أولاً: التخطيط وآليات السوق والثروة النفطية

شهد العراق منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي حتى أوائل عام 2003، تراجعاً سريعاً في ممارسات التخطيط الاقتصادي الحكومي، وفشل السياسات الاقتصادية في زيادة النمو والتشغيل والإسراع بالتنمية، وذلك لأسباب عديدة أهمها: الحرب مع إيران (1980 – 1988)، وحرب الخليج الثانية (1991)، والاعتماد الكبير على الريع النفطي، والتوسع الكبير في الملكية العامة للأصول الإنتاجية، وتدني كفاءة مشاريع القطاع العام، والهيمنة المطلقة لسلطة الحكم الدكتاتوري، والحصار الاقتصادي والتجاري الدولي (1990 – 2003). ومنذ الاحتلال في عام 2003، فشلت أيضاً السياسات الاقتصادية «الليبرالية الجديدة»، البديلة لدور الدولة، في تخطيط وإدارة الاقتصاد وإعادة إعمار مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية (المادية) والاجتماعية والبيئية، وذلك لعدة أسباب، في مقدمها: تخريب الحركات الإرهابية والتكلفة البشرية والاقتصادية والمالية الباهظة في محاربتها، وسوء استخدام الإيرادات النفطية، وعدم الاستقرار السياسي، والتدهور الأمني، والاضطراب الاجتماعي. أما دلالات الفشل الموثقة، فأبرزها: انخفاض النمو، وزيادة البطالة، وانتشار الفقر، والتراجع عن شيْد مشاريع البنية الأساسية وتأهيل الصناعات المدمرة، وتدهور مشاريع القطاع العام، وتردّي الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية العامة، وتفشّي الفساد المالي والإداري، واستمرار الاعتماد على الريع النفطي المقترن بزيادة الدَّين العام الداخلي والقروض الخارجية في تمويل الإنفاق العام والاستيرادات المتزايدة. وما يعكس هذا الفشل أيضاً، زيادة التباين في توزيع الدخول وضمور دور الطبقة الوسطى في الاقتصاد والتنمية. وفي الواقع، فإن نوعية الحياة في البلاد قد تدهورت كثيراً.

وفي زحمة الآراء الداعية إلى تجاوز الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة والبدء بالإصلاح والتحديث الاقتصادي، يبرز قوياً الاستنتاج الخاطئ والخطير لدى بعض الاقتصاديين والأحزاب السياسية بأن «نعمة» الريع النفطي، كانت ولا تزال، السبب في المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وفي تراجع الديمقراطية، وانتشار الفساد، بينما يتجاهل دعاة هذا الاستنتاج حقيقة أن سوء استعمال السلطة الحاكمة للإيرادات النفطية هو السبب الرئيسي في هذه المشاكل. والخطورة في هذا الرأي الذي يضع النتيجة محل السبب، أنه يكرِّس، بوعي أو بلا وعي، رفض دور الدولة في ممارسة التخطيط والاستثمار المباشر لإحداث التغيير الاقتصادي الهيكلي الضروري لزيادة الإنتاج والإنتاجية والصادرات غير النفطية ونشر التكنولوجيا الحديثة بين فروع الاقتصاد، ويمهد عملياً للمطالبة بتقليص الملكية العامة للثروة النفطية، سواءٌ ببيع جزء من أصولها المادية للشركات العابرة للجنسيات أو من خلال فكرة حجز جزء من الريع النفطي أو الفائض منه (صادرات النفط في المستقبل) في «الصناديق السيادية» للاستثمار في العقارات أو في الأسواق المالية العالمية أو لتمويل المشاريع الخاصة بمثل مهمات البنوك المحلية‏[1]. ويتجاهل أصحاب هذا الرأي الذي يجعل «النتيجة هي السبب» في تبرير مساوئ قيام الدولة بمهام الاستثمار المباشر للإيرادات النفطية، حقيقة أن التمسك بقيم العمل المنتج، ومقاومة الفساد، وإنسانية العدالة الاجتماعية لدى إدارة الشركات الخاصة، الوطنية والأجنبية، ليس بالضرورة أفضل من تمسُّك الحكومات الوطنية، المنتخبة ديمقراطياً، والمهتدية بمعايير مؤسسية في إدارة الاقتصاد وتوزيع الثروة النفطية، بهذه القيم‏[2].

في الوقت الحاضر، يفرض الواقع الاقتصادي الموضوعي في العراق، وليس مشروع بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة المستقلة والارتقاء بنوعية الحياة للمواطنين وللمجتمع فقط، بعث الحيوية والتجديد في المشروع الاقتصادي الوطني (المشروع)‏[3]. ولهذا أيضاً، ولاعتبارات اقتصادية وسياسية واجتماعية، تجب المقاربة في برنامج الإصلاح الاقتصادي لصندوق النقد الدولي (الصندوق) الموثق في إطار «اتفاق الاستعداد الائتماني» (الاتفاق) وتعتمده الحكومة حالياً في تطبيق السياسات الاقتصادية «الليبرالية الجديدة» بفاعلية تتجاوز تعثر محاولات التحول الاقتصادي المستمرة التي أعقبت الاحتلال في عام 2003. فهذه المقاربة مفيدة في تبرير العودة «للمشروع»، وفي تقييم سياسات «الصندوق» وتوقعاتها (أهدافها) في السنوات القادمة (2017 – 2022)، وبما يسمح في وصف النظام الاقتصادي المستهدف إرساءه في البلاد‏[4]. وبالتحديد، تفيد المقاربة في إيضاح دور الدولة الواسع في إدارة دينامية النمو الاقتصادي، وتشييد مشاريع البنى الأساسية، وإعادة تقييم وتأهيل مشاريع القطاع العام، وفي توسيع الخدمات العامة بتمويل من الإيرادات النفطية، في مقابل تقليص هذا الدور وحصره في توفير البيئة الاستثمارية بتأمين الاستقرار المالي والاقتصادي وتوسيع حرية آليات السوق، وتشجيع استثمارات القطاع الخاص الوطني، والعمل على توطين أساليب الإدارة الحديثة بواسطة الاستثمار الأجنبي المباشر.

وفي الوقت الحاضر، ومع استمرار مخاطر التقلبات في «أسعار» صادرات (إيرادات) النفط، تبرز أهمية «المشروع» للبحث في خصائص النموذج الاقتصادي الجديد‏[5]، والسياسات الاقتصادية البديلة‏[6] لتحقيق الإصلاح الاقتصادي وإيجاد مصادر جديدة للإنتاج وللدخل وللصادرات، لضمان استدامة النمو والتشغيل وتحسين تنافسية الاقتصاد الوطني. وفي «المشروع»، تؤدي الدولة دوراً أساسياً في تعبئة الموارد لزيادة الاستثمارات الحكومية لتوسيع الطاقات الإنتاجية والصادرات وزيادة إنتاجية العمل، وفي توفير الخدمات العامة التعليمية، ومنها برامج التدريب المهني والفني، والخدمات الصحية، وتنمية الموارد الطبيعية، وحماية حقوق أجيال المستقبل فيها. ولإبراز هذه الأهمية، تفيد المناقشة التفصيلية لبرنامج «الصندوق»، واختبار ملاءمة أنماط النمو في القطاعات الاقتصادية التي تستهدفها سياسات البرنامج خلال المدة 2017 – 2022 لأهداف «المشروع».

بعيداً من مجاراة أدب ريادة الأعمال والاقتداء بنماذج نجاح الشركات الخاصة ومؤتمرات الترويج لفرص الاستثمار، وتجنباً للتذاكي باقتباس بعض المصطلحات الحديثة وتداخل المفاهيم الاقتصادية ومؤشراتها، رغم فائدة المعرفة والاستفادة منها، تبرز أولوية الاهتمام بالخصائص الفريدة لواقع الاقتصاد الوطني ومحيطه الاجتماعي والسياسي، ولا سيَّما الأهمية الكبيرة للثروة النفطية من جهة، وإدراك أن إدارة الدولة للاقتصاد وللمجتمع تختلف جذرياً عن محفزات وأنماط إدارة شركات القطاع الخاص لأنشطتها الاقتصادية والمالية ولطبيعة مسؤولياتها الاجتماعية من جهة أخرى. لذلك، وبالقدر الذي تفرضه الملكية العامة للثروة النفطية من التزامات، وبقدر ضرورة العدالة الاجتماعية في توزيع منافع الثروة بين المواطنين، فإن التساؤل الجوهري هو: هل أن أولوية تحقيق الاستقرار الاقتصادي بتأمين التوازن في ميزانية الدولة المالية وفي ميزان المدفوعات، ولو بزيادة القروض الخارجية الممولة من «مخزون» الثروة النفطية، وتحرير قوى وآليات السوق، كما في برنامج «الصندوق»، سيؤدي إلى إيجاد مصادر جديدة للإنتاج وللصادرات وتحرير الاقتصاد من هيمنة الريع النفطي بأقل تكلفة اقتصادية ومالية وفي ثمن الوقت أيضاً؟ أم، في المقابل، أن أولوية إدارة الدولة للاقتصاد وللمالية العامة بتكثيف وترشيد الاستثمارات الحكومية بتمويل من الإيرادات النفطية، سيؤدي إلى التنويع الهيكلي للاقتصاد والاستفادة من مزاياه في زيادة الإنتاج والإنتاجية، وليسهم في تحرير قوى وآليات السوق وتحسين تنافسية الاقتصاد بأقل تكلفة اقتصادية ومالية وفي ثمن الوقت، كما في «المشروع»؟

ثانياً: «نعمة» الريع النفطي و«نقمة» السياسات الاقتصادية

منذ بداية خمسينيات القرن الماضي وحتى نهاية السبعينيات، أسهمت الإيرادات النفطية من العملات الأجنبية في زيادة النمو الاقتصادي وفرص العمل، وفي إنشاء الكثير من مشاريع البنية الأساسية، وفي إقامة الصناعات الأساسية والتحويلية والمشاريع الزراعية، وتوسعت كثيراً الخدمات الاجتماعية الحكومية. ففي الخمسينيات، أنجز «مجلس ووزارة الإعمار» الكثير من مشاريع البنية الأساسية، وذلك بتمويل من الإيرادات النفطية راوحت نسبته بين 100 بالمئة في السنة الأولى لبرامج الإعمار، و70 بالمئة في برامج السنوات اللاحقة. ومنذ مطلع الستينيات حتى نهاية السبعينيات، بدأ «مجلس ووزارة التخطيط» بتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الخمسية بتمويل 50 بالمئة من الإيرادات النفطية لإقامة عدد كبير من مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية (المادية)، والمشاريع الصناعية، ومشاريع الإنتاج الزراعي واستصلاح الأراضي، وتشييد المرافق العامة، ومشاريع النقل والمواصلات، ومشاريع الخدمات العامة. كذلك وفي إطار الميزانيات السنوية، تم تخصيص نحو 50 بالمئة من الإيرادات النفطية للإنفاق على تحسين الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية. وفي تلك العقود الخمسة الماضية، كان التمييز واضحاً، من حيث منهجية الإعداد وصلاحيات الوزارات والجهات الحكومية في التنفيذ، بين تمويل برامج الاستثمار الحكومية وبين نفقات وإيرادات الميزانية السنوية من الإيرادات النفطية.

في نهاية السبعينيات، كان الاقتصاد، ولا سيَّما القطاع الصناعي، مؤهـلاً لنهضة تتجاوز طاقاته الإنتاجية وآفاق تطوره السريع معايير البلدان النامية. كما كانت مستويات المعيشة بمعايير فرص العمل والدخول والتعليم والصحة والترفيه الاجتماعي مرتفعة جداً، كان ذلك التطور بفضل الانتفاع من «نعمة» الريع النفطي وبإدارة الدولة المباشرة للاقتصاد وللتنمية، ولو بكفاءة محدودة‏[7]. ومنذ الثمانينيات، بدأ تراجع النمو والدخول مقابل زيادة البطالة وتدهور الخدمات العامة، وظهرت للعلن خطورة الأزمة الاقتصادية والمالية الخفية الناشئة من استمرار الاعتماد الكبير على الريع النفطي.

حتى الآن، ليس هنالك شيء جديد يستدعي إثارة التساؤل مرة أخرى في ما إذا كانت السياسات الاقتصادية المالية والنقدية الكلية، وسياسات الاستثمار والتجارة والتشغيل التي تم تنفيذها من قبل الحكومات منذ الثمانينيات واستمرت بعد الاحتلال في عام 2003‏[8]، قد فشلت أم لا. الأهم هنا، التأكيد أن من الأسباب الرئيسية لهذا الفشل، كان ولا يزال، سوء إنفاق الإيرادات النفطية وتجاهل احتمالات انخفاضها، كما ظهر واضحاً في انخفاض صادرات النفط الخام و/أو في أسعار النفط منذ الحرب المدمرة مع إيران (1980 – 1988)، وحرب الخليج الثانية (1991) وما تبعها من العقوبات الاقتصادية والتجارية الدولية (1990 – 2003)، ثم فوضى مرحلة احتلال العراق (2003 – 2011)، وأخيراً التدهور الحاد والسريع في أسعار النفط الخام منذ شهر حزيران/يونيو عام 2014. وبأي حال، يتطلب الواقع الاقتصادي والمالي الصعب في الوقت الحاضر دعوة الحكومة والأحزاب السياسية المعنية للنظر في التساؤل التالي: لماذا يستمر العمل بالسياسات والإجراءات الاقتصادية والمالية التي تقاد بالفرضيات المثالية للسياسات «الليبرالية الجديدة» التي تتجاوز متطلبات الاستثمار في معالجة جذور أزمة الاعتماد الكبير على الريع النفطي المزمنة بتنفيذ برنامج التنويع الاقتصادي الهيكلي بتمويل الإيرادات النفطية؟ وفي الإجابة، يشير الواقع بوضوح إلى أن الحكومات والأحزاب السياسية المهيمنة بعد عام 2003، لا تمتلك «استراتيجية اقتصادية» واضحة أو «سياسات اقتصادية جيدة التعريف والفاعلية»، باستثناء البيانات العلنية القليلة المتفائلة عن مستقبل التطور الاقتصادي وترديد سياسات وإجراءات «الصندوق» التي تؤكد أن العلاج يكمن في الثقة الكاملة بآلية السوق لضمان التوزيع الأمثل للموارد، وفي قدرة القطاع الخاص على الاستثمار‏[9]، ولوجود إمكانية لمشاركة الاستثمار الأجنبي المباشر.

منذ حزيران/يونيو 2014، ووسط اضطراب سياسي واجتماعي، كان اقتران إعلان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي وانتشاره السريع بعد السيطرة على مدينة الموصل، مع استمرار الانخفاض الحاد والسريع في أسعار النفط وعوائده، ينذر بالخطر الشديد إلى درجة انهيار الدولة والاقتصاد معاً. ولدرء الخطر، اقتضت الضرورة بالحكومة، لدعم حملتها العسكرية لمحاربة «داعش» تعبئة الموارد المالية للحفاظ على مستويات الاستهلاك والاستيرادات بما يؤمن تماسك الدولة، وذلك بتمويل عجز الميزانية السنوية بالدين العام الداخلي وعجز الميزان التجاري والمدفوعات بالقروض الخارجية‏[10]، بالاستعانة بصندوق النقد الدولي وبرعاية مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية التي وجدت في هذا الخطر تهديداً أيضاً لمصالحها الاستراتيجية في البلاد وفي منطقة الشرق الأوسط‏[11]. كما أتاحت هذه التطورات فرصة أخرى لمواصلة الراغبين في تأسيس نظام اقتصادي ملتزم بسياسات «الليبرالية الجديدة» من خلال برنامج «الصندوق» للإصلاح الاقتصادي. في هذا السياق، وبغض النظر عن كفاءة قوى السوق وآلياته، لا يمكن، ومن معطيات التجربة الطويلة في اقتصادات الريع النفطي‏[12]، الجزم بقدرة القطاع الخاص الوطني على تحرير الاقتصاد من فخ الريع – النفطي، ما دام الاقتصاد يفتقر إلى متطلبات البيئة الاستثمارية المناسبة من مشاريع البنية الأساسية والصناعات المغذيَة، والمتطلبات الاجتماعية، ومنها القوى العاملة المؤهلة بإنتاجية عالية، إضافة إلى استقرار الاقتصاد الكلي البعيد من تقلبات الإيرادات النفطية. وفي الواقع، تشهد التجربة أن السلطة الحاكمة، ولعدم التزامها باستراتيجية وسياسات اقتصادية واضحة، تفضل دائماً الحلول المالية السهلة لمواجهة ضغوط المواطنين لزيادة فرص العمل وتحسين الخدمات العامة، فتدفع هذه الحلول المؤقتة الحكومات، ولا سيَّما بوجود الأزمة المالية الحالية، نحو زيادة الإيرادات العامة: عوائد الصادرات النفطية، وزيادة الضرائب المباشرة، وزيادة أسعار الطاقة والمنتجات النفطية والكهرباء‏[13]، وبيع مشاريع القطاع العام التي تعاني المشاكل المالية والإدارية وانخفاض إنتاجيتها قبل إعادة تقييمها أو تأهيلها. هذا إضافة إلى تقليص النفقات الحكومية، ولو في المجالات الضرورية. ولهذا، تمنح السلطة الحاكمة الأسبقية المطلقة دائماً لزيادة الإيرادات النفطية من خلال السياسة النفطية (الاستثمار، والإنتاج، والصادرات) بما يتجاوز كثيراً دور السياسة الاقتصادية، وليس العكس كما يجب. وحديثاً، يلاحظ هذا في تفاؤل وحماسة الحكومة والأحزاب السياسية بزيادة إيرادات الدولة من زيادة إنتاج وتصدير الغاز الطبيعي المصاحب، وهو رأي سديد في حالة استثمار عوائد صادرات الغاز المتوقعة بتطبيق معايير واضحة تناسب استراتيجية وسياسات تقليل الاعتماد الكبير على الريع النفطي‏[14]. أما بخلاف هذا، أي إذا لم يزد الاستثمار الحكومي لإيجاد مصادر جديدة للإنتاج وللصادرات من غير النفط والغاز، فإن «نعمة» ريع النفط والغاز معاً، ستتحول إلى «نقمة» تزيد في الانزلاق عميقاً في فخ الريع النفطي‏[15].

ثالثاً: برنامج صندوق النقد الدولي: سياسات مخيبة للآمال

مرة أخرى، لا يوجد في السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية الكلية التقليدية الملتزمة بالسياسة «الليبرالية الجديدة»، ما يفيد الاقتصاد الوطني عملياً في إنهاء الأزمة الهيكلية المزمنة وبعثرة الثروة النفطية. ولعل الجديد، على الصعيد المهني، دلالة «اتفاق» الحكومة مع «الصندوق» في عام 2016، ومدته ثلاث سنوات (2017 – 2019)‏[16]، وتنفيذه لسياسات الإصلاح الاقتصادي التي تحدد أنماط مسارات النمو المستهدفة في القطاعات الاقتصادية، وبخاصة قطاع استخراج وتصدير النفط الخام، بعد ست سنوات (2017 – 2022) من تطبيقها. هذا الجديد، يستدعي التفسير للتأكد من سلامة المنطق الاقتصادي الذي يعتمده البرنامج من جهة، ويبرر، العودة إلى «المشروع» المناقض من جهة ثانية. هنا، لسنا في وارد تقييم إنجازات الحكومة في تنفيذ هذا البرنامج أو مناقشة آراء ووعود بعض المسؤولين بشأن آفاق التطور الاقتصادي في المستقبل‏[17]، كما أننا لسنا في وارد اختبار أو تقديم تحليل أكاديمي للتوقعات الاقتصادية المقدمة من «الصندوق»، بقدر ما نستهدف تصويب أولويات السياسات الاقتصادية الحكومية والالتزام بمعايير الاستثمارات الضرورية لزيادة الإنتاج والتشغيل والصادرات. كما أن المناقشة الواردة عن ملاءمة السياسات الاقتصادية لا تبحث في السياسة النفطية المؤهلة لتوفير الطاقة للصناعات وللمشاريع الاقتصادية الوطنية، ولتمويل الاستثمارات الجديدة فيها. لذلك، فإن الدعوة الواردة هنا لتقليل الاعتماد الكبير على الريع النفطي في «المشروع» لا تعني التوقف عن زيادة الإيرادات (الصادرات) النفطية حيث الحاجة متزايدة للاستثمارات.

لم يدرج «الصندوق» في أولويات أهدافه ونصائحه الفنية، في تاريخه الطويل، سبل تقليل الاعتماد على الإيرادات النفطية في اقتصادات الريع النفطي حتى عند حدوث الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008‏[18]. ومع أنه السنوات الأخيرة، ظهرت إشارات واضحة في تقاريره تحذر دول الريع النفطي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من استمرار الاعتماد الكبير على الصادرات النفطية، إلا أن «الصندوق» لم يوضح في سياساته ما يفيد عملياً في قبول، أو على الأقل، تحديد أولوية الاستثمارات الحكومية لتحرير اقتصادات هذه الدول من مساوئ الاعتماد الكبير على الريع النفطي غير التشديد على سياساته التقليدية، وبخاصة في حالات عجز الميزانية السنوية وعجز ميزان المدفوعات، بتأمين التوازن المالي والاستقرار الاقتصادي الكلي، وتشجيع القطاع الخاص، وتحرير السوق، وأولوية تسديد الديون الخارجية.

يمثل «اتفاق الصندوق» الأخير المعقود مع الحكومة، تطويراً منهجياً، من حيث الوضوح في الأهداف والاتساق في الإجراءات العملية لتطبيق السياسات «الليبرالية الجديدة» التي كان قد تم البدء بتنفيذها، ولو بطريقة مبعثرة ومجزأة وإدارة غير كفؤة، مع بداية الاحتلال في مطلع عام 2003‏[19]. ومع الأهمية «المالية» لهذا التدخل المباشر نتيجة الانخفاض السريع والكبير في الإيرادات النفطية منذ منتصف عام 2014، فإن جوهر برنامج «الصندوق» يتركز في سياساته الانكماشية والمعروفة بنتائجها في تقييد النمو الاقتصادي، وزيادة البطالة، وتقليص الخدمات الاجتماعية والمنافع العامة، وانتشار الفقر، وتوسع التباين في توزيع الدخول، وزيادة الدين العام الداخلي والقروض الخارجية.

على أي حال، يفيد في المناقشة كثيراً الاطلاع على سياسات «الصندوق»، الصريحة والضمنية، كما وردت في تقريره التفصيلي الصادر حديثاً‏[20] لإلقاء الضوء على مستقبل الاقتصاد الوطني في المدى السنوي والمتوسط، وبيان مدى ملاءمة هذه السياسات لمعالجة المشاكل القائمة. وعلى وجه التحديد، تدل جداول العرض الأنيق في هذا التقرير من حيث اتساق العناصر الاقتصادية والمالية في التوقعات المستهدف تحقيقها خلال سنوات البرنامج الثلاث والسنوات الثلاثة اللاحقة (2017 – 2022)، وكما يظهر في البيانات والمؤشرات الرئيسية، وأهمها: الحسابات القومية التي تلخص تقديرات الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (بالأسعار الثابتة) والإسمي (بالأسعار الجارية)، وتوقعات النمو في القيمة المضافة للقطاعات الاقتصادية، وإنتاج وصادرات النفط الخام، والمؤشرات النقدية، ومؤشرات التجارة الخارجية وميزان المدفوعات، ومقدار الدين العام والقروض الأجنبية‏[21]. وتساعد هذه البيانات والمؤشرات في المقاربة المهمة بين منهجين متناقضين: الأول، يحدد الأهداف الاقتصادية بما يمكن تحقيقه بالموارد المالية المتاحة، وأهمها العملات الأجنبية، كما في برنامج «الصندوق»، بينما يدعو المنهج الثاني إلى تخطيط ما يجب أن يكون عليه المستقبل الاقتصادي بوجود إرادة سياسية لإزالة القيود، أياً كانت، وبتعبئة الموارد اللازمة لتحقيقه، كما في «المشروع»‏[22]. في الأول، تؤدي آليات السوق «الخفية»، بريادة القطاع الخاص، الوطني والأجنبي، وبإرادة ذاتية، أداء مهمة تعبئة الموارد الاقتصادية وتوزيعها، بينما في المنهج الثاني، تقوم الدولة، بإرادة السلطة السياسية الحاكمة، بتعبئة الموارد المالية والاقتصادية العامة لزيادة الاستثمارات الحكومية الضرورية للإسراع بعملية التنويع الاقتصادي الهيكلي، مع تهيئة البيئة المناسبة لزيادة استثمارات القطاع الخاص والمشاركة في إنجاز ما يجب تحقيقه.

 

يقتصر التحليل على اختبار ملاءمة تطور الناتج المحلي الإجمالي وإسهامات القطاعات الاقتصادية في تكوينه خلال المدة 2017 – 2022، وتوزيعه بين عناصر الطلب النهائي: الاستهلاك والاستثمار الحكومي، الاستهلاك والاستثمار الخاص، الاستيرادات، و(ناقص) الصادرات. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن إعداد ونشر البيانات الإحصائية الاقتصادية من قبل الجهات الحكومية يتصف بتأخرها لسنوات، وأنها تعاني ضعفاً شديداً في الدقة والثقة في طرق جمعها وتقديرها‏[23]. لذلك، لا يمكن إغفال صعوبة إعدادها من قبل «الصندوق» ولو بمشاركة الجهات الحكومية. ولكن الأهم هنا، أن ما نشر في تقرير «الصندوق» عن التقديرات والتوقعات الخاصة بالمؤشرات الاقتصادية والمالية الرئيسية، لا يخلو من الغموض والاجتزاء أو الانتقاء أو حتى احتمالات تطويع الأرقام في طريقة عرضها ما يدفع إلى الاستنتاج بأنها تستهدف تحبيذ سياسات «الصندوق». باختصار، وكما سيرد توضيحه معززاً بالملحق‏[24]، إنها تثير الشك في الاتساق المطلوب بينها. الظاهرة الأبرز في هذه التحفظات، أن تقديرات الناتج المحلي الإجمالي الإسمي بحسب القطاعات الرئيسية، ومنها القيمة المضافة لقطاع النفط الخام، ومعدلات النمو في القطاعات (بالأسعار الثابتة) التي يقترحها الصندوق خلال المرحلة 2017 – 2022‏[25]، لا تتسق مع البيانات المقدمة من «الصندوق» عن تقديرات الناتج المحلي الإجمالي الإسمي وتوزيعه بين القيمة المضافة لقطاع النفط الخام وبين مجموع القيمة المضافة للقطاعات الاقتصادية من غير النفط الخام‏[26]. وللتحقق من مصدر هذا التباين، تشير بيانات «الصندوق» المنشورة عن الناتج القومي الإجمالي الحقيقي (بالأسعار الثابتة)‏[27]، إلى أن إحلال القيمة المضافة لقطاع النفط الخام بالأسعار الجارية التي قدرها «الصندوق» في تقريره الرقم 17/251 بدلاً من القيمة المضافة للقطاع التي قدرت بمعدلات النمو بالأسعار الثابتة والواردة في جدول نسب إسهامات القطاعات في قيمة الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية‏[28]، سيعطينا قيمة الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي وقيمة ناتج القطاعات الرئيسية، ولو بفروق قليلة. وفي رأينا، إن مصدر هذا التباين هو فرض الاتساق في تقديرات «الصندوق» الخاصة بمعدلات النمو في القيمة المضافة للقطاعات الاقتصادية من غير قطاع النفط الخام، وهو ما يبرر الاستنتاج بأن أهداف سياسات «الصندوق» الاقتصادية المعدة سلفاً، هي التي تفترض اتجاهات النمو في القطاعات الاقتصادية التي تناسب التحولات الهيكلية التي يرغب «الصندوق» في تحقيقها، وليس تقدير الاستثمارات ومستلزماتها اللازمة لزيادة النمو في القطاعات، أو زيادة فرص العمل، أو التقليل من الاعتماد على الصادرات النفطية في تمويل الإنفاق الحكومي والاستيرادات. وتكشف مراجعة بيانات «الصندوق» ما يلي:

1 – استمرار هيمنة قطاع النفط الخام المالية (إيرادات الصادرات من النفط الخام) ولأبعد من السنوات الست القادمة (2017 – 2022)، حتى مع التقديرات المتحفظة لأسعار النفط، حيث يستمر الريع النفطي بقيادة السياسة الاقتصادية، قبل وبعد، تحقيق التوازن المالي في ميزانية الدولة السنوية وفي ميزان المدفوعات.

2 – في عام 2022، قدرت استثمارات الحكومة في مشاريع النفط بنسبة 44 بالمئة من مجموع الاستثمارات الحكومية البالغة 26 ترليون دينار، منها 14.7 ترليون دينار استثمارات نفطية، أما بقية الاستثمار البالغة 11.3 ترليون دينار، فتوزع بين إقليم كردستان بنسبة 61 بالمئة والبقية في مجالات لم تتضح هويتها وأولوياتها. هذا في مقابل 23.9 ترليون دينار استثمارات الحكومة في عام 2017، منها 13.7 استثمارات نفطية، والبقية غير نفطية خصص منها 4 ترليونات دينار لإقليم كردستان.

3 – انخفاض نسبة مجموع الاستثمارات الحكومية في الناتج المحلي الإجمالي الاسمي من 10.5 بالمئة في عام 2017 إلى 8.6 بالمئة في عام 2022، وكذلك انخفاض نسبة الاستثمارات الحكومية في المجالات من غير النفط من 4.5 بالمئة إلى 3.7 بالمئة في الناتج المحلي الإجمالي في عامي 2017 و2022.

4 – إن قيمة الصادرات النفطية المتوقعة خلال السنوات الست القادمة سترتفع من نحو 62 مليار دولار في عام 2017 إلى نحو 70.2 مليار دولار في عام 2022، بافتراض الحد المنخفض لأسعار تصدير البرميل من النفط الخام بنحو 45 دولاراً في المعدل السنوي، وقدرت قيمة مجموع الصادرات من النفط الخام خلال السنوات الست القادمة بنحو 394.3 مليار دولار، بينما قدرت الإيرادات الحكومية من صادرات النفط بنحو 391.3 مليار دولار خلال هذه المدة.

5 – تدني قيمة الصادرات من غير النفط الخام التي ارتفعت من 400 مليون دولار في عام 2017 إلى 1 مليار دولار فقط في عام 2022.

6 – زيادة قيمة الاستيرادات من نحو 61 مليار دولار، منها 42.5 مليار استيرادات القطاع الخاص، في عام 2017 لتصل إلى 62.7 مليار دولار، منها 43.7 مليار دولار استيرادات القطاع الخاص في عام 2022، وهو ما كانت عليه مستويات الاستيراد قبل انخفاض الإيرادات النفطية. هنا يثار التساؤل عن تجاهل الصندوق للعلاقة بين زيادة الاستيرادات وانخفاض الصادرات غير النفطية مع معدلات النمو المنخفضة في القطاعات السلعية: الصناعة والزراعة، والقابلة منتجاتها للتصدير.

7 – يقدم الصندوق تقديراته وتوقعاته لمعدلات النمو السنوية للقطاعات الاقتصادية الرئيسية بالأسعار الثابتة، ولكن لا توجد تقديرات لقيمة الناتج المحلي الإجمالي الإسمي بحسب القطاعات الرئيسية خلال المدة 2013 – 2022. الأهمية هنا، إزالة الغموض والالتباس الوارد في البيانات المعروضة.

8 – خلافاً للادعاء بأن زيادة الاستهلاك الخاص والاستثمار التي يستهدف تحقيقها برنامج الإصلاح تحفز على زيادة النمو والتشغيل، فإن هذه الزيادات التي تمول بدرجة رئيسية بصورة مباشرة أو غير مباشرة من الإيرادات النفطية، يقابلها ارتفاع موازٍ في الاستيرادات وليس في زيادة المنتجات المحلية التي تنمو بمعدلات ضئيلة جداً.

9 – من المؤكد أن إسهامات القطاعات الاقتصادية من غير النفط الخام، وبخاصة قطاع الصناعة التحويلية وقطاع الزراعة، التي يحددها «الصندوق» لن تسهم في زيادة النمو وتوفير فرص العمل.

10 – من المتوقع أن تتراجع صافي قيمة الأصول (الاحتياطيات) الأجنبية خلال السنوات الست القادمة من 51.229 مليار دولار في عام 2017 – وكانت قيمتها 88.544 مليار دولار في عام 2013 – إلى نحو 38.9 مليار دولار في عام 2022.

11 – من المتوقع أن ترتفع مجموع قيمة الدين العام الحكومي من 122.9 مليار دولار، ومنه 37.4 مليار دولار قيمة القروض الخارجية في عام 2017 إلى 132.9 مليار دولار، ومنه 71 مليار دولار في عام 2022.

وإذا وضعنا تقديرات «الصندوق» للمناقشة، فإننا أمام حالتين متناقضتين: الأولى، سيبقى اعتماد الاقتصاد على الريع النفطي بعد ست سنوات على الأقل بمستوى سنة 2017، وهو ما يجب تغييره؛ والحالة الثانية، أن السياسة الاقتصادية لـ «الصندوق» متحفظة جداً إزاء تطور القيمة المضافة (إيرادات) للنفط الخام، وهو ما نفسره بأولويات سياسات «الصندوق»: تأمين التوازن في الميزانية السنوية للدولة وتسديد العجز في ميزان المدفوعات مع ضمان تسديد القروض وفوائدها المالية. ولم نجد في برنامج «الصندوق» أي خطوة عملية تؤكد ضرورة زيادة الاستثمار الحكومي في مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية (المادية) أو الصناعات البتروكيميائية أو التحويلية ذات الأهمية الاستراتيجية في مجال التنويع الاقتصادي الهيكلي. يتأكد هذا الرأي بمراجعة طبيعة الاستثمارات الواردة في مشروع الميزانية السنوية لعام 2018 الممولة من القروض الخارجية‏[29]، وهي الشريحة السنوية الثانية في البرنامج مع وجود تغيير بسيط في الإيرادات النفطية نتيجة تغيير أسعار النفط إلى نحو 46 دولاراً للبرميل ولزيادة النفقات المحدودة أيضاً، مع ملاحظة أن الزيادة في أسعار النفط التي تقترب من 70 دولاراً للبرميل في الوقت الحاضر لم تنعكس في الميزانية سوى القليل من زيادة النفقات والإيرادات، وربما يكون الهدف من ذلك تمويل «الصندوق السيادي» الذي يجري التداول فيه لتمويل الاستثمارات المالية الخارجية وللقطاع الخاص. وإذا كان من مبررات السياسات المالية والنقدية الكلية المقترحة من قبل «الصندوق» خفض نسبة إسهام قطاع النفط الخام في الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما نعتقد بضرورته القصوى، إلا أن هذه الفرضية تتناقض أولاً مع إهمال أهمية زيادة الإيرادات الحكومية لتمويل الاستثمارات في مشاريع البنية الأساسية؛ وثانياً، تتناقض مع معدلات النمو المقترحة للقطاعات الاقتصادية من غير النفط الخام التي تشير إلى زيادات لا تتناسب مع ما ورد في التقرير أيضاً عن إسهامات هذه القطاعات في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي.

يدهشنا أول وهلة الاتساق الظاهري في عرض البيانات والمؤشرات الاقتصادية الرئيسية، سواء منها التقديرات الفعلية أو التوقعات، للمدة 2013 – 2022. فقد بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي الإسمي‏[30] المقدرة والمتوقعة نحو 234.6 و234.7 و179.8 و171.7 و192.7 و202.9 و212.3 و224.8 و239.5 و256.2 مليار دولار خلال السنوات 2013 – 2022 على التوالي. كما قدر متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية نحو 7021 و6517 و4869 و4533 و4958 و5091 و5194 و5362 و5569 و5806 دولارات في السنوات 2013 – 2022 على التوالي‏[31]. ولو استثنينا المرحلة السابقة (2013 – 2016) لتجنب التغيرات الاقتصادية الناشئة من انخفاض أسعار النفط، فإن متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الإسمي، ارتفع من 4958 دولاراً في عام 2017 إلى 5806 دولارات في عام 2022، أي أن متوسط الزيادة السنوية يقدر بـ 3.2 بالمئة خلال السنوات الست القادمة (2017 – 2022)، وهي تقارب معدل النمو في السكان. والسؤال المهم هنا، أين سيتم إنفاق هذا الدخل المحدود؟ هل سيستهلك في شراء منتجات وطنية أو شراء منتجات مستوردة؟ الإجابة، وللأسف، سيستهلك بشراء منتجات مستوردة ممولة من الإيرادات النفطية. تلك هي خلاصة مهمة في سياسات «الصندوق».

تدل تقديرات «الصندوق» المعدلة‏[32] على اتجاهات مستقبل الاقتصاد الوطني المتمثلة بمعدلات النمو ونسبة إسهامات القطاعات الاقتصادية الرئيسية في النمو الاقتصادي، أي في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (بالأسعار الثابتة لسنة 2015) وتطورها المحتمل خلال المدة 2017 – 2022 بما يلي‏[33]:

أ – يحتل قطاع النفط الخام المرتبة الأولى في مقدار القيمة المضافة ونسبة إسهاماته في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في عام 2017 وعام 2022. يليه في المرتبة الثانية من الأهمية قطاع التجارة والمطاعم والفنادق في عامي 2017 و2022. وفي عام 2022، يحتل قطاع العقارات المرتبة الثالثة بينما هي تحتل المرتبة الرابعة في عام 2017. وفي عام 2017، يحتل قطاع النقل والاتصالات المرتبة الخامسة في عام 2017 ثم ترتفع إلى المرتبة الرابعة في عام 2022. ويستقر قطاع التشييد بالمرتبة السادسة في عام 2017 و2033، بينما يستقر مرتبة القطاع الزراعي بالمرتبة السابعة في عامي 2017 و2022. وتنخفض مرتبة الخدمات الحكومية الثالثة في عام 2017 إلى الخامسة في عام 2022. وتستقر الخدمات الأهلية في المرتبة الخامسة في عامي 2017 و2022. أما قطاع الخدمات المالية (البنوك) والتأمين، الذي يستقر في المرتبة الحادية عشرة في عام 2017، فهو يرتفع إلى التاسعة في عام 2022. وتنخفض مرتبة قطاع الصناعة التحويلية من العاشرة في عام 2017 إلى المرتبة الحادية عشرة في عام 2022 قبل المرتبة الأخيرة التي يحتلها قطاع بقية التعدين الذي يقع في قعر ترتيب نسبة إسهامات القطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي الإجمالي.

ب – زيادة القيمة المضافة لقطاع النفط الخام من 72.7 مليار دولار في عام 2017 إلى 81.4 مليار دولار في عام 2022، وتنخفض قليـلاً نسبة إسهاماته في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من 42.9 بالمئة في عام 2017 إلى 41.6 بالمئة في عام 2022. هنا يجدر التأكيد أن تحفظ «الصندوق» في تقدير أسعار صادرات النفط يناسب الدعوة لتمويل «الصندوق السيادي» الذي يجري الحديث فيه واستخدام موارده خارج نطاق الاستثمارات الحكومية في مشاريع التنويع الاقتصادي الهيكلي.

ج – الظاهرة البارزة والخطيرة هي: التدهور الخطير في القيمة المضافة في قطاع الصناعات التحويلية ونسبة إسهاماتها في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال السنوات (2017 – 2022). ويبدو واضحاً، أن توقعات النمو (صفر) التي يستهدفها الإصلاح الاقتصادي في برنامج الصندوق لهذا القطاع خلال السنوات القادمة، تعني المضي في القضاء على مستقبل التصنيع في البلاد‏[34].

د – ستزداد القيمة المضافة للقطاع الزراعي بمقدار ضئيل خلال السنوات الست (2017 – 2022).

هـ – ارتفاع القيمة المضافة لقطاع التجارة واستقرار نسبة إسهاماته في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال السنوات الست (2017 – 2022).

و – زيادة القيمة المضافة لقطاع التشييد واستقرار نسبة إسهاماته في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال السنوات 2017 – 2022.

ز – ارتفاع القيمة المضافة لقطاع الخدمات المالية والتأمين وفي نسبة إسهامه في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال السنوات 2017 – 2022.

ح – ارتفاع كبير في القيمة المضافة لقطاع العقارات ونسبة إسهاماته في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال السنوات 2017 – 2022.

ط – التراجع الكبير في القيمة المضافة لقطاع الخدمات الحكومية وفي نسبة إسهاماته في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال السنوات 2017 – 2022.

ك – التراجع الكبير في القيمة المضافة لقطاع الخدمات الشخصية وفي نسبة إسهاماته في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال السنوات الست 2017 – 2022.

وفي مجال السياسة المالية خلال المدة 2015 – 2022، وبقدر تعلق الأمر بتطور الاستثمارات كما نجدها في مؤشرات الصندوق، نشير إلى ما يلي:

(1) الارتفاع المحدود في قيمة إجمالي الاستثمارات من 36.8 مليار دولار في عام 2017، منها 20.2 مليار دولار قيمة الاستثمارات الحكومية، إلى 45.6 مليار دولار، منها 22 مليار دولار قيمة الاستثمارات الحكومية في عام 2022.

(2) ارتفاع قيمة استثمارات القطاع الخاص التي قدرها «الصندوق» بنحو 16.6 مليار في عام 2017 إلى نحو 23.6 مليار دولار في عام 2022، ولم نعرف ما إذا كانت تشمل الاستثمارات الأجنبية في قطاع النفط، وهو ما نعتقده، أم لا.

(3) انخفاض مستوى الاستهلاك الحكومي (الإنفاق الجاري في الميزانية) من 44.3 في عام 2017 إلى 43.3 مليار دولار في عام 2022.

(4) ارتفاع قيمة الاستهلاك الخاص من 123.3 مليار دولار في عام 2017 إلى 167.8 دولار في عام 2022.

(5) انخفاض نسبة الرواتب والتقاعد وقيمة شبكة الأمان الاجتماعي من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2017 و2022.

(6) ارتفاع مجموع الإيرادات العامة والنفطية للدولة من نحو 69.4 مليار دولار، منها 61.3 مليار دولار إيرادات النفط الخام، في سنة 2017 إلى نحو 84.8 مليار دولار، منها 70.5 دولار من الإيرادات النفطية، في عام 2022. أما الإيرادات من غير النفط فقد قدرت بنحو 7.5 مليار دولار في عام 2017 لترتفع إلى 14.1 مليار دولار في عام 2022.

ويلاحظ في أنماط المعدلات السنوية والتغيَر في قيم الاستثمار والاستهلاك أنها تتناسب مع التغَير السنوي في قيم الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي – ربما باستثناء الاستهلاك والاستثمار الحكومي الذي يمكن تقديره في ضوء الإيرادات النفطية المتوقعة من قبل «الصندوق». لذلك، يصعب التحليل والحكم على هذه التقديرات، ولا سيَّما أن الاستهلاك الخاص، وهو الأكبر في قيمته بين عناصر الإنفاق الوطني، لم يتم تقديره من واقع الإحصاءات ذات العلاقة، كميزانية العائلة ونمط الإنفاق الأسري.

تطور إسهامات القيمة المضافة للقطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بين عامي 2017 و2022(*)

الرقمالقطاعات الاقتصادية20172022
القيمة
المضافة
(**)
الناتج المحلي الإجمالي
بالنسبة المئوية
القيمة
المضافة
(**)
الناتج المحلي الإجمالي
بالنسبة المئوية
1الزراعة8.74.711.25.7
2النفط الخام72.742.981.441.6
3بقية التعدين0.20.10.20.1
4الصناعة التحويلية2.21.32.21.1
5الكهرباء والماء2.91.73.71.9
6التشييد8.14.811.15.7
7النقل والاتصالات14.28.417.99.1
8التجارة والمطاعم والفنادق20.011.824.412.5
9الخدمات المالية والتأمين1.71.02.61.3
10العقارات15.08.820.610.5
11الخدمات الحكومية19.511.515.98.1
12الخدمات الشخصية5.13.04.62.3
المجموعالناتج المحلي الإجمالي (مليار دولار) بالأسعار الثابتة169.5100.0195.7100.0

(*) احتسبت معدلات النمو القطاعية، باستثناء قطاع النفط الخام، بموجب تقديرات صندوق النقد الدولي وفي الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، كما أشير في متن هذه القسم.

(**) القيمة مليار دولار.

رابعاً: سمات المشروع الاقتصادي الوطني

كما هو معروف، يتمتع العراق بمركز جغرافي وسياسي استراتيجي بين البلدان العربية وفي منطقة الشرق الأوسط، ويتميز بامتلاكه احتياطيات كبيرة من الثروة النفطية والغاز الطبيعي وفي طاقات إنتاجها وصادراتها، وهي المصدر الرئيسي للطاقة في العالم‏[35]. وتتوافر في البلاد أيضاً، الثروات الطبيعية من المياه والأراضي الزراعية والمعادن، ولديه الموارد البشرية الراغبة في العمل، كما يشهد تاريخه المعاصر والقديم. ورغم توافر إمكانات التطور الاقتصادي التي بدأت بزيادة عوائد العملات الأجنبية من إيرادات تصدير النفط الخام وأزاحت أحد أهم قيود النمو الاقتصادي، إلا أن انتفاع الدولة من هذه العوائد منذ ستينيات القرن الماضي لم يكن رشيداً وكافياً، وبدرجات متفاوتة، ليضيف طاقات إنتاجية جديدة قادرة على تصدير منتجاتها، ويؤمن مصادر دخل جديدة. وفي الأفق القريب، يبدو واضحاً أن الظروف الوطنية والإقليمية، السياسية والأمنية والممارسات الديمقراطية والنزاعات بين دول المنطقة، لا تسمح للنظام القائم بصياغة غايات الرؤية الوطنية المستقبلية‏[36] والالتزام السياسي بتنفيذها ليصبح ممكناً تحديد أهداف الاستراتيجية الاقتصادية البعيدة المدى والسياسات الاقتصادية الحكومية المنبثقة منها. لذلك، يبقى الخيار المفيد الآن محدوداً في ممارسة التفكير وإنعاش الذاكرة في ملامح هذه الرؤية من منطلق البحث في خصائص الاقتصاد السياسي، وإبراز أولوية وكيفية الانتفاع من الريع النفطي للإسراع، بأقل تكلفة وأقصر فترة زمنية، في إيجاد مصادر جديدة للإنتاج ولزيادة الإنتاجية لتحسين قدرة الاقتصاد على المنافسة، ولتحسين مستويات المعيشة أيضاً.

1 – مقومات المشروع

أ – الإيمان بالحريات المدنية وبممارسة الديمقراطية بجميع أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في اختيار السلطة الحاكمة، وإدارة الدولة بمشاركة واسعة للأحزاب السياسية، ولمنظمات المجتمع المدني، وللمواطنين.

ب – الثقة بمبدأ وقيم المواطنة بالعمل المنتج، ومقاومة الفساد، والتضامن الاجتماعي، وبحقوق المواطنين في منافع الثروة النفطية والعامة، وفي العدالة الاجتماعية، بضمان الديمقراطية السياسية واختيار الحكومات بالانتخابات الحرة.

2 – الأهداف العامة للمشروع

أ – تعبئة الإيرادات النفطية والعامة لتمويل الاستثمار الحكومي المباشر في مشاريع إنتاجية جديدة تسرِّع في عمليات التنويع الاقتصادي الهيكلي لضمان استدامة النمو وزيادة الإنتاجية، وتشغيل الأيدي العاملة الوطنية، وإنهاء الفقر، وتحسين مستويات المعيشة، وتقليل التفاوت في توزيع الدخول، ولتحسين تنافسية الاقتصاد الوطني ومكانته بين الاقتصادات العربية والإقليمية والدولية.

ج – التحرر من هيمنة الريع النفطي على النشاط الاقتصادي والتنمية بتقليل الاعتماد الكبير على الإيرادات النفطية في تمويل الإنفاق الحكومي والاستيرادات، بخفض إسهامات القيمة المضافة لقطاع النفط في الناتج المحلي الإجمالي الإسمي، إلى 30 بالمئة خلال مدة خمس سنوات وإلى 20 بالمئة أو ما يعادل مجموع إسهامات قطاع الصناعات التحويلية والقطاع الزراعي خلال السنوات العشر القادمة.

د – ضمان الحرية الكاملة للأفراد وللشركات الوطنية في تملك وسائل الإنتاج والأصول المادية والمالية، وفي العمل، وحرية التنقل، وتحسين البيئة الاستثمارية لتحرير السوق وتوسيع العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية مع اقتصادات بلدان العالم.

هـ – الارتقاء بنوعية الحياة في البلاد بمعايير الخدمات العامة، التعليمية والصحية والضمان الاجتماعي والسكن والمياه الصالحة للشرب والكهرباء وتنمية الموارد الطبيعية والبشرية.

3 – متطلبات المشروع

أ – الالتزام بأن الثروة النفطية ملكية عامة لا يجوز التصرف بها خارج نطاق الحكومة المركزية.

ب – الاتفاق السياسي، ولو المبدئي، لأهم غايات الرؤية الوطنية المستقبلية، ولأهداف الاستراتيجية الاقتصادية البعيدة والمتوسطة المدى، لكي يتم في ضوئها إرساء النظام الاقتصادي الجديد وتحديد السياسات الاقتصادية.

ج – الالتزام بأن تكون السياسة النفطية مناسبة لأهداف السياسات الاقتصادية التي تتم صياغتها في إطار هذا «المشروع».

د – منح الحرية الكاملة لنشاط القطاع الخاص في الفعاليات الاقتصادية كافة، وأن تشترط حوافز جذب الاستثمار الأجنبي المباشر بتوطين الصناعات والزراعة المتقدمة تكنولوجياً.

هـ – تجنب تنافس الاستثمارات الحكومية ومشاريع القطاع العام لاستثمارات القطاع الخاص الوطني.

4 – المنهجية

يتطلب إعداد تفاصيل «المشروع»، والتحليل والاستنتاجات وتقديم المقترحات، مراعاة التالي:

أ – يتم على خلفية المعرفة بدينامية العلاقة بين استدامة نمو الاقتصاد وبين متطلبات التنويع الاقتصادي الهيكلي، تحديد معايير أولويات الاستثمار الحكومي على المستوى القطاعي بهدف التأثير في مسارات النمو القطاعية لإيجاد مصادر جديدة للإنتاج وللصادرات من غير النفط والغاز، ولنشر التكنولوجيا المتقدمة بين فروع الاقتصاد.

ب – مقاربة معطيات التجربة الماضية عن دور التخطيط الاقتصادي والإنمائي المركزي خلال الحقبة 1950 – 2003، مع أبعاد السياسات الاقتصادية «الليبرالية الجديدة» التي تجرى محاولات تطبيقها منذ عام 2003.

خامساً: الملكية العامة للثروة النفطية وأسبقية الاستثمارات الحكومية

للملكية العامة للثروة النفطية جذور في وجدان الشعب العراقي وفي أصالة الوطنية بين المواطنين، التي يجب احترامها والحفاظ عليها لمصالحهم الآن، ولخدمة الأجيال القادمة. ولذلك، يجب أن يكون الانتفاع من الإيرادات النفطية مركزياً بتخطيط وإدارة الدولة. من الصحيح الاستنتاج أن التحكم المباشر وسوء استعمال قوة الثروة النفطية من قبل الحكومات كانت تأثيراته، ولا تزال، سلبية في الحياة الاقتصادية والسياسية. ولكن الدعوات الموسمية للامتلاك الجزئي من أصول الثروة النفطية من خلال أنواع مختلفة من العقود مع شركات النفط العالمية يناقض مصالح المواطنين، ويؤدي، إن تحقق، إلى استعمال أكثر سوءاً للثروة النفطية. فالتجربة الوطنية تكشف وجود ضمان أن يكون استغلال الشركات لهذه الأصول أقل سوءاً، إن لم يكن أكثر ضرراً، من سوء إدارة وفساد السلطات الحاكمة‏[37]. كما ليس هنالك منطق اقتصادي وسياسي يسمح بتوزيع الثروة النفطية مباشرة بنسب أو مقادير معينة إلى السلطات المحلية التي لا تمثل جميع المواطنين الذين يمتلكون الثروة النفطية، كما في حالة إقليم كردستان الفدرالي، أو الاقتراح السياسي بتوزيع مقادير معيَّنة من الإيرادات النفطية بين المواطنين‏[38]. الأمر المهم أن الملكية العامة للثروة النفطية تفرض أن يكون توزيع الإيرادات النفطية من قبل الحكومة مناسباً لخدمة جميع المواطنين من خلال تمويل إقامة مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وتوزيعها بعدالة في المناطق الجغرافية كافة، والإسهام في تقليل التباين في الدخول والثروات بين المواطنين.

خلال السنوات القادمة، وفي حال استمرار الاعتماد الكبير على الإيرادات النفطية، فإن الحفاظ على الملكية العامة للثروة النفطية، يفرض، موضوعياً، استثمارها كمستخدمات في توليد الطاقة المحلية وصناعات المنتجات النفطية والبتروكيميائية، وتوزيع إيرادات صادرات النفط الخام والغاز خلال السنوات الخمس القادمة (2018 – 2022) بما لا يزيد على 50 بالمئة لتمويل النفقات الجارية من خلال الميزانية السنوية، وتمويل برنامج مستقل للاستثمار بما لا يقل عن 50 بالمئة من هذه الإيرادات في تشييد وتطوير مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية (المادية) كالطرق والموانئ والجسور ووسائط النقل والاتصالات ونقل المعلومات، والمشاريع البيئية كالسدود لتنمية الموارد المائية والري، وفي إقامة المشاريع الصناعية الاستراتيجية التي تمتاز بالأولوية.

وفي هذا الاتجاه، يجب مراجعة وإعادة تقييم جدوى مشاريع القطاع العام، وبخاصة الصناعية، من النواحي الفنية والاقتصادية والمالية والإدارية، لكي يمكن تطوير عدد منها واستعادة طاقاتها الإنتاجية أو بيع البعض منها للقطاع الخاص بشروط الالتزام بتشغيل العاملين فيها.

في المدى المتوسط، من المتوقع أن تكون فعاليات القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي المباشر محدودة في المجالات ذات الربح العالي والسريع والقليلة المخاطر، كما في تنفيذ عقود الحكومة في مجالات إنشاء الأبنية العامة والطرق وشراء مستلزمات المشاريع العامة، والاستثمار في قطاعات العقارات وبناء دور السكن، وفي الخدمات الأهلية الاجتماعية، وفي تجارة الاستيرادات. ومن المتوقع أيضاً، عند إنجاز مهمات الدولة في إقامة المشاريع الاستثمارية الحكومية، أن يكون القطاع الخاص الوطني أكثر استعداداً للقيام بدوره في الاقتصاد، كما ستكون بيئة الاستثمار مناسبة لتوطين الصناعات المتقدمة بواسطة الاستثمار الأجنبي المباشر.

في تنفيذ مهمات التخطيط الاقتصادي، يجب زيادة طاقات المؤسسات المعنية لتوسيع الأبحاث الاقتصادية لتقدير حجم وطبيعة المشاكل الاقتصادية، ولتحديد معايير الأسبقية في الاستثمارات الوطنية، لإنهاء الاعتماد على الأحكام الشخصية والتحيَزات السياسية. إن تنفيذ هذه المهمات يسهم كثيراً في نجاح استراتيجية التنويع الاقتصادي الهيكلي، وفي تحقيق الاستقرار السياسي، والترويج للممارسات الديمقراطية. وفي هذا المجال، فإن تأسيس «مجلس التنمية والإعمار» المقترح ضروري لاختيار وتمويل ومتابعة تنفيذ مشاريع الدولة الاستراتيجية‏[39].

لهذا، ليس بالأمر المساعد، إن لم يكن تشتيت الانتباه من المشاكل الاقتصادية الحقيقية، أن ينشغل خبراء ومستشارو الحكومة في المناقشات الجزئية والتفصيلية في الإجراءات المالية فقط، بالرغم من أهميتها في التعامل مع المصالح اليومية للإدارات الحكومية وللمواطنين. بعبارة أدق، لا يمكن للسلطة الحاكمة إخفاء الفشل الاقتصادي الشامل بمعالجة مظاهره ونتائجه الفرعية والجزئية وتجنب رؤية أسبابه الحقيقية. فالأسبقية في الاهتمامات والمناقشات الجادة تتركز في أسباب هذا الفشل. وأن الانتفاع من الإيرادات النفطية في تمويل الزيادة المفرطة والمستمرة في الإنفاق الحكومي، والاستمرار في توزيعه غير الصحيح بين الاستهلاك العام وبين الاستثمار العام، قد يشجع الاستثمار الخاص في قطاع التشييد والبناء، والتجارة، وملكية العقارات، والخدمات الاجتماعية الصغيرة، وفي العقود الثانوية لمقاولات الحكومة الكبيرة، ولكن هذا التشجيع لا يساعد كثيراً على تحقيق الإصلاح الاقتصادي الهيكلي المستهدف لأن منتجات هذه الفعاليات الاقتصادية ليست قابلة للتصدير والمنافسة في الأسواق الخارجية.

استنتاجات

تتطلب الظروف الراهنة، المبادرة في تنفيذ «المشروع الاقتصادي الوطني» في إطار تخطيط الدولة الاقتصادي لتحقيق جملة من الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، أهمها تحرير الاقتصاد والإرادة السياسية من مساوئ الاعتماد الكبير على الإيرادات النفطية. ويستند «المشروع» في جوهره على استراتيجية التنويع الاقتصادي الهيكلي الضامنة لزيادة الإنتاج والإنتاجية والتشغيل، وزيادة الصادرات غير النفطية، ونشر استخدامات التكنولوجيا المتقدمة بين فروع الاقتصاد، لإحداث التحولات الهيكلية من الفعاليات المنخفضة الإنتاجية إلى الفعاليات الأكثر إنتاجية وتحسين قدرة الاقتصاد التنافسية، وذلك من خلال الاستثمارات الحكومية، وبخاصة في الصناعات التحويلية ومشاريع البنية الأساسية، بتمويل من الإيرادات النفطية. ويؤكد «المشروع» أن استثمارات الدولة لن تكون بديـلاً لاستثمارات القطاع الخاص، الوطني أو الأجنبي، ولن تقيِّد آلية السوق وتقلص كفاءتها، بل على العكس، فإن «المشروع» سيهيئ البيئة الاستثمارية المناسبة لاستثمارات القطاع الخاص. وفي التنفيذ، يحتاج «المشروع» إلى قرارات سياسية، حازمة وملزمة، ومؤسسات تنفيذ فعالة، من أهمها تأسيس «مجلس التنمية والإعمار».

يخالف هذا المشروع جذرياً برنامج «صندوق النقد الدولي» الذي يهتدي بـ «الليبرالية الجديدة» وتعتمده الدولة في سياساتها للحقبة 2017 – 2022، وجوهرها تحقيق التوازن المالي في ميزانية الدولة السنوية وميزان المدفوعات وبزيادة الدين العام المحلي والقروض الخارجية، وتحرير قوى وآليات السوق. وكما هي شواهد التجربة حتى الآن، فإن نتائج هذه السياسات سلبية، حيث زيادة البطالة، وإنهاء مستقبل التصنيع، وتقليص الخدمات الاجتماعية العامة، وزيادة التباين في توزيع الدخول، واستمرار هيمنة قطاع النفط في الاقتصاد، وتعزيز نزعة استغلال فوائض الريع النفطي «المستقبلية» في تمويل القطاع الخاص والاستثمار في الأسواق المالية العالمية.

في المستقبل، ستبقى «نعمة» الريع النفطي قوة اقتصادية وسياسية واجتماعية مؤثرة. ومن المتوقع زيادة هذه الإيرادات النفطية والحاجة المستمرة إليها في زيادة النمو الاقتصادي والتشغيل، وفي إقامة المشاريع الاستراتيجية، وتطوير مشاريع البنية الأساسية، وفي تسريع التنمية الاجتماعية والبيئية.

«المشروع الاقتصادي الوطني» ليس فقط موقفاً اقتصادياً، مهنياً أو نظرياً، يخالف برنامج صندوق النقد الدولي الملتزم بالسياسات الاقتصادية «الليبرالية الجديدة»، بل هو انحياز موضوعي لدور الدولة الرئيسي في استثمار الثروة النفطية والموارد الطبيعية العامة لتأمين استدامة النمو والتشغيل، وتحسين مستويات المعيشة، وتنمية الموارد والثروات، ونجاحه يعتمد على الثقة المطلقة بمبدأ المواطنة، وحق المواطن في منافع الثروات الوطنية، وسيادة العدالة الاجتماعية في توزيعها، وضمان الحريات الديمقراطية المدنية والسياسية، والمشاركة الواسعة في القرارات الاقتصادية الحكومية.

 

قد يهمكم أيضاً  الثروة النفطية والمشروع الاقتصادي الوطني في العراق: بديل الاقتصاد السياسي للريع النفطي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الاقتصاد_العراقي #العراق #صندوق_النقد_الدولي #المشروع_الاقتصادي_الوطني_في_العراق #سياسات_صندوق_النقد_الدولي #النفط_في_العراق #الاقتصاد_الريعي #السياسات_الاقتصادية_في_العراق #السياسات_الحكومية_العراقية