حملت عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، مجموعة أبعاد ونتائج؛ كان أولها على المستوى الفلسطيني، كونها انتقلت بالمقاومة الفلسطينية، والصراع الفلسطيني- الصهيوني إلى ما يوازي، بصورة معكوسة، الصراع عام 1948/1949؛ عام النكبة. فقد حررّت «غلاف غزة» المحتل عام 1948/1949، وأنزلت هزيمة عسكرية ساحقة بفرقة غزة ومراكزها المختلفة، كما سيطرت على كل المستوطنات فيها. وقد قُتل المئات من فرقة غزة وأُسِر المئات. ونفلت قوات الجيش الذي لا يُقهر نفلًا، وكذلك ميليشيات المستوطنات.

فمن جهة وحّدت هذه العملية مواقف الشعب الفلسطيني بكل فصائله، ونخبه وجماهيره. كما عززت حركات التحرّر العربي، والعالمي، ومحور المقاومة. وقد أشعرت الأمة بالقوّة والعزة والمنعة. وبإمكان تحرير فلسطين من خلال استراتيجية المقاومة، ومشاركة الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم.

وثانيها، من جهة أخرى، أحدثت عملية طوفان الأقصى ونتائجها زلزالًا في الكيان الصهيوني، أفقدَ قيادته السياسية والعسكرية صوابها، وأشعرت الكيان كله بالمهانة والخطر، وهو ما ملأ النفوس بروح الانتقام المجنون، والقيام بحرب إبادة بشرية، معلنة، وبلا حدود، وبتحدٍّ سافر للقانون الإنساني الدولي في الحرب.

وقد صحب استراتيجية الحرب الإبادية للبشر، والتدميرية للعمران والحجر، شنّ حرب بريّة لاحتلال القطاع شبرًا شبرًا، بهدف القضاء على قيادة كتائب عز الدين القسّام، وسرايا القدس، وكل فصائل المقاومة إلى جانب تحرير الأسرى بالقوّة، والاقتدار عسكريًا، وإعادة تشكيل الخريطة الجغرافية والسكانية (التهجير بعد الإبادة بالقصف والتجويع والحرمان من الدواء والماء).

على أن النتيجة كانت، ولم تزل، فشلًا عسكريًا، وخسائر فادحة بالضباط والجنود والآليات والدبابات. وسوء سمعة عالمية، فاقم ما حدث من زلزال في الكيان الصهيوني.

أما ثالث ما أحدثته عملية طوفان الأقصى، وما تبعها من ردود بارتكاب جرائم حرب وإبادة، ومن هزائم عسكرية، فكان ما أصاب قادة أمريكا وأوروبا من فزع على الكيان الصهيوني كاد يزيد على فزع قادة الكيان أنفسهم. فقد تمّ تبني استراتيجية حرب الإبادة، والحرب البريّة مع التعهد بتعويض القذائف التي تلقيها الطائرات الأمريكية الصنع من حمم لإبادة المدنيين، ودعمًا للحملة العسكرية البريّة.

هذا ما جعل أمريكا، أولًا، ثم أوروبا، تنخرطان في الحرب ضمن الأهداف نفسها التي عبّر عنها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو, واستعدتا لتقديم كل الدعم المطلوب إليه سياسيًا وإعلاميًا وعسكريًا وماليًا.

وبهذا أدّت المشاركة الأمريكية، خصوصًا، إلى شنّ حرب عالمية ضدّ الشعب والمقاومة في قطاع غزة، دامت 140 يومًا، وما زال حبلها على الجرار. ولكن بفشل عسكري في الحرب البريّة، وبسوء سمعة في حرب الإبادة، هزت الحضارة الغربية هزًا عنيفًا، وأفقدتها كل ادّعاء باحترام القانون الدولي، أو حقوق الإنسان، أو اتفاقات جنيف الرابعة الخاصة بالمدنيين في الحرب، أو ما ادّعته من تنوير وحداثة أمام القتل الجماعي للشيوخ والنساء والأطفال في قطاع غزة.

أما البُعد الرابع، فقد أعاد للقضية الفلسطينية، حقوقها وعدالتها، وسرديتها في نظر الرأي العام العالمي، ولا سيما الأمريكي والأوروبي، كما عبّرت عن ذلك آلاف التظاهرات في مدن العالم. التي دانت الكيان الصهيوني، والسياسات الأمريكية – الغربية في دعم جرائمه. ونادت بالحريّة لفلسطين.

يجب عدم التقليل من أهمية هذا التطوّر الاستراتيجية في الصراع مع الكيان الصهيوني، وأثره المستقبلي حتى في وجوده.

ويمكن أن يُشار في هذا البُعد إلى أن موقف أغلب دول العالم، كما عبّرت عن ذلك قرارات في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، ووصولًا إلى محكمة العدل الدولية، جاء مع وقف الحرب، وضد السياسات الصهيونية – الأمريكية، وهو ما فرض عُزلة عالمية على نتنياهو وبايدن. وهو ما يجب عدم التقليل من أهميته في السياسة، وأثره في الصراع الحالي.

على أن البُعد الذي يهم المستقبل العربي، بصورة خاصة، فضلًا عن أهميته الإسلامية والعالم الثالثية، كون غزة بلدًا عربيًا، وشعبها جزءًا من الأمة العربية، يعني أن حرب الإبادة والعدوان على غزة، تمثل تحديًّا، خاصًا، وموضوعيًا، للأمة العربية دولًا وشعوبًا.

هذا يجعل موقف القمة العربية، ومن بعده القمة العربية والإسلامية، في الرياض، قد جاء إيجابيًا في إدانة العدوان، والمطالبة بوقف إطلاق النار. الأمر الذي أفشل السياسة الأمريكية التي ضغطت ليرتكب الموقف العربي جريمة الوقوف ضدّ المقاومة.

لكن هذا يمثل أضعف الإيمان. ويجعل الموقف العربي الرسمي، بالرغم مما فيه من تفاوت، ضعيفًا جدًا، مقارنة بالتحدي الذي تمثله حرب الإبادة والعدوان على بلد شقيق، وشعب شقيق. وقد رفعا سمعة العرب والمسلمين، إلى أعلى مستوى في المقاومة والبطولة، والتمسك بالمبادئ والكرامة. وأضف تضحياتهما ودفاعهما عن القضية المركزية للأمة العربية. ناهيك بما للجيوش العربية من حساب طويل ومؤلم، مع الجيش الصهيوني.

هذا وراحت المقاومة والشعب في غزة يسجلان نصرًا عربيًا وإسلاميًا وإنسانيًا في حرب عالمية إبادية، بينما غزة المستضعَفة المتواضعة في عدد سكانها، وفي حجمها، وما تعانيه من حصار، قاومت بلا هوادة، وسوف تنتصر بإذن الله.

من هنا فإن غزة ومقاومتها وشعبها، جزء من النهضة العربية، ومن النهضة الإسلامية، والعالم الثالثية، وجزء من الصراع العالمي لإطاحة نظام الأحادية القطبية، في سبيل إنشاء نظام عالمي جديد، يؤمل أن يكون أكثر عدالة، وأكثر مشاركة لكل دوله وشعوبه، في تقرير سياساته ومواقفه ومصيره.

وأخيرًا ثمة سؤال لا بدّ منه: ماذا لو كانت العلاقات البينية العربية أفضل من حالها الراهنة. وأمكن أن تصاغ استراتيجية عربية موحدة، ترمي إلى أن تستعيد الدول العربية مكانتها تحت الشمس. وذلك في ظرف عالمي أصبح أكثر مؤاتاة لإسهام عربي قوي وفعّال في المستوى الدولي. هذا، ولا يجوز أن تفلت الفرصة المتاحة.

ثم ألم يكن بمقدور الدول العربية أن تؤدي دورًا أقوى في دعم غزة، بحيث كان سيزيد من قوّتها جميعًا، بينما يدها ملأى بفشل الكيان الصهيوني عسكريًا، وبانتصار المقاومة عليه؟ ولكن ما العمل إذا ما استمرأنا العيش خارج الزمن، وخارج التاريخ؟

كتب ذات صلة:

عن عملية “الرصاص المصبوب” وتبعاتها إقرأ

غزة: بحث في استشهادها