تمهيد:

هل عمليات التفكيك والتجزئة التي تشهدها بعض الأقطار العربية حالياً، والتي قد تتمتد قريباً إلى عدة أقطار أخرى، خصيصة عربية وإسلامية، أم هي جزء من ظاهرة عامة عالمية بدأت تتجلى بأبهى صورها غداة نهاية الحرب الباردة؟ بكلمات أوضح: هل هي مؤامرة أم حصيلة موضوعية؟

سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، وقفة أولاً أمام طبيعة ومآلات الأحداث التي شهدها ويشهدها العالم منذ نحو 25 سنة.

بات معلوماً أن النظام العالمي يمر حالياً بواحدة من أضخم الثورات التاريخية، التي لن تغيّر هذا النظام وحسب، بل ربما أيضاً الطريقة التي عاش بها البشر طوال السنوات العشرة آلاف الماضية. إنها في آن ثورة في التكنولوجيا كما في الأيديولوجيا؛ في الاقتصاد كما في الفكر؛ في الزراعة التي ستنتقل قريباً مع البيوتكنولوجيا من الأرض إلى المختبرات، كما في الصناعة التي بدأت تنتقل هي الأخرى من عالم المادة إلى عالم المعلومات والأفكار والروبطة؛ في الطب العضوي كما في الطب النفسي؛ في مفاهيم القوة كما في نظريات السيادة والدولة – الأمة والحدود.

كان حازم الببلاوي مصيباً حين أطلق على هذه الثورة اسم «عصر الانقطاع». فإذا ما كان ظهور الزراعة قبل عشرة آلاف سنة ثورة وانقطاعاً بين نمط حياة القنص والبداوة وبين نمط الحياة الإنتاجي المستقر، وإذا ما كانت الصناعة انقطاعاً ضخماً آخر قلب الحياة البشرية رأساً على عقب، فإن الثورة التكنولوجية الثالثة الراهنة المستندة إلى المعلومات والاتصالات والبيوتكنولوجيا والروبطة، ستكون فاتح عصر جديد يمثِّل انقطاعاً كبيراً آخر في نمط الحياة والإنتاج.

العولمة الراهنة تدّعي أنها ليست أيديولوجيا ولا حتى نظاماً، لكنها كذلك في الواقع بسبب تقديسها الشديد للأقانيم الكبرى الثلاثة للرأسمالية: «اليد الخفية» للسوق، والتجارة الحرة، والفردية المطلقة[1]. إنها قوى وشبكات قوى تعد الكرة الأرضية كلها مجال عملها، وهي بدأت تضع للمرة الأولى في التاريخ السلطتين السياسية والاقتصادية في آن مباشرة في يد الرأسمالية.

هنا بالتحديد كان هاردت ونيغري دقيقين في مؤلفهما الإمبراطورية، حين أطلقا على السلطة الجديدة اسم «إمبرطوارية العولمة»[2]، وحين أشارا إلى أن هذه الإمبراطورية تولد مباشرة أمام أعيننا الآن. فخلال العقود القليلة الماضية، وفي حين كانت النظم الكولونيالية تتعرض للإطاحة، ثم تنهار الحواجز السوفياتية أمام السوق العالمية بسرعة كبيرة آخر المطاف، كنا شهوداً على ظاهرة مبادلات اقتصادية وثقافية غير قابلة للمقاومة اتفق على تسميتها العولمة.

فجنباً إلى جنب مع السوق العالمية ودورات الإنتاج العالمية، برز نظام عالمي، ومنطق وآلية جديدان للحكم. باتت الإمبراطورية الجديدة التي تتولى الاضطلاع بمهمة تنظيم هذه المبادلات العالمية، هي السلطة السيادية التي تحكم العالم.

وفي هذا الإطار، لم يكن تدهور سيادة الدول – الأمم وعجزها المتزايد عن تنظيم المبادلات الاقتصادية والثقافية، سوى أحد الأعراض الرئيسية لعملية قدوم إمبراطورية جديدة. ويشير هاردت ونيغري إلى أن الانتقال إلى الإمبراطورية الجديدة، لا يأتي إلا من غسق احتضار السيادة الحديثة. فعلى النقيض من الإمبريالية، لا تقوم الإمبراطورية بتأسيس مركز إقليمي للسلطة، كما لا تعتمد على أي حدود أو حواجز ثابتة. ولإنها أداة حكم لامركزية ولاإقليمية فهي تسعى، تدريجياً، إلى احتضان المجال العالمي كله في إطار تخومها المفتوحة المتسعة. وتتولى الإمبراطورية إدارة الهويات الهجينة، والمنظومات التراتبية المرنة، والمبادلات المتعددة عبر شبكة طبقات متباينة من الحكم والقيادة. لقد باتت الألوان المتمايزة لخريطة العالم الإمبريالية متداخلة ومندمجة في قوس قزح العالم الإمبراطوري (قوس قزح العولمة الجديدة)[3].

بالطبع، فكرة نهاية الإمبريالية وحلول «إمبراطورية شبح» مكانها، تلسع ولا تُرى، حظيت بمعارضة شديدة من سمير أمين والعديد من اليساريين الذين رأوا فيها تسويغاً لكل مقولات الولايات المتحدة عن أنها «إمبراطورية حميدة وغير إمبريالية»[4]. بيد أن هؤلاء المنتقدين كانوا يعترفون في الوقت نفسه بأن العولمة في طبعتها النيوليبرالية الراهنة، دكّت بعض أسس الدولة – الأمة التي ارتكز عليها النظام الحديث منذ معاهدة وستفاليا العام 1648.

لكن، وعلى الرغم من أن العولمة هزّت مقومات الدولة – الأمة في بلد المنشاً (الدول الغربية)، إلا أنها لم تُلغ بعض أدوارها الرئيسية. وهذا كان واضحاً بجلاء خلال الأزمة المالية والعقارية الطاحنة التي شهدتها الولايات المتحدة منذ العام 2008، والتي أدت فيها الدولة الأمريكية دوراً حاسماً في إخراج الرأسمالية من ورطتها. كما هو واضح أكثر مع الإطلالة القوية الراهنة للقوميات في شرق آسيا والعديد من مناطق العالم (كما سنرى في الخاتمة)، وإن كانت هذه الإطلالة لم تعن، حتى الآن على الأقل، الانهيار المحتمل للعولمة الأمريكية الراهنة، كما حدث مع العولمة في طبعتها البريطانية التي انفجرت في الحرب العالمية الأولى.

في عالم الدول النامية، عمل كل من نهاية الحرب الباردة وظاهرة العولمة، إضافة إلى عوامل أخرى على رأسها تغيّر المناخ، والدمار الإيكولوجي، وقانون مور (Moore Law) (سلطة الكومبيوتر والإنترنت)، على نسف وجود العديد من الدول نفسها. فمن دون نظام الحرب الباردة، لم يكن من السهل على الدول النامية الضعيفة في العالم توفير الحد الأدنى لمواطنيها في مجالات الأمن والوظائف والصحة والضمانات الاجتماعية. ثم جاءت العولمة عبر شروط «اجماع واشنطن» التي فرضها صندوق النقد الدولي ليسلب هذه الدول ما تبقى من أدوار اجتماعية وتنموية.

كما تكفّلت أُمُّنا الطبيعة في تسريع الانفجار الداخلي لهذه الدول، إذ من الصعب، على سبيل المثال، فهم أسباب انفجار سورية على هذا النحو المروّع، من دون فهم كيفية قيام الجفاف القاسي الذي ضرب البلاد طوال سنوات أربع، والذي كان يرقص على إيقاع انفجار ديمغرافي كبير (طفرة هائلة في أعداد الشباب)، في تقويض أسس الاقتصاد والدولة السوريين. كما لا نستطيع فهم بعض الأبعاد الرئيسية لانتفاضات مصر من دون فهم ما يزعم عن تأثيرات عولمة اليد العاملة الصينية في فرص العمل المصرية، ومن دون أزمة القمح العالمية العام 2010، وكذلك من دون دراسة مضاعفات زحف ملوحة البحر على الأراضي الزراعية المصرية التاريخية، التي تهدد الآن بتشريد نحو 10 ملايين فلاح مصري (كدفعة أولى)[5].

وبالمعيار نفسه، لا يمكن فهم أسباب انتشار داعش أو انتفاضات الربيع العربي، من دون قانون مور (التطويرات المتلاحقة في الإنترنت والكومبيوتر) الذي مكّن مجموعات صغيرة من تجنيد الأنصار، وتحدي الدول، وإزالة الحدود[6].

حصيلة هذه التطورات كانت مذهلة. فقد بدأت سيرورة التفكك السياسي أولاً في أراضي العديد من الإمبراطوريات السابقة، وبخاصة الإمبراطورية العثمانية، ثم انتقلت إلى العديد من البلدان الأخرى، بما في ذلك إحدى القوتين العظميين: الاتحاد السوفياتي. وقبل حلول العام 2000 كان عدد الدول في العالم قد تضاعف أكثر من ثلاث مرات. فمن إندونيسيا إلى اسكتلندا، ومن الاتحاد السوفياتي السابق إلى السودان، كانت السمة الأبرز لعصرنا هي التفكك، واللامركزية، وحتى التحلل، إذ لم يكن يمر شهر إلا ونسمع عن ظهور دولة جديدة على الخريطة العالمية. وقد أدى هذا التفكك إلى طفرة هائلة في قوة منظمات لادولتية على غرار الشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات غير الحكومية والإعلام، وبالطبع المنظمات المدموغة غربياً بالإرهاب.

يعتقد الباحث مارتن فان كريفيلد (Martin Van Creveld) أن هذه العملية تعود بنا ثانية إلى حقبة القرون الوسطى الأوروبية، لكن بدلاً من الإمبراطور هناك الرئيس الأمريكي، وبدلاً من البابا هناك الأمين العام للأمم المتحدة. وكما في القرون الوسطى، ستتواصل حالة اللامركزية السياسية وستترافق مع تنقلات ضخمة للسكان من وحدة سياسية إلى وحدة أخرى، ومع سلسلة طويلة من الحروب الأهلية والحروب الصغيرة المحدودة، في إطار فوضى تحكمها لاقطبية عالمية[7].

أولاً: سيرورة ومؤامرة

هذه المعطيات المتقاطعة، قد تدفع إلى الإسراع في الإجابة عن سؤالنا الأول بالقول إن ما تشهده المنطقة العربية الآن من تفكك المفكك وتجزؤ المجزأ، ليس مؤامرة جديدة على العرب، بل هو جزء عربي من كلٍ عالمي؛ كلٌ تعمل فيه في الدرجة الأولى العولمة على تذرير كل الكيانات السياسية الهشة أو الضعيفة، وتسييل باقي الكيانات السياسية في دول العالم الأول الراسخة، بهدف إعادة تركيب الأوطان في سوق قرية عالمية واحدة، وتحويل المواطن إلى مستهلك اقتصادي وثقافي في هذه السوق. وهذا يتطلب (كما في الاتحاد الأوروبي) تفكيك الدول أو تقويض سيادتها، ثم دمجها في سوق إقليمية مرتبطة بالسوق العالمية الجديدة.

هذا صحيح، ولكن جزئياً فقط، إذ على عكس المناطق الأخرى التي تشهد سيرورة التفكيك، تتميز منطقتنا بوجود مخططات غربية – إسرائيلية قديمة العهد وُضعت قبل حقبة غير قصيرة من بروز ظاهرة العولمة كقوة تغيير عالمية، وهدفت إلى تذرير هذه المنطقة بهدف إخضاعها استراتيجياً للمركز الإسرائيلي.

كل ما هنالك أن هذه المخططات تقاطعت الآن مع خطط قوى العولمة في المرحلة التاريخية الراهنة، فبات كلٌ منها يتغذى من الآخر ويتعزز بقدراته وإمكاناته. وهذا ما جعل بطن الوطن العربي مفتوحاً على التفكيك دون التركيب (حتى الآن على الأقل)، في إطار حروب دائمة، معيداً بذلك تجارب حرب الثلاثين عاماً الطاحنة في أوروبا.

هل تذكرون هنا السير مايكل سايكس؟

بالتأكيد. فهو ذلك الدبلوماسي البريطاني الأشهر الذي دمغ مئة سنة من تاريخ الشرق الأوسط بختمه الخاص، أو بالأحرى بقلمه الخاص، الذي قسَّم به المنطقة وزيَّنها باللونين الأحمر( حصة بريطانيا) والأزرق (حصة فرنسا) بعيد الحرب العالمية الأولى.

ذكرى سايكس هذا تنبش هذه الأيام على عجل في الغرب، جنباً إلى جنب مع فتوحات العولمة، وتحاط بهالة تكاد تقترب من القدسية. فهو «الدبلوماسي العبقري» الذي «بنى عالماً جديداً» في المشرق العربي. وهو الشاب الذي لو لم تقضِ الأنفلونزا الإسبانية عليه سنة 1919 وهو في ريعان الشباب (39 عاماً)، لكان أصبح أشهر وأهم وزير خارجية في تاريخ الإمبراطورية البريطانية. ثم إنه ذلك السياسي الذي «أدخل الرؤى العميقة والخيال الرحب» إلى علم السياسة الذي أسسه نيقولو مكيافيلي قبله بأربعة قرون. هذه الصحوة المفاجئة على عبقرية سايكس، التي ينغمس بها بنشاط الإعلام الإنغلوساكسوني والإسرائيلي، ليست بريئة. إنها كانت على الأرجح تمهيداً لاستيلاد طبعة جديدة من السير سايكس، تكون هي العنوان الجديد للتاريخ في الشرق الأوسط الجديد.

من هم المرشحون لهذا الموقع الخطير؟

هناك مرشح أبرز: الكولونيل الأمريكي المتقاعد رالف بيترز، الذي كان نائب رئيس الأركان لشؤون الاستخبارات في البنتاغون، وأحد أهم الباحثين العسكريين حالياً في الدوريات الاستراتيجية والأمنية الأمريكية.

هذا الكولونيل قفز فجأة من غياهب التقاعد إلى قلب الفعل، حين نشر في 10 تموز/يوليو 2006 كتابه لا تتوقفوا أبداً عن القتال[8]، الذي تضمن خريطة «الشرق الأوسط الجديد»، كما فصَلها وشكَلها ولوَنها هو (تماماً كما فعل سايكس).

كان يمكن أن تبقى هذه الخريطة، ومعها الكتاب، مجرد خيال رحب لو أن مجلة القوات المسلحة الأمريكية لم تنشرها، أو لو أن البنتاغون لم يقم بعرضها على اجتماع رفيع لحلف الأطلسي في بروكسل. بيد أن هذين الحدثين، مضافاً إليهما الضجة الإعلامية الكبرى التي رافقتهما، أوحيتا بأن المسألة ليست البتة اجتهادات أكاديمية، وأن وراء أكمة الكتاب ما وراءها.

للتذكير، استندت دراسة بيترز إلى المحاور التالية:

– حدود الدول الراهنة في الشرق الأوسط هي الأكثر تعسفاً وظلماً، جنباً إلى جنب مع حدود الدول الأفريقية التي رسمها أيضاً الأوروبيون لمصلحتهم الخاصة.

– الحدود الجديدة المُقترحة ستحقق العدل للسكان الذين كانوا الأكثر عرضة للخديعة، وهم الأكراد، والبلوش، ثم المسيحيون والبهائيون والإسماعيليون والنقشبنديون، وغيرهم من الأقليات التي تلم شملهم رابطة «الدم والإيمان».

– إعادة رسم الحدود يتطلب تقسيم وإعادة تركيب كل دول الشرق الأوسط تقريباً: من الدول العربية إلى باكستان، ومن تركيا إلى إيران. وهكذا سيتم، على سبيل المثال، تقسيم إيران إلى أربع دول. وتركيا ستفقد أراضي شاسعة في الأناضول. والسعودية ستصبح ثلاث أو أربع دول، وسورية سيتم تقاسمها بين دول مذهبية وعرقية جديدة وبين «لبنان الكبير» الذي سيضم كل «ساحل فينيقيا» القديم. كما ستمنح معظم الأقليات الدينية والعرقية إما الاستقلال أو الحكم الذاتي.

أخطر ما قالته دراسة بيترز وخريطته كمن في ما لم تقله: حصة «إسرائيل» الجغرافية في الخريطة الجديدة. وهي حصة واجبة الوجود لأن الشرق الأوسط الجديد الذي سيرث شرق أوسط بريطانيا وفرنسا، سيكون في الدرجة الأولى أمريكياً – إسرائيلياً مع تلاوين أطلسية وأوروبية، ومع الحرص على طرد روسيا والصين منه.

بيد أن الوثائق الصهيونية المُبكّرة منذ مؤتمر السلام بُعيد الحرب العالمية الأولى، سبق أن أوضحت أن حدود «إسرائيل» الطبيعية تشمل، فضلاً عن كل فلسطين، جنوب لبنان ومعه بالطبع نهر الليطاني، وأجزاء واسعة من سورية والأردن والعراق. وأي تغيير في الخرائط لا يشمل حدود «إسرائيل الكبرى» هذه، لن ير النور بسبب الدور الكبير والحاسم للحركة الصهيونية في النظام العالمي الراهن.

حين نشرت مجلة البحرية الأمريكية هذه الخريطة، سارعت وزارة الخارجية الأمريكية إلى التنصل منها. لكن مراقبة أنشطة هذه السياسة في السنوات الأخيرة تشير إلى أن واشنطن ربما ترقص بالفعل على إيقاع موسيقى خرائط بيترز، إذ إنها كانت وراء تدمير الدولة الموحّدة العراقية. وهي التي تحاول الآن بشتى الوسائل النفخ في إوار الصراعات المذهبية الإسلامية في المنطقة. كما أنها الراعي الأول للجماعات الأصولية القبطية المتطرفة في الغرب التي تتبنى شعار «الأمة القبطية». هذا ناهيك بأنها كانت القوة الدولية الرئيس الدافعة باتجاه تقسيم السودان.

رالف بيترز، إذاً، ليس صوتاً صادحاً في برّية قفر. إنه بالأحرى مارك سايكس جديد، ولكن بجموح أكبر بما لا يقاس. لكنه جموح له مرتكزات أيديولوجية وجيواستراتيجية قوية.

فـ «المجزرة الجغرافية» الكبرى، إذا ما جاز التعبير، لها بالنسبة إلى الكولونيل بيترز مبرر «أخلاقي». يقول في كتابه: «الحدود الدولية لا تستطيع أبداً أن تكون عادلة. بيد أن درجة الظلم التي تُنزلها بأولئك الذين يفصلون أو يضمون إلى حدود جديدة، تخلق فرقاً كبيراً هو نفسه الفرق بين الحرية والقمع؛ بين التسامح والفظائع؛ بين حكم القانون والإرهاب، أو حتى بين السلام والحرب».

السير سايكس أيضاً أضفى مسحة إنسانية على مجرزته الجغرافية، حين قال مرة إن تفتيته للمنطقة العربية هدفه «إدخال هؤلاء الفقراء العرب إلى العالم الحديث».

حصيلة خريطة سايكس كانت مئة عام من الحروب والنزاعات والجروح التي لمّا تندمل بعد، لأنها (الخريطة) كانت منقطعة الصلة كلياً بالواقع. ومع ذلك، يعاد الاعتبار في الغرب الآن لسايكس بوصفه «بطل الرؤى الإبداعية».

الحصيلة نفسها ستحدث في الغالب مع خريطة رالف بيترز: مئة عام أخرى من الحروب والنزاعات والجروح التي لن تندمل، لكن هذه المرة على نطاق جغرافي أوسع كثيراً يمتد من سواحل قزوين إلى شواطئ سورية، مبتلعاً في طريقه كل مناطق الشرق العربي، وآسيا الوسطى، وآسيا الصغرى، وآسيا الجنوبية وأفغانستان. إنها «لعبة الشطرنج الكبرى» الجديدة التي تحدث عنها زبغنيو بريجنسكي، والتي ستجد في «رؤى» بيترز أولى تطبيقاتها العملية.

1 – تقسيم السعودية

يبدو أن خريطة رالف بيترز بدأت تشق طريقها إلى النور. فالعراق تقسّم عملياً. وسورية على الطريق. وكذلك اليمن وليبيا. والسودان المنشطر إلى شمال وجنوب، قد يكون على موعد قريباً مع تشظٍ جديد[9].

كل هذه التوجهات ستكون لها حتماً مضاعفات على بقية دول الشرق الأوسط العربي – الإسلامي بلا استثناء تقريباً.

وإذا ما كان ثمة مرشّح أول للانضمام إلى معمعة التقسيم والتفتيت، فسيكون هو المملكة العربية السعودية. لماذا؟ لعدة أسباب أيديولوجية واستراتيجية ودولية.

فالصراعات التي تخوضها السعودية الآن ليست كتلك التي خاضتها في الستينيات. فهي لا تجري بين إسلاميين وملحدين، أو بين إسلاميين وقوميين، بل في الدرجة الأولى بين إسلاميين وإسلاميين: بين الإخوان والسلفيين الوهابيين، وبين المحافظين والإصلاحيين، وبين الديمقراطيين والسلطويين الإسلاميين، وبين الإسلاميين الليبراليين و«الرجعيين». وبالتالي، السياسة الخارجية الهجومية السعودية الراهنة في المنطقة ستعني في الواقع الانغماس في حرب أهلية إسلامية، على الصعيدين الأيديولوجي والسياسي، وهي ستكون غير مضمونة النتائج.

لماذا؟ لسببين رئيسيين:

الأول، أنه سيكون على المملكة في مثل هذا الهجوم أن تعتمد على الحركات السلفية. وهذا أمر لم يعد خياراً جذاباً، بعد أن تبيّن أن العديد من هذه الحركات بدأت تتسيس هي الأخرى و«تفتح» على حسابها. كما باتت أيضاً تُستخدم من جانب كلٍ من أجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية ومن «القاعديين» و«القطبيين». هذه الحركات أصبحت إلى حد كبير سلاحاً ذا حدين.

بالطبع، استطاعت ترسانة الأموال السعودية الضخمة أن تؤثّر (في إطار ثورة مضادة) في مصير ومسار عمليات الانتقال إلى الديمقراطية في العديد من الدول العربية، وبخاصة لجهة الحد من التعاون المحتمل بين هذه الثورات وبين الحركات الإصلاحية في المملكة وباقي أنحاء منطقة الخليج. لكنه سيكون في الغالب تأثيراً محدوداً على المديين المتوسط والطويل، ناهيك بأنه لن ينجح في إسقاط الجاذبية الفكرية والثقافية والسياسية لهذه التجارب بالنسبة إلى المعسكر الإصلاحي السعودي والخليجي.

والثاني، أن «الزواج غير المقدس»[10] (كما يسميه الكاتب الأمريكي جون كولي) بين الإسلام في طبعته السعودية وبين الغرب، تبدد هباء منثوراً غداة أحداث 11 أيلول/سبتمبر، وحلّت مكانه الآن «أجندة حرية» أمريكية ثابتة كانت هي في أساس قبول الغرب لصعود حركات الإخوان المسلمين إلى السلطة.

ماذا تعني كل هذه المعطيات؟

إنها تعني بوضوح أن السياسة الخارجية الهجومية التي تطبقها السعودية الآن من اليمن والبحرين إلى سورية والعراق، لن تكون كافية وحدها هذه المرة للرد على المخاطر الجسام التي تُحيق بالمملكة. الأمر سيحتاج هذه المرة إلى مقاربة فكرية – استراتيجية جديدة تتساوق وتتساوى فيها السياسة الخارجية مع توجهات داخلية إصلاحية.

وهنا تبرز فوراً ثلاث عقبات أمام هذا التساوق:

الأولى هي التركيبة القبلية التي تزال قوية وتركل، حتى بعد بروز ظاهرة التمدين السريع (70 في المئة من سكان السعودية يقطنون في مدن الرياض والساحل الشرقي والحجاز). وهذه التركيبة طبقية في جوهرها، وهي ترفض أي إصلاحات سياسية واجتماعية قد تضعف دورها في المجتمع والدولة.

العقبة الثانية هي بالطبع تمذهب الدولة، أي اعتمادها على نوع محدد من المذاهب السلفية هي الوهابية التي تكفّر كل المذاهب والتيارات الفكرية الأخرى، مُسببة بذلك نزفاً دائماً في كلٍ من النسيج الوطني وفي مشروع الدولة الوطنية. هذه السلفية هي المقاوم الأول للإصلاحات، وتعتبر الحداثة نفسها ضلالاً وخطراً على طبعتها من الإسلام، كما تعتبر حريات الفرد والمجتمع جريمة لا تغتفر.

ثم هناك أخيراً عقبة الدولة نفسها. فهذه الأخيرة وبدلاً من أن تعمل على بناء الشعب السعودي بعد أن بنت الدولة الواحدة، تمارس هواية اللعب على تناقضات المجتمع، ومعها سياسة إدارة الأزمات الاجتماعية والفكرية بدلاً من العمل على حلّها في إطار وطني، وقانوني، وحقوقي. وهذا في الواقع ما يعطي العقبتين القبيلية والمذهبية نفوذهما وزخمهما الحقيقيين.

هذه العقبات زرعت الشك في صدور العديد من الإصلاحيين السعوديين وكادت تدفعهم إلى اليأس من إمكان صلاح وإصلاح البلاد بالطرق السلمية، وبخاصة بعدما تعثّرت طفرة العام 2003 التي شهدت سلسلة متصلة من المطالب الإصلاحية[11]. بيد أن الإصلاح في السعودية لم يعد في الواقع مجرد خيار «وفق المزاج» (A la Carte)، يمكن للدولة السعودية بقيادة الأسرة الحاكمة أن تأخذه أو تتركه كما تشاء. لماذا؟

بسبب وتائر التغيير في العقود الأخيرة، التي أبدع ابن خلدون في وصفها حين قال: «إذا ما تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدّل الخلق من أصله وتحوّل العالم وكأنه ولد من جديد»، والتي تتجسّد في توغل الحداثة المادية بكل أشكالها في المجتمع السعودي، وصعود نجم المدينة قلب الحداثة المادية وعقلها، وانقلابات ثورة الاتصالات والإعلام التي نسفت الحواجز الثقافية والمذهبية والأيديولوجية، وبروز «المجتمع الثاني» السعودي عبر الإنترنت.

بيد أن التغيير الأهم، الذي سيكون له دور دينامو التغيير التاريخي، يأتي من قلب النظام الدولي، ومعه كحصيلة تابعة النظام الإقليمي في المنطقة. فبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، صدر قرار أمريكي بتغيير وجه المنطقة العربية عن بكرة أبيها، حتى ولو تطلب الأمر تفكيك الدول الراهنة (كما يجري الآن، وكما أوضحت أعلاه خريطة القوات المسلحة الأمريكية الشهيرة)، أو وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة برعاية أمريكية كاملة، أو نشوب حروب أهلية مذهبية وطائفية وإثنية.

صدام حسين ومعمر القذافي لم يفهما طبيعة هذا القرار، فرفضا إجراء إصلاحات ديمقراطية وإبرام مصالحة تاريخية وطنية داخلية في الداخل تحمي البلاد من مباضع التقسيم الخارجي، فدفعا الوطنين إلى لجج التقسيم والفوضى الراهنين. وبشار الأسد لم يدرك هو الآخر معنى هذا القرار، فكانت الحصيلة ما نرى الآن: احتضار سورية نفسها ككيان سياسي وطني.

المملكة السعودية يمكن أن تدفع ثمناً مماثلاً، أي تكون عرضة للتقسيم إلى ثلاث أو أربع دول، ما لم تسارع الأسرة الحاكمة فيها إلى إنقاذ الدولة الوحدوية عبر وحدة مجتمعية وطنية تستند إلى مرجعية دينية غير تقليدية وغير تكفيرية، وإلى منظومة حقوقية جديدة.

بكلمات أخرى: ما لم تنتقل الأسرة الحاكمة بسرعة قصوى من مرحلة اللعب على تناقضات المجتمع وإدارة أزماته إلى مرحلة البناء الوطني – الحقوقي، فسيكون الصاعق الدولي – الإقليمي جاهزاً لتحويل الانقسامات المذهبية – الاجتماعية السعودية إلى انفجار عظيم يسفر عن تدمير الدولة السعودية الثالثة نفسها، ومعها بالتأكيد سلطة الأسرة الحاكمة.

الخيار الآن هو بين الدولة السعودية الرابعة (دولة المواطنة والدستوروية) وبين اللادولة واللاأسرة. وعلى الرغم من أن أحداً لا يعرف رأي الأمير بندر بن سلطان بهذه الفرضية، إلا أنه الأقدر بالتأكيد، بحكم صلته الوثيقة والمديدة بالمؤسسات الجمهورية الأمريكية الحاكمة، على أن يشرح لبقية الأمراء معنى القرار الأمريكي الذي اتخذ بعد أحداث سبتمبر بفرض «أجندة الحرية» في المنطقة العربية «حتى ولو استغرق هذا الهدف جيلاً بأكمله»، كما أعلن آنذاك الرئيس بوش وبعده عديد من مسؤولي إدارة أوباما، وأن يشرح لهم أيضاً مضاعفات رفض الإصلاح في عراق صدام وليبيا القذافي وسورية الأسد.

أجل. النظام السعودي استفاد طوال مئة عام من انقسامات المجتمع، لذا سيكون من الصعب عليه تغيير عادة كانت ناجحة حتى الآن. لكن تغلُّب العادة على الوعي حيال طبيعة المتغيرات الدولية والإقليمية وحيال ضرورات الإصلاح السريع لـ «درء ذرائع» هذه المتغيرات، سيطبع قبلة الموت على جبين الكيان السياسي السعودي الراهن.

2 – لبنان

السؤال الذي يقضّ مضاجع كل اللبنانيين في هذه المرحلة هو بالطبع: هل يلتحق لبنان أخيراً بالحريق الهائل في المنطقة؟

لنتذكر أولاً أن هذا الوطن الصغير كان طوال زهاء قرن ونصف القرن، أي منذ حربه الأهلية الأولى العام 1840، الساحة الرئيسية التي جرى فيها خوض الصراعات الدولية – الإقليمية إما لنسف النظام الإقليمي القائم في الشرق الأوسط، وإما لإقامة نظام جديد مكانه.

وحين كانت «حروب الآخرين» هذه تنفجر على أرض لبنان، كانت توفّر على بقية البلدان المجاورة مؤونة دفع أثمان بروز الإمبراطوريات أو زوالها، فتهنأ هي بالهدوء في الوقت الذي يشتعل لبنان بالحروب والأزمات كل عشر سنوات تقريباً. وهذا ما دفع رجل الدولة النمساوي الشهير ميترنيخ إلى وصف لبنان بأنه «هذا البلد صغير، لكنه عظيم الأهمية».

حسناً. الصورة انقلبت الآن للمرة الأولى منذ 173 سنة. فلبنان لا يزال هادئاً نسبياً (حتى أواخر 2015)، والعديد من دول المنطقة إما انفجرت وإما هي في طريقها إلى الانفجار. وهذا بالتحديد ما يجعل اللحظة التاريخية الراهنة في بلاد الأرز مدهشة، ولكن مثيرة للقلق أيضاً: هل يمكن لهذا الاستثناء التاريخي أن يستمر؟

إذا تفجّر العراق مجدداً وانهار الوطن السوري ككيان سياسي موحّد، سيكون هذا بمنزلة عاصفة كاملة لن يستطيع لبنان على الأرجح، مهما فعل، تجنُّب الوقوع في أتونها.

3 – الأردن

في مطالع العام 2012 سُرّبت معلومات مفادها أن الإدارة الأمريكية قررت (على جري عادتها الجديدة في الشرق الأوسط) تسليم السلطة في الأردن إلى الإخوان المسلمين، وأن هذا البلد سيشهد قريباً «تطورات جسيمة».

وبعدها بفترة قصيرة، كانت الملكة الأردنية رانيا تتصل بصديقتها السيدة أسمى الأسد، زوجة الرئيس السوري، لـ «الاطمئنان» على الأوضاع في سورية. لكنها فوجئت بأسمى تقول لها: «الأولى أن تطمئنوا أنتم على أوضاعكم في الأردن». وهكذا، جاءت معلومات المصادر لتتطابق مع رد فعل قرينة الرئيس.

فهل يعني ذلك أن النظام الملكي الأردني بات في خطر؟ أم أن هذا الخطر يتعلّق فقط بالملك عبد الله الثاني من دون المَلَكِية أو من دون الكيان السياسي الهاشمي؟ وإذا ما كان الأمر كذلك، لماذا وصلت الأمور إلى هذا المستوى الخطير من التساؤلات للمرة الأولى منذ تأسيس دولة الأردن العام 1921 تحت مسمى «إمارة شرق الأردن»، قبل أن تتحوّل لاحقاً إلى المملكة الأردنية الهاشمية العام 1946؟

في تصريح مفاجىء في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2013، أثار مساعد الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية مارك تونر الرعب والغضب، في البلاط الملكي الأردني، حين أعلن أن ثمة «ظمأً للتغيير» في الأردن، وأن للشعب الأردني «مشاغل اقتصادية وسياسية»، وأيضاً «تطلعات».

هذا التصريح دفع مسؤولين أردنيين إلى الحديث في مجالسهم الخاصة عن «مؤامرة تقودها الولايات المتحدة» لإطاحة نظام الملك عبد الله، إذ هم اعتبروا الحديث عن «الظمأ إلى التغيير» بمنزلة ضوء أخضر من الولايات المتحدة لأعداء الملك عبد الله لمضاعفة جهودهم الهادفة إلى إطاحة الملكية، وبخاصة أن واشنطن لم تشر بشيء إلى الهجمات التي تعرّض لها (آنذاك) العديد من المكاتب والمنشآت الحكومية الأردنية التي جُرح فيها العشرات من قوات الأمن، ولا إلى الشعارات التي أُطلقت في التظاهرات التي تطالب بإسقاط الملك عبد الله نفسه.

لكن هنا يجب تذكُّر أمر مهم؛ فكما بات معلوماً، التمخضات والتغيرات العنيفة التي يشهدها الشرق الأوسط هذه الأيام، لا تقتصر على تغيير الأنظمة، بل تتضمن أيضاً التغيير الفعلي للخرائط. والأردن، وبسبب روابطه الوثيقة والمصيرية بالفلسطينيين والقضية الفلسطينية، ربما لا يكون بالضرورة استثناء في هذه القاعدة الجديدة في الشرق الأوسط.

تتحدث خرائط التقسيم الجديدة عن احتمال إنشاء «الأردن الكبير»، كجزء من الترتيبات الإسرائيلية الخاصة في الهلال الخصيب لإغلاق ملف القضية الفلسطينية. لكن مثل هذا السيناريو، في حال تطبيقه، يفترض بالدرجة الأولى تقويض الكيان السياسي الهاشمي الراهن لتسهيل حدوث هذا الإغلاق. إلا بالطبع إذا ما اكتشفت واشنطن وتل أبيب، في سياق تداعيات انفجار سورية والعراق، أن دور المملكة الأردنية الراهن كحاجز جغرافي وكمحمية إسرائيلية لما ينته بعد.

4 – مصر

في العام 2008، نشر المفكر العربي الكبير جلال أمين دراسة قصيرة[12]، ركّز فيها على المحاور الرئيسية الآتية:

– النظام المصري يمر في أزمة بنيوية عميقة تتعلق بالجذور والأصول، وهو مفلس اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وبدل أن يطبّق هذا النظام خطة الإصلاح الاقتصادي التي اتفق عليها أكبر خبراء الاقتصاد المصريين العام 1982، عمد إلى برنامج أُطلق عليه أيضاً اسم الإصلاح الاقتصادي، لكنه فُرض على مصر فرضاً من جانب صندوق النقد الدولي وأدى إلى تدهور معدلات التنمية ومفاقمة الفقر.

– ما يحدث في مصر منذ العام 2004 يمكن اعتباره من قبيل «الثورة الشعبية» الشبيهة بما حدث في 23 تموز/يوليو 1952، ولكن في إطار شعبي لا في سياق انقلاب عسكري. إنه مجموعة من الانتفاضات الشعبية المتكررة التي تحدث على فترات متزايدة القصر وتتميز بالتلقائية وتنتشر في كل أنحاء الوطن.

– للأسف أن هذه الانتفاضات لن تؤدي إلى تغيير جذري في النظام، لأن هذا يتطلب بروز قوة دولية موازية للقوة الأمريكية ومعطلة لإرادتها في مصر. التغيير قد يحدث، لكن في الشكل فقط. وحينها يكون الشعب قد وقع مرة أخرى في فخ خديعة جديدة قد تضيّع من عمره سنوات كثيرة أخرى.

هل كان جلال أمين يقرأ المستقبل في صفحة ثورة يناير بعد ثلاث سنوات، ثم في صفحة الوضع الراهن حيث «تم التغيير في الشكل»، ووقع الشعب المصري مجدداً في «الفخ»؟

أ – فشل تجربة الإخوان

الأرجح أن الأمر كذلك. وهذا لا ينطبق على الوضع الراهن وحسب، بل أيضاً على المرحلة الانتقالية الديمقراطية قبل ذلك التي قادتها جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت التمهيد الحقيقي لـ «العود على ذي بدء» في سلطة «الدولة المصرية العميقة»، ولانتصار مفهوم الأمن الأمني وسلطة «طبقة» الاستخبارات على الأمن الإنساني وسلطة الشعب.

كتبت فايننشال تايمز[13]: «مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية دائماً ما تكون مضطربة ومشوّشة، لكن مع ذلك أداء الرئيس مرسي كان سيئاً جداً. صحيح أنه ورث انهياراً في الأمن العام، لكنه بدلاً من بناء إجماع يحتاج إليه لمواجهته، سعى هو والإخوان إلى احتكار السلطة والسيطرة على مؤسسات مثل القضاء».

وكتبت نيويورك تايمز[14]: «المتظاهرون المصريون قالوا إنهم غاضبون من الغياب شبه التام للأمن العام، والحالة اليائسة للاقتصاد المصري، وتفاقم التوترات الطائفية. القاسم المشترك في البلاد هو القناعة بأن السيد مرسي فشل في تجاوز جذوره الإخوانية، وفي أن يكون رئيساً لكل المصريين».

هذه النقطة الأخيرة، أي عجز مرسي والإخوان طوال سنة كاملة عن بلورة إجماع وطني، قد تكون السبب الرئيسي في تحوّل حكم الإخوان من حل أو مدخل لعملية الانتقال إلى الديمقراطية، إلى مشكلة تحتاج إلى حل.

فقد كان واضحاً منذ البداية، وحتى حين فاز مرسي بنصف أصوات المصريين، أن الأزمة الاقتصادية الهائلة في البلاد، حيث نحو نصف الـ 87 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر ويسيطر 1 في المئة على معظم مفاصل القطاعات الاقتصادية، تحتاج إلى جهود أسطورية تشارك فيها كل قطاعات المجتمع في إطار خطة تنموية شاملة.

صحيح أن برامج الإخوان المسلمين منذ العام 2005 تتحدث عن الأطر العامة لهذه الخطة، إلا أن مفاوضاتهم مع صندوق النقد الدولي وشروطه، أوحت أنهم قد يتابعون النهج الاقتصادي السابق لنظام مبارك والمستند إلى قطاعات الخدمات والسياحة والعقارات، وليس إلى مجالات الإنتاج الزارعي والصناعي والتكنولوجي.

وبالطبع، الاقتصاد الاستهلاكي غير قادر البتة على توظيف عشرات ملايين المصريين، الذين يُضخ إليهم كل سنة مليون خريج عاطل من العمل.

وكما في الاقتصاد، كذلك في السياسة. فقد أسقط الإخوان من حسابهم الحقيقة أن الانتخابات وأقلام الاقتراع وحدها لا تكفي في المراحل التأسيسية لبناء الدولة – الوطن. الإجماع الوطني هنا، مجدداً، هو الأساس، لأنه وحده القادر على تحقيق المقبولية الشعبية للنظام الجديد. لكن الجماعة عمدت، بدلاً من ذلك، إلى محاولة التفرد بالسلطة والمؤسسات، الأمر الذي قسم البلاد فوراً في مرحلة من أدق مراحلها التاريخية، لا بل خلق هذا شرخاً حتى في صفوف القوى الإسلامية نفسها، على سبيل المثال، بين الإخوان وبين الإسلاميين السلفيين والصوفيين والإصلاحيين.

وأخيراً، أثبتت تجربة السنة الأولى من حكم الإخوان (والرئيس مرسي أيضاً، كما دلّت على ذلك خطبه التي تعج بإشارات مرض الارتياب)، أنهم لم يتمكنوا بعد من الخروج من شرنقة العمل السري وما يتضمنه من سيكولوجيا المؤامرة، والتقوقع على الذات، والتعاطي مع من هم خارج تنظيمهم على أنه «الآخر» الذي لا يمكن أن يكون إلا في صف الخصم او حتى العدو.

هذه مسألة في غاية الخطورة اعترف بها لكاتب هذه السطور مسؤول إصلاحي بارز في جماعة الإخوان، خلال لقاء خاص العام 2014 في اسطنبول، حين قال «إن قيادة جماعة الإخوان المصرية لم تتجاوز أبداً الفكرة بأنها تنظيم معارض حتى وهي على رأس السلطة. وهذا ما جعلها تفشل في إقامة التحالفات الضرورية لأي عمل تأسيسي للدولة».

ب – أزمة النظام الجديد

سقط حكم الإخوان بالضربة القاضية شعبياً – عسكرياً، وجاء حكم الرئيس السيسي محمولاً على اكتاف آمال واسعة تمحورت ليس فقط حول «صيانة كيان الدولة المصرية» التي تضرب جذورها عميقاً في التاريخ، سواء في وجه الكيانات الإسلامية التي تجد تناقضاً بين فكرة الأمة وبين مفهوم الدولة – الوطن، أو في مواجهة الإرهاب الأصولي، بل أيضاً في تحويل الدولة إلى دولة حديثة وعادلة وتنموية – إنتاجية قادرة على تلبية مطالب الأغلبية الكاسحة من الشعب.

بيد أن هذه القفزة التحديثية والتطويرية دونها شروط لازبة وعقبات كأداء، لا يبدو أن النظام المصري الجديد يمتلك المفاتيح الرئيسية لتخطيها:

أولاً، الطفرة الشبابية التي كانت وراء زخم عشرات آلاف الإضرابات وتحركات المجتمع المدني قبل عام 2011 ثم وراء زخم ثورة كانون الثاني/يناير، قبل أن يصادرها الإخوان ثم المؤسسة العسكرية. هذه الطفرة تعدّ نعمة في الدول الناهضة اقتصادياً، لكنها خطر ماحق في البلدان الفقيرة أو المتعثرة تنمويا.

أورد زبغنيو بريجنسكي تقريراً دولياً صدر العام 2007، أشار إلى أن «طفرة الشباب» كانت حاضرة في 80 في المئة من النزاعات الأهلية في العالم في الفترة بين 1970 و1999، وأن مصر والشرق الأوسط والعالم الإسلامي الأوسع يتضمن أعلى معدلات من بين كل دول العالم في نسبة الشباب. فالعراق وأفغانستان وفلسطين والسعودية وباكستان، كلها لديها أعداد ضخمة من الشباب الذين ينزعون إلى التمرد أو التشدد حين لا تستطيع اقتصادات دولهم استيعابهم.

يضيف بريجينسكي: «في هذه المنطقة الممتدة من شرق مصر إلى غرب الصين، تحتوي اليقظة السياسية المتزايدة [التي يعتبرها هو، إلى جانب توزُّع السلطة العالمية، أهم التطورات التي طرأت على النظام العالمي في السنوات الأخيرة]، على أقوى الاحتمالات للتحوّل إلى انتفاضات عنيفة. فنسبة الشباب، التي يمكن أن نُطلق عليهم وصف «بروليتاريا القرن الحادي والعشرين»، هي برميل بارود ديمغرافي حقيقي»[15].

حسناً. تحتوي مصر الآن على مثل هذا البرميل المتفجر. فمن كل خمسة مصريين، هناك شاب بين 15 و24 سنة، ونصف سكان مصر دون سن الـ25، و90 في المئة من العاطلين من العمل شبان، و30 في المئة من الذكور المصريين الشبان بين سن الـ15 و29 قالوا إنهم يريدون الهجرة، و40 بالمئة من الشبان قالوا إنهم لا يحصلون على عمل بسبب الفساد والمحسوبية.

علاوة على ذلك، لا يحصل الشبان على تعليم ملائم يؤهلهم لسوق العمل خارج إطار القطاع العام المتخم أصلاً بالموظفين. فمعظم المواد التعليمية قديمة ولا تتلاءم مع الشروط الاقتصادية الجديدة المتمثلة بالمهارات الحديثة والتفكير النقدي والخلّاق.

ارتفع عدد المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر (أقل من دولار في اليوم) من 17 في المئة العام 2000 إلى 22 في المئة العام 2010. وهو الآن إلى تزايد، و90 في المئة من الفقراء من الفلاحين. ثم إن الزيادة السكانية في مصر لا تتوقف عن التفاقم، وإجمالي السكان سيصل العام 2050 إلى 138 مليون نسمة.

هذا في وقت تعاني مصر نقصاً حاداً في المياه، وتآكل جودة التربة الزراعية بسببب زحف المياه المالحة عليها المترافقة مع تغير المناخ، ومع تلوث حاد وخطر في القاهرة وبقية المدن، واختلال التوازن بين الموارد الطبيعية المتاحة وبين التعداد الديمغرافي.

ثانياً، الوضع السياسي – الأمني: إلى جانب هذا اللغم الديمغرافي – البيئي المتفجر، هناك الوضع الأمني المتفجّر، ليس فقط بسبب العمليات الإرهابية للجماعات المتطرفة، بل أيضاً بسبب التطورات الخطرة التي تحدث في مصر والمتعلقة بمصير جماعة الإخوان المسلمين ومآل سلوكياتها المستقبلية.

أعرب الباحث ناثان براون، المقرّب من جماعة الإخوان، عن اعتقاده أن الجماعة تمر الآن في مرحلة انتقالية نتيجة الضغوط الأمنية الهائلة التي تتعرض لها، وهي بدأت (في رأيه) تبتعد من نهجها القديم في التغيير التدريجي المتمهل الذي يبدأ بالمجتمع، وتتجه إلى نهج «تغيير ثوري» يستهدف الدولة نفسها[16].

الحديث السائد الآن بين شبان الإخوان هو عن «الثورة العنيفة» و«الانتقام» وسقوط فكرة إصلاح الدول من الداخل، والجهاد بصورة لا هوادة بها. فبالنسبة إليهم الحديث عن اللاعنف لم يعد له معنى في بيئة من العنف الرسمي المتطرف الذي تمارسه الدولة، وهم يعتبرون أن المرحلة التالية هي مرحلة سيد قطب بامتياز.

ويحذّر بعض شيوخ الإخوان المعتدلين من هذا التوجه، قائلين إن هذا بالضبط ما تريده الدولة التي يسيطر عليها العسكر الآن، وهو الفخ الذي نصبته للجماعة. لكن يبدو أن هذه التحذيرات تسقط على آذان صماء لدى شبان الجماعة وربما على العديد من قطاعاتها، حيث إن الانقلاب على الرئيس المنتخب مرسي وحملة القمع التي تلته، نجحا في تغيير الآراء داخل الجماعة على نحو لم يفعله سيد قطب قط، حول الفكرة بأن إصلاح الدولة المصرية من الداخل مستحيل، وأن المسار الوحيد هو الثورة الشاملة[17].

ماذا إذاً؟ هل يلجأ الإخوان المسلمون ككل إلى ممارسة العنف تحت شعار الثورة؟ لا يجزم براون، لكنه كان حريصاً على القول إنه يجب مراقبة التطورات لدى الإخوان بدقة «في الوقت الذي تندفع فيه هذه الجماعة، ومعها مصر، إلى مصير مجهول ستكون تأثيرات تموجاته الصادمة ملموسة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا والعالم الإسلامي»[18].

ثالثاً، العقبة الكبرى الثالثة التي سيتعرض نظام السيسي لها، هي الحدود والقيود التي تضعها إسرائيل والولايات المتحدة على مسألة النهوض الاقتصادي والاستراتيجي لمصر.

شهيرة بالطبع قصة ذلك المسؤول الأمريكي الذي التقى الرئيس عبد الناصر في منتصف الخمسينيات، ثم هرع مسرعاً إلى تل أبيب ليبلغ بن غوريون النبأ السار: «ناصر أبلغني أنه ليس لديه طموحات سوى بناء مصر»، فرد بن غوريون سريعاً وبهدوء: «هذا أسوأ خبر سمعته في حياتي».

جاءت حرب 1967 واتفاقات كامب دايفيد في جزء أساسي منها لوقف مسيرة التصنيع والتطوير الناصرية ونقل الاقتصاد المصري إلى قطاع السياحة والخدمات، تماماً كما حدث في القرن التاسع عشر مع محمد علي باشا حين تدخلت الدول الأوروبية لضرب النهضة الصناعية والإنتاجية في مصر.

وفي تسعينيات القرن العشرين، تم تمديد شروط كامب دايفيد إلى العولمة، فرفضت مؤسسات هذه الأخيرة المصادقة على أي مشروع إنتاجي جدّي في مصر، وقوّضت كل المشاريع التنموية والإنتاجية التي وُضعت في أوائل الثمانينيات، وحصرت الاستثمارات الدولية في قطاعي الخدمات والعقارات والمضاربات المالية. أما المبرر الذي قدمه أساطين العولمة لهذه الخطوة، فهي أن المشكلة هي في الصين التي امتصت كل الرساميل الإنتاجية ولم تترك لمصر وغيرها شيئاً. وهذا بالطبع تبرير لا يستند إلى أي عقلانية اقتصادية.

ج – في عنق الزجاجة

هل سيتمكن نظام السيسي من تجاوز هذه العقبات الكأداء؟

حتى الآن لا يبدو أن الأمر كذلك؛ فمشاريعه الاقتصادية لا تزال تعتمد على الريوع الخليجية. والخيار الأمني الساحق، تحت شعار حماية الدولة المصرية، لن يحقق في نهاية المطاف الاستقرار الضروري للتنمية الاقتصادية ولمعالجة الطفرة الديمغرافية، ولا الوحدة الوطنية التي يحتاج الوطن المصري إليها بشدة هذه الأيام. هذا علاوة عن أن التوجهات السياسية – البرلمانية الراهنة، توحي بأن النظام الجديد على وشك إعادة إنتاج النظام المباركي القديم في الكثير من تفاصيله.

وإذا كان من الصحيح القول إن مصر لن تحذو حذو العراق وسورية فتنفجر داخلياً في شكل انقسامات فئوية وجهوية، بسبب كلٍ من عراقة الدولة المصرية والتماسك المجتمعي المصري المكين، إلا أنه من الصحيح القول أيضاً إن عودة البلاد المحتملة إلى عنق زجاجة الأزمات الشبابية والاقتصادية والاجتماعية الطاحنة، سيقود إلى ثورة شعبية، أو حتى عدة ثورات، تعيد خلط كل الأوراق من جديد. وهذا لسبب مقنع: ما حدث في مصر منذ 2011 ليس مجرد انتفاضات أو ثورات اجتماعية – سياسية. إنه كان بحق أيضاً ثورة ثقافية – تاريخية هائلة ستغيّر إلى الأبد شخصية المصريين حتى في إطار «عبقرية المكان». لماذا؟ لأن ثورة الشارع السياسي المصري، أنهت بشطحة قلم سلطة الفرعون التي لم تتوقف عن الوجود، بشتى الأشكال، طوال أكثر من خمسة آلاف سنة.

وإذا ما حدث ذلك، والأرجح أنه سيحدث في حال انحسر الهم الأمني وتراجعت الطفرة الإرهابية ولم تلبَّ مطالب الشباب، ربما قد يغيّر صديقنا المفكر جلال أمين قناعته حول أولوية التغيير الدولي كمدخل للتغيير الجذري في مصر، فتنتقل هذه الأولوية إلى الحراك الجامح للشارع السياسي المصري، بقيادة «بروليتاريا القرن الحادي والعشرين».

5 – تقسيم تركيا وإيران

على الرغم من أن حيز هذه الورقة لا يسمح بالتطرق بتوسّع إلى تأثيرات الزلازل العربية الراهنة في تركيا وإيران، إلا أنه لا بد من الإشارة إلى هذه المسألة، ولو لماماً، بسبب التلازم الوثيق بين مصير الأقطار العربية وبين مستقبل هاتين الدولتين الإقليميتين الكبيرتين.

أول ما يتبادر إلى الأذهان هنا هو أن تركيا وإيران قد تكونان بمنأى من إعادة رسم الخرائط الراهنة في الوطن العربي. فهما في النهاية، أو هكذا يُفترض، على «لائحة الضيوف» لا على قائمة الطعام في الوليمة الكبرى الجديدة في الشرق الأوسط. هذا إضافة إلى أن إيران مقتنعة بأنها كانت دولة – أمة (وإن بأجناس متعددة وفي إطار إمبراطوري) منذ قيام إمبراطوريتها قبل 2500 سنة. وكذا تركيا التي خرجت بُعيد الحرب العالمية الأولى من ثوبها الإمبراطوري لترتدي حلّة الدولة – الأمة المكتملة النمو (وإن مع جرح قومي كردي غائر وخطير، كما سنشير بعد قليل).

هاتان الدولتان، إذاً، تبدوان للوهلة الأولى مرشحتين للتوسّع لا للانكماش. وهذا على حال واضح من اللوحة التي ترتسم حالياً في المنطقة، حيث نفوذ إيران تمدد من العراق واليمن إلى سورية ولبنان وسواحل البحر المتوسط، في ما يمكن اعتباره أكبر توسع «إمبراطوري» لها منذ أيام قورش. وتركيا أيضاً تفرد أجنحتها فوق شمال العراق ووسطه، وتطل على كل الشمال السوري، وحتى ما بعده، وتتواصل مع القضية الفلسطينية عبر غزة. وقبل ذلك، كادت أن تُطبق، سياسياً وأيديولوجياً، على كل المنطقة العربية تحت بيارق «العثمانية الجديدة»، حين صعد حلفاؤها الإخوان المسلمون إلى السلطة في مصر وتونس.

كل هذا صحيح. لكن المظاهر قد تكون في كثير من الأحيان مخادعة.

أ – إيران

بينما يمكن رؤية الجمهورية الإسلامية الإيرانية حاضرة بقوة إلى طاولة الوليمة الكبرى، وتتبادل العلاقات والتنافسات مع الدول الكبرى المشاركة فيها، فإن المخاطر كبيرة وماحقة في الواقع على الدولة – الأمة الإيرانية.

لقد أسفرت ثلاثة عقود من الحروب والنزاعات والعقوبات إلى جعل الاقتصاد الإيراني (كما الاقتصاد السوفياتي قبله) على شفير الإفلاس أو النمو السلبي على الأقل. وجاءت بعد ذلك حرب سورية، ومعها التكاليف الباهظة لسباق التسلح ولتمويل السياسة الثورية الإيرانية الطموحة في لبنان والعراق واليمن والسودان وبقية أنحاء العالم، لتشكّل عبئاً اقتصادياً ثقيلاً من الصعب على دولة كبرى تحمّله، فما بالك بدولة نامية تنتمي إلى العالم الثالث المُفقر؟

هذه التكاليف هي التي دفعت على الأرجح مرشد الثورة علي خامنئي إلى قبول تجرّع سم الصفقة النووية مع «الشيطان الأكبر»، تماماً كما تجرّع سلفه الإمام الخميني سم وقف الحرب مع «الشيطان الأصغر» صدام حسين. كان السبب في كلا الحالين «الاقتصاد أيها الغبي» (تيمناً بالشعار الانتخابي الأمريكي الشهير).

والآن بعد هذه الصفقة، تقف إيران أمام مفترق طرق خطير؛ فهي لن تستطيع (كما يأمل محافظوها) قطف الثمار الاقتصادية لهذه الصفقة، عبر رفع العقوبات الغربية، ثم استئناف نشاطها الطموح المعتاد في السياسة الخارجية. وسيكون على إيران، إذا ما أرادت إنقاذ اقتصادها، أن تعانق «الشيطان الأكبر» وتسمح له بممارسة إغواءاته المتعولمة في الداخل الإيراني، كما فعل مع الصين بعد صفقة ماوتسي تونغ – نيكسون العام 1972.

أما إذا رفضت طهران ذلك، فالأرجح أن تعود إلى التراقص على حافة الإفلاس، وبخاصة مع حرب أسعار النفط الراهنة التي تشنها أمريكا – السعودية على كلٍ من روسيا وإيران. وهذا ما قد يفتح الباب على مصراعيه أمام احتمالات الانفجار الداخلي لإيران، كما سيشرع النوافذ أمام عودة التدخلات الدولية في شؤونها الداخلية.

وهنا، التجارب التاريخية الحديثة تدق ناقوس الخطر بشدة.

فكما هو معلوم، سمحت الانهيارات الداخلية الإيرانية عشية الحرب العالمية الأولى لكل من بريطانيا بالسيطرة على جنوب إيران، ثم لروسيا بالسيطرة على شمال إيران. وجرى تحويل هاتين المنطقتين عملياً إلى شبه مستعمرات تابعة.

وفي العام 1941 خلال الحرب العالمية الثانية، قام الجيش الأحمر السوفياتي بغزو شمال إيران مجدداً (بينما عاد البريطانيون إلى الجنوب)، وأسس فيها جمهوريتين منفصلتين: الأولى جمهورية أذربيجان الشعبية، والثانية جمهورية مهاباد الكردية. ولولا التدخل الأمريكي والغربي الكثيف آنذاك لحمل ستالين على سحب قواته من هذه المناطق، لكانت إيران سبقت العراق وسورية والسودان في عملية التقسيم والتقاسم.

الحروب العالمية باتت مستبعدة الآن. لكن المخاطر على إيران لا تزال قائمة وضاغطة. فالقوات الأمريكية، وعلى رغم الانسحاب من العراق وجزئياً من أفغانستان، تصول وتجول جواً وبحراً واستخبارياً في طول المنطقة وعرضها. وروسيا العسكرية أطلت برأسها في الشرق الأوسط مجدداً بعد غياب دام نيف وربع قرن، وانضمت إلى حروب سورية. كما بدأت تفرد أجنحتها في العراق واليمن ومصر وليبيا وترفع عقيرة التحدي في وجه النفوذ الأمريكي. ومثل هذا التنافس الدولي الخطر والمباشر سيكون جاهزاً للإفادة من أي اهتزاز داخلي في إيران في إطار التنافس الدولي المعتاد على الفرائس.

ب – تركيا

تركيا أيضاً تبدو هي الأخرى في وضع لائحة الضيوف والطعام معاً.

فعلى الرغم من أن الاقتصاد التركي احتلّ في السنوات الأخيرة المرتبة السادسة عشرة عالمياً وبات في عداد مجموعة العشرين الكبرى دولياً؛ وكذلك على الرغم من الآمال الكبيرة التي حملها حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلامية بإقامة إمبرطورية «عثمانية جديدة» تمتد من البلقان والقوقاز إلى سورية، إلا أن هذه الدولة الإقليمية الكبرى والتاريخية قد تنال نصيبها من مخاطر التقسيم، أو التشظي، أو على الأقل الحروب الأهلية المدمّرة.

في أواخر العام 2015، فاجأ الرئيس التركي أردوغان الجميع باتهامه جهات خارجية لم يسمها (وإن كان واضحاً أن سهامه اتجهت إلى روسيا وإيران والنظام السوري) بمحاولة تقسيم بلاده ودعم الإرهاب فيها. قال: « كل ما حدث في تركيا منذ العام 2013 لم يكن محض صدفة. فهناك من يعمل على تقسيم تركيا وربطها بما يحدث في سورية والعراق»[19].

وكيف قد يتم تقسيم تركيا؟

هناك بالطبع اللغم الكردي الذي سيكون لغماً دائماً ما لم يتم التعاطي مع أكراد تركيا كأكراد وليس كـ «أتراك الجبال»، والذي كلّف تركيا منذ العام 1984 (وفق تقارير تركية) نحو 500 مليار دولار. وهو مبلغ كان كان أكثر من كافٍ لتحقيق نهضة شاملة في المناطق الكردية جنوب شرق البلاد.

والآن، وقد باتت الورقة الكردية أحد المداخل الرئيسية لتقسيم العراق وسورية، ومع تحوّل كيان حزب العمال الكردستاني إلى ما يشبه الدولة على حدود تركيا الجنوبية تمتد من جبال قنديل إلى تخوم المتوسط، يبدو ارتياب أردوغان من مخططات خارجية لتقسيم بلاده أمراً واقعياً.

بيد أن الأمر لا يقتصر على اللغم الكردي الذي يفتح على التقسيم. هناك أيضاً اللغم الداخلي.

فحزب العدالة والتنمية، رغم إنجازاته الاقتصادية الواضحة وجهوده لزف الإسلام إلى الديمقراطية، لمّا يستطع بعد حل الإشكال الأيديولوجي بين الأصالة الإسلامية (ومعها التاريخ والإرث العثماني) وبين الحداثة العلمانية الأتاتوركية، ولا تحقيق وحدة وطنية حقيقية في إطار الديمقراطية حول أهداف السياسة الخارجية.

الانقسام حول هذا الشأن كبير وعميق. وهو يشبه إلى حد ما ما حدث في الستينيات والسبعينيات، حين تدفق ملايين القرويين الأتراك على المدن ولم يعمل النظام على استيعابهم أيديولوجياً واقتصادياً واجتماعياً. والحصيلة كانت حرباً أهلية مدمّرة بين اليمين واليسار، راح ضحيتها عشرات الآلاف، واحتاج قمعها إلى ثلاثة انقلابات عسكرية أطاحت كل طموحات التطور والتحديث[20]. والآن، إذا ما تقاطع اللغم الكردي المحلي والإقليمي مع الانقسامات المجتمعية والسياسية الحادة بين «اليمين» الإسلامي و«اليسار» العلماني في الداخل، ستكون مخاطر التقسيم في تركيا على وقع موسيقى التدخلات الخارجية أكثر من واردة.

ماذا تعني هذه المعطيات في تركيا وإيران؟

إنها تعني ليس فقط، كما ألمعنا، أن هاتين الدولتين الإقليميتين الكبيرتين ليستا بمأمن من مباضع التقسيم حتى وهما تبدوان في موقع المشارك في الوليمة، بل تعني أولاً وأساساً أن العامل المقرر والحاسم في مصائر أقطار المنطقة كان ولا يزال هو العامل الدولي. أما الأنشطة الراهنة للقوى الإقليمية فليست سوى لعب في الوقت الضائع خلال فراغ دولي موقت، ما عدا الأنشطة الإقليمية الإسرائيلية التي تبدو وحدها متقاطعة مع لحظة العامل الدولي.

ثانياً: سيناريوهات

هل ثمة مخرج ما من هذا الكابوس التاريخي المديد الذي دخله الوطن العربي والمنطقة؟

حلول الماضي مع الكثير من أثاثها الأيديولوجي والسياسي، التي لم تثبت في أي حال أنها حلول بل أجزاء من المشكلة، لم تعد واردة:

– لا القومية العربية الرومانسية، التي أرادت القفز بجوادها الخيالي والعاطفي المجنّح فوق تراكيب وتناقضات وخصوصيات المجتمعات المحلية العربية؛

– ولا الإسلام السياسي المتخبط بين أمة إسلامية عقائدية شاملة (من إندونيسيا وحدود الصين إلى الأناضول واليمن ولا تحوز على أرض الواقع مقومات الدولة السياسية)، وبين مستلزمات الدولة – الوطن التي تفرض عليه أجندات (ديمقراطية وتنموية وأيديولوجية) مختلفة وشديدة التنوع والخصوصية؛

– ولا الدولة الوطنية العربية التي انغلقت على نفسها وحاولت التصرف كدولة – أمة على نسق الدول – الأمم الأوروبية، مديرة الظهر بذلك إلى حقيقة هشاشة أي هوية عربية تُسقط من الاعتبار، ليس البعد التوحيدي العميق في الإسلام والعروبة فقط، بل وقائع ومستلزمات عصر الأسواق والتكتلات الاقتصادية الكبرى أيضاً في عصر العولمة.

صحيح، كما يقول عبد الإله بلقزيز[21] أن تطور الدولة – الوطن في منطقة المغرب العربي يبدو، وبسبب خصوصية معطياتها التاريخية، مختلفاً عن مصائر الدولة – الوطن في المشرق، إلا أن المعايير نفسها المتعلقة بالمشروطية التوحيدية في الإسلام والعروبة وآليات صراع البقاء في ظروف العولمة، تنطبق عليها هي الأخرى.

وبالطبع، مشاريع الدويلات الأقوامية المذهبية والطائفية التي بدأت رويداً رويدا تشق طريقها نحو التنفيذ، لن تنجح حيث فشل ما هو أكثر تجذراً منها في التاريخ والاجتماع العربيين. فهي لن تكون قادرة، مهما فعلت، على تجنُّب الحروب الدائمة بين بعضها البعض، ولا على إقامة طبعتها الخاصة من الدولة – الأمة، ولا على توفير مقومات البقاء الاقتصادي والأمني والاستراتيجي.

وحتى لو نجحت هذه الدويلات في البقاء، في ظل إعادة إنتاج صيغ الحماية الاستعمارية على الأرجح، ستكون مضطرة في مرحلة ما إلى البحث عن صيغ اتحادية في المنطقة لتوفير ظروف الحياة لها، سواء في شكل نظام إقليمي شرق أوسطي جديد (ستكون الأغلبية فيه عربية اللسان على نحو كاسح بسبب وقائع الديمغرافيا في المنطقة!)، أو حتى في شكل تكتلات إقليمية.

في مرحلة ما أيضاً، حين ستوغل الهويات الأقوامية ما قبل الوطنية والقومية في الوطن العربي في تغوّلها وتوحشها وحروبها، وفي إسقاطها لكل مقومات السيادة والكرامة بفعل استتباعها لإرادة وأوامر السيِّد المُستعمِر الجديد، ستبرز من جديد، وبقوة، الحاجة الماسة إلى العروبة (الجديدة والديمقراطية والحضارية بالطبع) بوصفها المنقذ الوحيد من ضلال حروب الدمار الشامل، وبكونها الجامع المشترك الأول بين مكونات مجتمعات المشرق العربي.

وحتى في بلدان المغرب العربي، التي لا تعاني الانكسارات المذهبية والطائفية المشرقية، ستكون هذه العروبة (الجديدة والديمقراطية والحضارية) المدخل إلى كثير من الحلول: مع الأمازيغ، من خلال اعتراف العروبة المنفتحة بالشقيق الآخر في التاريخ والدين وبالأخطاء نحوه؛ ومع الهوية الثقافية – التاريخية المتجسدة باللسان العربي التي تحتاج بشدة إلى عروبة المشرق في وجه مخاطر الابتلاع الثقافي الأوروبي، ومع ضرورات التكامل الاقتصادي العربي لتوفير القدرة على البقاء والمنافسة في نظام العولمة.

متى يمكن أن تحدث هذه «اليقظة العربية» الجديدة؟ أو متى ستحدث النقلة «من العروبة إلى العروبة» (بالإذن من عبد الاله بلقزيز)؟

في أي لحظة الآن!

فحين تتكشف أمام أفراد «الهويات القاتلة» ما قبل الوطنية والقومية أي أتون جهنمي دخلوا فيه؛ وحين يشعرون بالتعب من الحروب العبثية والقتل والدمار الشامل، وحين يبدأون بتلمّس الأثمان الباهظة جداً للصفقة الفاوستية مع القوى الخارجية (بما فيها إسرائيل)؛ وحين تتقطع بهم سبل الأمن والعيش، سيجدون أن المنقذ الوحيد من الضلال هو العودة إلى «تفاهم العروبة»، في حلّتها الجديدة المنزهة عن/والمتحررة من أخطاء الرومانسية الخيالية، وخطايا الدكتاتورية، ومصادرة الحريات وحقوق الإنسان.

هذه اللحظة ستأتي أيضاً حين تصل السعودية وإيران وتركيا إلى حالة الإنهاك، أو حين تصل ألسنة اللهب التقسيمية الطائفية والإثنية إلى عقر دار هذه البلدان المتناحرة (وهي ستصل على الأرجح كما أسلفنا)، فتتوقف عن استخدام/وإشعال الورقة المذهبية في المنطقة العربية كعنصر أساسي في سياستها الخارجية، سواء الثورية أو المحافظة، وتبدأ البحث عن القواسم المشتركة لأمن مشترك، واقتصاد مشترك، ونظام إقليمي مشترك في الإقليم.

ثم إن هذه اللحظة للعروبة ستأتي بفعل التغيرات الكبرى المرتقبة في النظام الدولي، إذ يبدو واضحاً الآن أن العولمة، ورغم كونها ذات طبعة نيوليبرالية أمريكية، لا تهتم بوجود «القومية الأمريكية» على عرش هذه الإمبراطورية، ولا يهمها لون قطة النظام العالمي ما دامت تصيد فئران الأرباح والأسواق المفتوحة أمام شركاتها العملاقة.

الدول الكبرى الأخرى، التي تعرف ذلك، والتي بدأت تشم روائح الانحدار الأمريكي حتى في ذروة صعود العولمة الجديدة وانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، بدأت بالفعل تعيد النظر بأجنداتها وتخطيطاتها في السياسة الخارجية. لا بل بدأ بعضها ينتقل في هذا المجال من التخطيط إلى التنفيذ:

– فاليابانيون، على سبيل المثال، بدأوا يفكرون بإقامة روابط أوثق مع أوروبا.

– والهند واليابان تدرسان بلورة تعاون استراتيجي عسكري بينهما.

– وأوروبا المتشظية هذه الأيام تشهد اندفاعة من دولها الرئيسية في هذا الاتجاه. فألمانيا وإيطاليا تغازلان روسيا لأهداف اقتصادية في الدرجة الأولى (احتكار عملية تحديث الجغرافيا الروسية الشاسعة) واستراتيجية في الدرجة الثانية. وبريطانيا تخطط للابتعاد من البر الأوروبي والاقتراب أكثر من الشواطئ الأطلسية الأمريكية.

– وتركيا تواصل محاولة مد خيوطها وخطوطها نحو أراضي إمبراطوريتها العثمانية السابقة (في إطار عثمانية إسلامية جديدة، ديمقراطية وليبرالية هذه المرة)، في حين تُيمم البرازيل وجهها صوب جنوب نصف الكرة الغربي.

أما الصين، وعلى الرغم أنها ستصبح أكبر اقتصاد في العالم العام 2025 (في حال استمرت وتائر نموها الراهن)، فهي لا تزال حتى الآن تمارس سياسة «الصبر التاريخي»، بانتظار أن تسقط ثمرة الزعامة الأمريكية في حضنها.

1 – الانقلاب الروسي

ما سيتحكَّم بكل هذه التطورات ليس «التناغم الدولي» الذي تطرحه الصين الآن كأيديولوجيا لسياستها الخارجية (انطلاقاً من فلسفات التاو وبوذا وكونفوشيوس)، بل الصراعات القومية العنيفة بين كل هذه الدول الصاعدة، على الموارد الطبيعية (النفط والماء أساساً)، والهيمنة الإقليمية، والدور العالمي. لا بل لا يستبعد بريجينسكي نشوب حروب مدمّرة بين الصين والهند واليابان، على غرار الحروب الانتحارية التي وقعت في لججها الدول القومية الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين وأدّت إلى انحدار أوروبا التاريخي.

هذه اللوحة الدولية الجديدة قد تقلّص إلى حد كبير من قوة القبضة الأمريكية – الإسرائيلية الخانقة، والمتواصلة منذ حرب 1967، على المنطقة العربية (وبخاصة على مصر)، وستوفّر ذلك النوع من الفرصة الدولية التي وضعها جلال أمين كشرط لازب لأي نهضة مصرية وعروبية.

وثمة عامل بارز آخر قد يعزز مثل هذه الفرصة، هو العودة الروسية القوية إلى الشرق الأوسط، أساساً عبر البوابة السورية.

في البداية، وحين بدأت طلائع الجسر الجوي العسكري الضخم الذي أقامته موسكو على عجل بالوصول إلى طرطوس واللاذقية ودمشق في منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر 2015، سارع القادة العسكريون والاستخباريون الأمريكيون إلى القول بأن هدف هذا الجسر هو مجرد توفير الحماية للقواعد العسكرية الروسية القديمة والجديدة في سورية، والحفاظ على المنفذ الاستراتيجي الوحيد لروسيا في البحر المتوسط، وشد أزر النظام السوري المتداعي.

وللدلالة على هذا «الطابع الدفاعي» للتحرُّك الروسي، ادعى القادة أن الحكومة السورية أرسلت قبل نحو الشهر وفداً إلى موسكو لابلاغ بوتين بأنها قررت الانسحاب من مدينة دمشق، بهدف انقاذ منطقة الساحل السوري التي باتت عُرضة لهجمات وشيكة من قوى المعارضة في محافظة إدلب الشمالية. وتبعاً لذلك، قرر بوتين التدخل بقوة في بلاد الشام.

لكن، لم تكد تمر أيام قليلة على هذا التقييم، حتى اكتشف الأمريكيون أن الروس توغلوا في العراق، وأقاموا هناك غرفة عمليات أمنية مشتركة مع الإيرانيين والعراقيين والسوريين، مُتدثرّة بغطاء محاربة داعش. وهذا أطلق صفارات إنذار مدوّية في واشنطن، التي بدأت تتلمس قليلاً «ماقد يريده» بوتين من المنطقة ككل (وبخاصة بعد دخوله أيضاً طرفاً مفاوضاً ومؤثراً في حرب اليمن): فتح «جبهة الشرق الأوسط» على مصراعيها في وجه الولايات المتحدة، كرد مباشر وقوي على عملية الخنق النفطي والمالي والاستراتيجي الذي تمارسه هذه الأخيرة ضده في الداخل الروسي وفي شرق أوروبا.

هنا كانت حسابات الأمريكيين مخطئة كثيراً، حين اعتقدوا أن تدخل بوتين في سورية مجرد خطوة تكتيكية لن يكون لها معنى استراتيجي، وهدفها الوحيد إبعاد الأنظار عن أوكرانيا، وإجبار الرئيس الأمريكي أوباما على إنهاء المقاطعة الغربية لروسيا المستمرة منذ أكثر من سنة، سواء في القمم الثنائية معه، أو في مجموعة الثماني، أو حتى في مجموعة العشرين. وذهب الأمريكيون أبعد من ذلك حين تحدث الناطق باسم البيت الأبيض بصلافة عن أن بوتين «مجرد شحاذ لقاءات» مع أوباما، وأنه حين يلتقي هذا الأخير سيكون قد حقق كل أهدافه.

لكن، تبيّن لاحقاً مدى خطأ وخطل كل هذه التقديرات الأمريكية، إذ يبدو واضحاً الآن أن التحرّك الروسي الجديد استراتيجي من الطراز الأول، ويطال كل منطقة الشرق الأوسط برمتها وليس سورية فقط. وهو فرض روسيا بالفعل كلاعب رئيسي في كل تطورات المنطقة: فوجود بطاريات الصواريخ أرض – جو الروسية في اللاذقية أجهض، أو على الأقل فرمل، كل مشاريع مناطق الحظر الجوي التركية – الأمريكية والأردنية – الأمريكية في شمال سورية وجنوبها، وبات أي حل سوري لا يمر في موسكو (قبل طهران) هو مجرد حرث في البحر.

وبالمثل، شكّل الدخول الروسي القوي إلى العراق واليمن ومصر وحتى لبنان (عبر حزب الله) رسالة قوية إلى من يهمهم الأمر في الغرب، بأن روسيا عادت إلى المنطقة التي غادرتها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي لتبقى فيها. وهذا التطور حظي على الفور، على ما يبدو، بتصفيق، وإن خافت، من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، التي باتت تخشى من دفق اللاجئين إلى أراضيها، ومن تمدد الإرهاب الداعشي إليها، بفعل سياسة نفض اليد التي تمارسها إدارة أوباما منذ أربع سنوات إزاء الأزمة السورية.

والأهم (وربما الأهم كثيراً برأي كاتب هذه السطور) أن الدخول الروسي القوي إلى المنطقة، ربما يكون هدفه الرئيسي ليس سورية، رغم أهميتها الاستراتيجية الفائقة لموسكو، بل إيران. إذ الأرجح أن الرئيس بوتين يريد أن يكون طرفاً مقرراً في النقاشات الحادة التي تجري الآن في الداخل الإيراني بين الإصلاحيين والمحافظين حول ما بعد الصفقة النووية: بين من يريد الانفتاح على «الشيطان الأكبر»، وبين من يسعى إلى الحفاظ على استقلالية الثورة الإيرانية وأيديولوجيتها. يريد بوتين على الأرجح أن يرجّح كفة المحافظين كي لا يخسر الورقة الإيرانية إذا ما عادت طهران لتدور في الفلك الأمريكي، كما حدث للصين حين أبرم ماو تسي تونغ صفقته الشهيرة مع نيكسون، والتي قايض فيها سياسته الثورية الخارجية بورقة الانضمام إلى الاقتصاد العالمي.

2  – مفاجأة الغرب

كل هذه المعطيات حول «ما يريد» بوتين حقاً عبر إطلاقه لعبة الشطرنج الكبرى الجديدة في الشرق الأوسط، طفت على السطح بقوة خلال الخطاب الذي ألقاه الرئيس الروسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الأول/أكتوبر 2015، وأيضاً (نسبياً) خلال قمته مع أوباما.

ففي الخطاب، الذي خيّب آمال الكثير من الغربيين الذين اعتقدوا أن بوتين جاء إلى نيويورك حاملاً غصن الزيتون، شنّ بوتين حملة عنيفة على كل أسس وركائز السياسة الأمريكية في العالم، من نظرية الاستثنائية الأمريكية، إلى الثورات الملونة التي اتهم واشنطن بإطلاقها، مروراً بتوسعية حلف شمال الأطلسي. كما ركّز بوتين بقوة على رفض المشاريع الأمريكية – الأطلسية الراهنة لتفتيت وتقسيم الدول في العالم «خدمة لمصالح الغرب الخاصة»، على حد قوله.

وفي القمة مع أوباما، ورغم أن بوتين وصفها بأنها كانت «صريحة وبناءة»، كانت شقة الخلافات كانت واسعة بين الطرفين حول كيفية مجابهة داعش؛ فالروس قالوا إن الأولوية هي دعم الرئيس بشار الأسد وجيشه لإلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية، ثم البدء بالحل السياسي للأزمة السورية. في حين شدد الأمريكيون على أن رحيل الأسد هو المدخل إلى هزيمة داعش، من خلال جمع كل السوريين في حكومة وحدة وطنية انتقالية.

أما لماذا تشدد الأمريكيون في مسألة دور الرئيس الأسد، فيما كان وزير الخارجية الأمريكي كيري، ومعه وزراء خارجية ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وحتى رجب طيب أردوغان (قبل تبلّغه موقف أوباما الجديد)، يصدحون بعدم ممانعتهم مشاركته في المرحلة الانتقالية، فالأرجح أن لها علاقة بـ «اكتشاف» واشنطن لمدى العمق الاستراتيجي الذي تحمله الرياح الروسية الجديدة في الشرق الأوسط.

حسناً. إلى أين الآن من هنا؟

سياسة التنافس – التعاون بين واشنطن وموسكو التي طُبِقَت منذ نهاية الحرب الباردة، مرشّحة للتواصل، كما تبيّن من الدور الروسي في تسهيل الصفقتين النووية والكيميائية مع إيران وسورية، ومع التعاون المشترك ضد الإرهاب، رغم التنافسات الشديدة مع واشنطن في شرق أوروبا وآسيا الوسطى.

لكن صيغة التنافس قد تطغى حتى إشعار آخر، في ضوء المخاطر الوجودية التي يشعر بها النظام الروسي، بسبب ما يعتبره صفقة أمريكية – سعودية لتدمير الاقتصاد الروسي عبر دفع أسعار النفط إلى الحضيض (كما فعل الطرفان قبل ذلك ضد الاتحاد السوفياتي، وقوّضا اقتصاده وكيانه)، وبسبب ما يشك به من وجود مخطط لشن حرب عملات ضد الروبل الروسي، وحتى للعمل على تقسيم الاتحاد الروسي.

كل هذه التطورات، كما أسلفنا، قد تعزز تبلور فرصة للوطن العربي كي يفلت من القبضة الغربية – الإسرائيلية الخانقة، وبخاصة إذا ما تبيّن أن روسيا تستطيع فرملة مشاريع التقسيم والتفتيت الغربية، وأن في وسعها أيضاً (وهنا ربما الأهم) الصمود في وجه محاولات الخنق النفطي والنقدي والاقتصادي الأمريكي لها.

3 – كابوس غير مغلق

كما هو واضح، ليس الكابوس العربي الراهن دائرة مُحكمة الإغلاق لا نفاذ منها. لا بل أكثر: لو كنا قادرين على ممارسة التحليل العلمي البارد، وبالتالي القفز ولو لهنيهة فوق الآلام العاطفية الدامية التي يشعر بها المرء وهو يتابع ما يحدث لناس سورية والعراق واليمن ومصر من كوارث، لقلنا إن هذه النوازل عملية تاريخية متوقعة، تُشبه ما تقوم به أمُّنا الطبيعة من حرائق لتنظيف بيئتها من الأعشاب الضارة تمهيداً لقدوم مولود جديد.

العصبيات المذهبية والطائفية، والدكتاتوريات، ومافيات السلطة والاستخبارات، وسوء التخطيط الاستراتيجي والعلمي والمستقبلي، هي هذه الأعشاب الضارة التي نتحمّل جميعاً مسؤولية تجاهلها، وأحياناً تغذيتها. والمولود الجديد لن يكون إلا عروبة جديدة. هذا هو الخيار الوحيد للأمة العربية إذا ما أرادت البقاء في قيد الحياة وتجنّب الاندثار التاريخي والحضاري.

بيد أن هذه اليقظة العروبية الجديدة، التي قلنا إنها يجب أن تكون واقعية وديمقراطية وحضارية، يجب أن تكون منفتحة على الحقائق الجديدة ليس فقط في العالم بل أولاً وأساساً في إقليم الشرق الأوسط.

فتركيا عادت إلى المنطقة وهي ستبقى فيها، سواء تعثرّت العثمانية الجديدة أم ظفرت. وإيران عادت بقوة هي الأخرى إلى المنطقة، ولن تخرج منها سواء تقدّم النظام الإسلامي فيها أم تراجع. وحتى باكستان التي تبدو غارقة في لجج المواجهات مع الهند في جنوب آسيا، ومع الهند و«الجميع» في أفغانستان وآسيا الوسطى، لا يستبعد أن تكتشف هي الأخرى أن ثمة ضرورة إلى القيام باندفاعة إلى الشرق الأوسط الإسلامي لملء فراغات دولية محتملة فيه ولقطف بعض الثمار النفطية والاقتصادية والاستراتيجية الدولية.

هذه المعطيات تفرض على أي نظرية جديدة، أو مقاربة عروبية جديدة، أن تضع على رأس أولوياتها كيفية التعاطي مع هذه الأطراف الإقليمية الإسلامية الكبرى. صحيح أن الأولوية يجب أن تكون لإعادة بناء الصرح العربي أو العروبي، لكن الصحيح أيضاً أن مثل هذا البناء سيكون صعب المنال من دون وضع هذه التطورات الجديدة في الأجندة التخطيطية، إذ هل يمكن، على سبيل المثال، تسوية الأزمة السورية، أو العراقية، أو اليمنية، أو اللبنانية، أو الخليجية، من دون إيران وتركيا؟

هذه نقطة.

وثمة نقطة ثانية لا تقل أهمية: يمثّل إقليم الشرق الأوسط وحدة جغرافية – إيكولوجية متكاملة. وهذه حقيقة باتت في غاية الأهمية والخطورة الآن، لأن الكوكب الأزرق ككل يشهد خللاً خطيراً في توازناته البيئية، ولأن أُمنّا الأرض لم تعد تحتمل العربدة الإجرامية الراهنة التي يرتكبها البشر بحقها، والتي تُستخدم فيها كل أنواع الأسلحة الملوثة للجو والمدمرة للبيئة وما تبقى من الزرع والشجر والمياه الجوفية. مثل هذه الأسلحة تستعمل الآن بلا أي رادع في كل أنحاء المنطقة، في وقت يتغيّر فيه مناخ الأرض بسرعة غير مسبوقة. وهو تغيّر كان أصلاً أحد الأسباب الرئيسية، كما ألمعنا، لاندلاع العديد من الثورات مؤخراً في بعض البلدان العربية، وبخاصة في سورية والعراق واليمن وحتى في مصر. وما يفاقم من هذه الأزمة الإيكولوجية الانفجار الديمغرافي المنفلت من عقاله هو الآخر، الذي يفرض (بسبب عدم اتساقه مع التخطيط التنموي الاقتصادي – الاجتماعي) ضغوطاً هائلة على البيئة.

إقليم الشرق الأوسط الآن يحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث المناطق المهددة بنضوب المياه الكافية لشعوبه فيها. والحروب الراهنة التي تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة الكيميائية والإشعاعية تُمعن تخريباً بما تبقى من مياه جوفية وتربة وأجواء صالحة للحياة.

الأزمة البيئية توحّد هذا الإقليم الآن، ولكن بطريقة دفعه على نحو مشترك إلى الهاوية. فكما أن اهتزاز جناحي فراشة بأكثر من اللازم في كاليفورنيا قد يتسبب بزلزال في اليابان، كذلك بات تغيّر المناخ وتلوث البحار والمياه والأجواء في أي بلد في منطقتنا، معطوفاً عليه ضغوط اللاجئين والديمغرافيا، يؤدي إلى كوارث متصلة في بقية بلدان المنطقة.

هذه المخاطر البيئية الجامحة، معطوفاً عليها حروب الدمار الشامل الأهلية الراهنة وضرورات التكامل الاقتصادي في ظل العولمة، يفرض على أي توجّه عروبي انقاذي جديد أن يطرح صيغة لتعاون إقليمي مع شعوب بقية المنطقة من أتراك وإيرانيين وأكراد؛ على أن يكون هذا التعاون بقيادة جماعية (وليس بتفرّد عثماني جديد أو فارسي مستجد أو حتى قومي عربي منبعث).

في إطار حل إقليمي، أو نظام إقليمي، من هذا النوع، يمكن مثلاً للأكراد (الذين هم الآن لغم التقسيم الرئيسي في المنطقة) أن يحققوا طموحاتهم القومية، من دون «حروب استقلال» قد تكون عبثية مع تركيا وإيران والعراق وسورية. كما يمكن لكل الأطراف العربية والتركية والإيرانية القيام بأدوار تكاملية بدل الانسياق إلى مواجهات إقليمية مستنفدة ومدمرة. لا بل يمكن في هذا الإطار العثور حتى على حل لـ «المسألة اليهودية» بعيداً من المشروع الصهيوني الانتحاري.