إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السادس من كانون الأول/ديسمبر 2017، القدس عاصمة لإسرئيل، ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى المدينة المحتلة[1]، مثَّل سابقة أحجم سابقوه من الرؤساء عن اتخاذها، ليُنذر بحقبة جديدة من الصراع في المنطقة المحمومة بالتوترات والعنف الشديد[2].

ولم يكن هذا القرار مفاجئاً؛ فلقد كان ضمن وعود ترامب في حملته الانتخابية العام الماضي، لإرضاء القاعدة اليمينية التي أيّدته في الانتخابات[3]. وقد جاء هذا القرار استناداً إلى قرار الكونغرس عام 1995 بشأن نقل سفارة البلاد من تل أبيب إلى القدس، وهو ما دأب على تأجيله الرؤساء الأمريكيون، إلى أن جاء ترامب عازماً في حملته الانتخابية تنفيذ ما أجّله سابقوه[4]. ويعَدُّ هذا القرار مواصلة للسياسة الأمريكية التي أيّدت الأطماع التوسعية منذ عدوانها في حزيران/يونيو 1967، ويؤدي إلى وأد عملية السلام التي لا تنشدها إسرائيل، وفرض شروط مجحفة للتسوية السلمية[5].

أولاً: القرار بين الدوافع والتوقيت

حرصت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الظهور بصورة الداعم للسلام بين العرب وإسرائيل، وأعلن أغلبها رفض التوسع في الاستيطان في فلسطين بعد حرب 1967؛ وتبنت جميعها مبدأ حل الدولتين، وذلك منذ إدارة الرئيس كلينتون، وآخرهم الرئيس أوباما الذي دعا حكومة نتنياهو إلى الكف عن تمديد بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة[6]. واتسمت العلاقات في عهد الرئيس السابق أوباما بالتوتر والخلاف في وجهات النظر، وبخاصة في ما يتعلق بملف التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلي وملف إيران النووي[7].

جاء الرئيس الجمهوري ترامب بتوجُّه مختلف وسياسات مختلفة، أقرب إلى التوجه الإسرائيلي، وكان أبرزها توافقهما في ملفَّي التسوية وإيران النووي. وكان وعده الانتخابي بنقل السفارة إلى القدس، من المرات القلائل التي يعلن فيها رئيس أمريكي موقفه من القضية الفلسطينية في برنامجه الانتخابي، بل وصف إدارته بأنها ستكون الأكثر دعماً لإسرائيل طيلة التاريخ[8].

ويبقى التساؤل حول توقيت القرار، والذي اختلفت التفسيرات حوله، حيث إن هناك وجهات نظر ترى أنه جاء انعكاساً لدوافع داخلية، وأخرى خارجية، ويمكن استعراض ذلك على النحو التالي:

1- دوافع داخلية

دائماً ما يلجأ الرؤساء الأمريكيون إلى اتخاذ مثل تلك القرارات المثيرة للجدل، والتي تتعلق بالسياسة الخارجية، لصرف النظر عن الأزمات الداخلية؛ وليس أدل على ذلك من قرار الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان بغزو غرينادا بمنطقة الكاريبي، حيث لاقى هذا القرار الذي كان جزءاً من تكتيكات الحرب الباردة قبولاً شعبياً. وقد يكون ذلك القرار حينها، لصرف النظر عن تفجير حركة الجهاد الإسلامي لمقر القوات البحرية الأمريكية في بيروت، الذي أدى إلى مقتل مئتين واثنين وأربعين أمريكياً، ثم تلا ذلك هجوم آخر على مقر القوات البحرية الأمريكية في بيروت، قتل فيه سبعة عشر أمريكياً، الأمر الذي أحرج الرئيس رونالد ريغان داخلياً ودفعه لتحويل الأنظار عنه بقرارات متعلقة بالسياسة الخارجية. وفي ذلك السياق شن الرئيس بيل كلينتون، هجوماً جوياً على معسكرات القاعدة في أفغانستان وعلى مصنع في السودان بدعوى أنه تابع للقاعدة وينتج أسلحة كيميائية، رغم أنه كان ينتج مواد دوائية ولم يكن تابعاً للقاعدة. وقد نجح الهجوم في امتصاص غضب الأمريكيين وتحويل اهتمامهم بقضية “مونيكا لويسكي”، بقضية خارجية، حيث لم تكن قضايا السياسة الخارجية تحظى باهتمام الرأي العام الأمريكي[9].

في ذلك السياق يأتي قرار ترامب بشأن القدس، وسط أزمات داخلية لا يستهان بها، أبرزها احتمال عدم إقرار الميزانية وما يترتب عليها من توقف الحكومة الأمريكية عن العمل. يضاف إلى ذلك إقرار مستشاره السابق للأمن القومي مايكل فلين بأنه كذب على سلطات التحقيق بشأن محادثاته مع السفير الروسي في واشنطن. ورغم أن قرار القدس يمكن أن يساعد على دعم موقف ترامب وصرف الانتباه عن مشاكله داخلياً، إلا أن تلك الفائدة قد تتضاءل إذا ما توالت وتصاعدت ردود الفعل السلبية دولياً[10].

2- دوافع خارجية

تتمثل تلك الدوافع بالظروف التي تمر بها فلسطين والبلدان العربية معاً. فما تمر به فلسطين من تحديات اقتصادية، قد تزيد حدتها حال قطع المعونة الأمريكية المقدمة إلى السلطة الفلسطينية، إضافة إلى أن التنافس بين فتح وحماس، وعدم الوصول إلى اتفاق حتى الآن، قد يؤدي إلى منازعات جانبية بين الطرفين تؤدي إلى مزيد من التوتر في الداخل الفلسطيني.

إن التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه البلدان العربية، وتجعلها تنشغل بتحسين أوضاعها الاقتصادية ومقاومة الإرهاب؛ وكبح التدخل الإيراني في المنطقة، أولوية تتقدم على الدخول في نزاع مع واشنطن حول القضية الفلسطينية، نظراً إلى تراجع الاهتمام العربي بالقضية[11]، وبالتالي كانت أزمات الشرق الأوسط واختلال المعادلة الأمنية لمصلحة إسرائيل، وتلاشي احتمال الرد والتصعيد ضد القرار فرصة مواتية لمثل ذلك القرار في هذا التوقيت[12].

ثانياً: مدى شرعية القرار وفق قواعد القانون الدولي

للقدس وضعية خاصة في الصراع العربي- الإسرائيلي منذ نشأته. وقد اعترفت كل قرارات الأمم المتحدة بهذه الوضعية، ورفضت الإجراءات الإسرائيلية الرامية إلى تغييرها. وفي هذا القرار تحدٍّ للمجتمع الدولي بأسره، وانتهاك لقواعد القانون الدولي. فقد كانت كل قرارات الأمم المتحدة، وكان موقف الولايات المتحدة منذ عام 1967 – على لسان سفيرها أمام الأمم المتحدة – أن القدس مدينة محتلة وتخضع لقانون الاحتلال الحربي، ولا يجوز لإسرائيل القيام بأي أعمال تغيِّر من وضع المدينة. وظل موقف الولايات المتحدة ثابتاً تجاه القدس متمثلاً بأنهم لا يعترفون بضم إسرائيل للقدس الشرقية أو توسيع حدودها البلدية، وأن الوضع النهائي يجب أن تحدده المفاوضات.

كذلك جاء إعلان المبادئ الفلسطيني – الإسرائيلي، في واشنطن 13 أيلول/سبتمبر 1993 الخاص بالفترة الانتقالية ومفاوضات الوضع الدائم، أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية بما فيها، القدس اللاجئون، المستوطنات، والترتيبات الأمنية والحدود[13].

وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرار لها في 3 كانون الأول/ديسمبر 2003 شجب قيام بعض الدول بنقل بعثاتها الدبلوماسية إلى القدس. وفي قرار لها في 7 كانون الأول/ديسمبر 2007 تشير إلى أن محكمة العدل الدولية قد خلصت إلى أن إقامة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس الشرقية، تمثل خرقاً للقانون الدولي. وفي 6 شباط/فبراير 2016 تعيد الجمعية العامة تأكيد انطباق اتفاقية جنيف المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب لعام 1949 على الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية. وفي قرارات أخرى لها صادرة في 10 كانون الأول/ديسمبر 2009، 9 كانون الأول/ديسمبر 2015، أول كانون الأول/ديسمبر 2017 تؤكد الجمعية العامة من جديد رفضها بناء إسرائيل مستوطنات في القدس الشرقية، وتعتبر أي خطوات تتخذها إسرائيل لفرض قوانينها وولاياتها القضائية وإدارتها على مدينة القدس غير مشروعة ولاغية، كما دعت دولة الاحتلال إلى «احترام الوضع القائم تاريخياً في المدينة”[14]، والتشديد على استمرار الوضع كما كان في الرابع من حزيران/يونيو. وقد وافق 14 عضواً من مجلس الأمن إلى جانب القرار باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية، متمثلة بإدارة الرئيس السابق أوباما[15].

في هذا السياق جاء مشروع القرار المصري إلى مجلس الأمن، والذي نص على أن “أي قرارات أو تدابير تهدف إلى تغيير هوية أو وضع مدينة القدس أو التكوين السكاني للمدينة ليس لها أثر قانوني، ولاغية وباطلة، ولا بد من إلغائها التزاماً بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة”[16]، إلا أن عدم اختصاص الولايات المتحدة الأمريكية بالذكر، أتاح لها استخدام حق الفيتو ضد القرار، وأدى عدم التوصل إلى توافق بمجلس الأمن إلى تقدم كل من تركيا واليمن بمشروع القرار المصري إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي أيدته 128 دولة في مقابل رفض 9 دول للقرار وامتناع 35 دولة عن التصويت، ويشير السلوك التصويتي للدول الأعضاء إلى حجم التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية بعامة ومدينة القدس بشكل خاص، وأثبتت أنه بإمكان الفلسطيني تحقيق إنجاز دولي مؤثر إذا ما اتخذوا الخيار الدبلوماسي بإرادة لتحقيق المصلحة الوطنية[17].

في ضوء ما تقدم يتضح أن ما أقدم عليه الرئيس الأمريكي، جاء مخالفاً لقواعد القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، والتي وافقت عليها الولايات المتحدة وشددت عليها دوماً، ويعدّ هذا تراجعاً عن الأسس التي أقرتها الحكومة الأمريكية للتسوية منذ صيغة مدريد، كما أنه يتناقض مع مبادئ التسوية السياسية للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، فينبغي أن تكون القدس ضمن التسوية الشاملة والعادلة للصراع العربي- الإسرائيلي، ولا حل له دون حل الدولتين من طرق المفاوضات بين الجانبين[18].

ثالثاً: التداعيات المحتملة للقرار وسبل التعامل

1- تقويض عملية السلام

من شأن قرار ترامب إنهاء أي محاولة للسلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، والتي عُرفت بصفقة القرن؛ ولقد عانت دائماً عملية التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلى التعثر، وبخاصة في ما يتعلق بملف التسوية الفلسطيني منذ أوسلو 1993. فكلما تتقدم خطوة إلى الأمام تتعثر خطوتين إلى الخلف. ويمثل قرار ترامب الأخير حجراً جديداً في طريق التسوية السلمية، التي يجب أن تكون القدس أحد المحاور التي يتم التفاوض حولها من أجل تسوية سلمية ترضي الجميع. لقد جاء القرار منحازاً إلى الطرف الإسرائيلي ومخالفاً للقرارات الدولية بشأن القدس بما يعثِّر عملية التفاوض. فبالرغم من أن القرار شدد على حل الدولتين، إلا أن الإدارة الأمريكية  لم تقدم رؤية واضحة حتى الآن حول خطة عمل المفاوضات، ويبدو أنها رافضة لمبدأ حل الدولتين، وتراهن على حل قضية فلسطين في إطار إقليمي أوسع يتم فرضه على فلسطين وهو خيار لم يعلن أحد قبوله على الأقل حتى الآن[19]. لا بد من أن تكون القدس جزءاً من التسوية النهائية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والتي يتقرر مصيرها عبر المفاوضات، وفقاً لقرارات مجلس الأمن.

2- العودة بالقضية الفلسطينية إلى الصفر

يناقض القرار اتفاقية أوسلو 1993، بين فلسطين وإسرائيل برعاية أمريكية، والتي قضت بأن يتم تحديد مصير القدس ضمن مفاوضات الحل النهائي، التي تهدف الوصول إلى تسوية حول القضايا المهمة التي لا تزال عالقة بين الطرفين، من بينها القدس واللاجئون الفلسطينيون، والمستوطنات التي أقامتها إسرائيل[20].

3- تصاعد حدة التوترات بالإقليم

تشير التقديرات إلى أن هذا القرار سيؤدي إلى تصعيد من جانب المواطنين الفلسطينيين، الذين يشعرون بأن عليهم الدفاع وحدهم عن أرضهم، بل يشعرون بأن هناك توافقاً أحياناً في الرؤى بين الجانب الإسرائيلي وبعض البلدان العربية والتي تقضي على حل قضيتهم. وقد بدأوا هبّتهم بجمعة الغضب، والتي قد تتفاقم وتتحول إلى انتفاضة رابعة، لا يمكن توقع عواقبها الوخيمة[21]. وتوعدت كتائب القسام إسرائيل بأنها ستدفع ثمن عدوانها، ودعت الشعب الفلسطيني للاستمرار في الانتفاضة ومقاومة الاحتلال، الأمر الذي أسفر عن سقوط العديد من الجرحى في مواجهات بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة[22]. وفي هذا السياق لا يمكن إغفال التصعيد الإيراني واستكمال مشروعها النووي، وبخاصة مع التهديد الأمريكي لها بفرض عقوبات.

رابعاً: سبل التعامل مع القرار

سيظل قرار نقل السفارة الأمريكية قراراً رمزياً؛ إذ تشير التقارير الواردة من الولايات المتحدة ومن إسرائيل نفسها أن إجراءات نقل السفارة تستغرق حوالى ثلاث سنوات، وهي فترة زمنية طويلة يتعين على العرب عدم تفويتها، لوضع المزيد من الصعوبات أمام تحويل القرار الذي اتخذه ترامب إلى أمر واقع.

1- على المستوى الفلسطيني

ينبغي المضي قدُماً في تحقيق الوحدة الوطنية الحقيقة، بين حركتَي فتح وحماس برعاية مصر، حيث إن من مصلحة الجانب الإسرائيلي أن تظل تلك الانقسامات قائمة، حتى لا يوجد طرف قوي من شأنه الدخول معه في مفاوضات حاسمة. ويعدّ تحقيق الوحدة الوطنية الحقيقة أبلغ رد على هذا القرار، من خلال الاتفاق على البرنامج الوطني الذي يجد القواسم المشتركة، وعدم الدخول في صراعات على قضايا فرعية. وعلى الجانب الفلسطيني سحب الاعتراف بالولايات المتحدة كراعٍ لعملية السلام، وتقديم شكوى بمجلس الأمن ضد أحد أعضائه الدائمين ممن يملكون حق الفيتو لانتهاكه مبادئ وقرارات الأمم المتحدة، فلا يجب الاستهانة بالموقف الدولي كركيزة أساسية في القضية، وذلك لاستدعاء المسؤولية الدولية، كما أنه يمثل ورقة ضغط تعزز الموقف الفلسطيني والعربي.

 

2- المستوى العربي والإسلامي

تكثيف الجهود للضغط على إسرائيل وإخراج المواقف الدولية من الخطاب إلى الممارسة: ولا أدل على ذلك من حصول فلسطين على دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، بعد أن صوَّت لمصلحتها 138 دولة، بعد مساعٍ كثيرة من الجانب الفلسطيني. وفي هذا السياق لا بد من المساندة العربية واتخاذ مواقف أكثر صلابة وممارسة الضغوط على الجانبين الإسرائيلي والأمريكي، ويمكن الاستشهاد بذلك على المشروع الذي تقدمت به مصر لمجلس الأمن لإدانة الاستيطان الإسرائيلي وسحبته إثر ضغوط إسرائيلية وبوساطة إدارة ترامب حينها، مما يدل على تأثير هذه الضغوط على المستوى الدولي، وكسب التأييد والدعم للقضية الفلسطينية. فعلى مصر والدول العربية والإسلامية كافة اتخاذ مثل تلك الأساليب الضاغطة لتعزيز الموقف العربي. ويعد مشروع القرار الأخير الذي تقدمت به مصر إلى مجلس الأمن، وقرارات جامعة الدول العربية التي تطالب المجتمع الدولي بالضغط على الجانب الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية للالتزام بقرارات الشرعية الدولية، وسيلة دبلوماسية فعّالة، على الأقل لإعادة التوازن في الاختلال الحادث على أرض الواقع لمصلحة الجانب الإسرائيلى، ومحاولة إعادة القدس إلى مائدة التفاوض مرة أخرى.

ختاماً وعلى خلفية التداعيات الحالية والمحتملة للقرار، يبقى التساؤل كيف يمكن إعادة القدس إلى مائدة التفاوض مرة أخرى، وعدم انفراد طرف بتقرير المصير بقوة الأمر الواقع؟

 

للمزيد من المواضيع ذات الصلة اطلعوا على  موقف الشرعية الدولية (اليونسكو والجمعية العامة) من عروبة القدس