انسحبت القوات الأمريكية من العراق، في أواخر عام 2011، بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما قرار الانسحاب في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، في خطاب ألقاه عبر وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية. وكان البعض قد شكك في ما أعلنه أوباما، بسبب حجم القوات الأمريكية في العراق وما أنفقته إدارة البيت الأبيض من أموال طائلة على حرب العراق؛ كما أن الأوضاع في هذا البلد لم تستقر، ولم تكن هناك ملامح حقيقية لتجربة ديمقراطية كما وعد القادة الأمريكيون قبل الغزو الأمريكي للعراق العام 2003 وبعده.

كتب الكثيرون عن الانسحاب الأمريكي، وذكر الكثير من الكتاب والمحللين الخسائر التي وقعت بين القوات الأمريكية وتكاليف الحرب الطائلة؛ لكن أحداً لم يتطرق إلى القوة الحقيقية التي أرغمت أكبر قوة عسكرية في العالم على مغادرة العراق، وكيف بدأت ملامح الهزيمة وما هي النتائج التي تحققت لمصلحتها على الأرض.

في الواقع، هذه القوة هي المقاومة العراقية، التي تعرضت لتشويه واسع من خلال محاولات الإساءة لها ولدورها في مقاومة الاحتلال الأمريكي وفي التعتيم الهائل على نشاطاتها المتمثلة بشنّ هجمات واسعة وكبيرة ضد القوات المحتلة. وحتى بعد إقرار الإدارة الأمريكية بهزيمتها في العراق، وقول الرئيس الأمريكي أوباما إن «جيلاً كاملاً من الأمريكيين سيعاني من حرب العراق» فإن ذكر المقاومة العراقية ظل في الكثير من المحافل ووسائل الإعلام شبه محرم.

وقد تعذر على الأغلبية العظمى من العراقيين الاطلاع على حجم المقاومة التي ظهرت في بلدهم، والتعرف إلى نشاطات المقاومين في العراق، بسبب البداية المبكرة جداً للمقاومة وعدم وجود وسائل إعلام توثق وتنشر عملياتها. ولم يكن يعرف أبناء المدينة الواحدة بهجمات تستهدف قوات الاحتلال وتلحق بهم الخسائر الجسيمة على بعد كيلومترات من وجودهم.

جرت محاولات واسعة لتجزئة المقاومة من طريق نزع الثوب الوطني عنها، من خلال تكريس خطاب يذهب باتجاه مناطقية هذه المقاومة أو اقتصارها على طائفة واحدة، في حين أن ما تظهره هذه الدراسة ينفي ذلك التكريس ويؤكد مهاجمة قوات الاحتلال في مختلف مناطق العراق.

تحمل هذه الدراسة رسالة إلى المقاومين أنفسهم وعوائلهم، فهي توثق الكثير من هجماتهم وتعرّفهم بالذين قتلوهم من قوات الاحتلال، اعتماداً على المصادر الأمريكية والبريطانية، مع تثبيت التاريخ ومكان الهجوم الذي نفذه المقاومون.

أولاً: الدراسة المقارنة

مُذ بدأ الاحتلال في نيسان/أبريل 2003، اهتممت بموضوعة الاحتلال ومثله قضية المقاومة العراقية. ومن خلال دراستي لتجارب المقاومة في العالم ـ على الأقل في العصر الحديث ـ توجست خيفة من احتمال أن يجثم المحتلون طويلاً على صدور العراقيين لأسباب موضوعية، يقف في مقدمها تفرّد الولايات المتحدة بالقطبية وفرض هيمنتها على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، وهذا يعني غياب الدعم عن هذه المقاومة الذي كان متوافراً للمقاومات الأخرى، كما غياب العوامل الأخرى المساعدة والداعمة لأي مقاومة من الدعم الإعلامي وطبيعة الأرض (التضاريس) في قضية المقاومة العراقية، ما يتسبب بتأخر ظهور المقاومة إن لم يكن استحالة ذلك. لذا شرعت في دراسة تلك العوامل مقارنة بتجربة المقاومة في العراق، وتبين أن انطلاق المقاومة العراقية حصل بعد 24 ساعة فقط من الاحتلال الأمريكي، وقتْل أول جنديين أمريكيين في بغداد، أمر لافت للنظر ويستحق الدراسة.

وفي سبيل الفصل بين الدفاع عن العراق منذ بداية الغزو في 19/3/2003 وبداية المقاومة مع بدء الاحتلال في 10/4/2003، فقد اهتممت بالفصل بين حقبة الدفاع عن البلد من قبل المؤسسة العسكرية والأمنية وبين مقاومة الاحتلال من قبل المقاومين. لهذا وجدت أننا، في البداية، بحاجة إلى وضع فاصل زمني بين حقبتين تاريخيتين فاصلتين، هما حقبة العراق بوصفه دولة مستقلة ذات سيادة كاملة، تحملت مسؤولية الدفاع عن الوطن منذ الدقائق الأولى لبدء الغزو فجر التاسع عشر من آذار/مارس 2003 وحتى يوم التاسع من نيسان/أبريل من العام نفسه، حيث الجيش والشعب العراقيان قد قاتلا ما في وسعهما ضد قوات الغزو في البصرة والعمارة والسماوة والنجف وكربلاء والكوت والمحمودية وفي بغداد، عندما تقدمت من الجنوب صعوداً إلى بغداد، ثم حقبة ما بعد التاسع من نيسان/أبريل حين سقطت الدولة في أيدي الاحتلال واتخذت المواجهة معه منحىً آخر هو منحى المقاومة.

علينا أن نميز إذاً بين هاتين الحقبتين، إذ لكل منهما خصوصيتها ومواصفاتها، لذا ارتأينا ولأغراض البحث العلمي، ولكي نستخدم المصطلح المناسب لكل فترة، الفصل بين المرحلة أو الحقبة الأولى، التي تمتد من فجر التاسع عشر من آذار/مارس 2003 حتى الدقائق الأخيرة من يوم الأربعاء المصادف 9/4/2003 وهو اليوم الذي تمت فيه عملية إسقاط التمثال الشهيرة؛ وبين الحقبة الثانية، التي تبدأ من الساعة الأولى ليوم الخميس 10 نيسان/أبريل 2003.

ورغم أن الجميع يؤرخون للتاسع من نيسان/أبريل على أنه أول أيام الاحتلال الأمريكي للعراق، إلا أننا نرى أن هذا اليوم المصادف يوم الأربعاء هو اليوم الأخير من أيام سيادة الدولة العراقية قبل احتلالها، ولنا على ذلك مجموعة من الأدلة والأسانيد. ففي ذلك اليوم تمكنت القوات الأمريكية من دخول العاصمة العراقية (يوم التاسع من نيسان/أبريل العام 2003)، وتم إسقاط التمثال الشهير للرئيس الراحل صدام حسين عصر ذلك اليوم في ساحة الفردوس أمام فندق فلسطين ميريديان، الذي انتقلت إليه الأغلبية العظمى من الصحافيين، الذين أتوا لتغطية وقائع الحرب من بغداد، وكان إسقاط التمثال بمثابة الإعلان عن بدء حقبة أخرى. ونقول إن ذلك اليوم ما زال يُحسب على أيام السيادة العراقية، إذ بقيت بعض مظاهر السيادة حتى ذلك اليوم، المتمثلة بوجود عسكري وأمني وحزبي في الشوارع حتى ساعات الصباح ليوم التاسع من نيسان/أبريل وإن كان قليلاً ومحدوداً في مناطق ومتلاشياً في مناطق أخرى.

كما أن أحد أهم مظاهر السيادة، التي اعتاد الرأي العام العراقي والدولي متابعته منذ بداية الغزو الأمريكي، هو الظهور اليومي المتواصل لوزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف الذي كان موجوداً صباح 9/4/3003 يمارس عمله اليومي، حيث شوهد صباح ذلك اليوم والتقى الصحافيين في فندق الميريديان، ثم غادر بعد ذلك إلى جهة مجهولة. وفي يوم التاسع من نيسان/أبريل صدرت الصحف العراقية ومنها جريدة الثورة الناطقة باسم حزب البعث وجريدة القادسية الناطقة باسم وزارة الدفاع وجريدة بابل[1] وجريدة العراق. كما أن إذاعة العراق الرسمية قد واصلت بثها وإن اقتصر على الأناشيد الحماسية، إلا أنها تبقى أحد مظاهر وجود السلطة، وأن إسقاط التمثال عصر يوم الأربعاء يؤشر إلى وجود السلطة حتى عصر ذلك اليوم، وما إن هبط الليل، حتى تم سدل الستار على حقبة من تاريخ العراق، انطوى فيها أي معْلم من معالم السيادة، لتبدأ حقبة أخرى، تحمل بين طياتها المجهول بكل ما تعنيه هذه الكلمة.

واستناداً إلى وقائع إسقاط التمثال، واختفاء مظاهر الحكومة العراقية، وازدياد انتشار القوات الأمريكية، فإن الأدبيات التي ظهرت والأوصاف التي بدأ استخدامها في وسائل الإعلام، اعتمدت لفظ: احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة، وهو ما جرى تداوله في جميع وسائل الإعلام وفي المتابعات الإخبارية والتحليلات. ولكن قبل الساعة الثانية عشرة ليلاً من ذلك اليوم (التاسع من نيسان/أبريل)، لم يتم تداول «احتلال» واقتصر على ذكر مفردة «غزو» من قبل المؤسسات الإعلامية الرصينة، في حين استخدمت مؤسسات أخرى مفردة «الحرب». لذلك فإن حقبة الاحتلال قد بدأت، بما يتناسب ومعنى الاحتلال العسكري فعلياً منذ ذلك اليوم، وأن مفهوم الدفاع الذي تمارسه المؤسسة العسكرية العراقية والمؤسسات الأخرى قد توقف، ليبدأ تعامل آخر وأسلوب ونمط مختلف تماماً يتناسب والواقع الموجود على الأرض.

هنا نفرّق بين مصطلحي «الدفاع» و«المقاومة» لأمر هام، هو من متطلبات البحث العلمي الذي يتناول مسألة نشوء المقاومة العراقية وانطلاقتها وفق أسس واضحة، لا تقبل اللبس والتداخل. فالذي وقف ضد قوات الغزو منذ يوم 19/3/2003 وحتى يوم التاسع من نيسان/أبريل، فقد كان يؤدي واجباً رسمياً وطنياً، وهو إما أن يكون أحد منتسبي القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والحزبية أو ضمن تشكيلات رسمية أخرى؛ وهؤلاء جميعاً يؤدون واجباً رسمياً، فالذي يتخاذل أو يتردد يعرّض نفسه للمحاسبة القصوى، إذ إن البلد يتعرض لخطر الغزو الخارجي، والذي يتميز في تصديه لقوات الغزو، فإنه يؤدي واجباً وطنياً أمام الجهة المسؤولة عنه، وفي جميع الأحوال فإن قضية «الثواب والعقاب» يضعها الجميع نصب أعينهم، وهذا إطار المنظومة الرسمية المتعارف عليها في جميع الدول في حال تعرضها لعدوان خارجي.

ولكي نحدد المصطلح بدقة، فإننا نرى أن أي فعل عراقي حصل ضد قوات الغزو منذ اليوم الأول لبدء الغزو في 19/3/2003 يدخل ضمن «الدفاع والمسؤولية الوطنية»، لأنه واجب رسمي على أفراد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والعموم من المواطنين تأديته والوقوف بوجه الغزاة المعتدين. أصبح الوضع في العراق مختلفاً تماماً، إذ استبدلت في ذلك الوقت مسألة «الثواب والعقاب» بمرحلة التصدي للمحتلين، الذين استباحوا حرمة البلد. وإذا كان مصطلح «الدفاع» ينطبق على كل فعل عراقي واجه قوات الغزو، حتى نهاية يوم التاسع من نيسان/أبريل، فإن مصطلح «المقاومة» يطلق على كل فعل ينفذ ضد القوات المحتلة على أرض العراق.

من هنا نقول إن المقاومة قد بدأت فعلياً بعد أقل من 24 ساعة، وتحديداً في الساعات الأولى لنهار يوم الخميس 10/4/2003. وهنا لا بد من توضيح نقطة هامة، تتعلق بتصنيف أي فعل قتالي استهدف القوات المحتلة، بعد أن وقع فعل الاحتلال على البلد، وانهارت المنظومة الرسمية، ولم يعد هناك أي وجود يذكر لمسألة العقاب والثواب، إذ لم تكن في ذلك الحين على أرض العراق سوى قوة أجنبية مدججة بأقوى أنواع الأسلحة، وقد حققت أهدافها المعلنة والواضحة، وهي إسقاط الحكومة في بغداد، وفرض السيطرة على العراق، وهذه القوة ليست سهلة؛ إنها القوات الأمريكية والبريطانية، التي تمكنت من الوصول إلى بغداد في وقت قياسي (إذ دخلت القوات الأمريكية مطار بغداد قبل التاريخ المتعارف عليه باحتلال العراق بستة أيام وذلك مساء الثالث من نيسان/أبريل 2003 ـ حسب تقارير مراسل قناة فوكس نيوز المرافق للقوات الأمريكية إضافة إلى بيانات القيادة العسكرية الأمريكية) وبعد ذلك دخلت العاصمة من جميع الاتجاهات صباح التاسع من نيسان/أبريل، وخلال الأيام والأسابيع اللاحقة، حاولت القوات الأمريكية، وعلى لسان كبار القادة، إطلاق تصريحات يمكن وصفها بالتمويهية أحياناً، والمرتبكة أحياناً أخرى. فقد دأبت في تلك الفترة على وصف الهجمات التي تتعرض لها قواتهم في الأيام والأسابيع الأولى للاحتلال بأنها من «بقايا الجيوب القتالية».

وفي واقع الحال، نجد أن خلطاً كبيراً قد حصل بين طبيعة الفعل ونوع الاصطلاح الذي استخدم في توصيف ذلك الفعل. وهنا نحتاج إلى شرح بسيط لمفهوم «بقايا الجيوب» ومتى يتم استخدام هذا المصطلح. إن لفظة الجيوب تشمل المجاميع القتالية في جبهات الحروب، التي يتم تكليفها بواجبات قتالية محددة، في أماكن متباعده في جبهة الحرب، منها المجاميع العاملة في مجال الدفاع الجوي (مقاومة الطائرات)، التي يتم توزيعها في المرتفعات والغابات والصحارى، ومجاميع استطلاع تحركات.

لقد شهد اليوم الأول للاحتلال مقتل اثنين من الجنود الأمريكيين وجرح 13 آخرين ـ حسب اعتراف قادة الجيش الأمريكي ـ ووثقت ذلك صحيفة يو أس أي توداي الأمريكية، التي نشرت المعلومات التالية عن القتلى الأمريكيين، وحسب تواريخ قتلهم على أيدي المقاومين في العراق. وقتلت المقاومة في اليوم الثاني (11/4/2003) جندياً من المارينز عمره 26 سنة؛ وفي اليوم الثالث (12/4/2003) قتل رجال المقاومة اثنين من المارينز أيضاً. وبينما سقط قتيل أمريكي حسب اعتراف الجيش الأمريكي يوم 13/4/2003 فإن اليوم الخامس من الاحتلال، سجل رقماً عالياً بين قتلى قوات الاحتلال الأمريكية، إذ أقر بمقتل ستة جنود[2].

لقد شهد شهر نيسان/أبريل (من اليوم العاشر منه إلى الثلاثين) عام 2003 هجمات عديدة للمقاومة العراقية، اعترف الجيش الأمريكي ببعضها، وتجاهل البعض الآخر، ولم يعترف ببعض خسائره رغم تأكيد ذلك من شهود عيان كثيرين. وإذا كان يوم التاسع من نيسان/أبريل يوماً مفصلياً وهاماً في تاريخ العراق، إذ يُؤرخ به لليوم الأخير من أيام سيادة الدولة العراقية قبل الاحتلال، فإن البحث في موضوعة المقاومة لا بد من أن يتوقف عند تاريخ آخر، وهو يوم الأول من أيار/مايو 2003، عندما أعلن الرئيس جورج دبليو بوش «انتهاء العمليات العسكرية في العراق» متحدثاً عن «الانتصار الكبير» في العراق، وانطلقت موجة هادرة من التصفيق، وارتسم الفرح والزهو الكبيران على وجوه الرئيس الأمريكي وكبار قادة البنتاغون وطواقم البيت الأبيض وفريق المحافظين الجدد، الذين عملوا كل ما في وسعهم لغزو العراق واحتلاله.

ولا شك أن لهذا التاريخ علاقة وثيقة الصلة بموضوع بحثنا، لأن وسائل الإعلام والرأي العام تعاملوا طوال الأسابيع الثلاثة (المحصورة بين 10/4/2003 وإلقاء بوش خطابه الشهير في الأول من أيار/مايو 2003) مع ما يجري في العراق، على أنه عبارة عن بقايا «جيوب قتالية» وهو الوهم الأول الذي توهمه الأمريكيون أو التضليل الذي لجأوا إليه، ويتضح ذلك من طبيعة اللازمة التي بدأت تستخدمها مختلف وسائل الإعلام.

1 ـ الظرف الدولي

تؤثر الظروف الدولية بصورة كبيرة في مسار أي مقاومة، باعتبار أن حصول الفعل المقاوم ينتج من حصول احتلالٍ لأرض محدودة المساحة، أو لدولة، أي حصول اضطراب، قد يرقى إلى مستوى القلق الشديد في المنظومة الإقليمية أو الدولية. وهذا هو الواقع الذي تنشأ وتتطور فيه جميع أنواع وأشكال المقاومة التي يتحدث عنها التاريخ. وإذ نشأت جميع المقاومات تحت وازع الرفض الفطري للاحتلال باعتباره جريمة بشعة لا ترضاها النفس البشرية، وترفضها جميع الفلسفات الإصلاحية، وتقف بمواجهتها القيم والأعراف، فإن انطلاق المقاومة يحتاج إلى عنصر هام، يتمثل بالثقة بتحقيق أهداف المقاومة، وهنا يدخل العامل الإقليمي أو الدولي أو كلاهما، ويكون العمل على ثنائية حاجة المقاومة للدعم، مقابل تحقيق أهداف الطرف أو الأطراف الإقليمية والدولية، التي تسير بالموازاة مع مسار أهداف المقاومة. من هذا المنطلق دعمت بريطانيا ديغول ضد الاحتلال الألماني لفرنسا في بداية الحرب العالمية الثانية عام 1940، وقدم الاتحاد السوفياتي ودول كثيرة أخرى الدعم الواسع والمطلق للمقاومة الفييتنامية ضد الاحتلال الأمريكي، ووقفت البلدان العربية (وفي طليعتها مصر) إلى جانب المقاومين الجزائريين لتحرير بلادهم من الاحتلال الفرنسي، وحصلت المقاومة الفلسطينية على دعم واسع وكبير من البلدان العربية ومن دول كثيرة أخرى، حيث ازداد الدعم الأمريكي والغربي لإسرائيل لتثبيت احتلالها للأراضي الفلسطينية.

ولسبب موضوعي، فإن المقاومة العراقية لم تعمل وسط ظرف دولي يسهم في دعمها وتقويتها والحرص على توفير المستلزمات الضرورية لاستمرارها وتحقيق أهدافها، ولا يخفى على الجميع أن الظرف الدولي الذي تم فيه احتلال العراق لا يسمح بأي شكل من الأشكال بدعم المقاومة العراقية، بعد أن اختتمت «الحرب الباردة» آخر جولاتها مطلع تسعينيات القرن العشرين، وتفردت الإدارة الأمريكية بالسيطرة على القرارات الدولية، بعد تمكنها من جعل العالم بأسره يعيش «القطبية الواحدة»، التي يمسك بجميع عناصر قوتها البيت الأبيض، ولم يعد بإمكان أي دولة أو قوة إقليمية الوقوف بوجهها. وهذه المسألة تفرض حضورها على جميع الباحثين والمتخصصين في تناول الشأن العراقي، وبخاصة ما يرتبط بنشوء المقاومة وتطورها. ولا يمكن إغفال هذه الحقيقة، لأنها تدخل في صلب العامل الأهم، الذي يفترض وجوده لاستمرار المقاومة أو تراجعها وانطفائها وحتى التفكير بإطلاقها، إن لم تبق تلك المقاومة حبيسة الأذهان والمشاعر والأفكار، وقد لا يُسمح بخروجها على الإطلاق.

ولا شك في أن شرط وجود تناحر دولي أو إقليمي، من أولويات حصول دعم المقاومة، وهذا الأمر لا ينطبق على الظروف التي انطلقت فيها المقاومة العراقية، إذ كان العام 2003 (عام الغزو الأمريكي للعراق) من غير المسموح به خروج أي دولة عن «طاعة» الولايات المتحدة، وهذا أحد السياقات المعلنة للحرب على العراق، إذ أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش بصراحة ووضوح، أن الذي لا يقف مع الولايات المتحدة فهو ضدها، أي أن الجميع في خندق واحد، وهو الخندق الذي تقوده الإدارة الأمريكية.

إن الظرف الدولي والثنائية التي لازمت تجارب المقاومة في العالم غابت تماماً خلال الاحتلال الأمريكي للعراق، ووقف الظرف الدولي بالضد تماماً من المقاومة العراقية، ما حرمها دعماً خارجياً يسهم في دعمها بالميدان ويعجل بتحقيق أهدافها وبلوغ التحرير الكامل؛ وخير مثال على أهمية الخصومات والصراعات الدولية في دعم تجارب المقاومة هو ما افتقدته المقاومة في العراق.

 

2 ـ عامل الإعلام

حظيت المقاومة في مختلف التجارب العالمية بدعم إعلامي واسع وكبير، نظراً إلى أهمية الإعلام ودوره وتأثيره في الرأي العام، وعندما نقارن الدعم والإسناد الإعلامي في تجارب المقاومة، ونقيس ذلك بالظرف الذي نشأت فيه المقاومة العراقية، لا نجد وجهاً للمقارنة على الإطلاق. ويجب أن لا يفوت الجميع أن غزو العراق واحتلاله قد تزامنا مع أوسع انطلاقة يشهدها العالم في وسائل الإعلام من فضائيات وإذاعات وإنترنت.

وفي الوقت الذي تستثمر الولايات المتحدة هذه الثورة الهائلة في عالم الاتصال الحديث لمصلحتها، وتوظفها للترويج لخطابها، فإن المقاومة العراقية وُضعت في الزوايا الخانقة، ولم تتوافر لها أدوات إعلامية تخاطب الرأي العام عن نشاطاتها العسكرية، إضافة إلى ممارسة تعبئة للرأي العام لتحصل على المزيد من المتطوعين الراغبين في الانضمام إلى فصائل المقاومة. وفي إجابتي عن سؤال طرحه مذيع إذاعة الـ «بي بي سي» خلال ندوة كنت أحد المشاركين فيها، وسألني عن تأثير غياب إعلام المقاومة العراقية في نشاطاتها، وكيف لها الاستمرار في مثل هذا التضييق على خطابها، وعدم قدرتها على التواصل مع الآخرين، أجبت حينذاك، أن المقاومين يعرفون إنجازاتهم اليومية، وهم يعلمون أن عدوهم يعرف حجم الخسائر التي تتكبدها قواتهم يومياً على أيدي المقاومين في العراق. أضفت أن المقاومين لا ينتظرون بث هجماتهم من خلال الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى، لأن أغلبهم يتحركون في القرى والأرياف، ولا يتوافر لدى الأكثرية من العراقيين التيار الكهربائي، الذي يتيح لهم فرصة متابعة الإعلام المرئي.

أما في تجارب المقاومة الفرنسية والفييتنامية والجزائرية والفلسطينية، فإن عامل الإعلام أدى دوراً هاماً وفاعلاً في ديمومة المقاومة ووصول خطابها إلى جماهيرها وأعدائها في آن معاً، فنجد رئيس الوزراء ونستون تشرشل يأمر بوضع إذاعة الـ «بي بي سي» الشهيرة وواسعة الانتشار في خدمة الجنرال ديغول قائد المقاومة الفرنسية. الذي يقول: لقد تنبهتُ إلى أهمية وسيلة المذياع على اعتبار أنه أسرع وأدق الوسائل الموصلة لندائي لتبليغ أكبر عدد ممكن من أبناء شعب فرنسا وغيرهم. وكانت الإذاعة هي الهدف، ومن المعلوم أنه في بداية أربعينيات القرن العشرين، لم يكن البث الفضائي للتلفزيون متوافراً حينذاك، وكانت الإذاعات تتسيد الإعلام بخاصة الخارجي منه. ويشير ديغول أنه أثناء لقائه مع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل «قد أوضحت له ما يدور في ذهني بخصوص الإذاعة وأهميتها في التواصل مع الفرنسيين في الداخل والخارج، فوافقني فوراً على ذلك، وأمر تشرشل بأن تكون إذاعة الـ «بي بي سي» تحت تصرفي».

وحظيت المقاومة الفلسطينية بدعم إعلامي واسع النطاق، فقد خصصت أغلبية الإذاعات في الوطن العربي برامج خاصة بالمقاومة الفلسطينية، تبث بيانات فصائلها وخطب القادة الفلسطينيين، وتقدم البرامج التي تحث الناس على التبرع للمقاومة ودعمها، كما أنشد الكثير من المطربين للقضية الفلسطينية، وواصلت الصحف في الوطن العربي نشر أخبار المقاومة الفلسطينية، وكتابة المقالات والدراسات التي تتحدث عن مشروعية المقاومة، وأنها العلاج الحقيقي للاحتلال الإسرائيلي. ويتشابه الدعم الإعلامي الذي حظيت به المقاومة الفلسطينية، مع ما حصلت عليه المقاومة الفييتنامية، وإن كان للفييتناميين حصة أوسع وأكبر، إذ تبنى قضية المقاومة الفييتنامية إعلام الاتحاد السوفياتي من صحف وإذاعات وتلفزيون، ومثل ذلك الإعلام الصيني ومعه عدد كبير من إعلام دول العالم الثالث.

ومثلما حصلت المقاومة الفرنسية على دعم إعلامي واسع وفي وقت مبكر جداً، فإن المقاومة الجزائرية حظيت بمثل ذلك الدعم الإعلامي؛ إذ يقول رابح بلعيد: «بدأت الثورة الجزائرية بنشر بيان في جريدة صوت الشعب الجزائري في عددها الأول ديسمبر/كانون الأول 1954»، تحت عنوان، «الجزائر تكافح من أجل استقلالها»، وبعد أقل من شهر من انطلاق المقاومة جاء الدعم السياسي والإعلامي للمقاومة على أوسع نطاق، وأعلن عبد الخالق حسونة الأمين العام لجامعة الدول العربية في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1954 تعيين سفير فوق العادة للجامعة العربية هو الجزائري أحمد مزغنة.

في حين أن المقاومة العراقية حُرمت الدعم الإعلامي نهائياً، خلاف ما حصلت عليه المقاومات في العالم. كما أنها تعرضت لحملات إعلامية واسعة بقصد التأثير في روحية المقاومين وتضييق البيئة الحاضنة لهم.

لقد شن المقاومون العراقيون أكثر من 220 ألف هجوم ضد قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية وقوات الاحتلال الأخرى، ويوجد ما يزيد على 100 ألف هجوم موثق بالصوت والصورة، وتم إرسال أغلبيتها إلى وكالات الأنباء والفضائيات العربية والأجنبية، التي لم تبث من تلك الهجمات ما نسبته واحد في الألف منها.

3 ـ التضاريس

أَولى منظرو الحروب وزعماء المقاومة البارزون في العالم أهمية استثنائية لعامل التضاريس، لما له من أهمية وأثر بالغين في تحديد نتائج الكثير من المعارك الصغيرة والهجمات التي تشنها المجاميع المقاومة على العدو. ويوجه الزعيم الصيني ماو تسي تونغ مقاتليه أثناء مقاومتهم للاحتلال الياباني مطلع القرن العشرين بقوله «إن مناطق وجود المقاومين تتوزع على ثلاث مناطق رئيسية هي: المناطق الجبلية، والسهول وتلك التي تكثر فيها الأنهار والبحيرات والخلجان». ويقسم المناطق نظراً إلى طبيعة الأرض التي توجد في تلك المناطق، ويقول إن المناطق الجبلية هي الأفضل لشن الهجمات على العدو، إذ إن قوات المقاومة في المناطق الجبلية يمكنها بصورة دائمة أن تحطم حملات التطويق والهجوم، وتصمد في قواعدها، أما في السهول فإن الأمر يختلف، إذ ينبغي على المقاومين في هذه المناطق التي تكون مفتوحة ومكشوفة أكثر أن يفكروا في حال تعرضوا لهجوم في ضوء الظروف القائمة واتخاذ التدابير اللازمة، وأهمها سحب أكبر عدد ممكن من المقاتلين، والإبقاء على مجاميع منفردة غير مكشوفة، وما إن ينسحب العدو حتى تعود قوات المقاومة إلى الانتشار في تلك السهول. وهنا يفترض الزعيم الصيني وجود جبال بالقرب من السهول، حيث ينتقل العدد الأكبر من المقاومين إليها. ويصنف المناطق التي تكثر فيها الأنهار والبحيرات والخلجان بأنها أفضل من السهول في تنفيذ هجمات المقاومين ضد العدو، إلا أنها أقل أهمية من تلك المتوافرة في المناطق الجبلية.

ويفرد تشي غيفارا مساحة واسعة للتضاريس وأهميتها في تنفيذ الهجمات من قبل المقاومين في كتابه حرب العصابات الذي صدر عام 1960، فيضع أول عامل لنجاح المقاومين في شن هجمات ناجحة، طبيعةَ الأرض التي يتحرك عليها المقاومون ويقول «إن وجود الجبال والأرض الوعرة والغابات والأحراش من أهم عوامل دعم المقاومين وضمان نجاح هجماتهم دون تقديم أي خسائر، وأن الأرض المناسبة لشن الهجمات هي الجبال»؛ ويقول أيضاً إن «الجبال تحمي المقاومين من أذى الطيران وأنها الأماكن الملائمة لتنظيم الأفراد المقاتلين، وتجهيزهم للقتال».

ولا تختلف أفكار وطروحات كبار المفكرين الاستراتيجيين حول أهمية وجود الجبال والهضاب والأحراش في نجاح المقاومة وديمومتها، وتبرز أهمية ذلك في التجارب الفرنسية والفييتنامية والفلسطينية والجزائرية نظراً إلى كثرة الجبال والهضاب في هذه الدول. إلا أن هذا العامل، الذي أولي أهمية استثنائية، كان غائباً بصورة تامة في تجربة المقاومة العراقية، من حيث طبيعة المناطق التي تتوزع فيها القواعد والمعسكرات التابعة لقوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية وغيرها من قوات الاحتلال التابعة للدول الأخرى، سواء مئات القواعد والمعسكرات (للقوات الأمريكية لوحدها 505 قواعد) أو القواعد الـ 15 الأمريكية الكبرى، وطبيعة الأرض التي توجد فيها الطرقات التي تسلكها القطعات الأمريكية والبريطانية للانتقال في مناطق العراق المختلفة، وفي التواصل بين هذه القواعد والمعسكرات.

لذلك نعتقد أن دراسة طبيعة الأرض في تجربة المقاومة العراقية واحدة من الجوانب الهامة، إذ يكتشف الدارسون والباحثون والمفكرون والعاملون في مجال العلوم العسكرية، أن شرط وجود الجبال والهضاب والغابات والأحراش لنجاح المقاومة في كل مكان وزمان غائب في التجربة العراقية، وهو العامل الآخر الذي يقف بالضد من المقاومة العراقية. إن غياب هذا العامل بصورة نهائية، وفي عصر التطور التكنولوجي الهائل الذي تمتلكه قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية، مقابل الإمكانيات البسيطة للمقاومة العراقية، يستدعي الخوض في أعماق وخصوصية التجربة العراقية في المقاومة، مع استحضار جميع العوامل، ومن بينها مسألة الأرض المنبسطة والمفتوحة، التي تنفذ فيها المقاومة العراقية هجماتها الكثيرة والواسعة.

إن الأراضي التي بدأت فيها أولى عمليات المقاومة العراقية وتواصلت بعد ذلك، هي أرض منبسطة جداً، إذ لا توجد جبال ولا تلال وليس هناك غابات واسعة تمتد لمسافات كبيرة. وهنا لا بد من الإشارة إلى مسألة مهمة، إذ إن التصور الجمعي عند العراقيين قبل الغزو الأمريكي قد تكرّس باتجاه خطورة التقنيات الأمريكية، بما وصلت إليه من التفوق والتطور، إلى درجة أن أجهزة الرصد الجوي والاستطلاع (الأقمار الاصطناعية) تغطي سماء العراق.

من هنا يمكن الجزم بأن التضاريس قد وقفت ضد المقاومة العراقية بصورة لا مثيل لها في تجارب المقاومة في العالم. فإزاء القدرات الهائلة للقوات الأمريكية، ونحن هنا نتحدث عن التطور التقني الكبير والسريع الذي حصل خلال السنوات الاخيرة في الألفية الثالثة، ولا نتحدث عن ظروف حربي الجزائر وفييتنام (خمسينيات وستينيات القرن العشرين) ومثل ذلك المقاومة الفلسطينية، أو المقاومة الفرنسية (النصف الأول من أربعينيات القرن العشرين)، بدون أدنى شك، فإن ذلك من عوامل القوة المضافة للجيش الأمريكي، ويقف بالضد من العمل المقاوم في العراق.

ثانياً: المقاومة العراقية في الميدان

يعرف أغلب الأمريكيين والكثيرون في العالم اسمَي أول جنديين أمريكيين قُتلا في العراق، في أول يوم من أيام الاحتلال الأمريكي للعراق، في حين لا يعرف العراقيون وغيرهم حتى الآن، وبعد مضي أحد عشر عاماً على هذا التاريخ، أسماء الأشخاص (المقاومين) الذين صوبوا في اليوم الأول للاحتلال (10 نيسان/أبريل)، نيران أسلحتهم وقتلوا كلاً من تيري هيمنغواي من قوات الجيش الأمريكي المارينز، وهو القتيل الأول الذي اصطادته المقاومة العراقية، والقتيل الثاني جيفري بوه.

بناء على ذلك، فإن أي فعل عراقي مضاد للقوات المحتلة وقع بعد الساعة الثانية عشرة من ليل التاسع من نيسان/أبريل على يوم العاشر منه، هو فعل مقاوم، وأن منفذي الهجمات هم مقاومون، وهذا الاصطلاح يختلف من حيث التسمية والمعنى، عن التسمية التي تطلق على العراقيين الذين قتلوا أو جرحوا جنوداً من القوات الأمريكية والبريطانية، منذ صبيحة التاسع عشر من آذار/مارس 2003 وحتى نهاية يوم التاسع من نيسان/أبريل من العام نفسه. فقد قتل العراقيون أولئك الغزاة وهم يدافعون عن بلدهم، وهم منتظمون ضمن مؤسسات إما عسكرية وإما أمنية وتنظيمات أخرى تابعة للدولة العراقية، ما يحتم عليهم واجبهم الرسمي والوطني والوظيفي التصدي للغزاة المعتدين، ويطلق عليهم مدافعون عن بلدهم ضد الغزاة(*)، أي بعد 48 ساعة من بدء الغزو الأمريكي البريطاني في 19/3/2003، وذات الوصف يطلق على الذين قتلوا جنوداً وأفراداً وضباطاً من قوات الغزو، طيلة أيام الغزو التي استمرت لثلاثة أسابيع.

إن أي فعل حصل بعد يوم 9/4/2003، هو مقاومة الاحتلال، وهو ما سعينا لتوثيقه، وتحليل مضامين هذه الأعمال، بسبب غياب التوثيق والأرشفة، وعدم وجود بيانات كاملة ودقيقة، تتضمن الإعلان عن جميع عمليات المقاومة العراقية ضد قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية، في انطلاقة المقاومة الأولى، وإن وجدت فإنها نادرة وقليلة جداً ومبعثرة هنا وهناك. أما في انطلاقتها الأولى، أي الأسابيع الأولى، فلن نعثر على بيان بهذا الخصوص، في حين اعترف البنتاغون بهجمات شنتها المقاومة العراقية ضد القوات الأمريكية، واعترفت القيادة الأمريكية الوسطى بسقوط 22 قتيلاً بين قواتها، خلال الفترة الممتدة من العاشر من نيسان/أبريل (أي اليوم الأول للاحتلال) حتى الأول من أيار/مايو (وهو اليوم الذي أعلن فيه الرئيس بوش الانتصار في العراق). هكذا يكون المقاومون في العراق قد قتلوا أمريكياً في كل يوم خلال عشرين يوماً (من 10 إلى 30/4/2003).

وقد يستغرب الكثيرون أننا خلال البحث والتدقيق في ظروف نشأة وانطلاق المقاومة العراقية، وجدنا أن البيانات الأمريكية قد وثقت لبداية الفعل المقاوم في العراق لكن ضمن بياناتها العسكرية، فقد اعترفت القوات الأمريكية بأنها تعرضت لهجمات عنيفة، استهدفت أرتالها ومعسكراتها، كذلك معسكرات وأرتال القوات البريطانية في البصرة، في حين لم تكن هناك بيانات أو منشورات، تتحدث عن تلك الهجمات، وهو ما يشير إلى أن الفعل المقاوم بدأ عسكرياً صرفاً.

1 ـ بداية المقاومة

هناك ثلاثة تواريخ هامة تجب الإشارة إليها عند الحديث عن الغزو والاحتلال والمقاومة، أحد هذه التواريخ هو الأول من أيار/مايو عام 2003، وهو اليوم الذي توصلت فيه جميع القيادات الأمريكية إلى قناعة تامة تقول بأن «المهمة قد أنجزت»، وأن يد أمريكا في العراق هي الطولى والأولى والأخيرة، وأنه لا وجود لقوة أخرى تنافسها أو تتحداها، لذلك أعلن في هذا اليوم (1/5/2003) الرئيس الأمريكي والقائد العام للقوات المسلحة الأمريكية جورج دبليو بوش من على حاملة الطائرات الأمريكية (أبراهام لنكولن) «انتهاء العمليات العسكرية الكبرى في العراق».

أما التاريخ الثاني الذي لم يتحدث عنه أحد فهو العاشر من نيسان/أبريل 2003، أي قبل عشرين يوماً من إعلانه انتصار الولايات المتحدة، وهو اليوم الذي تأكد للجميع أنه يوم انبثاق المقاومة العراقية.

أما التاريخ الثالث، فهو 9/4/2003، الذي دخل صفحات التاريخ باعتباره يوم دخول القوات الأمريكية مدينة بغداد، وخلال العشرين يوماً المحصورة بين 9/4/2003 و1/5/2003، إذ حصلت أحداث على أرض العراق، لم يكن يتوقعها القادة العسكريون الأمريكيون، ونقصد بها الهجمات التي أصابت قواتهم. فقد تصور قادة البنتاغون والبيت الأبيض، أن بمجرد إسقاط تمثال الرئيس العراقي سيرفع العراقيون جميعاً الرايات البيض، ويرسمون الابتسامة على وجوههم، ويتبارون لنثر الورود والزهور، التي تتفتح وتتكاثر في شهر نيسان/أبريل، حيث يحل في تلك الأيام فصل الربيع، وينشغل جنود المارينز والمجندات الشقراوات، الذين أتعبتهم رحلة الأسابيع الثلاثة من الأراضي الكويتية إلى بغداد، بتلقف باقات الورد التي تتساقط عليهم مثل نداوة رذاذ المطر، وبرسم ابتسامة التعالي والتباهي، ولا يمانعون من وقوف العراقيين في طوابير لتقبيل أياديهم!

2 ـ عمليات أيار/مايو

بعد ساعة واحدة من تلقي عائلة جيسي جيفنز، خبر مقتله في العراق يوم الخميس الأول من أيار/مايو 2003، أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بيان «الانتصار» وانتهاء العمليات العسكرية، وأجهش أفراد العائلة بالبكاء بعد أن تناقلوا الخبر فيما بينهم، واعتقدوا أنه آخر جندي يسقط في العراق، واحتضنت زوجته طفلته الوحيدة البالغة 5 سنوات، وأعلن بيان صادر من الجيش الأمريكي أن جيسي قد قُتل في منطقة الحبانية (غرب العراق)، بعد أن سقطت دبابته (نوع أبرامز) في النهر؛ في ذلك الوقت، كانت عوائل الجنود والضباط الأمريكيين الموجودين في العراق، يحتفلون بـ «انتصار جيشهم» وفي الوقت نفسه، يفسرون بيان بوش، الذي أعلن فيه انتهاء العمليات العسكرية، بأنه بمنزلة «شهادة ولادة» لجميع أفراد الجيش الأمريكي، بعد أن تمكنت قواتهم من القضاء نهائياً على «بقايا الجيوب القتالية» في مناطق العراق، وأن الأيام والأسابيع القادمة، ستشهد استقبال الجيش الأمريكي بباقات الورد فقط. وكانت وسائل الإعلام الأمريكية، قد زفت البشرى للأمريكيين ولجنودهم في العراق، وقالت إن الأول من أيار/مايو 2003 سيكون يوماً مفصلياً في قصة الحرب على العراق، فقد جهز الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش خطاباً هاماً موجهاً إلى القوات المسلحة والشعب الأمريكي، يعلن فيه «الانتصار في العراق»، وكان الجنرال تومي فرانكس قد زار العراق والتقى كبار القادة العسكريين في العراق، وقدموا له التقارير النهائية عن الأوضاع في مختلف مناطق البلاد. وفرانكس الذي يدخن السيجار وهو يتجول في بغداد ومناطق أخرى، قد انتهى إلى قناعة لا تقبل الشك، تذهب باتجاه انصياع العراقيين جميعاً، ووقوعهم تحت خيمة الأمريكيين، وأن مرحلة أخرى قد بدأت في هذا البلد، تتوزع فيها السلطات ومكامن القوة بيد الأمريكيين وحدهم، فهم «سادة العراق الجديد»، ومن أرضه سينطلقون في مشروعهم «الكوني» ليصبحوا «سادة العالم» بلا منازع.

لم يتصور الكثيرون أن مسلسل سقوط قتلى وجرحى من القوات الأمريكية والبريطانية سيتواصل بعد إعلان بوش انتهاء العمليات العسكرية، وإذا كان تيري هيمنغواي الذي سقط قتيلاً في اليوم الأول من الاحتلال، قد تصدر قائمة القتلى، ولم يتفاجأ البعض بـ «مقتله»، فإن القتيل الأول، الذي تلقت عائلته الخبر قبل ساعة واحدة من الإعلان، قد شكل صدمة كبيرة في الأوساط الأمريكية، لأنهم تصوروا أن نص بيان الانتصار قد تم صوغه منذ عدة أيام، وأن زيارة تومي فرانكس قبل عشرة أيام من ذلك التاريخ، ووجود وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في العراق، ما هو إلا الدليل القاطع على أن القناعة لدى القيادة الأمريكية نهائية وحتمية، وأن طلقة نارية «معادية» واحدة لن يسمعها الجنود الأمريكيون في العراق قبل عدة أيام من بيان «الانتصار»، ثم يتلاشى ذلك نهائياً اعتباراً من الأول من أيار/مايو 2003.

3 ـ حزيران/يونيو الارتباك والتحول

فوجئ الأمريكيون، وبالأخص عوائل الجنود والضباط الذين يخدمون في العراق ضمن قوات المارينز، بتصريح كونواي الذي مثّل تحولاً كبيراً في الموقف العسكري، وأصيبوا بالخيبة، عندما استفاقوا ليجدوا الصحف الأمريكية وقد نشرت على استحياء تصريحاً لقائد عسكري في الجيش الأمريكي في العراق، يقول فيه «لا قوات تغادر العراق قبل وصول تعزيزات جديدة».

هذا التصريح يخالف تماماً حجم الأمل الذي بثه الرئيس بوش قبل شهر واحد فقط، عندما أعلن في الأول من أيار/مايو عام 2003 انتهاء العمليات العسكرية الكبرى.

تحدث الجنرال الأمريكي جيمس كونواي عبر دائرة تلفزيونية مغلقة من مدينة الحلة (جنوب بغداد)، وقال إن هناك بعض الأفراد الذين يعلمون جيداً أن تلك الهجمات الصغيرة التي يتعرض لها جنودنا هنا في العراق يمكن أن تتصدر أخبار وسائل الإعلام، وعلى خلفية هذه الهجمات يعكف القادة العسكريون الأمريكيون الكبار حالياً على دراسة ما ستكون عليه متطلبات بنية القوات الأمريكية في الأسابيع وربما الأشهر المقبلة[3].

كانت البيانات الصادرة عن القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى قد اعترفت بسقوط عشرين قتيلاً بين قواتها خلال شهر أيار/مايو، أي بعد إعلان الرئيس الأمريكي بوش بيان «الانتصار الكبير».

ووصل عديد القوات الأمريكية في مختلف مناطق العراق إلى 147 ألف عنصر، في حين بلغ عديد القوات البريطانية 15 ألف عنصر.

 

أيضاً من العراق  صفحات من النضال القومي في العراق: حزب أبناء الحرية، 1945 – 1948

قد يهمكم أيضاً  الحرب الباردة الثانية واستراتيجية الدفاع الفلسطينية: دونكيشوتية؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العراق #إحتلال_العراق #غزو_العراق #المقاومة_العراقية #الإحتلال_الأميركي_والبريطاني_للعراق #العمليات_العسكرية_ضد_الإحتلال #المقاومة