أولاً: تطور مفهوم العدالة في الفكر الإسلامي

لما كانت العدالة الاجتماعية من أهم الأركان التي ينبني عليها النظام الاجتماعي، فقد كانت مناقشتها ضمن الإطار الموضوعي العام للنظرية الاجتماعية ضرورية للغاية، في فهم جوهر النظام الاجتماعي الرأسمالي والأهداف المتوخاة من تطبيقه على الأفراد، وفي ضوء ذلك فسوف ندرس أفكار المدرسة التوفيقية، ومدرسة الصراع الاجتماعي، ومعتقدات ماكس فيبر (1864 – 1920)، والتطبيقات المنبثقة عن هذه النظريات.

ولأن الرّأسماليّة فكرة تقوم على مبدأ فصل الدين عن الحياة لأنها تريد أن يكون سير الحياة نفعياً بحتاً لا شأن للدين به، وهذه الفكرة هي عقيدتها وقيادتها الفكرية وقاعدتها الأساسيّة، وبناءً عليها كان الإنسان هو الذي يضع نظامه في الحياة في إطار من الحريّة الكاملة لتحقيق أكبر قدر من المنفعة له، باعتبار أن هذه المنفعة الخاصة للفرد لا تتعارض مع منفعة الجماعة، لأن مصالح الفرد ومصالح الجماعة متوافقة ومنسجمة.

1 – المدرسة التوافقية

وبهذا الخصوص ظهرت عدة أفكار جديدة من مجموعة كبيرة من مفكري النظرية الاجتماعية الغربية المعاصرة، والتي تسمى المدرسة التوافقية التي لا ترى مبرراً للصراع الاجتماعي تحت ظل النظام الرأسمالي القائم اليوم، أمثال هربرت سبنسر (Herbert Spencer) (1820 – 1903)، وإميل دوركهايم (Émile Durkheim) (1858 – 1917)، وتالكوت بارسونز (Talcott Parsons) (1902 – 1979) ونحوهم.

وتعتقد هذه المجموعة من المفكرين وعلماء الاجتماع بأن المؤسسات الاجتماعية القائمة تساند بعضها بعضاً من أجل خدمة الفرد في النظام الاجتماعي. وليس هناك موجب لنقدها أو محاربتها. ويشير صموئيل فريمان في كتابه اتجاهات معاصرة في فلسفة العدالة إلى أن من بين أهم المفكرين الغربيين المعاصرين، الذين قدموا تصوراً أكثر شمولاً من غيره لمفهوم العدالة، هو الفيلسوف الأمريكي جون رولز (John Rawls) (1921 – 2002)‏[1].

2 – جون رولز وقضية العدالة

وهذه الحالة المتجددة عاشها بالكامل الفيلسوف الأمريكي جون رولز في فترة تحولات كبرى في النظرية الليبرالية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي، القائم على مفاهيم الرأسمالية والحرية الفردية، ولذلك طغت على أفكاره في هذا المجال قضية العدالة في المجال الاجتماعي والسياسي، في مواجهة توحُّش الليبرالية والرأسمالية الغربية، والتي أتت على الكثير من جوانب آدمية الإنسان، وحقوقه في المجال الاجتماعي، وبالذات الفقراء، والمهمّشين، والفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع.

لقد انطلق رولز في أفكاره في هذا الصدد، من أفكار جون هوبز وجان جاك روسو عن العقد الاجتماعي التي قال روسو بشأنها: إنها الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات المنظمة والدول القومية التي كانت وقت ظهوره، لا تزال أوروبا حديثة العهد بها‏[2].

ولعل تركيزنا في هذا الصدد على أفكار رولز تأتي من الأصل الذي حاولنا التعامل معه ومعالجته، وهو مشكلة غياب العدالة الاجتماعية في الكيانات السياسية المنظمة، والتي تعدّ الدول شكلها الأرقى في الإطار المؤسسي والسياسي والمجتمعي. وهذه النظرية ترتكز على أسس يمكننا أن نوجزها في النقاط التالية‏[3]:

1 – الفرد هو نقطة البداية في التنظيم الاجتماعي، ومصلحته هي الغاية الأولى، والهدف الأساسي الذي يسعى المجتمع لتحقيقه.

2 – الفرد له مجموعة من الحقوق: أطلق عليها جون لوك الحقوق الطبيعية، مثل حق العمل، وحق التّملُّك، إلى جانب حق التجمع والاعتقاد، وهذه الحقوق الفردية مصدرها الحالة الطبيعية التي عاشها الإنسان قبل دخوله في الحياة الاجتماعيّة ولذلك لا يحق للمجتمع سلبها منه.

3 – لا تعارض بين مصالح الفرد ومصالح المجتمع، لأن مصالح المجتمع عبارة عن مجموع المصالح الفردية، فإذا سعد الفرد سعد المجتمع.

4 – التفاوت الطبقي في الثراء والملكية، أمر طبيعي يتفق مع الفطرة نتيجة تفاوت الناس في الذكاء والقدرات الخاصة والميول والاستعدادات.

5 – إن التفاوت في الملكيّة والثراء بين الناس، يدفع الفقراء منهم إلى بذل الجهد حتى يكونوا مثل الأثرياء، فهو يشحذ هممهم من أجل التفوق.

6 – حافز الربح والمصلحة الشخصية، والمنفعة الذاتية هي الأمور المحركة للنشاط الاقتصادي والباعث له.

7 – مبدأ المنافسة بين الناس مبدأ مشروع، فكل إنسان يسعى للحصول على أكبر قدر من المنفعة، بأقل قدر من الجهد، وبهذا تتحقق المصلحة العامة.

8 – عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، حتى يتنافس فيه الأفراد دون قيد، فالحريّة متوافرة لهم في الإنتاج والاستهلاك والدولة هي المسؤولة عن حمايتها لأنها وسيلة لتحقيق المصلحة العامة، وتنمية الإنتاج والثروة العامة، وهي التعبير الكامل عن الكرامة الإنسانية وحق الإنسان في الحياة.

وقد انتشرت هذه الأفكار خلال القرن الثامن عشر بين رجال الاقتصاد وكان من أوائل من نادى بها آدم سميث‏[4] في إنكلترا، وجان جاك روسو وجون لوك وفولتير وغيرهم ممن أرسوا دعائم المذهب الفردي الذي تشكلت لهم مذاهب فلسفية تقدس حرية الإنسان الفرد حتى أصبحت هي القاعدة السائدة في كل أمور الحياة وظهر هذا المبدأ في جملة أصبحت تدل عليه هي «دعه يعمل دعه يمر»‏[5].

3 – الملكية الفردية

وبعد سيطرة هذا الاتجاه الفردي على الفكر الاقتصادي في أوروبا خلال القرن الثامن عشر احتاج الرأسماليون لدعم السلطات الحاكمة في حماية مصانعهم وتأييد احتكاراتهم بعد اتساع الصناعات الآلية فاتجهوا لنصرة حكوماتهم أو نصرة رجال يدفعون بهم إلى سدّة الحكم لينالوا منهم الحماية والتأييد، وربما أدخلوهم شركاء معهم في مصانعهم لتكون المصلحة بينهم مشتركة، وهذا أدى إلى منح صلاحيات واسعة للملكية الفردية وتكريس الإقطاعيات والاحتكارات الكبيرة فأدى ذلك إلى ظهور الفروق الاجتماعيّة الواسعة بين الطبقات، وإلى استغلال أصحاب المشاريع الضخمة والصناعات الكبرى للملايين من العمال يستغلونهم دون أن يوفوهم أجورهم بالعدل، وانحازت الحكومات لحماية الرأسماليين وتمكينهم من استغلال العمال، ومساعدتهم على احتكاراتهم واستغلال المستهلكين بغير حق. وكان ذلك من أسباب شحن الجماهير الكثيرة بالنقمة من الرأسماليين، ومن السلطات الحاكمة المنحازة لهم باسم الحريّة الفردية في النشاط الاقتصادي. وظهرت نُذُر الصراع الطبقي من جديد مع سيادة التطبيقات الرأسمالية وإسرافها في استغلالها واحتكاراتها التي كانت تحمل في نفسها بذور الدمار والفناء لهذا النظام الفردي الذي انكشف عواره، وتجلى فساده لجميع البلدان التي كانت تحت نفوذ الغرب.

4 – النزعة الإصلاحية

وتحت ضغط المطالب الشعبية والحركات الجماعية التي تأثرت بدعاية الاشتراكيين في روسيا، انبثقت دعوات إصلاحية معتدلة، خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر من بعض أنصار المذهب أمثال: جون ستيوارت ميل (John Stuart Mill) (1806 – 1873)‏[6] وغيره ممّن يرون إمكان إصلاح النظم الرّأسماليّة القائمة وتخفيف وطأتها، والعمل على استبعاد الأسباب التي تؤدي إلى ظلم طبقة العمال واستغلالهم بغير حق، وإيجاد تنظيمات جزئية تحقق القدر اللازم من العدالة الاجتماعيّة، نحو:

1 – إلغاء العمل المأجور لأن العمل المأجور سوف يبقي العامل في سوية من العيش منخفضة لا تسمـح لـه بـأن يرفـع مستـواه المعيشـي، ولذلك اقتـرح إنشاء جمعيـات تعاونية إنتاجية يشترك فيها العمال مع بعضهم البعض في العمل ويقتسمون الربح فيما بينهـم.

إضافة إلى تنظيم حقوق العمال في الأجور العادلة وفي تحديد ساعات العمل وفي التأمين الصحي وفي تأمين العجز والشيخوخة والعيش بعد سن التقاعد كالتعليم المجاني العام.

2 – مصادرة الريع العقاري: لأن سبب وجود هذا الريع هو تزايد السكان، وهذا الريع سوف يزداد كلما ازداد عدد السكان، ونظراً إلى أن سببه المجتمع لذلك وجب أن يعود إلى المجتمع ثانية، لأن الملّاك يأخذون حصة الأسد من الإنتاج دون أن يكون لهم جهد معقول سوى أنهم مالكون، واقترح لذلك أن تفرض الدّولة ضرائب كبيرة على الأملاك حتى تمتص الريع من أيدي الملّاك.

3 – تحديد حق الوراثة: حيث إنّ المزاحمة بين المنتجين لا يمكن أن تكون صحيحة إلا أن تتحقق المساواة بين المتزاحمين من حيث الإمكانات المادية، ولذلك اقترح تحديد حق الإرث حتى لا يؤدي ذلك إلى تفاوت في الإمكانات المادية، وعندئذ تتوافر الشروط الصحيحة للمنافسة الحرة.

5 – تحديات تواجه الفكر الإسلامي

وهذه الآراء لا تعني الخروج عن المذهب الحر فقد بقي المفكرون يتمسكون بالمبادئ الرأسمالية الأساسيّة إلا أن هذه الانتقادات قد هدت من كيان هذا المذهب وأضعفته أمام الهجمات المتوالية التي شنّها دعاة الفكر الاشتراكي‏[7].

ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن الفكر الرأسمالي يتمثل ضمن الإطار الفلسفي التنظيمي باتجاهين اثنين أملتها ظروف وأوضاع سياسية واقتصادية خاصة.

الأول: هو وليد حركة التنوير التي ظهرت في أوروبا الغربيّة والوسطى على أثر الأفكار الفلسفية التي انتشرت بعد الثورة الفرنسية، الذي يركز على حرية الأفراد وحقوقهم الطبيعية التي كانت مسلوبة في ظل الكنيسة، واستبداد الحكام الذين يحكمون الناس باسم الحق الإلهي‏[8].

الثاني: كان ظهوره نتيجة للأضرار التي لحقت بالعديد من الطبقات الاجتماعيّة من جرّاء إطلاق الحريّة الفردية السياسيّة والاقتصادية، وهذا ما حدا بالعديد من المُفكرين الرأسماليين بالعمل على إدخال تعديلات وترقيعات اشتراكية على الفكر الرأسمالي، «يراد منها التخفيف من الحيف الفظيع الذي توجده الرأسمالية في المجتمع وهي أحكام ظاهر فيها الترقيع»‏[9].

وما دام الأمر بالنسبة إلى الفكر الرأسمالي على هذا النحو، فإن لكل اتجاه مفهومه المتميز عن العدل والعدالة ضمن إطاره الفكري الخاص.

فدعاة الحريّة الفردية المطلقة يرون أن العدالة تتمثل بـ «استيلاء الأفراد على ثمار جهدهم دون تدخل من أحد «للحد من الحريّة الاقتصادية»، مهما ترتب على ذلك من تفاوت وتمايز في الملك والعمل تبعاً للتمايز الطبيعي في القدرات والطاقات الفردية، تاركين للروح التنافسية التي تحدثها المنافع الشخصية، أن تسيّر الحياة الاقتصادية كي يصل المجتمع من جراء ذلك إلى التوازن العام بين أفراده وطبقاته.

وعلى أساس هذه النظرة، فإن الفرد هو محور القانون وغايته، وفي تمكين الفرد تنمية مواهبه وملكاته وفق إرادته وميوله الشخصية وقدراته العقلية تقدم المجتمع وازدهاره لأن تقدم المجتمع مرتبط بتقدم أفراده، فإذا تقدم الفرد تقدم المجتمع، ولذلك فإن من واجب القانون والدّولة هو تمكين الفرد وتقويته وصيانة حريته التي يريدها.

لهذا دأب دعاة الحريّة‏[10] المطلقة في إبراز دور الحريّة في إيجاد التوازن الاجتماعي وتحقيق العدالة، وتشدد حنة أرندت في كتابها السياسة والتاريخ والمواطنة على: «أن الثورة ترتبط في الدرجة الأولى بنمو الوعي التاريخي، أي أنها تتضمن فكرة التجلي الفجائي لمجرى التاريخ الجديد ولا سابق له، لقصة جديدة ولمستقبل مشرق». حيث تتخذ أرندت موقفاً نقدياً حيال الوعي التاريخي الحديث، فإن ذلك يشتمل على مشكلة جدية، كيف يمكن خلق مجال عام للحرية، وهو صلب الثورة التي تؤمن مناخاً جديداً للحرية‏[11].

ويقول الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر (Herbert Spencer) (1820 – 1903): «فأما الملكيّة الخاصة فإنها تستمد أصولها من قانون العدالة بأن يتساوى الناس في الاحتفاظ بثمرة اقتصادهم وتوفيرهم»‏[12].

ويقول آدم سميث: «إن العدالة تحكم بقانون المنفعة، منفعة المنتج ومنفعة المستهلك تتطابقان إذا امتنعت الحكومة عن التدخل، وفسحت المجال حُرّاً طبيعياً»‏[13].

وأما دعاة التدخل والتوجيه الاقتصادي فيرون أن العدالة تتحقق من جراء تدخل الدّولة للحد من الحريّة الاقتصادية التي تعتمد على القانون الطبيعي وذلك بتوزيع الثروة في المجتمع وتقسيمها تقسيماً عادلاً يحقق الرفاهية لجميع الناس.

من هذا كله يتبين لنا أن العدالة في الفكر الرأسمالي الحديث لا تدل على نظام اقتصادي كالاشتراكيّة أو فكر فلسفي خاص، وإنما هي كلمة اصطلاحية وضعت من قبل فلاسفة الفكر الرأسمالي للدلالة على تدخل الدّولة عن طريق التشريعات والنظم لتخفيف المفاسد والمظالم التي نتجت من الحريّة الفردية المطلقة فهي أحكام معينة يراد بها التخفيف من الحيف الفظيع الذي أوجدته الرأسمالية في المجتمع وهي أحكام ظاهرها الترقيع.

يقول جعفر عبد السلام أستاذ القانون الدولي في جامعة الأزهر: «جاء المفكرون الرأسماليون بفكرة العدالة الاجتماعيّة التي عنوا بها إعطاء المزيد من الحقوق للعمال وزيادة الاهتمام بهم لصرفهم عن الأفكار الاشتراكيّة محافظة على النظام الرأسمالي الحر»‏[14].

أما جميل صليبا فيشدد في المعجم الفلسفي على أن: «العدالة الاجتماعيّة هي احترام حقوق المجتمع، كتنظيم العمل ومنح العمال أجوراً متناسبة مع كفالتهم وتوفير الخدمات والتأمينات الاجتماعيّة»‏[15].

وبعد كل ما تقدم نستطيع أن نصيغ تعريفاً للعدالة الاجتماعيّة في الفكر الرأسمالي الحديث مؤداه: «أن العدالة هي أحكام معينة من التشريعات، والنظم التي تمكن الدّولة حق التدخل لرفع المستوى المعاشي للضعفاء والمحرومين من خلال فرض الضرائب على الأغنياء أو استقطاع جزء من أموال الموظفين لتعود به الدّولة على الفقراء من المجتمع على صورة خدمات صحية وتعليمية أو مكافآت نقدية تعويضية. هذا إلى جانب تهيئة العمل وتقديم بعض الخدمات العامة والمساعدات المالية لبعض الفئات العمالية مقابل اشتراكات تؤخذ منهم أو مساعدة الفئات الضعيفة من المرضى والشيوخ والعاطلين من العمل بغية الوصول إلى مستوى لائق من العيش.

وفي استنتاجنا لمفهوم فكرة العدالة الاجتماعية في الفكر الفلسفي الغربي نتوقف أمام التالي:

1 – إن تطور الأفكار الغربية من حيث باتت تحمل عدة تطلعات جديدة من خلال طرح مجموعات اجتماعية كبيرة متمسكين بالأسس الاجتماعية للفلسفة الغربية المعاصرة، والتي يصعب إيجاد تعاريف لهذه المفاهيم التي تتلاءم مع الحياة الاجتماعية الجديدة المتعلقة بالمكونات الاجتماعية وخاصة في دول الغرب التي باتت تختلف الحياة فيها بين الشرائح والدول والمناطق.

2 – إن جميع المؤشرات في الدول الغربية تدل على انعدام العدالة الاجتماعية وبخاصة في البلدان الرأسمالية وبالأخصً الولايات المتحدة، حيث يعود سببها في الأصل لتوزيع الثروة الاجتماعية غير العادل بين الأفراد. حيث تقع نصف كمية الأرصدة والعقارات ووسائل الإنتاج في حيازة مجموعة قليلة من الأفراد تمثل واحداً بالمئة من نسبة السكان.

3 – بظل التفاوت الاجتماعي في الدول الغربية حيت باتت القوة تتركز بيد قلة قلية من البشر في المجتمع الرأسمالي بنفس الأسلوب الذي تتراكم به الثروة الاجتماعية.

بعد الاطلاع على الأفكار الليبرالية ومفهومها لنظرية العدالة والإنصاف في المجتمعات الغربية التي تسودها الأفكار الجديدة القائمة على حرية الأفراد وسيطرة الاقتصاد الحر، يجب الاطلاع على مفاهيم الأفكار الاشتراكية والافكار الديمقراطية حول العدالة والإنصاف لكي نتمكن من المقارنة بين النظريات وكيفية نظرها لمبدأ العدل والإنصاف في تطبيق القوانين.

 

ثانياً: العدالة في الفكر الاشتراكي

عندما انكشف عوار النظام الرأسمالي وتجلّت مفاسده ظهرت فلسفات سياسية متفقة في نظرتها للحرية الاقتصادية ومتباينة في نظرتها إلى طريقة إدارة الحياة الاقتصادية، سواء من جهة ملكية وسائل الإنتاج أم من جهة توزيع الثروة وقد أطلقت على هذه الأفكار اسم الاشتراكيّة.

فكان ظهور الاشتراكيّة نتيجة للظلم الذي عاناه المجتمع من النظام الاقتصادي الرأسمالي وللأخطاء والمثالب الكثيرة التي فيه.

1 – الاشتراكية المثالية

فكان منها دعوات إصلاحية معتدلة، ترى إمكان إصلاح النظم الرأسمالية القائمة وتخفيف وطأتـها والعمل على استبعاد الأسباب التي تؤدي إلى ظلم طبقة العمال واستغلالهم بغير حق وإيجاد تنظيمات جزئية تحقق القدر اللازم من العدالة الاجتماعيّة كنظم حقوق العمال في الأجور العادلة وفي تحديد ساعات العمل وفي التأمين الصحي، وفي تأمين العجز والشيخوخة والعيش بعد سن التقاعد وغير ذلك.

وكان في طليعة دعاة الاشتراكيّة المثالية وتطبيقها بوسائـل الإصلاح الاجتماعي الكاتب الفرنسي سان سيمون (Saint Simon) (1760 – 1825)‏[16] فقدم أفكاراً في تنظيم الجماعة وفي الدور الذي يمكن أن يؤديه الدين المسيحي في تنظيم المجتمع الاشتراكي.

ومنهم روبرت أوين (1771 – 1858)‏[17] وهو أول من أنشأ نظاماً للتعاون بين العمال ومدارس لتعليم أبنائهم وأول من حاول تطبيق الاشتراكيّة بوسائل الإصلاح الاجتماعي.

وبدأت الحركة الاشتراكيّة في إنكلترا في أواخر القرن التاسع عشر وظهرت الجمعية الفابية‏[18]. زعيمة الاشتراكيّة الإنكليزية. وفي سنة 1893 قام حزب العمال المستقل بنهج اشتراكي وسار على الخط نفسه ونشط في الحقل السياسي واستطاع أن يكون له قوة برلمانية وأن يستلم الحكم في بعض الأحيان وينفذ برامجه الاشتراكيّة.

2 – الاشتراكية الثورية

وكان منها دعوات ثورية لا تقبل التطور الإصلاحي، بل تنادي بهدم النظم الرأسمالية القائمة هدماً كامـلاً عن طريق الصراع الطبقي والثورة المدمرة وإقامة حكم العمال والكادحين بنظام استبدادي صارم وفرض الاشتراكيّة المتطرفة التي تنـزع فيها الملكيات الفردية ولا سيما وسائل الإنتاج لتكون ملكاً عاماً في يد الدّولة تشرف عليه وتديره وتجعل كل القادرين والقادرات على العمل عمالاً تحت يدها، مطبقة عليهم جميعاً قاعدة «من كل حسب استطاعته ولكل بحسب حاجته» وكان زعيم هذا الاتجاه اليهودي كارل ماركس (Karl Marx) والألماني فردريك إنغلز (Friedrich Engels)، وفي سنة 1848، أصدر ماركس وإنغلز بيانهما الشيوعي المشهور‏[19]، حيث تتمحور الفكرة الأساسية فيه، وهي عملية الإنتاج الاقتصادي والبنية المجتمعية التي تنجم عنه بالضرورة، حيث يمثلان في كل عهد تاريخي، الأساس للتاريخ السياسي والفكري لهذا العهد، وبالتالي فإن التاريخ (منذ انحلال المشاعية البدائية للأرض) كان تاريخ صراعات طبقية بين طبقة مستغلة وطبقات مستغلة بين طبقة سائدة وطبقات مسودة في مختلف مراحل التبسيط المجتمعي. وهذا الصراع بلغ مرحلة متطورة في العديد من الدول الأمر الذي جعل الطبقة المضطهدة (البروليتاريا) من الطبقة «البرجوازية» تقف بجدية ضد هذه الطبقة المستغلة والعمل للتحرر من سيطرتها. بعد ذلك بدأت الحركات والمنظمات والأحزاب الشيوعية والثّورية العمل على المواجهة والتنظيم لحركات (البروليتاريا) في العالم حتى استطاعت أن تُسقط حكم القيصرية الروسية، وتقيم أول دولة اشتراكية في روسيا عام 1917.

فالثورة الاشتراكية، هي القطيعة الأكثر جذرية مع علاقات الملكية المتوارثة، ولا غرابة في أن تقطع في مجرى نموها، بجذرية أشد، صلتها بالأفكار المتوارثة، وتحمل الأفكار الشيوعية الثورية حقائق ثابتة مثل الحرية والعدالة والتطور والمفاهيم الاقتصادية التي هي واحدة من جميع الأوضاع المجتمعية.

وبهذا الخصوص يتوقف عبد الواحد وافي في كتابه لشرح مفهوم المدرسة الاشتراكية بقوله: «ومع أن المدارس الاشتراكيّة تختلف حول إصلاح نظام الملكيّة الفردية، غير أن التعديلات المقترحة على نظام الملكيّة الفردية ترجع إلى طائفتين:

1 – قصر الملكيّة الفردية على بعض الأمور وتأميم بعضها الآخر، أي جعله ملكاً مشاعاً للجميع أو وضعه تحت إشراف الدولة.

2 – تعديل في حقوق الملكيّة المفصلة بحرية تصرف المالك في ملكه ويكون بالحد من مبدأ حرية التصرف على الوجه الذي يقتضيه الصالح العام…»‏[20].

وفي تناولنا للمفاهيم الفلسفية المختلفة، وفي عرضنا للفكر الاشتراكي تبين لنا أن الفكر الاشتراكي يتمثل بنمطين فكريين متمايزين: نمط يتصل بالفكر الرأسمالي عبّر عنه عالم الاجتماع الأمريكي وليم غراهام سمنر (William Graham Sumner) (1840 – 1910) بقوله: «الاشتراكيّة هي أية خطة أو مذهب يستهدف إنقاذ الفرد من أية مصاعب أو متاعب يلقاها في نضاله من أجل البقاء وفي تنافسه في معترك الحياة وذلك عن طريق تدخل الدّولة»‏[21]. كما عبّر عنه جيمس بونار (James Bonard) بقوله: «الاشتراكيّة هي السياسة أو النظرية التي تستهدف تحقيق توزيع أفضل للثروة ويؤدي ذلك بالضرورة إلى إنتاج أفضل وذلك من طريق تدخل السلطة الديمُقراطيّة المركزية».

ونمط يناقض الفكر الرأسمالي ويدعو إلى الثورة عليه وهو الفكر الماركسي أو الاشتراكيّة العلمية، وقد عرضنا النمط الأول وسنفرد النمط الثاني في مبحث خاص.

3 – مفهوم العدالة في الفكر الشيوعي

أما مفهوم العدالة في الفكر الشيوعي: من البديهيات لكثير من الباحثين المعاصرين أن المشاريع الاشتراكيّة التي طرحها ونفذ بعضها حشد من الاشتراكيين في فرنسا وإنكلترا وغيرها من بلدان أوروبا، كانت المحاولات الجادة الأولى لحل المشكلة الاجتماعيّة إلا أنه سرعان ما طغت عليها الطروح الخيالية بدلاً من التصميم الواقعي والحلول الوسطية وبدلاً من التغيير الجذري، ولم تستو هذه المعالجات الاشتراكيّة على سوقها وتتبلور وتأخذ نسقها العلمي – كما يرى كثير من الدارسين، إلا على يد ماركس‏[22] ورفيقه إنغلز اللذين طرحا في مؤلفاتهما وبخاصة المنشور الشيوعي الأول وكتاب رأس المال التصميم النهائي للمسألة الاجتماعيّة، مُدّعين أنّ نتائج دراستهما هي جهدٌ عقلي خالص وقد أسموه: الاشتراكيّة العلمية تمييزاً لها عن سائر الاشتراكيات، كما أنها اكتشاف علمي من حقائق الحركة التاريخية وحتميتها الجدلية (الديالكتيكية) تلك التي تقضي بتبديل دوري في وسائل الإنتاج، يوجد ظروفاً إنتاجية معينة تكون بمثابة قاعدة تحتية شاملة تتأثر بها وتنفعل سائر الفعاليات الحضارية، وحتمت تناقضات الحركة التاريخية زوال الظروف الإنتاجية للرأسمالية، وسائر مؤسساتها الحضارية، وقيام حكم الطبقة العاملة حيث تلغي حقوق الملكيّة أساساً، فهي في نظرهم أساس كل الشرور ومما يجب القضاء عليه وإحلال الملكيّة العامة، من خلال قيام الدّولة أو الطبقة الحاكمة نيابة عن المجتمع، بإدارة واستثمار وتوزيع الأموال العامة بأكبر قدر من التساوي بين الجميع وبهذا يتم القضاء، بنظرهم إلى الطبقية والملكيّة والتمايز الفردي والاجتماعي، وتحقيق المساواة الحسابية بين البشر وتحويل العمل إلى غاية للحياة وتحقيق الجماعة الكاملة في الحياة الاجتماعيّة، ويكون توزيع الثروة بحسب مبدأ الحاجة (لكل حسب حاجته) وليس بحسب كمية الجهد المبذول‏[23].

وبهذا التصور فالماركسي يرى «أن المذاهب الاشتراكيّة التي جاءت قبله تعتمد في انتصار أفكارها على ما فطر عليه الإنسان من حبه للعدل وانتصاره للمظلوم، فكانت تضع طرائق جديدة تعتقد بالإمكان تطبيقها على المجتمع وتتقدم بها إلى الحكام والمتمولين والطبقة المتنورة تحثهم على تنفيذها، ولكن كارل ماركس لم يبن مذهبه على ذلك، ولم يسلك الطرق التي سلكوها، فقد بنى مذهبه على أساس مبدأ فلسفي يعرف بالمادية التاريخية… ورأى أن قيام النظام الجديد في المجتمع سيتم بمجرد عمل القوانين الاقتصادية وبمقتضى قانون التطور في المجتمــع من غير تدخل إدارة متشرع أو مصلح»‏[24].

وعليه فإن فلاسفة الاشتراكيّة الماركسية، كانوا يبتعدون عن المفاهيم التجريدية المطلقة معتبرين أن المفاهيم، تتغير تبعاً لتغير العلاقات الاقتصادية القائمة، هذا فضـلاً عن كونهم لا يؤمنون بالتدخل والتوجيه والترشيد من جانب الدّولة ولا يؤمنون بالترقيات الإصلاحية وقد ورد ما يؤيد هذا في الموسوعة السوفياتية‏[25].

فالحقيقة أن هذين المفهومين العدالة والظلم يتغيران من عهد إلى آخر تبعاً للتغيرات التي تطرأ على العلاقات الاجتماعيّة. وقد أوضحت الماركسية مفهوم العدل وقاسته في علاقته بالحاجات الحيوية للتطور الاجتماعي الطبيعي‏[26]، وتربط الأخلاق الماركسية بين مفهوم العدل وفكرة تحرير المجتمع من الاستغلال، والاشتراكيّة وحدها هي التي «تخلق علاقات عادلة أصيلة من المساواة، ويبلغ العدل ذروته في المجتمع الشيوعي الذي تختفي فيه كل آثار الفروق الاجتماعيّة الاقتصادية»‏[27].

وهنا نرى أن الماركسية هي نظرية فكرية تنطلق من واقعها المادي الصرف، حيث تحصر مدى العدل في تنفيذ مطالب الإنسان المادية فحسب وتغفل، بل تقف – حرصاً منها على تنفيذ وحماية سمتها الطبقيّة ونزعتها الجماعية – بمواجهة سائر المطالب الأخرى روحية ونفسية وفكرية ووجدانية واجتماعية…، كما أنها تجعل الطبيعة بحركتها الدينامية الأبدية القائمة على تجاوز النقيضين، هي السيد المطلق وليس الإنسان سوى (منفذ) غير حر ولا مريد لمشيئة هذا السيد، وأنه أياً كانت المرحلة الاجتماعيّة التي يمارس فيها علاقاته، المرحلة المشاعية أم مرحلة الرق، أم الإقطاع أم الرأسمالية، أم الاشتراكيّة، فإنّه يفعل ذلك بأمر من الطبيعة، لا محيص له عنها أبداً. وهذا الموقف يمثل ولا ريب، نزعة من أقسى النـزعات الجبرية التي شهدها التاريخ، تقف ومسألة العدل على طرفَي نقيض، وإن كانت التحليلات التبريرية الجدلية هي التي تدفع الماركسية إلى مزيد من الإيمان بفكرة التقدم والعمل الثّوري الدائم للإسراع بالجدل الطبقي المحتوم إلى غايته.

ومن خلال ذلك نجد الماركسية تنظر إلى العدالة نظرة نسبية تقتصر على المساواة في ملكية وسائل الإنتاج وتوزيع الثروة من خلال إلغاء الملكيّة الفردية والطبقية في المجتمع، ويصور هذا عبد المنعم النمر أدق تصوير في قوله: «إذن الماركسية تصورت العدالة الاجتماعيّة، لا تتحقق إلا في المجتمع الاشتراكي وذلك بإلغاء الملكيّة الفردية وتطبيق نظام الأجور على قاعدة (من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته)‏[28]، وإلغاء الطبقية والمناداة بالمساواة»‏[29].

نتوافق بهذا الخصوص مع ما ذكره عبد الرحمن يسري بقوله: «أما الماركسية أو العدالة الاجتماعيّة الشيوعية في الاشتراكيّة، فتتلخص في العمل على تحقيق المساواة التامة بين عاملين في الدولة، فهم في مجموعهم يمتلكون وسائل الإنتاج ويستحقون الدخل الذي يتحقق من وراء النشاط الإنتاجي بلا تفرقة، «هذه هـي العدالة المثلى»، العدالة الاجتماعيّة في رأي الاشتراكيّة الماركسية»‏[30].

خاتمة

وختامـاً لما سبق استعراضه يمكننا استنتاج التالي:

1 – إن فكرة العدالة والإنصاف تقع ضمن منظومة القيم الأخلاقية والإنسانية التي عنيت بها الحرية والمساواة وسواها، حيث تلتصق بها التصاقاً لا يمكن فصلها بعضاً عن بعض.

2 – لا يمكن تحقيق المساواة في غياب العدالة، لأن العدالة والإنصاف، هما الأساس في المجتمعات وتطور الشعوب والثقافات عبر العصور.

3 – إن حاجات المكونات الاجتماعية هي التي تساعد على إبراز وتمايز دور العدالة والإنصاف مستندة إلى التشريع الديني والإنساني والوطني والدولي، في كل المراحل والفترات الزمنية لتنظيم العلاقات البشرية وتضمينها نصوصاً ناظمة لتلك العلاقات والوصول إلى علاقات سليمة في المجتمعات.

4 – لتحقيق الاستقرار في النظم الاجتماعية بين البشر يجب تنظيم العلاقات الداخلية فيما بينها، من جهة وتنظيم العلاقات الخارجية، من جهة أخرى.

5 – بناء المؤسسات الاجتماعية والتشريعية والقانونية هي جزء من تنمية الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة التي تندرج عليها العدالة والإنصاف.

6 – العدالة والإنصاف ترتبط بالمفاهيم الفلسفية القديمة التي وضعها الإنسان من خلال تساؤلات، تدور حول تنظيم حياته الاجتماعية، والتي لم تختلف عما جاء في الرسائل السماوية الثلاث.

7 – تميز دور الفلسفة الحديثة بالتشديد على دور العدالة والإنصاف التي سادت في مفاهيم الرأسمالية المشجعة على الحرية الفردية.

8 – بروز مفاهيم العدالة الاجتماعية والسياسية، في مواجهة العولمة، وحماية حقوق الإنسان الاجتماعية، وبالذات الفقراء، والمهمشين، والفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع.

9 – العدالة والإنصاف هما القاعدة القانونية التي دخلت في صلب التشريع الحديث ومنه القانون الدولي العام.

ووفقاً للاستنتاجات التي استعرضناها نرى أن مفهوم العدالة والإنصاف قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بكل المدارس والمفاهيم الفلسفية القديمة والحديثة التي أسست تدريجياً لمفاصل مهمة لتطور فكرة العدالة والإنصاف من بابها الفلسفي والقانوني.

 

قد يهمكم أيضاً  حرية التعبير بين القانونين الدولي والداخلي : المبادئ والقيم والحدود

#مركز_دراسات_العربية #العدالة_الاجتماعية #الرأسمالية #الإشتراكية #الفكر_الشيوعي #العدالة_في_الفكر_الإسلامي #مفهوم_العدالة_الإجتماعية #دراسات