستشرقين ـ ما قاله القدماء، مقيمين الحجَّةَ عليهم من أنفسهم.

والحقّ أنه لا هؤلاء، ولا أولئك، أتوا كلاماً باطلاً في المسألة، أو جانبوا الصواب في ما ذهبوا إليه؛ ذلك أن تاريخ المذاهب والمقالات يزدحم بوقائع الجدل النزيه والتكفير معاً، وليس يَعْسُر على المرء أن يجدها متجاورة: متزامنة أو متعاقبة. على أن مقاربتها بعقلٍ انتقائي ـ يركز على هذه أو تلك بمعزل عن الأخرى ـ لا يجوز علميّاً، ناهيك بأن تبعاته كبيرة على اجتماع المسلمين: التسويغ للمذهبية بوسمها اجتهاداً، أو النظر إليها بوصفها خروجاً على الدين أو منه. إن قراءتها في كلّيتها؛ في تناقضاتها التي لا تحصى، شرط لاستيعابها الاستيعاب الصحيح. ولسنا نعتقد، في الأحوال جميعاً، أنّ مقولة: المذهبية تعبير عن نقصٍ في الاندماج الديني، تكفي لبناء رؤية صحيحة إلى المسألة، لأنها تفترض ـ نظرياً ـ أن ثمة مثالاً مرجعياً للاندماج الديني تحيد عنه المذهبيات في الإسلام، وفي غير الإسلام ؛ وهو ما ليس صحيحاً من وجهة نظر تاريخ الأديان.

من المسلَّم به أن الأديان التوحيدية الثلاثة لم تقُم على عقيدة التوحيد (= توحيد الله) فحسب، وإنما خاطبت أتباعها برسالةٍ رامت توحيدهم: توحيد فهمهم للتعليم الديني، وتوحيد جماعتهم الدينية، ونبذ الاختلاف والفُرقة والشقاق. ذلك ما يَتَبَيَّنُه، بيُسرٍ، قارئ العهديْن القديم والجديد والقرآن. ومع ذلك، فإن تاريخ تلك الأديان جرى مجرىً آخر لم تكن لإرادة التوحيد فيه كلمة، إذِ انقسم أتباع الدين الواحد إلى فرق وشيع يُخَطِّئ بعضُها بعضاً، وتتصارع على ملكية النصّ وتمثيله واحتكار معناه، بل كثيراً ما بلغت منازعاتُها على احتكار المعنى حدود التكفير… والتقاتُل والحروب الدينية. وكثيراً ما كانت هذه أشدّ وطأةً داخل الدين نفسِه.

هل يمكن قراءة هذه الفجوة ـ بل هذه الجفوة ـ بين تعاليم الدين التوحيدية وتجربة التاريخ الانقسامية، بوصفها ترجمةً لانحرافٍ ما أصاب تجربة التديُّن في هذه الديانة أو تلك؟

ذلك ما تذهب إليه كل السلفيات والأورثوذكسيات في الأديان التوحيدية، حين تدعو إلى العودة إلى «الأصول»، إلى «الدين الصحيح» في بواكيره التي لم يخالطها شَوْبٌ من بدع، وحيث لم تكن وحدةُ المعتقدين موضع جدل، ولا شَجَرَ بينهم خلاف أذْهبَ ريحهم. إن تاريخ الدين يبدو، في قراءة أهل هذه المقالة، تاريخ انحراف عن جادة «الدين القويم»، الذي هو النصّ والتعاليم. ولا علاج لهذا الانحراف إلا بالإصلاح، ولا إصلاح إلا بالعودة إلى النصّ. ولكن التاريخ يعلّمنا، أيضاً، أن دعْوات الإصلاح في اليهودية والمسيحية والإسلام انتهت، هي الأخرى، إلى تأسيس مذهبية جديدة، أي إلى إعادة إنتاج الانشقاق داخل الدين الواحد. ولنا في البروتستانتية المثال البيّن على ذلك.

إن الخطأ الذي وقعت ـ وتقع ـ فيه تلك السلفيات والأورثوذكسيات، وكلُّ دعوةٍ تنهل من مقالاتها، هو إقامتها الفاصل غير المشروع بين النصّ (= الديني) والتاريخ، بين النصّ والبشر (المؤمنين به)، حيث لا سبيل إلى الفصل والعزل؛ فالدين، أيُّ دين، ليس نصّاً وتعليماً فحسب، وإنما هو معتنقون يحملونه ويحوّلونه إلى ظاهرة إيمانية، فردية وجماعية، وإلى طريقة حياة ونظام قيم. ومن دون هؤلاء، فالدين محض نصٍّ صامت بين دفتين يحتاج إلى مَن يُنْطِقه. وإذا كان الرجال (= الناس) مَن يُنْطِقونه ـ على قول الإمام عليّ ـ ويضخّون الحياة فيه، فهم إنما يتأوّلونه في اتصالهم به، والدين هو حصيلة ذلك التأويل الذي لا يكون فيه النصّ إلا عنصراً من عناصر أخرى تتدخل في تشكيل ما أسميه شبكة التأويل. وهكذا، فالدين ليس نصّاً فحسب، وإنما ينبغي النظر إليه: هو كُلٌّ يتشكل من النصّ والجماعة والتأويل.

إذا أدركنا الدين بهذا المعنى الكلّيّ، الذي يتداخل فيه النصّ مع الجماعات الحاملة له، المجسِّدة إياه في أشكال من الإيمان والسلوك مختلفة، مع التأويل بما هو تمثُّل للتعاليم في شروط متباينة ومتنوعة، أدركنا أنه ليس ظاهرة ميتا ـ تاريخية، وإنما هو خاضع للتاريخ، متكيف مع معطياته. نعم، إذا أخذنا النصّ الديني بمعزل عن الناس، أمكننا أن نقول إنه خطاب المطلق الإيماني. لكن الخطاب هذا ـ على مطلقيته ـ يتوجَّه إلى بشر، إلى عالم النسبيّ، يتلقونه ويتمثلونه في شروط مكانية وزمانية ومعرفية وثقافية متباينة ومتغيّرة، وتمثُّلاتهم له، لا تنفصل ـ لذلك السبب ـ عن الشروط تلك، ولا تتفلت من تأثيراتها. وهكذا إذا أمكن القول إن النصّ مطلق، فإن الذي لا مِرْيَةَ فيه أن الفهم/التلقي نسبي، لأنه يقع داخل التاريخ لا خارجه. هذه النتيجة، التي يؤدينا إليها التحليل، تلقي الضوء على موقع المذهبية من الدين، وعلى إمكان أو عدم إمكان تجاوزها، أو التحرر منها، قصد العودة إلى «صحيح الدين»، قبل طروق الشوائب والأخلاط والانشقاقات عليه. وهنا نقول، متوسلين وقائع التاريخ، إن التمذهُب جزءٌ من تاريخ التديُّن، والمذهبية لحظة طبيعية في تاريخ الأديان، ولم يحصل أن أمكنَ ديناً أن يوجَد مجرداً من المذاهب، ولا أن يحصُل تديُّنٌ بمعزلٍ عن شكلٍ ما من أشكال التمذهب. وهذه الحقيقة إنما ترتّب القول إنّ افتراض إمكان إلغاء المذهبية من الدين أزعومةٌ ترقى إلى مستوى الادعاء بإمكان إعادة تأسيس الدين على مقتضىً مجرَّد من التاريخ.

إذا أمكن إلغاء الأورثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية من المسيحية ـ وهو غير ممكن ـ يمكن حينها إلغاء المذاهب في الإسلام، أو تذويب السنّة والشيعة الإمامية والإسماعيلية والزيدية والإباضية… في كيانٍ عَقَدي (= كلامي) وفقهي واحد؛ ودون هذا الهدف الطوباوي خرط القتاد! والتوحيد هذا ممتنع من وجهيْن: من حيث يتعَسَّر على مذهبٍ ما ـ بل يستحيل عليه ـ جذْبَ غيره من المذاهب، جذباً معرفيّاً، إلى موضوعاته العَقَدية والفقهية وتذويبها فيه، لأن كلَّ مذهب يدّعي لنفسه التمثيل الصحيح للدين؛ ثم من حيث إن إلغاء مذهبٍ لمذهبٍ بالقوة مَسْلَك محفوفٌ بالمخاطر اليوم، وهو جُرِّب في الماضي ولم يقدِّم ـ على فظاعات ما أنتج ـ كبيرَ نتائج.

لا مناص من الاعتراف، إذاً، باقتران الدين بالتمذهب اقتراناً تاريخيّاً، حتى وإن كان فينا من يرى في المذهبية نقيضاً للدين؛ وهو موقف صحيح من حيث المبدأ وإن لم يَقُم عليه دليلٌ من التاريخ، ما خلا حقبة ابتدائية في الإسلام، قصيرة المُدّة، بحيث لا تتجاوز ثلث قرن من الزمان، منذ ابتداء «دولة المدينة».

هل معنى ذلك أننا نسوِّغ شرعية التمذهب بتشديدنا على وجوب الاعتراف باقترانه التاريخي بالدين؟

ليست هذه قضيتنا؛ ما يهمّنا من الأمر هو فهم الظاهرة تاريخيّاً لا تبريرها. أمّا حلّ وجْه الإعضال فيها، فلا نراه من طريق الدعوة إلى توحيد المذاهب، أو التقريب بينها، أو إلغائها، بل ولا نرى حتى في الدعوة إلى الإصلاح الديني سبيلاً سالكة إلى حلّها (إذ لم يُنْهِ الإصلاحُ الديني في أوروبا المذهبيةَ في المسيحية)، وإنما يُهمّنا من المسألة أمران:

أوّلهما إرساء أسس علاقة جديدة بين المذاهب تقوم على قاعدة الاعتراف المتبادل، بدلاً من الإنكار المتبادل، وعلى قاعدة مبدأ التسامح الذي يُقِر بحقّ كلّ مذهب في تكوين رأيه في شؤون الدين من دون تبديعه أو تكفيره. والرهان هنا يكون على الزمن، وعلى إمكان التطور الذاتي في أفق التفاعل والحوار والتواصل، بحيث يصير في الإمكان كسْرُ المُقْفَلاَت وبناءُ المشتَرَكَات وتغليبُها… إلخ .

وثانيهما إبقاء المذهبية في نطاقاتها العَقَدية والفقهية، وعدم إخراجها إلى الحيّز العام والمجال السياسي، لأن مشكلاتها تبدأ من هنا بالذات، حين ننتقل من الانقسام الديني إلى الانقسام السياسي، وما يجرّه هذا على وحدة الشعب والوطن.

*

وضْعُ المذهبية في الدين والاجتماع الديني غيرُ وضعها في السياسة والمجال السياسي. تختلف النتائج ـ هنا ـ اختلافاً جذريّاً تبعاً للآثار المتولّدة من اشتغالها في الحالتين. لا تبدو المذهبية في الدين نشازاً، إلا لدى من يتخيّلون نموذجاً معياريّاً للدين لم يكن في التاريخ، وإنما تقدِّم نفسَها بوصفها الشكل التاريخي، والمؤسَّسي، والطقوسي، الذي من خلاله ـ وفيه ـ تجسَّد الدين ومورِس التديُّن. ومع أن أكثر ما وسم المذهبية هو الانغلاق؛ ومع أن نصوص الدين تفصح عن مقدارٍ من الانفتاح والمرونة لا نجد لهما تطبيقاً في السلوك الديني المذهبي، إلا أن هذا الانغلاق هو ـ في النهاية ـ الذي فرض نفسه، في تاريخ الأديان، بما هو الثقافة الدينية السائدة لدى السواد المعظم من المؤمنين؛ وذلك لأن التمذهب كان الحاملَ التاريخيَّ للدين، والتجسيد العمليّ له من قِبل الأتباع. على أن المؤمنين كافة لا يكادون أن يستشعروا تجافياً، أو تضارباً، بين انتمائهم إلى مِلّة، وانتمائهم إلى مذهب، حتى إن الاعتقاد الذي ساد، وعبَّر عن نفسه بشكل لا موعىً به، هو أنّ مَن لا مذهب له لا ملّة له!

يختلف الأمر في الاجتماع السياسي كثيراً؛ فالمذهبية، هنا، تصير مانعاً دون الاندماج الاجتماعي والوطني الذي هو شرط لتكوُّن الشعب والأمَّة والوطن والدولة. إنها كيان مغلَق يُنتج ولاءاته الداخلية الخاصة، ويعيد إنتاجها بالتنشئة والتربية والفعل الدعوي، ناهيك بما يوفِّره للأتبَاع من مؤسسات اجتماعية حاضنة تُشعرهم بالاستقلال عن الدولة، خاصةً في فترات الأزمة. المذهبية، بهذا المعنى، نقيضٌ للمواطنة بوصفها العلاقة الأفقية ـ الإدماجية التي يتأسس بها وطنٌ ودولةٌ ومجال سياسي حديث. وهي لذلك تمثِّل انشقاقاً خطيراً عن الكيان الوطني الجمعي، وتمزيقاً للنسيج التوحيدي الذي صنعته فيه دولةٌ ذات سلطة مركزية شاملة. لا غرابة في أن تكون ظواهر الانقسام الاجتماعي والسياسي، في المجتمعات العربية والإسلامية، ذات أسباب وعوامل مذهبية (وطائفية) ترْكَب الانقسامات العصبوية وتسخّرها، وتُطِل من خلالها، أو أن تكون ـ في حالات أخرى ـ ذات أسباب عصبوية (قبلية، عشائرية، مناطقية) تتخذ من المذهبية أيديولوجياها التي تشتغل بها. وفي الحاليْن، يكون للمذهبية أسوأ الأثر في المجال السياسي وفي النسيج الوطني.

لا يصبح التمذهب خطراً على وحدة الشعب والكيان حين يكون مجرد اختلافٍ وتخنْدُقٍ في الدين وراء يقينيات مغلقة؛ قد يكون، حينها، ظاهرة مرذولةً في الدين لدى مَن يتصوّرونه على مثالٍ معياري. لكنه يصبح كذلك، أي خطراً، حين يتدخل في السياسة، أو يتحول إلى «لاعب» في الحياة السياسية. حينها يستجرُّ حضورُهُ أشكالاً مختلفة من العبث بقواعد السياسة والمواطنة، ومن التخريب الحادّ لنسيج العلاقات الاجتماعية الذي يؤلّف وحدة الشعب والدولة. وهذا هو عينُه الفارق الملحوظ بين المذهبية في أوروبا، اليوم، حيث إطارها الدين والخلاف اللاهوتي داخل المسيحية، و(بين) المذهبية في العالميْن العربي والإسلامي، حيث تدخُّلُها المتزايد في شؤون السياسة والسلطة يُنتج ما لا حصر له من المشكلات والفتن!

على أن المذهبية، في حالتنا العربية والإسلامية، تتطور وتنتقل من الدين إلى السياسة بفعل عوامل مختلفة، أظهرُها عوامل ثلاثة:

أوّلها: الاعتقاد السائد لدى المسلمين بأن دينهم لا يفرّق بين الروحيّ والزمنيّ، وأنه يَقْرِن السياسة بالدين، ويقدّم نظاماً متكاملاً للاعتقاد والسلوك (الفردي والجماعي)، يبدأ من الإيمانيات وينتهي بتنظيم أدق تفاصيل الحياة (في السياسة والاجتماع والاقتصاد ونظام القيم). وتزيد نخبُهم الدينية والسياسية الإسلامية تكريساً لهذا الاعتقاد من خلال ما تكتبه، وتُشِيعُه في أدبياتها الحزبية، وخطبها الدينية، ونشاطها الدعوي، لأن ذلك مما يكرّس أدوارها الاجتماعية والسياسية في المجتمع، ومما يمكّنها من رأسمالٍ رمزي (ديني) ذي عائدات مادية عليها. وإذا أخذنا في الحسبان أن هذه النخب ذات خلفيات عقائدية مذهبية، تبيَّنا الأثر الكبير لفكرتها عن التماهي بين الدين والسياسة في وعي الجمهور الذي تخاطبه.

وثانيها أن المذهبية، في تاريخ الإسلام، لم تبْق مجرَّد ظاهرة دينية ـ فكرية تكشف عن تنوُّع في الرأي، واختلافٍ في المشرب والمذهب. وحتى حينما بدأت في تحقيق أشكالٍ من التمأسُس، لم تتمأسس على قوامٍ فكري ـ عقَدي فحسب، وإنما مالت إلى تمأسُس سياسي ـ اجتماعي؛ إمّا كجماعات مغلقة على نفسها، تملك مؤسساتها الاجتماعية الخاصة المستقلة عن مؤسسات الدولة، وإما كمذاهب وجدت لها حاملاً سياسياً أخذها إلى السلطة، فحكمت باسم مذاهبها (البويهيون، السلاجقة، الفاطميون، الموحّدون… إلخ). حتى التصوف لم ينحصر في نطاقه المذهبي الفكري، وإنما مال إلى توليد مؤسساته الاجتماعية ـ السياسية، حيث أمكنَ طرقاً صوفية وزوايا أن تنهض بأدوارٍ ضارعت أدوار الدول. وها هي المأسسة المذهبية اليوم، بل منذ عقود، تبلغ من الأدوار السياسية مرتبة أدوارِ الدويلات داخل الدولة (كما في لبنان والعراق واليمن… إلخ).

وثالثها أن هشاشة «الدولة الوطنية»، وضَعف تكويناتها ومؤسساتها السياسية «الحديثة» (= الأحزاب والمنظمات السياسية)، وضآلة المجال السياسي، أو انعدامه، فيها… تفتح جميعُها الباب أمام تسرُّب الفيروس المذهبي إلى السياسة والمجال السياسي، والفتك به. إن تلك الهشاشة هي البيئة المناسبة لانتعاش ونموّ الظاهرة المذهبية كظاهرة سياسية، واقتحامها الحياة العامة كفاعل كبير.

ما العمل لوقف هذا التدهور المروّع للدولة والاجتماع المدني الذي تأخذنا إليه المذهبية؟

إنه إعادة بناء المجال السياسي بعد تحريره من تدخُّل العوامل غير السياسية فيه. إذا كانت الدعوة إلى بناء التمايز الضروري بين المجال الديني، كمجال للمؤمنين، والمجال السياسي، كمجال للمواطنين، دعوة تجد شرعيتها من معاينة مخاطر المماهاة بينهما، ومخاطر استغلال رأس المال الديني في العمل السياسي[7]، وتحويل الدين من عقيدةٍ للأمّة جمعاء إلى أيديولوجيا سياسية في يد فريقٍ واحدٍ في المجتمع…، فإن المشكلة تتضاعف حين يُطِل استغلال الدين بمفردات مذهبية؛ وهو الغالب على ذلك الاستغلال من قِبل الجماعات الدينية ـ السياسية. ولا مَهْرب، من أجل تحقيق هذه المُمَايَزَة بين المجاليْن، من سنّ التشريعات الضرورية لحماية الدين من الاستغلال السياسي، وحماية السياسة والمجال السياسي من استغلال المذهبية الدينية فيهما.