ما كانت صفقة القرن الأمريكية – الصهيونية إلّا تتمّة لمسار استعماري أمريكي أصاب فلسطين وشعبها عبر سبعة عقود من الزمن، وتتويجاً لاحتلال صهيوني استيطاني لأرض نهبت من مالكيها الشرعيين، وممارسات من جانب سلطات الاحتلال الصهيوني لنظام «أبارتايد» جديد يسعى لتهميش واجتثاث الوجود الفلسطيني العربي.
أما الإدارة الأمريكية الحالية، المنحازة كلياً للمشروع الصهيوني، والمدافعة عنه سياسياً واقتصادياً وأمنياً، فقد أنكرت وألغت كل ما قبلته الإدارات الأمريكية السابقة من مبادئ وقرارات شرعية دولية متواضعة، سواء تلك التي قرّرها مجلس الأمن الدولي أو التي اتخذتها الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة عبر عشرات السنين، من مثل اعتبار مدينة القدس أرضاً محتلّة لا يجوز للدول الأعضاء نقل سفاراتها إليها، أو من مثل حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أراضيهم ومساكنهم وتعويضهم. بل ذهبت الإدارة الأمريكية في انحيازها الأعمى للصهيونية العالمية إلى إضافة مبادرات ما كان الكيان الصهيوني نفسه ليتجرّأ على أن يأخذها، من مثل اعتبار ضمّ هضبة الجولان السورية العربية المحتلة إلى الكيان الصهيوني أمراً شرعياً، أو من مثل إعطاء الضوء الأخضر لسلطات الكيان الصهيوني لاغتصاب غور الأردن.
أما الكيان الصهيوني، فلا حاجة إلى الحديث عمّا يعرضه من الفتات، إذ إننا نعلم جيداً بأن كل تنازل تافه من جانبه ليس أكثر من خطوة تكتيكية مؤقتة نحو الوصول إلى هدفه النهائي: قيام مملكته التوراتية الخرافية على الأرض الممتّدة من نهر النيل إلى نهر الفرات، ولن تقبل الأيديولوجيا اليهودية الصهيونية بأقل من ذلك.
لقد فنّد الكثيرون من الكتّاب والمعلّقين المزاعم والأكاذيب التي استندت إليها مقترحات «صفقة القرن»، وأظهروا كم أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت دولة خارجة عن الأعراف والقوانين والشرعية الدولية، وكم أن نظام الحكم فيها محتقر للقيم الإنسانية والأخلاقية. لذلك لا حاجة إلى تكرار ما قاله الآخرون وكتبوه، إذ إن المطلوب هو الإجابة عن التّساؤل الذي يطرحه المواطنون العرب في شأن الخطوات العملية الفاعلة التي يجب تبنّيها وتفعيلها في الواقع من أجل إسقاط هذا المقترح الصهيوني – الأمريكي الظالم.
والمواطن إذ يطرح هذا السؤال على المفكرين والمثقّفين السياسيين العرب، فلأنه قد فقد الثّقة في نيات وقدرات الأغلبية العظمى من أنظمة الحكم العربية تجاه موضوع الصّراع العربي – الصهيوني برمّته، وخصوصاً بعد صعود موجات التطبيع مع الكيان الصهيوني المعلن عنها أو المخفي، من جانب الكثير من الأقطار العربية. في اعتقادي أن النقاط التالية جديرة بالتمعُّن فيها، وعدِّها منطلقات عملية قابلة للتنفيذ ضمن الظروف العربية المأسوية الحالية.
أولاً، هناك إشكال الخلافات والانقسامات والصّراعات الفلسطينية – الفلسطينية. أصبح حلّ هذا الإشكال شرطاً وجودياً لاستمرار التعاطف الرسمي العربي من جهة، والالتزام القومي الجماهيري العربي من جهة ثانية. وهذا يتطلب قبول الجميع بتكوُّن سلطة فلسطينية واحدة، يتمُّ انتخابها من جميع أبناء فلسطين، في الداخل والخارج في الحال، وتعمل ضمن منهجية ديمقراطية صارمة بالنسبة إلى اتخاذ القرارات، وتداول السلطة، ووضع استراتيجية نضالية واحدة، ووضع مراحل وتنفيذ تلك الاستراتيجية. وبوجود شبكات التواصل الإلكتروني فإن عملية الانتخابات تلك ستصبح ممكنة التنفيذ في مدة قصيرة.
عند ذاك، وعند ذاك فقط، سيكون الموضوع الفلسطيني برمّته في يد أمينة، ولن تستطيع أي جهة كانت، عربية أو أجنبية، تقديم أي مبادرات كانت إلا بموافقة تلك السلطة الفلسطينية، أي موافقة الشعب الفلسطيني وحده. عند ذاك أيضاً سيجد الشعب الفلسطيني عند كل الشعوب العربية تناغماً في الأهداف، وتعاضداً في النضال، ووقوفاً صامداً في وجه المشروع الصهيوني ومناصريه.
ثانياً، هناك ضرورة إلى قيام نوع من الوحدة النضالية والتنسيق الإداري فيما بين الجمعيات العربية لمقاومة التطبيع، حتى تستطيع هذه الفدرالية النضالية إنتاج صيغة واحدة لـ «هاشتاغ» (#) عربي، يُتداول على شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك من أجل جمع عدة ملايين من التواقيع الرافضة جملة وتفصيـلاً لمقترح «صفقة القرن».
ثالثاً، كما تقوم تلك الفدرالية المقاومة للتطبيع بإنشاء صندوق دعم أهلي، مستقل عن جميع الجهات الرسمية، من أجل دعم النضال الفلسطيني والعربي، في الداخل والخارج، لمقاومة الصهيونية بصور معنوية ومادية تعبويّة، وللتخفيف من معاناة عائلات الأسرى والشهداء الفلسطينيين، ولإيقاف الابتزازات الانتهازية في الحياة النضالية الفلسطينية.
رابعاً، إن إحدى أهم الجهات التي تقف ضد الممارسات العنصرية الصهيونية في فلسطين المحتلة، وتفضح ممارساتها تلك، وتجيّش المجتمع الدولي ضدّ ممارسات الكيان الصهيوني هي «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات» التي تقودها مجموعة فلسطينية حقوقية بالتعاون مع قوى دولية حقوقية متعددة.
في هذه اللحظة الحاسمة أصبح ضرورياً أن تُدعم تلك الحركة بالإمكانات المالية التي تساعدها على التوسُّع في أنشطتها وعلاقاتها الدولية.
من هنا، توجد حاجة ملحّة إلى قيام فدرالية المقاطعة ومؤسسات المجتمع المدني السياسية في كل بلاد العرب بالبدء بحملة واسعة ومركّزة ودائمة لحثّ الأفراد والمؤسسات المالية العربية للتبرّع السّخي لهذه الحركة الفلسطينية البالغة الأهمية.
خامساً، هناك حاجة ملحّة إلى تكوين فدرالية عربية لتضع استراتيجية متكاملة لحملات مقاطعة البضائع الأمريكية في كل الوطن العربي والعالم الإسلامي والدولي.
آن الأوان أن تشعر أمريكا بأن مواقفها المنحازة للكيان الصهيوني سيكلّفها ثمناً باهظاً. وعند ذاك ستوجد حملة مناهضة لانحياز الحكومة الأمريكية الأعمى من داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وستكون فاعلة.
سادساً، لقد كُتب الكثير عن الأهمية القصوى لقيام كتلة تاريخية من مجموعة من القوى السياسية العربية ومختلف المؤسسات المهنية والعمالية والمدنية العربية وكثير من الشخصيات العاملة في الحقل السياسي، وذلك لوضع أهداف واستراتيجيات ومراحل، على الأقل في حدودها الدنيا المتفق عليها، لإنقاذ الأمة العربية من الوضع المأسوي الذي تعيشه. هذا موضوع كبير يحتاج إلى أن تبدأه نواة من المفكرين والمثقفين العرب قبل عرضه على عموم الوطن العربي.
هذا أيضاً هو الردُ الوحيد على أخطاء وخطايا أنظمة الحكم العربية، والمؤسسات القومية والإقليمية العربية المشتركة، التي خذلت هذه الأمة وأوصلتها إلى هذا الجحيم الذي تعيشه. هذه نقاط ومقترحات عملية تحتاج إلى من يتبنّاها ويطوّرها، ثم يفعّلها في الواقع العربي عبر الوطن العربي كلّه.
قد يهمكم أيضاً قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس: الدوافع والتداعيات
اطلعوا أيضاً على الحلقة النقاشية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية حلقة نقاشية حول” القضية الفلسطينية وصفقة القرن”
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #صفقة_القرن #القضية_الفلسطينية #القدس #العودة #وجهة_نظر
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 493 في آذار/مارس 2020.
(**) علي محمد فخرو: كاتب ومفكر سياسي عربي من البحرين، ورئيس مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.