خلاصة:

من واقع المعرفة بالتجربة العراقية، وتتبع دينامية الاقتصاد الوطني تحت تأثير أنماط توزيع الريع النفطي السيئة ونتائج تبديدها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية، وبخاصة تشرذم النخب السياسية وتجذُّر نزعتها في البقاء بالسلطة والتمتع الذاتي بالثروة النفطية، يستهدف «المشروع الاقتصادي الوطني» (مُشْرِق)، تقديم البديل للسياسات الاقتصادية «الليبرالية الجديدة» المعيبة ونتائجها الوخيمة: تراجع النمو، وزيادة البطالة، وانتشار الفقر، وتفشي الفساد، وتردي مستويات المعيشة، وزيادة الدين العام المحلي والقروض الخارجية، وهي السياسات التي يجري تطبيقها منذ عام 2003 برعاية صندوق النقد الدولي وبهدف تغيير النظام الاقتصادي بطريقة قسرية تتجاهل ليس المتطلبات المادية فقط لتفعيل قوى وآليات السوق، بل والأكثر أهمية، تتغاضى عن مسؤولية الدولة في استثمار قوة الثروة النفطية العامة في زيادة النمو الاقتصادي والإسراع بالتنمية الاجتماعية والبيئية. وإذ يستهدف المشروع الاقتصادي الوطني «مُشْرِق» الإسراع بعملية التنويع الاقتصادي الهيكلي لتقليل الاعتماد الكبير على الصادرات النفطية، وجوهرها إقامة الصناعات التحويلية المتقدمة تكنولوجياً، وتجاوز مفهوم التنويع الاقتصادي لدى صندوق النقد الدولي، فإنما يسهم أيضاً في معالجة أزمة النظام القائم المزمنة والمركبة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأمنياً، ودعم جهود تأسيس الدولة المدنية والديمقراطية المستقلة.

وفي سياق التعريف بخصائص «مُشْرِق»، يتم استعراض أبعاده في واقع ومستقبل العلاقة بين الحكومة والمواطنين في إطار الاقتصاد – السياسي والاجتماع – السياسي، كما تتم المقاربة مع أهداف السياسات الاقتصادية الحكومية، بتقييم المؤشرات الاقتصادية الرئيسية لصندوق النقد الدولي وخطة التنمية الوطنية (2018 – 2022). كذلك، يتم تسليط الضوء على الدعوة الضمنية إلى خصخصة الثروة النفطية العامة، المناقضة لمصالح الدولة والمواطنين، والكشف عن النزعة الحكومية لاستثمار الإيرادات النفطية في الأسواق المالية الدولية في المستقبل، وقبل استكمال متطلبات التنويع الاقتصادي الهيكلي وإقامة مشاريع البنية الأساسية المادية الضرورية لنشاط القطاع الخاص، الوطني والأجنبي، وتفعيل آليات السوق التنافسية.

أولاً: أولوية المشروع الاقتصادي الوطني (مُشْرِقْ)‏[1]: تحرير إرادة الدولة في إدارة الاقتصاد والتنمية

منذ زمن بعيد، والأحدث منذ عام 2003، لم تؤدِّ الحكومات المتعاقبة دورها في الارتقاء بمكانة الدولة وتلبية المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للفئات الاجتماعية والتوفيق بينها، بالرغم من امتلاكها قوة الثروة النفطية للتوسع في الطاقات الإنتاجية والعلمية، وفي تراكم الثروة الوطنية، وتقليص التباين في توزيع الدخول والثروات، وفي تحسين مستويات المعيشة والرفاه الاجتماعي. وبموازاة ذلك، تشرذمت النخب السياسية، وأصبحت أسيرة البقاء في السلطة، كما بقيت السلطة الحاكمة أسيرة التمتع بالثراء والبذخ في تبديد الريع النفطي. لقد وقعت السلطة في شراك فخ الاقتصاد – السياسي للريع النفطي. ومنذ زمن، كان يجب الانتفاع من قوة الثروة النفطية لتأسيس البديل: الاقتصاد – السياسي للنمو والتنمية.

كثيرة جداً العوامل المحلية، والخارجية أيضاً، التي أسهمت، وبدرجات متفاوتة، في التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي والأمني، والتردي السريع في جودة الحياة الذي يشهده العراق منذ بداية الثمانينيات، وبخاصة بعد الاحتلال في عام 2003. وليس بخافٍ، أن الدولة، رغم موقعها الجغرافي الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط وامتلاكها للثروة النفطية (والغاز) بوفرة‏[2]، قد خسرت حيزاً من أهميتها «السياسية – الاستراتيجية» واستقلاليتها بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، وهي تجتاز حالياً منعطفات خطيرة تهدد سيادتها وتماسكها ومستقبلها. ولحماية وجود الدولة وتأمين مصالح المواطنين فيها، يجب إحداث التغيير لإنهاء أزمة النظام المركّبة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأمنياً. من هنا، يَستمدُ المشروع الاقتصادي الوطني (مُشْرِقْ) مبرراته ليسهم في تأسيس البديل الاقتصادي الذي يؤهل الدولة المدنية الديمقراطية المستقلة والسلطة (الأحزاب) السياسية القوية، التطلع لمشروع وطني يعالج الأزمة العامة المزمنة، وليوسع آفاق المستقبل الاقتصادي من خلال التأثير بدينامية أنماط استغلال الريع النفطي، وأهمها مؤسسات ومعايير التوزيع بين الاستثمار والاستهلاك‏[3]. والتغيير هنا، يتطلب صياغة السياسات الاقتصادية لتوجيه مسارات النمو في القطاعات، ومن خلال الاستثمارات الحكومية المُمَوّلة من الإيرادات النفطية العامة، نحو الإسراع بعملية «التنويع الاقتصادي الهيكلي» لتقليل الاعتماد الكبير على الصادرات النفطية‏[4].

وفي إطار عربي أوسع، ربما يسهم «مُشْرِقْ» أيضاً في المقاربة مع تجارب اقتصادات الريع النفطي العربية، وهي بحاجة متزايدة إلى «التنويع الاقتصادي الهيكلي»، وفي تطوير الدعوة «المشروع العربي النهضوي» الذي يغفل أهمية قوة النفط في الاقتصاد والسياسة، وذلك بهدف ترشيد استخدام الثروة النفطية في الدول العربية، والتحقق من منافع توسيع التعاون الاقتصادي العربي بشروط النمو والتنمية الوطنية‏[5].

خلال الفترة 1952 – 1979، أسهمت «نِعْمَة» الثروة النفطية العامة، وبدرجة مطلقة، في إقامة مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية (المادية)، وتأسيس العديد من الصناعات الأساسية، كالكهرباء والبتروكيميائيات والحديد والصناعات الإنشائية والغذائية والاستخراجية، وتنمية الموارد المائية، وفي توسيع الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية العامة، التي أدت إلى زيادة في النمو الاقتصادي وفرص العمل، والتحسن السريع في مستويات المعيشة بمعايير الدخل والاستهلاك والخدمات العامة. ومع ذلك، تزامنت هذه التطورات الإيجابية، بتزايد المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية مع قيام النظام الدكتاتوري (1968 – 2003)، والحرب مع إيران (1980 – 1988)، والحصار الاقتصادي والتجاري الدولي (1990 – 2003)، والتي أدت بعد الاحتلال عام 2003 إلى انهيار مؤسسات الدولة، والاضطراب السياسي وانتشار الفساد، والتمزق في النسيج الاجتماعي.

ومنذ بداية الخمسينيات، أصبح الريع النفطي عنصراً أساسياً في سياسات الدولة والحكومات وتأدية مهماتها الأساسية في الأمن والدفاع، وفي إدارة مصالح المواطنين الاقتصادية والسياسية من خلال تمويل الإنفاق العام، الاستهلاكي (الجاري) والاستثماري، والاستيرادات المتزايدة من المنتجات والسلع والخدمات. وإذ يُفيد دائماً تحليل سياق دينامية الريع النفطي في الاقتصاد – السياسي وتطورها منذ عام 1952 لمعرفة عوامل التأثير فيها، فإن مراجعة وتقييم أحداث السنوات الخمس الماضية يسهمان كثيراً في معرفة سياسات التخلص من دوّامة أزمة النظام ومعاناة المواطنين منها. فقد شهد العراق، منذ منتصف عام 2014، أحداثاً مالية واقتصادية وسياسية وأمنية وعسكرية، في غاية الأهمية، كان من أبرزها: أولاً، الأزمة المالية الناشئة عن الانخفاض السريع والكبير في الإيرادات النفطية وتكلفة الحملة العسكرية الباهظة لمكافحة الإرهاب (حزيران/يونيو 2014 – آذار/مارس 2018)؛ والحدث الثاني، احتلال المنظمة الإرهابية «داعش» للموصل ومدن ومساحات واسعة من البلاد (2014 – 2017)؛ أما الحدث الثالث، فهو موافقة الحكومة، وتحت تأثير العجز في الموازنة المالية للدولة وفي ميزان المدفوعات، على تنفيذ «اتفاق الاستعداد الائتماني» (الاتفاق) مع صندوق النقد الدولي «الصندوق» والتوسع الكبير في المديونية العامة والقروض الأجنبية لتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي «للصندوق» للفترة 2017 – 2019. والحدث الرابع، كان موافقة الحكومة والبرلمان على قانون شركة النفط الوطنية العراقية (القانون) (23 أيار/مايو 2018) الذي يستلب من الدولة قوة الاستثمار المباشر للريع النفطي بمنحها لإدارة شركة حكومية‏[6]؛ والحدث الخامس، تأثير التداعيات السياسية والاقتصادية لاستفتاء انفصال إقليم كردستان (25 أيلول/سبتمبر 2017)؛ أما الحدث السادس، فهو نتائج الانتخابات العامة المُخَيبَة وعُقمْ المساومات الفارغة من البرامج الاقتصادية في تشكيل الحكومة الجديدة‏[7] (12 أيار/مايو 2018 – حتى الآن) التي وطدت هيمنة الطبقة الحاكمة وسياساتها وامتيازاتها منذ عام 2003. وأخيراً، نشاط الحراك الشعبي (منذ 2015) وهَبَّة التظاهرات في مدن البصرة والجنوب والوسط المطالبة بتحسين الخدمات والمنافع العامة، وبالتغيير في سياسات الحكومة الاقتصادية، واقتلاع جذور الفساد المالي والإداري المنتشر في مؤسسات الدولة (مستمرة منذ منتصف حزيران/يونيو 2018).

وباستثناء النجاح المهم الذي حققته القوات المسلحة، النظامية والشعبية، في دحر «داعش»، وتجاوز أزمة استفتاء انفصال إقليم كردستان، فقد تعمق، للأسف الشديد، فشل السلطة الحاكمة بالإصرار على تنفيذ سياسات صندوق النقد الدولي التي أدت إلى تراجع النمو، وزيادة البطالة، وانتشار الفقر، وتدهور الخدمات العامة، التعليمية والصحية والاجتماعية، والنقص في مياه الشرب والكهرباء، وزيادة الدين العام والقروض الخارجية، وتمدد الفساد وتجذُّره، وتعثر إعمار البنية الأساسية، وتكريس مساوئ الاعتماد الكبير على صادرات النفط الخام. ورغم وفرة الإيرادات النفطية العامة وإنفاقها المفرط‏[8]، لم تؤدِّ هذه السياسات أيضاً إلى تحسين بيئة الاستثمار، ولا سيَّما بالنسبة إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة. وبموازاة هذا التدهور، أبرزت نتائج الانتخابات العامة وتعثر تشكيل الحكومة والفشل في ترسيخ الديمقراطية بمبدأ وجود المعارضة الفاعلة في مجلس النواب تحت سقف الدستور، أي في إطار العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين‏[9]، مواصلةَ اجترار الوعود ونثر الشعارات والإيهام بتنفيذها من خلال سياسات «الصندوق»، بدلاً من تقديم برنامج اقتصادي واضح ومُلزم للحكومة يشمل الوضوح والاتساق في السياسات الاقتصادية والإجراءات المالية، ويبين مجموعة المشاريع الاستثمارية العامة ذات الأولوية بعد التأكد من جدواها الاقتصادية والفنية مرفقة بتوقيتات زمنية للتنفيذ، ومدعمة بآلية للمتابعة بمقاييس محددة وقابلة للمقارنة والمحاسبة. ولقد أضاف صدور «خطة التنمية الوطنية (2018 – 2022)» (الخطة) في حزيران/يونيو 2018‏[10] المزيد من التخبط في سياسات الحكومة الاقتصادية، ومنها ما يتعلق بإعادة تعمير المدن المنكوبة بإرهاب «داعش»، والتضليل بمستقبل النظام الاقتصادي.

في ظروف المرحلة الصعبة والخطيرة الراهنة، يستهدف «مُشرِقْ»، الانتفاع من قوة الثروة النفطية في تغيير علاقات الحكومة وسياساتها بمصالح المواطنين المُقَيّدة بدينامية الاقتصاد السياسي للريع النفطي للخروج من دوامة توأم الفشل والفساد منذ عام 2003، وذلك بتفعيل إرادة السلطة الوطنية «القادمة» في إحداث «التنويع الاقتصادي الهيكلي» من خلال تحديد أولويات مشاريع الاستثمار الحكومية المُمَوَّلة من الإيرادات النفطية للتأثير في مسارات النمو في سائر القطاعات لإيجاد مصادر جديدة للإنتاج وللدخول وللصادرات، مع الإسراع في استكمال وتطوير مشاريع البنية الأساسية اللازمة لتوفير البيئة المناسبة لزيادة الإنتاج وللاستثمار الخاص. و«مُشرِقْ» ليس مجموعة من السياسات والإجراءات العملية لأزمات مالية مؤقتة أو مشاكل اقتصادية جزئية طارئة، أو محاولة لترميم النتائج السيئة لسياسات «الصندوق» التي تُطبَّق منذ عام 2003، جزئياً وبتدرج أو كليةً وبكفاءة متدنية، والتي سَلَبت الدولة من قوتها ومسؤولياتها في استثمار الثروة النفطية، وأسهمت في التراجع الاقتصادي والمعيشي واهتلاك البنية الأساسية من جهة، كما تجاوزت إيجابيات العلاقات القائمة بين الحكومة ومؤسسات الخدمات العامة ومشاريع القطاع العام الإنتاجية‏[11] وبين المواطنين والقطاع الخاص خلال الفترة 1951 – 1979 من جهة ثانية. ولأن «مُشرِقْ» يتناقض مع سياسات «الصندوق» – ليس لاعتبارات أيديولوجية – فإن المقاربة تكشف واقعية العمل باقتصاد السوق التنافسية في ظروف السوق الناقصة السائدة، وجدوى استثمار الإيرادات النفطية في الأسواق المالية العالمية في الظروف الراهنة. كما يستهدف «الصندوق»، أو للتأكد من سلامة منطق اقتصاد «السوق الاجتماعي»، كما ترغب «الخطة»، أو التعرف إلى نظام رأسمالية الدولة بتأسيس الشركات الصناعية الكبرى، وربما أيضاً التفكير بمزيج هجين من هذه الأنظمة، كما يرى البعض.

المهم أن تطبيق السياسات الاقتصادية «الليبرالية الجديدة»، ولا سيَّما بعد «الاتفاق» مع «الصندوق»، لم تحقق النجاح، ليس في زيادة النمو الاقتصادي بتوسيع الطاقات الإنتاجية فقط، بل في تحسين بيئة الاستثمار أيضاً، وبخاصة استثمارات الشركات الصغيرة والمتوسطة، وفي زيادة إسهامات البنوك في دعم القطاع الخاص، ولم تؤدِّ إلى زيادة الاستثمار الخاص بدلالة ظهور نماذج معروفة لنجاح ريادة الأعمال وأمثلة لمشاريع إنتاجية جديدة واعدة من غير الاستثمار في العقارات وانتعاش تجارة الاستيراد. وإذ تؤكد تقديرات «الصندوق» المتوقعة (المستهدفة) في السنوات 2017 – 2022، استمرار إسهامات قطاع استخراج النفط الخام العالية في الاقتصاد، وفي الموازنة المالية للدولة، وفي الصادرات، فإن السياسات الاقتصادية الحالية تُكَرِّس مساوئ نظام الاقتصاد – السياسي للريع النفطي السائد، وليس العكس. أما تَرحيب الحكومة بجدوى سياسات «الصندوق» في تحقيق الاستقرار الاقتصادي بعد الانخفاض في الإيرادات النفطية، بدليل تقليل العجز في الموازنة المالية للدولة وثبات أسعار صرف الدينار مع الدولار وتزايد الاحتياطيات من النقد الأجنبي، فإنها، وللأسف، تتجاهل حقيقة أن زيادة الإيرادات النفطية وإنفاقها مع زيادة الدين العام المحلي والقروض الخارجية، وليس زيادة النمو والإنتاجية والاستثمار في القطاعات غير النفطية، هي المصدر الرئيسي في تحسين الاستقرار المالي – وليس الاستقرار الاقتصادي كما يُشاع. فالاستقرار الاقتصادي، يعني أيضاً إضافة طاقات إنتاجية قادرة على تصدير منتجاتها، وزيادة فرص العمل، وتوفير الخدمات الأساسية والمنافع العامة، ووقف انتشار الفقر، وتقليص التفاوت في الدخول والثروات. كذلك، لن يتحقق الاستقرار الاقتصادي وسط الفوضى السياسية وانتشار الفساد حيث يَغيب الاستثمار.

ويقارب «مُشْرِقْ» أيضاً، وبحدود ضيقة، المؤشرات الاقتصادية الرئيسية في «الخطة» التي أضافت عنصر تخبط في السياسات الاقتصادية واضطراب في هوية ومستقبل النظام الاقتصادي. وللأسف الشديد، فإن من الواقعية وصف الجَمْع الجَبري للعناصر التي أدرجت في الإطار العام «للخطة» بالخلط المُرتَبِكْ والمُربِكْ لمفرداتها ومضمونها‏[12]. أما مؤشرات الاقتصاد الكلي في «الخطة»، وهي أهم ما تُفيد الإشارة إليه في الفقرة التالية، فهو مثال للتذاكي بممارسة التخطيط الحكومي في تقديم تقديرات اقتصادية مختلفة عن نظيراتها في سياسات «الصندوق» خلال السنوات الخمس القادمة بالرغم من المغالطة الصارخة في «الخطة» التي تمنح التمسك بـ «الاتفاق» مع «الصندوق» وسياساته، الأولوية الثانية، بعد أولوية الأمن الأولى، في قائمة تضم عشر أولويات لفرضياتها.

ثانياً: الموازنات المالية ومسارات الاستثمار التي يحددها «الصندوق»: ارتباك وإرباك خطة التنمية الوطنية

لم تَعُدْ خافيةً النتائج السلبية لسياسات «الصندوق»‏[13]، وليس بخافٍ أيضاً، أن تقديرات الإيرادات العامة ومصادرها، وكذلك توزيع النفقات العامة، الجارية والاستثمارية، في الموازنة الاتحادية للدولة للسنتين 2017 و2018 هي في الأصل الشريحة السنوية لتقديرات «الصندوق» المعدة سلفاً وفق «الاتفاق» مع الحكومة‏[14]، برغم ضجيج المناقشات التفصيلية والهامشية حولها في البرلمان. وليس غامضاً أن «الصندوق» يحدد عملياً الاستراتيجية الاقتصادية خلال الفترة المنتهية في عام 2022. ولكن الجديد المثير في موقف الحكومة، هو صدور «الخطة» التي تستهدف في الظاهر زيادة معدلات النمو والاستثمار في القطاعات كافة، بغياب تام لمشاريع الحكومة لتوسيع الطاقات الإنتاجية، وتقديم تقديرات متباينة كليةً للمؤشرات الاقتصادية الرئيسية المقدمة من «الصندوق»، والمعدّة بأسلوب تخطيط مرتبك ونموذج اقتصادي مبهم المعالم، ولغة غير مقنعة في الأدب الاقتصادي والاجتماعي. ويبدو أن «الخطة» معنية بايصال سياسات «الصندوق» للرأي العام بغطاء الاستقلالية وبلغة تستخدم بعض أدبيات التخطيط. وفي الحقيقة، إن تصميم «الصندوق» للموازنة المالية السنوية للدولة المتدحرجة بأفق ثلاث سنوات، الذي ألغى العمل بمنهاج سنوي مستقل للاستثمارات الحكومية، كما كان العمل في التجربة الاقتصادية خلال الفترة 1951 – 1979، يسهم في تقويض القدرة على تخطيط وتنفيذ ومتابعة مشاريع الاستثمارات الحكومية والعامة سنوياً، كما ينعكس بوضوح في وثيقة «الخطة». وإذ نلحظ في «الخطة» صَخَب الاعتراف بخطورة أزمات النظام العديدة من خلال محاولة تحليل الواقع، وطبيعة التحديات، وتحديد الأهداف ووسائل تحقيقها في القطاعات الاقتصادية، إلا أن ما يقلل كثيراً من قيمة هذا الصَخَب، أن «الخطة» تفتقد الوضوح والأولويات والاتساق بين عناصرها، كما يبدو واضحاً في الخليط غير المتجانس من الفرضيات والمبادئ والأهداف الاستراتيجية والسياسات الاقتصادية خلال السنوات الخمس القادمة‏[15]. والأهم هنا، التساؤل عن مغزى صدور «الخطة» بأهداف اقتصادية لا تتطابق مؤشراتها مع المؤشرات الاقتصادية والمالية الرئيسية «للصندوق» التي تعتمدها الحكومة؟ وبالتحديد، هل أن الزامية «الخطة»، كما جاء في المبادئ الأساسية، هو الأصل، وأنها ستكون بديـلاً لسياسات «الصندوق» وتُحَرر الحكومة من التزاماتها بهذه السياسات؟ ولأن الواقع يشير إلى النقيض، فإن تقييم السياسات الاقتصادية الحكومية يجب أن تكون من خلال مراجعة وتحليل سياسات وتقديرات «الصندوق» للإيرادات العامة والنفقات العامة ونمط توزيعها، وفي المؤشرات الاقتصادية الرئيسية (المُحَدَثة) خلال السنوات 2017 – 2023‏[16].

لم يؤدِّ تحديث المؤشرات الاقتصادية الرئيسية من جانب «الصندوق» للسنوات 2017 – 2023‏[17]، إلى تغييرات ذات أهمية نتيجة الأخذ بزيادة غير معلنة في أسعار النفط الخام وزيادة الطاقة الإنتاجية للنفط في عام 2020، وبالتالي زيادة القيمة المضافة لقطاع النفط الخام، وفي زيادة قيمة الناتج المحلي الإجمالي الإسمي (بالأسعار الجارية) من 171.7 مليار دولار في عام 2016 إلى 197.7 و223.3 و233.4 و244.2 و257.0 و272.2 و289.8 مليار دولار في السنوات 2017 – 2023 على التوالي، وهي تقديرات تزيد قليـلاً على التقديرات السابقة‏[18]. ويقدر معدل النمو السنوي خلال المرحلة 2018 – 2022 بنحو 6.6 بالمئة. كما ازدادت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 4533 دولاراً في عام 2016، إلى 5088 و5601 و5709 و5823 و5976 و6171 و6404 دولارات في السنوات 2017 – 2023 على التوالي. أما قيمة الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (بالأسعار الثابتة) فقد انخفضت من 173.6 مليار دولار في عام 2016، ثم إلى 172.180 وازدادت إلى 177.520 ثم انخفضت إلى 171.047 وازدادت نتيجة زيادة الإنتاج إلى 191.497 و196.217 و200.831 و205.606 مليار دولار في السنوات 2017 – 2023 على التوالي. ويقدر معدل النمو السنوي خلال المرحلة 2018 – 2022 بنحو 3.06 بالمئة، وهو أقل كثيراً من معدل النمو المقترح في «الخطة». كما أن هذه التعديلات ستزيد قليـلاً في نسبة إسهامات قطاع النفط العالية في الناتج المحلي الإجمالي الاسمي خلال السنوات 2017 – 2023‏[19]، أي، سيتكرس اعتماد الاقتصاد على قطاع النفط الخام. إن هذه التعديلات لا تتناسب مع الزيادة الفعلية في القيمة المضافة لقطاع النفط الخام نتيجة لزيادة إنتاجه وزيادة أسعاره بأكثر من الأسعار المستخدمة في التقديرات المعدلة. وبرأينا، فإن هدف «الصندوق» في استخدام أسعار النفط المنخفظة في هذه التقديرات، هو الاحتفاظ بجزء من «فائض» قيمة الصادرات النفطية لتسديد جزء من القروض الأجنبية وفوائدها التي تحتل الأولوية في سياسات «الصندوق»، وكذلك لتمويل «الصناديق السيادية» لاستثمارها «بعدئذٍ» في الأسواق المالية العالمية وفي تمويل مشاريع القطاع الخاص مستقبـلاً. وعن الإيرادات الحكومية، فقد قدرت بنحو 46.953 مليار دولار في عام 2016، ثم ازدادت إلى 65.010 و87.016 و87.385 و100.438 و99.554 و100.497 و102.789 مليار دولار في السنوات 2017 – 2023. أما النفقات الحكومية فقد انخفضت من نحو 70.743 مليار دولار في عام 2016، ثم إلى 69.639 ثم تزداد إلى 86.267 و88.708 و89.848 وتنخفض قليـلاً إلى 88.856 و88.591 لتزداد إلى 91.837 مليار دولار في السنوات 2017 – 2023. ولأغراض المقارنة مع «الخطة» فإن «الصندوق» يقدر مجموع الإيرادات الحكومية بنحو 474.790 مليار دولار في السنوات 2018 – 2022، بينما يقدر مجموع النفقات الحكومية بنحو 442.270 مليار دولار خلال نفس الفترة. ويلاحظ من البيانات المُحدثة، أن سياسة الصندوق تهدف إلى بقاء العجز في الموازنة المالية لصالح حجز الفائض من الإيرادات النفطية لتغطية فوائد القروض الأجنبية وتسديد أقساطها، ولتمويل استثمارات «الصناديق السيادية»، مع الاستمرار بتمويل الاستيرادات المتزايدة.

وعن مجموع الدين العام، فإن من المتوقع بموجب البيانات المُحَدثة زيادته من 110.6 مليار دولار في عام 2016 إلى 114.7 و122.1 و127.0 و132.4 و137.6 و141.9 و146.7 مليار دولار في السنوات 2017 – 2023 على التوالي، وتقدر الديون الخارجية بنحو 35.7 بالمئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي في عام 2019. كذلك، ستزداد قيمة الاستيرادات بما يزيد على قيمة الصادرات، وسيزداد العجز في رصيد الحساب الجاري، الذي يشمل الحساب التجاري والتحويلات الخارجية، من نحو +1.420 و+0.423 مليار دولار في عامي 2017 و2018 إلى −3.696 و −10.060 و −11.769 و −11.844 و −12.788 مليار دولار في السنوات 2019 – 2023. هنا، يقدر «الصندوق» أن سعر النفط الذي يتم فيه توازن ميزانية الدولة بـ 46.0 دولار للبرميل في عام 2016 و46.9 و55.4 و54.2 دولار للبرميل في السنوات 2017 – 2019‏[20]، وهذا يعني تحقيق فائض مالي للدولة بعد ارتفاع أسعار النفط منذ أيار/مايو عام 2018 ليصل إلى أعلى من 70 دولاراً للبرميل في الوقت الحاضر.

أما أهم المؤشرات الاقتصادية الرئيسية التي استهدفت «الخطة» تحقيقها، والتي نستهدف منها المقاربة مع تقديرات «الصندوق» لإبراز العشوائية والتضليل في صياغة الأهداف والسياسات الحكومية، فهي:

– تحقيق معدل نمو سنوي قدره 7 بالمئة في الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة خلال الفترة 2018 – 2022، بفرضية زيادة القيمة المضافة لقطاع استخراج النفط الخام بمعدل 7.5 بالمئة، ولبقية القطاعات 6.1 بالمئة‏[21]. وهنا يقع المُخَطِط في خطأ جوهري هو أن تقديرات إنتاج النفط الخام قد تحدد من قبل «الصندوق» وفي الخطة أيضاً، بمقدار 4.7 مليون برميل يومياً في السنوات الثلاث 2018 – 2020، وليرتفع إلى 4.9 مليون برميل يومياً في السنتين 2021 – 2022‏[22]، وهذا يعني أن معدل النمو السنوي في الناتج المحلي الإجمالي سينخفض من 7 بالمئة إلى نحو 4 بالمئة، بينما سينخفض معدل النمو في قطاع النفط من 7.5 بالمئة إلى 0.86 بالمئة فقط. لذلك، فإن المؤشرات المستندة إلى معدلات النمو الكلي ومعدلات النمو القطاعية في «الخطة» ستتغير بدرجة كبيرة، وستتغير معها المتغيرات الاقتصادية والمالية المرتبطة بها. كما أن من غير الصحيح الإيهام بأن من أهداف «الخطة» التي ينتهي أفقها الزمني في عام 2022 زيادة إنتاج النفط إلى 6.5 مليون برميل يومياً بدون ولو مجرد الإشارة إلى مقدار ومصدر الاستثمارات المطلوبة والأفق الزمني لتحقيق ذلك الهدف. وينسحب هذا التحفظ أيضاً في تقدير «الخطة» لمعدلات النمو المقترحة لقطاع الصناعات التحويلية. كما سيتغير أيضاً توزيع نسبة إسهامات القطاعات الاقتصادية، ومنها قطاع النفط والصناعة التحويلية والزراعة، في الناتج المحلي الإجمالي.

– أما الإيرادات العامة المتوقعة، فالخطة اختارت تقديرات «لجنة استراتيجية الموازنة» البالغة 370 ترليون دينار وهي أقل قليـلاً (3 بالمئة) من تقديرات الصندوق البالغة 381 ترليون دينار وبما يعادل 85 بالمئة من مجموع الإيرادات المتوقعة، ولكن من غير الواضح نمط إنفاق هذه الإيرادات. وفي السياسة المالية، تستهدف «الخطة» تقليص الإنفاق الحكومي على الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية، والرفع التدريجي لدعم أسعار الخدمات العامة والمنتجات النفطية، وهو تطبيق لسياسات «الصندوق». كما أن السياسة النقدية في «الخطة» تستهدف إنشاء صندوق سيادي بعنوان «دعم الاستثمار».

– ويلاحظ في أهداف «الخطة» الخاصة بمستقبل توزيع ملكية الأصول الرأسمالية، أن القطاع الخاص سيستحوذ في عام 2022 على 5 بالمئة من مجموع أصول قطاع النفط المملوكة بنسبة 100 بالمئة في عام 2015، وهذا توجه خطير يناقض مبدأ الملكية العامة للثروة النفطية، وقد يدل على بداية خصخصة القطاع، أم هو تفسير خاطئ لـ «صندوق الأجيال» الوارد في قانون شركة النفط الوطنية العراقية‏[23]؟ كما ستزيد ملكية القطاع الخاص للأصول الرأسمالية في قطاع الكهرباء ومياه الشرب إلى 25 بالمئة في عام 2022 مقابل 19.2 بالمئة في عام 2015، وهذا أيضاً يثير القلق بدليل استمرار مشكلة توفير الكهرباء ومياه الشرب رغم إنفاق مليارات الدولارات. كذلك، يستدعي الانتباه استهداف «الخطة» زيادة ملكية القطاع الخاص في الأصول الرأسمالية لقطاعي النقل والاتصالات إلى 95 بالمئة في عام 2022، بينما نعلم ضرورة النقل العام كونه من الخدمات العامة الذي يتطلب التوسع والتحديث، وندرك الأهمية الاستراتيجية لتحكم الدولة في البنية الأساسية لنظام الاتصالات الرقمي عبر شبكات الإنترنت.

– ولا تتوافر في «الخطة» مؤشرات عن تطور قيمة الاستيرادات والصادرات ومفردات ميزان المدفوعات ومقدار الدين العام المحلي والقروض الأجنبية.

– ومن المآخذ الرئيسية في أسلوب تخطيط «الخطة»، اعتبار الزيادة السنوية في الاستثمار معادلة تماماً للزيادة السنوية في معدل النمو المستهدف. وهذا يعني أن موضوع تحديد الاستثمار هو عملية محاسبية، وأنها ساذجة بافتراض زيادة الاستثمار بمقدار معدل النمو المتوقع في القطاعات ذات العلاقة‏[24]. وهنا، نعيد التشديد على أهمية وجود برنامج مستقل للاستثمار السنوي يشمل المشاريع الحكومية، ويتضمن دراسات الجدوى الاقتصادية والفنية الخاصة بها وفترات تنفيذها مع وضوح ووحدة معايير منح الصلاحيات لتنفيذها.

– وفي مثال يبرز الإيهام في أهداف «الخطة»، الادعاء بتنمية قطاع الصناعات التحويلية وتوطين التكنولوجيا الحديثة من خلال هدف زيادة معدل النمو السنوي في القطاع بنحو 10.5 بالمئة والذي يسهم بنسبة 0.9 بالمئة و1.1 بالمئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي في عامي 2018 و2022، في الوقت الذي يتم تخصيص 2.0 بالمئة فقط من مجموع الاستثمارات المطلوبة، وهي النسبة الأدنى في ترتيب أولويات توزيع الاستثمارات للقطاعات الاقتصادية العشرة باستثناء التعدين الذي قدرت استثماراته بنسبة 0.01 بالمئة‏[25]. هذا في الوقت الذي قدرت استثمارات قطاع النقل والاتصالات بنسبة 17.9 بالمئة، وهو القطاع الذي يمتلكه القطاع الخاص بنسبة 95 بالمئة واستثمارات قطاع النفط بنسبة 38.4 بالمئة، ومعظمها حكومية، من مجموع الاستثمارات المتوقعة في «الخطة». وهذه هي سياسة «الصندوق» التي ترفض ليس إقامة الصناعات التحويلية المستخدمة للتكنولوجيا المتقدمة فقط، بل القضاء على مشاريع القطاع العام الصناعية أيضاً.

لقد أدى تطبيق سياسات «الصندوق» منذ عام 2014 إلى نتائج اقتصادية سلبية، ومنها تدني معدلات النمو بمقياس الناتج المحلي الإجمالي‏[26] وزيادة البطالة وانتشار الفقر‏[27]. وكما في استجابة الحكومة لسياسة الصندوق المالية‏[28]، فإن السياسة النقدية للبنك المركزي، وبذريعة التحكم في التضخم، تمنح البنوك فرص الاستفادة من المضاربة بالدولار بطريقة المزايدة اليومية في العملة الأجنبية في نظام سعر الصرف الثابت بين الدينار والدولار. أما عن النجاح في زيادة الاحتياطيات من النقد الأجنبي الذي تتكرر الإشارة إليه، فهو محض رصيد في سجلات المحاسبة يزداد (يقل) تلقائياً نتيجة لزيادة (انخفاض) الإيرادات النفطية بفعل زيادة (انخفاض) الصادرات وأسعار النفط، وبسبب انخفاض (زيادة) الإنفاق الحكومي معاً. والمثير للانتباه والنقد الشديد، أن هذا الاستقرار الاقتصادي، الظاهري والمؤقت، قد أسهم في تبديد الإيرادات النفطية بالاستمرار في سياسة زيادة الاستيرادات من دون قَيد.

ثالثاً: أهداف «مُشْرِقْ» والتنويع الاقتصادي الهيكلي

في السنوات القليلة الماضية، أثار «الصندوق» في تقاريره السنوية أهمية «التنويع الاقتصادي» في البلدان النامية المصدرة للنفط، ومنها العراق. وقبلها، ولا سيَّما في أوقات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية (2008) والأزمة المالية في منطقة الاتحاد الأوروبي (2011)، كان «الصندوق» ينصح هذه الدول باستخدام فوائض الإيرادات النفطية لديها في زيادة الاستيرادات والاستثمار في الأسواق المالية، ولم يشر إلى استثمارها في توسيع الطاقات الإنتاجية الوطنية بهدف «التنويع الاقتصادي». والآن، ينصح «الصندوق» وبغطاء «التنويع الاقتصادي» الاستفادة من الفوائض المالية النفطية الحالية، بعد زيادة أسعار النفط التي من المؤكد أنها ستتحقق من مخزون الثروة النفطية، في تمويل الاستيرادات المتزايدة، ومعظمها منتوجات استهلاكية، ولتمويل «الصناديق السيادية» لدعم القطاع الخاص والاستثمار في الأسواق المالية العالمية‏[29]. هنا من المهم جداً إيضاح التباين الجوهري بين مضمون «التنويع الاقتصادي» لدى «الصندوق» في جميع الاقتصادات النامية والمتقدمة، وبين مضمون «التنويع الاقتصادي الهيكلي» في اقتصادات الريع النفطي، وكما يرد في «مُشْرِقْ».

فالمعروف، أن «التنويع الاقتصادي» ضروري للاقتصادات النامية والناهضة والمتقدمة‏[30]، لتأمين الاستقرار الاقتصادي في مواجهة مخاطر الأحداث الاقتصادية والمالية السلبية المحلية أو الخارجية غير المتوقعة. وكما يتكرر كثيراً في برامج وسياسات «الصندوق»، فإن «التنويع الاقتصادي» يتحقق بزيادة الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والفعاليات الاقتصادية كافة من دون الحاجة إلى التمييز في أولويات الاستثمار التي يجب أن تترك لتقديرات القطاع الخاص وآليات اقتصاد السوق التنافسية. لذلك، يجب تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في كل الفعاليات الاقتصادية الذي سيؤدي إلى تقليل الاعتماد على قطاع النفط الخام. لكن هذا الفهم لـ «التنويع الاقتصادي» يغفل أهمية العمل بمبدأ تحديد الأولويات في اختيار الفرص الاستثمارية، ويتجاهل التباين في درجة إسهامات القطاعات الإنتاجية والاقتصادية المختلفة في دينامية النمو الاقتصادي وتأثيرها في التنمية الاجتماعية والبيئية. في تحديد أولويات الاستثمار، يمكن للقطاع الخاص، وبهدى التكلفة ومعدل الأرباح ودرجة المخاطرة، المفاضلة بين المشاريع أو اختيار فرص الاستثمار، ولكنه، أي القطاع الخاص، غير معني بالاستثمار في مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية الضرورية لعمل آليات اقتصاد السوق بكفاءة. والواقع، كما تشير التجربة، أن القطاع الخاص يستفيد أكثر من استمرار الاعتماد الكبير على قطاع النفط‏[31]. ولأن معايير تكلفة وربحية الاستثمار والقدرة الإدارية لدى القطاع الخاص لا تسمح في الظروف الحالية بتمويل أو المشاركة في تمويل المشاريع الصناعية المتقدمة تكنولوجياً وتطوير مشاريع البنية الأساسية، فإن عمليات «التنويع الاقتصادي الهيكلي» تبقى من مهمات الدولة الأساسية التي يتم عادة إنجازها بالتخطيط الاقتصادي وتحديد أولويات الاستثمار بمشاريع معينة أولاً، ثم البدء بالتنفيذ بتمويل الإيرادات النفطية العامة.

في الاقتصادات الريعية التي تعتمد على قوى وآلية السوق الحرة، لا تؤدي الزيادة في النمو الاقتصادي بالضرورة، بمقياس قيمة الناتج المحلي الإجمالي، إلى الإسراع في عملية «التنويع الاقتصادي الهيكلي»، كما يقترح الصندوق. فدينامية النمو بهدى آلية السوق والمنافسة ومعيار الربح المالي، لا تتجه تلقائياً نحو تحسين القدرة التنافسية للاقتصاد من خلال إعادة توزيع الموارد وذلك لوجود الاختلال الكبير في هيكل الاقتصاد الناشئ من الاعتماد الكبير على الريع النفطي في تمويل الإنفاق الحكومي والاستيرادات، ولأن أفضلية الاستثمار لدى القطاع الخاص هي تجارة الاستيراد ومقاولات التشييد والعقارات والخدمات الأهلية. كما أن دينامية هذه العلاقات لا تتجه تلقائياً نحو التنمية الاجتماعية والبيئية من ناحية، ولا إلى تحسين القدرة التنافسية للاقتصاد من ناحية ثانية. فالنمو في الناتج المحلي الإجمالي لا يعني بالضرورة زيادة معدلات النمو في القطاعات الصناعية أو في الزراعة القادرة منتجاتها على المنافسة في الأسواق المحلية والخارجية. والدراسة الإحصائية لتأثيرات التغيّر في مستويات الطلب على منتجات القطاعات في دينامية الهيكل الاقتصادي، تؤكد أن التصنيع المستخدم للتكنولوجيا المتقدمة هو الذي يؤدي إلى زيادة العمالة واستيعاب فائض العمالة الريفية، ويؤدي إلى تطوير سوق العمل بارتفاع الأجور ونشر التكنولوجيا الحديثة‏[32]. وهذا يعني أن تنويع الفعاليات الاقتصادية من دون تمييز في أولويات الاستثمار في القطاعات المختلفة والاهتداء فقط بمعايير مؤسسات وقوى وآليات السوق ومبدأ حرية المنافسة، كما في سياسات «الصندوق»، لن يؤدي بالضرورة إلى تقليل الاعتماد على الصادرات النفطية‏[33].

أما بالنسبة إلى «التنويع الاقتصادي الهيكلي»، فبالإضافة إلى مواجهة احتمالات الانخفاض في قيمة الإيرادات (الصادرات) النفطية أو أي أحداث اقتصادية ومالية وتكنولوجية سلبية خارجية، فإن منافعه الرئيسية تشمل أيضاً، التالي:

– تأمين المرونة في نظام العلاقات الصناعية والاقتصادية المتبادلة، كما تنعكس في تشابك الارتباطات الخلفية والأمامية السائدة في النظام الاقتصادي القائم من جهة، وفي العلاقات بين عناصر الإنتاج وتوزيعها بكفاءة أفضل بين الفعاليات الإنتاجية للانتقال من الأقل كفاءة إلى الأعلى كفاءة من جهة ثانية.

– نشر التكنولوجيا المتقدمة بين فروع الاقتصاد بما يزيد في الإنتاجية ويؤدي إلى تحسين القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني.

من ناحية أخرى، إن حصر الاهتمام «بالتنويع الاقتصادي» في زيادة مصادر الإيرادات العامة، لن يؤدي إلى الإسراع في «التنويع الاقتصادي الهيكلي»، الذي يتطلب ضخ الاستثمارات الحكومية لإيجاد طاقات إنتاجية جديدة تستخدم التكنولوجيا الحديثة التي لها ارتباطات صناعية خلفية مؤثرة مع بقية القطاعات الإنتاجية لضمان استدامة النمو الاقتصادي على المديين المتوسط والبعيد، مع التشديد على أن «التنويع الاقتصادي الهيكلي» لا يتنافض بالضرورة مع أهدف السياسة المالية في حال وجود عجز بالموازنة المالية للدولة في المدى القصير.

يستهدف «مُشْرِقْ» من خلال تخصيص ما لا يقل عن 50 بالمئة من الإيرادات النفطية العامة خلال السنوات الخمس القادمة، الإسراع بعملية «التنويع الاقتصادي الهيكلي» وبما يؤدي إلى خفض إسهامات قطاع النفط إلى 30 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي الاسمي. في هذا الإطار العام، يتم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تحقيق التالي:

في الاقتصاد:

– الحفاظ على الملكية العامة للثروة النفطية (والغاز في المستقبل) الناضبة، وتنظيم استغلالها بما يسهم في استدامة النمو والتنمية والحفاظ على حقوق الأجيال القادمة فيها.

– زيادة القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني بتحريره من هيمنة الريع النفطي وبترشيد آليات السوق لاستدامة النمو وزيادة فرص العمل.

– تأهيل التخطيط الحكومي والسياسات الاقتصادية، وفي إطارها السياسة النفطية، لتعبئة الموارد العامة واستثمارها في إيجاد مصادر جديدة للإنتاج وللدخول ولتحسين الإنتاجية وزيادة الصادرات.

– تعظيم استثمار الدولة للريع النفطي في مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية (المادية)، وفي التصنيع المتقدم تكنولوجياً، وفي تنمية الموارد الطبيعية.

– توفير البيئة الاستثمارية المناسبة لتشجيع القطاع الخاص، الوطني والأجنبي، وتفعيل آلية السوق لتحسين كفاءة تعبئة وتوزيع الموارد.

– مكافحة الفساد باستئصال دوامة فشل السياسات والإجراءات الاقتصادية والمالية والتجارية المعيبة.

وفي المجتمع:

– الاستثمار في توسيع وتحسين الخدمات التعليمية والصحية والرعاية الاجتماعية والمنافع العامة.

– تقليص التفاوت في الدخول والثروات، واستعادة الطبقة الوسطى لدورها في التنمية.

– الإسهام في مكافحة الفساد بتأكيد المضمون الاقتصادي للعدالة الاجتماعية.

وفي السياسة:

– تمكين الحكومة في إدارة الدولة بمعايير واضحة، ديمقراطياً وبشفافية، لاستئصال جذور توأم الفشل والفساد.

– تعزيز استقلالية السياسات والقرارات الاقتصادية الوطنية في مواجهة المصالح والضغوط الخارجية.

– الإسهام في تجريد الفساد من حاضنة القوى السياسية والمؤسسات التنفيذية والتشريعية المؤثرة في القرارات الاقتصادية.

وخلافاً لسياسات «الصندوق»، يجب أن تتكيف السياسات الاقتصادية الحكومية، المالية والنقدية الكلية، والاستثمار، والتجارة الخارجية، لدعم الاستثمارات في الصناعات التحويلية المتقدمة تكنولوجياً وفي المشاريع الاستراتيجية الكبرى، ومشاريع البنية الأساسية الاقتصادية (المادية)، مع الحد من الإنفاق الاستهلاكي الحكومي، وتقييد الاستيرادات للحفاظ على العملات الأجنبية اللازمة لاستيراد السلع الرأسمالية ومستلزمات الإنتاج الأولية. كذلك، يجب أن لا تقتصر السياسة النقدية على التحكم في التضخم، حيث يجب أيضاً، دعم متطلبات الاستثمار الحكومي، وتهيئة الظروف المناسبة للتحرير التدريجي في نظام أسعار الصرف والتحويل الخارجي.

رابعاً: دينامية الريع النفطي في الاقتصاد السياسي
والنظام الاجتماعي

نعلم أن الإيرادات النفطية من العملات الأجنبية التي بدأت تفرض أهميتها المتزايدة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية منذ بداية الخمسينيات، وقد أضحت الآن عنصراً أساسياً في الاقتصاد السياسي، وقوة رئيسية في تشكيل العلاقات الاجتماعية مع الحكومة. فقد أسهمت، وبدرجات متباينة ومتزايدة، في النمو الاقتصادي بزيادة الاستثمار في توسيع الطاقات الإنتاجية، وفي زيادة الاستيرادات من المنتجات الاستهلاكية والسلع الوسيطة ومتطلبات المشاريع الاستثمارية من ناحية، كما منحت الحكومات بنظمها السياسية المختلفة، ومن خلال القوانين المنظمة للنشاط الاقتصادي وصلاحيات مؤسساتها التنفيذية، ولا سيَّما استحواذ القطاع العام على نسبة مهمة من الأصول الإنتاجية في كل القطاعات الاقتصادية – القطاع العام وسيلة من وسائل توزيع الدخول والثروات – قوة تأثير فريدةً في علاقاتها المتبادلة بالمواطنين والتعبير عن مصالحهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتعددة، وفي العلاقة مع القطاع الخاص، وذلك من خلال أنماط الإنفاق الحكومي المتزايد الأهمية في تحديد وتيرة ومسارات النمو الاقتصادي، وتراكم الثروة الوطنية، وفي توزيع الدخول من ناحية ثانية. ولتصبح بذلك العنصر الأهم في سمات الاقتصاد السياسي، كما تكشف التجربة العملية الطويلة عن اقتران الزيادة في الإيرادات النفطية، وما يوازيها من الإنفاق الحكومي، مع زيادة النمو الاقتصادي وفرص العمل والدخول، وتحسين الخدمات والمنافع العامة. كذلك، كان العكس صحيحاً أيضاً في حالة انخفاض الإيرادات النفطية.

وإذا تناولنا هذه التأثيرات في إطار الاجتماع السياسي: أي، نشاط ومصالح الناس المساهمين في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، نجد أن الإيرادات النفطية أدت دوراً مهماً في تشكيل علاقات الحكومة بمصالح الفئات الاجتماعية المُمَثلة بالنخب السياسية والمدنية في توجيه الإدارة السياسية في البلاد لتأمين المصالح التي تمتلك مصادر القوة الاجتماعية بأنواعها: العمل، وملكية الأصول الإنتاجية، والثروة، والمكانة الدينية، والمرتبة العلمية، والمشاركة في القوة العسكرية، والمكانة الشعبية، والثقافة العامة. وقد شهد الواقع هذه التأثيرات في العلاقات المتبادلة بين الفئات الاجتماعية وبين ممثليها من الأحزاب والنخب السياسية ونقابات العمال، بما يتناسب مع زيادة أو انخفاض الإيرادات النفطية‏[34]. ومع أن هنالك آراء صريحة أو ضمنية، إيجابية أو سلبية، في أهمية دور الريع النفطي، فإن بعض التحليلات الاجتماعية السياسية تمنح السلطة الحاكمة والنخب السياسية، أهميتها في تكوين النظام الاجتماعي من طبيعة جذورها العنصرية والقومية والإثنية والطبقية والدينية والطائفية والثقافية، وليس من قوة الريع النفطي‏[35]، وفي المقاربة مع الجهود التي لا تزال تبذل منذ عام 2003 لتحرير الاقتصاد من تدخل الدولة بمنح قوى وآليات السوق حرية المنافسة، وتوفير البيئة الاستثمارية المناسبة للقطاع الخاص، تبرز أيضاً، وبوضوح، أهمية الوعي الثقافي بالملكية العامة للثروة النفطية التي ترسخت في وجدان الشعب، في مقابل الدعوة إلى سلب دور الدولة في التصرف المباشر بالإيرادات النفطية، إلى درجة أن بعض النخب السياسية ترى أن التخلص من «نِقْمَة» الريع النفطي في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، يتم فقط بتمليك أصول الثروة النفطية للشركات الخاصة أو تفتيت الملكية العامة بالتدريج، وذلك، في رأيهم، لتأمين الاتساق في شروط بناء الاقتصاد الوطني على قاعدة قوى وآليات السوق التنافسية الأكثر كفاءة في تعبئة وتوزيع الموارد بالمقارنة مع إدارة الدولة ومؤسساتها وممارسات سوء استغلال الحكومات، اقتصادياً وسياسياً، لحق التصرف بالإيرادات النفطية.

منذ بداية الحرب مع إيران في عام 1980، وبخاصة بعد الاحتلال الأمريكي في عام 2003، برزت بقوة نزعة السلطة الحاكمة والأحزاب والنخب السياسية التي يفترض تمثيلها لمصالح الفئات الاجتماعية المتعددة والمتباينة – وهذا لم يحدث عملياً – في تجنب العمل بمعايير وأولويات اقتصادية وطنية تتسم بالمساواة والعدالة، والتردد في الالتزام بقواعد العمل المؤسسي في منح الصلاحيات للمؤسسات التنفيذية ومراقبتها، في تحديد أوجه التصرف بالإيرادات النفطية وذلك رغبة في استغلالها لمصالحها الذاتية، حتى قبل ضمان مصالح الفئات الاجتماعية التي تمثلها. ولقد مهد هذا الضعف في انتشار الفساد وتجذره في المؤسسات العامة وفي تراجع الثقافة الوطنية. كما أدى عدم التكامل في النظام السياسي بانسجام عمل المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتشرذم نشاط الأحزاب والنخب وتزايد نزاعاتها والعجز عن توحيد مصالح الفئات الاجتماعية، إلى بروز مساوئ الريع النفطي بتعثر الاستقرار في دينامية الاقتصاد السياسي، أي، اضطراب العلاقات بين الدولة وبين المصالح الاقتصادية المشتركة للفئات الاجتماعية التي تتشارك في فعالياتها الإنتاجية في إطار النظام السياسي القائم، وتتقاسم فيما بينها نتائج أنماط توزيع الدخول والثروات، الأمر الذي أدى إلى تعزيز «الفردية» بتفتيت التشابك والتجانس في مكونات النظام الاجتماعي وانتشار الفساد أيضاً. لذلك، نشهد اليوم، مظاهر التشتت في النظام الاجتماعي ليس فقط في غياب النقابات العمالية والمهنية والمنظمات المدنية الفاعلة والتراجع الكبير في دور الطبقة الوسطى، بل أيضاً، في نزاعات النخب السياسية وإثارة المشاكل الفردية والسعي للحصول على نصيب مباشر من الريع النفطي، أو بتوفير فرص الثراء لأصحاب الأعمال المحيطين بالسلطة من خلال تمويل مشاريعهم أو مشاريع الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص بتمويل من الإيرادات المالية أو تأمين الحصول على وظيفة حكومية أو منح إجازة استيراد… إلخ.

وللتخلص من هذه الاتجاهات الضارة في دينامية الاقتصاد السياسي ودينامية الاجتماع السياسي، يفرض الواقع ضرورة مركزية استثمار الريع النفطي من قبل الدولة في أولويات تمويل مشاريع توسيع الطاقات الإنتاجية وزيادة الصادرات غير النفطية، والاستمرار في تمويل استكمال مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية. فالقطاع الخاص، الوطني والأجنبي، لا يستطيع، ولا يرغب، الاستثمار في هذه المشاريع التي هي من الشروط الرئيسية في تحرير قوى وآليات السوق وتشجيع الاستثمار.

خامساً: استثمار الريع النفطي في الصناعات الوطنية
أم في «الصناديق السيادية»؟

يَصعب في غياب المعلومات الحكومية الموثقة، التكهن بأهداف التصريحات الغامضة عن تأسيس «الصناديق السيادية» (الصناديق) بتمويل من الإيرادات النفطية، ومعرفة توقيت تنفيذها، لتقييم أهميتها. وما نَضَحَ من مؤشرات قليلة عن هذه «الصناديق»، ولا سيّما الواردة في «القانون» باسم «صندوق المواطن» و«صندوق الأجيال»، وفي «الخطة» يرد ذكر «صندوق الأجيال»، يزيد في ظاهرة الغموض والخلط الذي تتصف به السياسات الاقتصادية الحكومية. فليس هنالك معرفة بآراء القانونيين والاقتصاديين والماليين الذين شاركوا أو سيشاركون في إعداد النظم الأساسية لهذه «الصناديق». ومع أن تقديرنا لأهمية هذه «الصناديق»، وبغض النظر عن فرضيات مجالات الاستثمار التي ستمولها، أنها ستزيد في تبديد الإيرادات النفطية في وقت يحتاج فيها الاقتصاد الوطني إلى تعبئة الموارد لتمويل الاستثمارات الضخمة في توسيع الطاقات الإنتاجية الوطنية القادرة على تصدير منتجاتها. بعبارة أخرى، إن الحاجة إلى تمويل الاستثمار في بناء الاقتصاد وإعادة تعمير المدن المهدمة والإسراع بالتنمية هي أكبر كثيراً من الفوائض المالية المتوقعة من صادرات النفط حتى مع افتراض زيادة أسعار النفط وإنتاج الغاز المصاحب ولغاية عام 2022 في المستقبل. ومع ذلك، لنتساءل، هل تكون موارد «الصناديق» مخصصة للاستثمار في العملات الأجنبية أو شراء الذهب كما يفعل البنك المركزي عادة، أو في تمويل القطاع الخاص الوطني، كما يقوم البنك المركزي بتمويل مشاريع القطاع الخاص‏[36]، أو الاستثمار في الأسهم والسندات، أو في العقارات المحلية والخارجية، أو في الشركات الصناعية الكبرى أو في الأسواق المالية العالمية؟ والتساؤل المهم أيضاً، لماذا هذه «الخفة» في تأسيس هذه «الصناديق» وغياب الشفافية في تحديد غاياتها‏[37]، والعالم يشهد التراجع في العلاقات الاقتصادية والمالية نتيجة التوسع في ممارسة السياسة الحمائية التجارية، حيث ستكون موارد «الصناديق» المودعة أموالها في البنوك الخارجية، عرضة للخسارة أو الضياع في حال حدوث نزاع سياسي مع الدول التي تمارسها‏[38]؟

ولإبراز مخاطر هذه المقترحات، نتساءل، هل يؤدي الاستثمار في الشركات والمؤسسات المالية العالمية من خلال «الصناديق» التي تجمعت، وستتجمع، فيها فوائض الريع النفطي «الافتراضية» في المستقبل، إلى إيجاد مصادر جديدة للإنتاج وللتصدير ولتشغيل القوى العاملة الوطنية؟ وهل تؤدي «خصخصة» بيع أصول الثروة النفطية أو الصناعة النفطية للشركات الأجنبية من خلالها إلى تأسيس طاقات إنتاجية جديدة أو تأمين تدفق العملات الأجنبية بما يوازي، ولو بنسبة محدودة، عوائد تصدير النفط الخام؟ وهل يؤدي تمويل مشاريع القطاع الخاص، الوطني والأجنبي، من فوائض الإيرادات النفطية في «الصناديق» إلى إيجاد طاقات إنتاجية قادرة على المنافسة وزيادة الصادرات؟ هذه أسئلة تحيط بالدعوة إلى «الصناديق السيادية» التي، برأينا، تنتزع قوة الريع النفطي من الدولة (الحكومة) لتمنحها للشركات الخاصة، الوطنية والأجنبية، التي تهتدي فقط بمعيار فوائدها وأرباحها المالية في استثمار موارد هذه «الصناديق». ثم أي حكمة سياسية واقتصادية في هذا الموقف! صحيح أن الدولة الآن بحاجة إلى الموارد المالية ولتنويع مصادرها لتمويل الإنفاق الحكومي الجاري والاستيرادات ولتغطية تكلفة القروض الأجنبية والدين العام، ولكن الصحيح أيضاً، أن من الخطأ الاستمرار في تكريس الاعتماد الكبير على الريع النفطي ولسنوات عديدة قادمة من خلال تمويل الإيرادات النفطية لاستثمارات «الصناديق»، غير المعروفة والمعرضة لمخاطر جسيمة تفوق مخاطر انخفاض أسعار النفط.

الغريب في الدعوة إلى «الصناديق» تجاهلها لحقيقتين جوهريتين: الأولى، أن مواردها ستتعرض لمخاطر انهيار الشركات وانخفاض أسهمها، كما حدث للشركات والبنوك العالمية في الأزمة المالية والاقتصادية العالمية (2008)‏[39]، أو انخفاض أسعار العملات الأجنبية التي تستثمر فيها، أو تعرض الصادرات من النفط الخام للانخفاض بعوامل خارجية. أما الحقيقة الثانية، فهي، خطأ الحكومة والنخبة السياسية، الشنيع والغريب في دلالة التَمييز بين تدني الثقة في السلطة الحاكمة وبين نزاهة الفريق الذي سيتولى إدارة استثمارات هذه «الصناديق». فإذا كانت المشكلة في تدني نزاهة وكفاءة السلطة الحاكمة هي المبرر في تأسيس «الصناديق»، عندها، ليس من المتوقع ضمان النزاهة والكفاءة للقائمين على إدارة استثمارات هذه «الصناديق». أي فكر اقتصادي أو منطق سياسي وطني هذا الذي يفتقد الثقة بالحكومة وهو يعمل معها من جهة، وليقترح البديل عنها بمجلس إدارة «الصناديق» من جهة ثانية؟ والأهم، أيّ نهج أفضل في حماية حقوق الأجيال القادمة: شراء أسهم الشركات والسندات المدرجة في الأسواق المالية العالمية بتمويل «الصناديق» من ريع الثروة النفطية الناضبة، ثم الاهتمام بمتابعة رصيد الأرقام في حسابات «الصناديق»، أم الاستثمار في إقامة المشاريع الصناعية الوطنية المتقدمة تكنولوجياً لزيادة الإنتاج والإنتاجية وتشغيل الأيدي العاملة والصادرات؟

سادساً: قانون شركة النفط الوطنية العراقية: سذاجة أم دهاء دُعاة «الليبرالية الجديدة»

مع أن من المبكر التأكد من تنفيذ قانون شركة النفط الوطنية العراقية (القانون)‏[40]، الذي يتعرض للمعارضة من عدد محدود من السياسيين وخبراء النفط والاقتصاد‏[41]، ولكنه يعكس خطوة في السعي إلى خصخصة تدريجية لأصول الثروة النفطية والغاز وللصناعة النفطية، ويسهم أيضاً، في تغطية عيوب وشبهات الفساد في إدارة الاستثمار النفطي وفي تبرير تصرف السلطة والمؤسسات التنفيذية السيئ بالإيرادات النفطية العامة. ومن المتوقع عند تنفيذ «القانون»، تعبئة الفائض المالي المتوقع من «مخزون» الثروة النفطية في «الصناديق السيادية» واستثماره في تمويل مشاريع القطاع الخاص كالعقارات والتشييد والتجارة والخدمات الشخصية، والجزء الأعظم في الأسواق المالية الدولية.

وما يثير الاستغراب في التبرير الاقتصادي والمالي «للقانون»، حيث يرى أبرز المساهمين فيه «ثورة على الدولة الريعية»، لأنه يقلب «معادلة الدولة الريعية حيث سيذهب الريع إلى حساب المواطن بدلاً من حساب وزارة المالية» وأنه «سينهي جشع «النواب ومعهم الفاسدون في السلطة التنفيذية على النهب من ريع النفط واقتسام الكعكة»‏[42]. لم يكن صدور «القانون» مصادفة مجردة من المحاولات المستمرة منذ بداية الاحتلال في عام 2003، لتجريد الدولة من قوة الريع النفطي الضرورية لبناء الاقتصاد وتطوير المجتمع وتنمية الموارد الطبيعية. فالأصل في هذه الآراء، يعود إلى أهداف سلطة الاحتلال لتأسيس نظام اقتصادي ليبرالي جديد تحكمه شروط وآليات السوق بديـلاً للنظام السابق، حيث يجب خصخصة الملكية العامة لقطاع النفط، وإلى مشاريع القطاع العام، كما تمثل في البدء بأوامر (قرارات) الحاكم بول بريمر، رئيس «سلطة الائتلاف المؤقتة»، ووافق عليها «مجلس الحكم». ولأسباب تتعلق بتجنب المواجهة السياسية مع الموقف الوطني، تم تفضيل التدرج، وبأشكال متعددة، لخصخصة الملكية العامة لقطاع النفط‏[43]، وكما ورد تماماً في مضمون المادة 12 من «القانون».

وفي رأينا، وبالرغم من الاعتراف بواقع سوء استعمال الريع النفطي في الحاضر والماضي، ليس صحيحاً، بل هو أمر خطير، في الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الصعبة الراهنة، البدء في سلب حق استثمار الدولة المركزي المباشر للموارد الطبيعية: الثروة النفطية والغاز، والثروة المعدنية، واستغلال الأرض، وتنمية المياه، والاستفادة من الفضاء، بحجة فشل الحكومات المتعاقبة في إدارة الاقتصاد والتنمية. فليس بخافٍ أن المشكلة الأساسية المتعلقة بطريقة استثمار الريع النفطي ليست في تجريد الدولة من دورها في استغلال هذا الريع، بل المشكلة هي الفشل في إيجاد نظام سياسي تديره سلطة ومؤسسات تنفيذية وتشريعية نزيهة، سلطة تتمتع برؤية مستقبلية ملهمة وبصدقية في وعودها: سلطة قادرة وبكفاءة على استثمار «نِعْمَة» الريع النفطي في بناء اقتصاد قادر على المنافسة، وتنمية المجتمع والموارد الطبيعية.

ويبقى التساؤل؟ هل من العبقرية والدهاء أم من السذاجة أم تدني الكفاءة، القبول بمنطق الحكومة والطبقة السياسية، وبذريعة محاربة الفساد، تجريد الدولة من مسؤولياتها في استثمار الثروة النفطية العامة لتمنح صلاحيات توزيع الإيرادات النفطية لمجلس إدارة الشركة لكي يمنح خزينة الدولة ما لا يزيد على 90 بالمئة من مجموعها، ويمنح سهماً واحداً من رأسمال الشركة لكل مواطن، وتخصيص نسبة من الإيرادات لـ «صندوق الأجيال» المبهم، ونسبة لتمويل «صندوق الإعمار» المجهول الهوية‏[44]. ولنتساءل أيضاً، إذا كانت السلطة الحاكمة، وبجميع مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وقوانينها، غير قادرة على إدارة الاقتصاد الوطني واستثمار الإيرادات النفطية ومنع انتشار الفساد، فكيف يمكن قبول أن فريق إدارة الشركة المخول بالصلاحيات سيكون قادراً على منع سوء استغلال الإيرادات النفطية؟ وكيف يمكن لعبقرية السلطة الحاكمة والأحزاب السياسية المهيمنة التي فشلت في إدارة الاقتصاد والتنمية على مدى خمسة عشر عاماً، أن تتجاوز احتمالات سوء تصرف الشركة بالثروة النفطية؟

سابعاً: الاستنتاجات العامة

منذ مطلع عام 2003، لم تحقق السياسات الاقتصادية «الليبرالية الجديدة» والإجراءات المالية الحكومية النجاح في التحول نحو اقتصاد السوق لاعادة بناء الاقتصاد وزيادة فرص العمل، وإعمار البنية الأساسية، ومنع انتشار الفقر، وتحسين مستويات المعيشة، بالرغم من إنفاق الإيرادات النفطية العامة الوفيرة. كما لم تقلل من الاعتماد الكبير جداً على صادرات النفط الخام في تمويل الموازنة المالية للدولة والاستيرادات المتزايدة. ومن غير المتوقع أن تُحَقق النجاح في إعادة تأهيل المناطق المدمرة بإرهاب ومحاربة «داعش». وبسبب هذه السياسات أيضاً، انتشر الفساد، وتعمقت دينامية الاقتصاد السياسي للريع النفطي لتصبح مهمات الحكومة قي تلبية مصالح المواطنين الاقتصادية والسياسية مُقيَدةً تماماً بالإيرادات النفطية المعرضة لعوامل اقتصادية وسياسية وتكنولوجيا خارجية سلبية محتملة. ولأن أهمية الثروة النفطية في الاقتصاد والتنمية ستستمر لآماد زمنية بعيدة، يصبح تدخل الدولة ضرورياً لإحداث التغيير في دينامية الاقتصاد السياسي للريع النفطي واستبداله بالاقتصاد السياسي للنمو والتنمية. وفي هذا الاتجاه، من الصحيح جداً العودة إلى ممارسة التخطيط الاقتصادي والإنمائي المركزي وتحديد معايير الانفاق الحكومي، الجاري والاستثماري، وتوحيد صلاحيات المؤسسات في تنفيذه. ومن غير الصحيح، والعبث، التضليل بإمكان التوفيق بين «قدسية» السياسة المالية «الانكماشية» و«استقلالية» السياسة النقدية «للصندوق» وللحكومة للفترة (2017 – 2022) وبين ارتباك وإرباك أهداف وسياسات «الخطة» للفترة 2018 – 2022 المنزوعة قيمتها العملية بغياب مشاريع الاستثمارات الحكومية منها. وفي المقابل، ومن أجل ترشيد استثمارات الثروة النفطية العامة الناضبة، وتحرير الاقتصاد السياسي من مساوئ فخ الريع النفطي المزمن، يؤدي مُشْرِقْ دوراً رئيسياً في تفعيل التخطيط الاقتصادي بتحديد أولويات الاستثمار المُمَوَّل من نِعْمَة الثروة النفطية، في إقامة مشاريع الصناعات التحويلية المستخدمة للتكنولوجيا المتقدمة، والزراعة الحديثة، واستكمال وتطوير مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، لتأمين استدامة النمو، وزيادة الدخول، وفرص العمل، وتحسين القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني. وفي إطار الأهداف الاقتصادية لـ «مُشْرِقْ»، ستتحسن البيئة السياسية المناسبة لدعم الممارسات الديمقراطية والتشديد على مبادئ الوطنية وحقوق المشاركة بمنافع الثروات العامة.