ربما لا تبدو المقاربة بين الحالة السياسية والفكرية الراهنة، ولحظة من سفر التاريخ الوطني لكفاح الشعب العراقي قبل قرابة خمسة وسبعين عاماً، في جلها دقيقة ومنصفة، وبتعبير آخر، لا يمكن إسقاط معطى التاريخ وتشكيله على المفاهيم التي تمكن المتابع من استنباط العلة أو الدرس في التحولات المفترضة، وحيث يجب، أو لا يجب أن تكون. إلا أن المحاولة قد تفضي إلى تلمُّس ملامح تلك الفرصة المنتظرة – أية فرصة – للخروج من المأزق الراهن بحلول تفضي نحو التمكن من استعادة الدور التاريخي وكسر الطوق الذي ضرب حول الحالة العراقية والعربية بشكل عام، وهي محاولة تستحق أن يخاض غمارها وتستنبط معانيها.

والاتكاء على الماضي وتفحص عِبره ليس في جميعها يمكن أن تقدم الحل المنتظر، ولكن المراهنة على العقل الإنساني المبدع، والإرادة حين تتكون، حتى في صورة إشراقة بذاتها في موقف بعينه، والاستفادة منها، يمكن أن تؤسس دلالة أو علامة يستدل منها إلى مواقع الخلل أو القوة في مسار الشعوب نحو الحرية، وبإعادة تمثل الدرس التاريخي بما يحمله من غاية الاقتداء ومرجعيات عرفانية للوصول إلى الرشاد. ومن مقولة العلامة ابن خلدون ما يؤسس لفكرة إعادة إنتاج المعرفة وتشكلها من معطى التجارب ونتائجها. يقول ابن خلدون في مقدمته: إن الآثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولاً وعلى قدرِها يكون الآثر‏[1].

ولأن المرحلة التي نتعرض لقيمتها التاريخية كانت مفصلية في سياق النضال الوطني التحرري في العراق، وبناء الدولة حديثة الاستقلال‏[2]، فإن إحداث المقاربة لا يُقصد منه بالضرورة تطابق الشروط الواجبة للتغيير، ولكن محاولة توطين الخبرة واستدراك الشروط الضامنة لإنجاز الاستقلال الحقيقي الذي يفضي بالضرورة إلى إنجاز البناء الديمقراطي تقود إلى أهمية إحداث التماثل الموضوعي، وإمكان الاستعارة القادرة على إنارة الطريق نحو حل مشاكل العراق الراهنة والعمل على استعادة الوحدة الوطنية وبناء التنمية الشاملة.

إن تداعيات الاحتلال الأمريكي على العراق عام 2003، تؤشر إلى تداعي النضال السياسي القومي، من خلال الصيغة التي اعتمدها الاحتلال في إدارة شؤون العراق عبر فكرة تقاسم الحكم في العراق بين المكوِّنات الإثنية والدينية والطائفية والجماعات الفرعية، وتوزيع المناصب الحكومية حسب نسب (مفترضة) لإعداد السكان لكل من تلك الإثنيات والطوائف، وهو ما أدخل العراق في صراعات ونزاعات لا نهاية منظورة لها، وتدهورت العلاقات بين التيارات السياسية الثلاثة، القومي والليبرالي واليساري، واستغلت الأحزاب الدينية الفراغ في الساحة السياسية لتفرض وجودها وتمكنها من مصادر المال عبر الفساد والقوة من خلال وجود الميليشيات المسلحة لإدارة شؤون العراق.

أولاً: العراق من الاستعمار إلى الحرية المنقوصة

والأمة بحسب تاريخها، مقولة جان دانيال‏[3]. تبجيل يليق بالأمة، أياً كانت تلك الأمة، بشرط أن تحافظ على هويتها وثقافتها. هنا تصبح الأمة ظاهرة عصرية حين تعمل بجوهرها وطبيعتها على ضمان الانصهار بين إرادة العيش وغاية الارتقاء، لذلك فكل معطى فكري وثقافي، وفي أي مرحلة من مراحل الكفاح السياسي والاجتماعي لاستكمال شروط الاستقلال والتحرر إنما يعد انتصاراً للحرية يحق أن يوثق ذخيرة للأجيال القادمة. وكما يقول لودفيغ بورن في كتاب عصر الثورات: إن الحرية، هي عندليب يغني بصوت عملاق… هل يمكننا أن نفكر اليوم في أي شيء غير الكفاح من أجل الحرية أو ضدها؟‏[4].

والعراق في بداية القرن العشرين، كغيره من الأقطار العربية في المشرق التي خاضت كفاحاً سياسياً واجتماعياً للخروج من عتمة القرون القاسية من الاحتلالات الخارجية المتوالية منذ سقوط الدولة العباسية عام 1258، دخل بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى قسمة استعمارية جديدة؛ فالدول المنتصرة في الحرب رسمت خرائط جديدة للمنطقة، وكان العراق من نصيب الإمبراطورية البريطانية. وكما يعبر وميض جمال عمر نظمي في كتابه القيِّم الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية (الاستقلالية) في العراق: كان الهدف الرئيسي للقوات البريطانية الغازية هو دحر الأتراك العثمانيين وليس إرضاء العرب، وكان النهج الذي يسير بموجبه الإنكليز خاضعاً لاعتبارات الضرورة العسكرية أكثر منه للفوائد السياسية‏[5].

وإذ تسجل ثورة العشرين (30/6/1920) تحولاً جذرياً في البرنامج الاستعماري البريطاني لطبيعة حكم العراق‏[6]، بالتخلي التدريجي عن فكرة الحكم المباشر إلى صيغة الانتداب. وعلى الرغم من أن عصبة الأمم المتحدة قررت أن يكون العراق منتدباً من طرف عصبة الأمم المتحدة، ولكنه يدار مباشرة من جانب المملكة المتحدة (بريطانيا)، فإن الثورة وتداعياتها قد مكَّنت الاتجاه داخل الإدارة البريطانية، سواء في مدرسة الهند (الحكومة المؤقتة البريطانية الهندية – حكومة الهند الشرقية) التي كانت معنية بإدارة العراق، أو مدرسة لندن التي تتصرف بشكل كامل بالملف الهندي والعراقي على حد سواء، لأن ترجح الذهاب إلى صيغة الانتداب المباشر كما أقرته عصبة الأمم المتحدة.

ثانياً: النيات المضمرة

وبين نصين يسجلان عنواناً لمعنى العبودية، الأول ما قاله إقطاعي روسي لأقنانه: «اعلموا أنني سيدكم، وأن سيدي هو القيصر. وللقيصر الحق في أن يوجه لي الأوامر، وعلي أن أنقلها إليكم. وفي هذه الإقطاعية أنا القيصر، وأنا الله على الأرض بالنسبة لكم، وأنا مسؤول عنكم أمام الله في السماء»‏[7]، وما تحدث به الجنرال مود عند احتلال بغداد في 11/3/1917: «جيوشنا لم تدخل مدنكم وأراضيكم بمنزلة قاهرين أو أعداء بل محررين»‏[8]… فإن المفارقة أو المقاربة تبقى رهين الأحداث التالية التي عصفت بالعراق منذ الإعلان عن الاستقلال مقترناً باتفاقية الانتداب.

ويورد عبد الرزاق الحسني في كتابه تاريخ العراق السياسي – الجزء السابع – نصوصاً أخرى من بيان الجنرال مود الموجه إلى العراقيين، ومنها: «ولسوف يسعد أهالي بغداد حالهم ويتمتعون بالغنى المالي بفضل نظامات توافق قوانينهم المقدسة، وأطماعهم القومية الفكرية»، إلا أن تلك الوعود تناثرت وتلاشت بمجرد تكليف عصبة الأمم المتحدة بإدارة العراق ضمن قرار الانتداب، وأصدر الحاكم البريطاني تعليماته بربط السياسة الخارجية والشؤون الاقتصادية والقضاء بمكتب المندوب السامي، وعيّن ضباط ارتباط في كل الوزارات العراقية بصلاحيات واسعة.

ورغم إعلان الاستقلال وتأسيس المملكة العراقية وتنصيب الملك فيصل ابن الحسين ملكاً على العراق، إلا أن معاهدة الانتداب مكَّنت الحكومة البريطانية من الاستمرار في التدخل بالشؤون الداخلية والسياسة الخارجية. وواجهت القوى الوطنية والقومية التحررية في العراق تداعيات الهيمنة البريطانية على الشؤون العراقية وتنصيب حكومات موالية للتاج البريطاني، وأضحى الخلاف بين مجموعتين من القوى الوطنية العراقية عامـلاً في تعطيل الجهود الوطنية لبناء عراق كامل السيادة، المجموعة الأولى من المعتدلين الذين يتصورون عراقاً مستقـلاً يوجهه ويحميه الإنكليز، وتيار آخر كان يدعو إلى الاستقلال التام أو المطلق وغير المقيد‏[9].

وانقسم المشهد السياسي في ضوء ذلك، وأخذ التيار القومي الذي اشتد عوده في العراق مع تصاعد الفكرة القومية في أوروبا، ومع تأسيس جمعية العهد في الأستانة (28 تشرين الأول/أكتوبر 1913)، التي نشطت في المطالبة بالحقوق العربية، وكان أغلب أعضاء هذه الجمعية من الضباط العراقيين الذين يدرسون في الأستانة، وهم الضباط الذين ساندوا الثورة الهاشمية في الحجاز التي رفعت شعار تحرير البلدان العربية وتمكين العرب من تحقيق الاستقلال والحرية.

وكرّس الاحتلال البريطاني وجوده في العراق بعد الحرب العالمية الأولى باتفاقيات ومعاهدات (معاهدة 1930)‏[10]، وازداد تدخل الحكومة البريطانية في أوضاع العراق الداخلية وتحديد اتجاهات سياسته الخارجية، وبالمقابل تصاعد دور الأحزاب والجمعيات المعارضة لسياسة الحكومة وارتباطها ببريطانيا بمختلف الصيغ العلنية والسرية، كما أن الصحافة العراقية ساهمت في تعبئة الشارع الوطني لمواجهة تلك السياسات، وإلى جانب ذلك أسهمت الاحتجاجات الشعبية في الفرات الأوسط ضد سياسة الحكومة العراقية في القضايا الداخلية والخارجية، في تعزيز ودعم نشاط الأحزاب والمنظمات القومية لمواجهة الحكومة.

وبدأت ملامح استعادة الحياة الحزبية في العراق بعد عام 1922، بإحداث وإجازة أول كيانين حزبيين بصفة رسمية هما الحزب الوطني الديمقراطي، وجمعية النهضة العراقية، ثم تبع ذلك ظهور أحزاب وجمعيات جديدة مثل حزب التقدم وحزب الشعب وحزب العهد، ويسجل على برامج هذه الأحزاب الانكفاء نحو القضايا الداخلية – الوطنية وتخليها عن الشعارات القومية، وهذا الأمر كان يعد مطلباً بريطانياً، للتفاوض بشأن موضوعات متصلة بموضوع الانتداب والاستقلال وترسيخ الحكم‏[11].

إلا أن الفكرة القومية في العراق اتسعت مع تنامي التعليم في الدولة الحديثة، وتأسيس جمعيات ثقافية تدعو إلى الوحدة العربية واستكمال الاستقلال الحقيقي للعراق بالخلاص من الهيمنة البريطانية، ويرى هاني الهندي «أن العراقيين استخدموا المدارس لزرع الفكرة القومية في نفوس وعقول الطلاب، كذلك بدور الضباط العراقيين الذين تلقوا علومهم في المدارس العسكرية العثمانية في الأستانة، وانضموا لاحقاً إلى جيش الثورة العربية بقيادة فيصل الأول في الشام ولاحقاً في العراق»‏[12].

وسيدخل تاريخ العراق السياسي مرحلة حاسمة في تصاعد تدخل الجيش بالسياسة، في أول انقلاب عسكري يشهده العراق والأقطار العربية عام 1936، بقيام الفريق بكر صدقي بإجبار حكومة ياسين الهاشمي على الاستقالة‏[13]. إلا أن مقتل بكر صدقي مكّن الجماعات الموالية للسياسة البريطانية في العراق من العودة إلى السلطة، والقيام بحملة ضد الأحزاب والجمعيات ذات التوجه العروبي القومي. لكن التيار القومي العروبي داخل الجيش العراقي استعاد تنظيم قواه، وبرز دور «التنظيم القومي السري» بقيادة يونس السبعاوي، الذي مهد لحركة مايس (أيار) 1941 (ثورة رشيد عالي الكيلاني) التي نتج منها إسقاط الوصي على العرش عن سدة الحكم، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة رشيد عالي الكيلاني مدعومة من القوى الوطنية والقومية، ومؤيدة من العقداء الأربعة بزعامة صلاح الدين الصباغ وكل من فهمي سعيد وكامل شبيب ومحمود سلمان والسياسي يونس السبعاوي، وهذه الحركة الوطنية مهدت لصعود دور الأحزاب والمنظمات القومية في العراق‏[14].

ثالثاً: توازنات وصراعات

الأجدر بالمتابعة والتحليل من نتائج العصف السياسي الذي خلفته أحداث انقلاب بكر صدقي وحركة مايس (أيار) عام 1941 في العراق أنها كانت حداً فاصـلاً في الحياة السياسية – الحزبية بالعراق، وبوجه خاص في إطار التيار القومي الذي وجد نفسة من دون كيان تنظيمي موحد يعبر عن توجهاته ويؤطر سياساته، فكان أن شهدت الساحة العراقية ولادة تنظيمات شبابية تدعو إلى تحرير العراق من السيطرة الاستعمارية ودعم القضية الفلسطينية‏[15]، وتأسس نادي «المثنى بن حارثة الشيباني» كمنصة ثقافية للنشاط الفكري القومي، وأقامت منظمة «الجوال» الشبابية ذات التوجه القومي أنشطة فكرية وأدبية ضد التدخل الاستعماري في الأقطار العربية.

وفي الاتجاه نفسه، ونتيجة لتأزم العلاقة بين التيار والشخصيات القومية ونظام الحكم المستند إلى الحماية البريطانية (الوصي على عرش العراق عبد الإله ونوري السعيد)، اتجهت بعض الجماعات إلى تأسيس منظمات وأحزاب سرية، ونموذج ذلك حزب «حرس الوحدة» برئاسة يونس السبعاوي، الذي اتجه إلى تشكيل جبهة قومية واسعة من القوميين المدنيين والعسكريين، أطلق عليها اسم «اللجنة السرية العربية» وكذلك عدد من الجمعيات التي هي في واقعها تجمعات سياسية قومية الاتجاه وذات طبيعة علنية وسرية تعارض سياسة الحكومة والتدخل البريطاني بشؤون العراق‏[16].

ولعل حزب أبناء الحرية (الملحق الرقم (1)) يمثل نموذجاً لتلك التنظيمات القومية التي ولدت بعد انتكاسة «حركة مايس» وإقدام النظام الملكي على توجيه ضربات متتالية للتيار القومي الذي ساندها، وتنفيذه سياسة وقف الصحف التي عبّرت عن موقف الدعم والمناصرة للحركة، وتم حل الجمعيات والنوادي القومية ومطاردة وسَجن رموزها. وعلى الرغم من أن التيار القومي ومن خلال الأدبيات والبيانات لم يكن موحد الصفوف، ولا تعبِّر دعوته عن نضج في استراتيجيا العمل ولا عن وضوح كامل للأهداف‏[17] بحيث يمكن أن يخلق خطراً حقيقياً على النظام، إلا أنها حافظت على جماهيرها واستعادة دورها في الشارع السياسي.

وكان حزب أبناء الحرية أول تنظيم شعبوي ينطلق بعد فشل «حركة مايس» ويطرح في بيانه الأول قضيتين أساسيتين: الأولى، أن الوحدة العربية لا تتحقق إلا بالنضال الشعبي المنظم، والثانية التصدي لدور بريطانيا ومحاولاتها في تحقيق نماذج من الوحدة المصطنعة بين الأقطار العربية، وكشف أهداف المستعمر في تزوير التاريخ وإجهاض النضال القومي التحرري.

وهاجم الحزب… «الحكم العميل الذي عاد حامـلاً معه الحقد والانتقام، ونصب المشانق للأحرار، واستشهد رعيل من الثوار (السبعاوي والقادة الأربعة)، وساق الكثير من رجالات وشباب العراق إلى معتقلات الفاو والعمارة…». كما دعا إلى مواجهة الأنشطة المشبوهة للسفارة البريطانية في بغداد من خلال نوادي «إخوان الحرية»، تلك النوادي التي كانت تدعو إلى مناصرة بريطانيا والحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وتمهد للوجود الصهيوني في فلسطين.

اتخذ أسلوب العمل في حزب أبناء الحرية اتجاهين: الأول، العمل السري في كتابة المنشورات (البيانات) والرسائل وتوزيعها في المناسبات الرسمية والقومية‏[18]؛ والثاني، العمل من أجل بث فكر الحزب بين أكبر عدد من الشباب، وإنشاء مكتبة «الشباب القومي» ضمن أنشطته المتعددة في مجال نشر فكر الحزب القومي وتعميق الثقافة القومية لدى الشباب. أما مالية الحزب التي تغطي أنشطته فكانت من تبرعات أعضاء الحزب، وأغلبهم من الطلاب والشباب الذين يستقطعون الاشتراك الحزبي من مصروفهم اليومي.

ولا شك في أن آثار فشل «حركة مايس» (ثورة رشيد عالي الكيلاني) قد امتدت على مستويات متعددة، من أبرزها تغوّل السلطة الحاكمة وتوجهها نحو قمع ومطاردة كل الأحزاب والجمعيات والمنظمات التي تنادي بالقضية القومية والوحدة العربية، وبالمقابل نشوء تنظيمات جماهيرية بأشكال متعددة، منها السرية، والأخرى العلنية التي تتخذ من النشاط الثقافي والاجتماعي والرياضي ستاراً لتغطية عملها الجماهيري.

وشهدت السنوات اللاحقة نشوء أحزاب قومية التوجه في العراق مثل حزب الاستقلال (1946 – 1958)‏[19]، والحزب الوطني الديمقراطي (1946 – 1958)‏[20]، وحزب الجبهة الشعبية المتحدة (1951 – 1954)‏[21] وحزب البعث العربي الاشتراكي (1947)‏[22]، حركة القوميين العرب التي انطلقت بعد نكبة عام 1948 لتعبِّر عن رغبة الثأر والانتقام ثم تحولت لاحقاً إلى تنظيم جماهيري، وغيرها عدد من النوادي الثقافية والفكرية القومية التوجه مثل نادي البعث القومي ونادي البعث العربي.

لم يتوقف النشاط الحزبي بالعراق في الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتوسعت قواعد الأحزاب والمنظمات القومية في أوساط شباب المدارس المتوسطة والإعدادية والكليات. ويقول فؤاد حسن غالي عضو اللجنة المركزية لحزب أبناء الحرية: «إن تشكيل حزب أبناء الحرية كان استجابة لحاجة الشبيبة في العراق إلى كيان سياسي منظم كحزب جماهيري والذي تأسس رسمياً في 28/4/1942 وكرد فعل على توجه السلطة آنذاك لقمع التيار القومي بعد فشل حركة مايس 1941 القومية».

وعلى الرغم من توقف حزب أبناء الحرية عن أنشطته بسبب خلافات داخل اللجنة المركزية، بعد قرابة ثلاث سنوات من تأسيسه، إلا أن معظم أعضائه استمروا في النضال السياسي القومي سواء في حزب الاستقلال، ولاحقاً في حزب البعث العربي الاشتراكي أو حركة القوميين العرب، وكانت الأنشطة الفكرية والثقافية تأخذ مداها في الجمعيات الأدبية والرياضية بشكل متواصل، أو في التظاهرات الجماهيرية، كما حدث في الانتفاضة الجماهيرية الواسعة (وثبة كانون الثاني/يناير 1948) رداً على اتفاقية بورتسموث (المعاهدة العراقية – البريطانية)‏[23].

وكان حزب أبناء الحرية منصّة تجمُّع وانطلاق للموجة الشبابية – الجماهيرية التي عاشت ظرفاً وطنياً بالغ التعقيد تمثل بصعود التيار القومي التحرري في الثلاثينيات من القرن الماضي، والنكسة التي أصابته في فشل حركة مايس التحررية عام 1941، وعودة القوات البريطانية إلى احتلال العراق وإعدام كوكبة من الضباط العراقيين القوميين وسجن آخرين عسكريين ومدنيين، واستغلال ذلك لتوجيه ضربات متتالية من جانب السلطة لتلك المنابر الحزبية والفكرية التي تعارض السياسة القائمة آنذاك بالالتحاق بالسياسة البريطانية في المنطقة.

رابعاً: هل يمكن استعادة الدرس؟

إن تلك المرحلة من النضال القومي في العراق مهدت لإحداث تحولات جذرية في بنية الحياة السياسية والمتغيرات اللاحقة، وفي مقدمها ثورة 14 تموز/يوليو عام 1958، وكان التيار القومي في قمة نشاطه الجماهيري، وبوجه خاص بين صفوف الطلاب والطبقات الفقيرة. كما أن انتساب خرّيجي الدراسة الإعدادية/التوجيهي من حاملي الأفكار القومية إلى الكلية العسكرية أو كلية الشرطة أسهم لاحقاً في تشكيل خلايا سياسية قومية داخل الجيش العراقي، وكان لتلك الخلايا القومية دور في سلسلة الأحداث السياسية والانقلابات العسكرية التي شهدها العراق في العقود اللاحقة.

إن المناخ السياسي العام في العراق اليوم، بحاجة ماسة إلى استعادة درس تكوين وتنامي الفكر القومي في الحقبة التأسيسية للدولة العراقية الحديثة مطلع القرن الماضي. قدم الفكر القومي حلولاً اجتماعية في إطار العدالة والتنمية حققت المساواة في الفرص وإمكان التعبير لكل أفراد المجتمع العراقي، وتراجعت إلى الخلف النعرات الطائفية والتفكيكية، وتوحد الشعب خلف التيارات الرئيسة في الحياة السياسية العراقية، وهي تيارات وإن اختلفت مسمياتها بين قومية ويسارية وليبرالية، إلا أنها كانت مجتمعة على قيم الوطنية الحقة والعمل المشترك لإنجاز الاستقلال الكامل، والتوجه نحو المحيط القومي من أجل الدفاع عن القضايا القومية العادلة وصولاً إلى إنجاز هدف الوحدة القومية الشاملة .

إن النخب العراقية اليوم تواجه تحدياً فكرياً وتنظيمياً يتلخص بالانعتاق من قيود التفكير الظلامية والتفكيكية التي خيمت على العراق بعد عام 2003. فالاحتلال لم يغير نظاماً سياسياً وحسب، بل أغرق الحياة الداخلية العراقية بدوامة من الفرعيات والإشكالات التي أسهمت – ليس في تعطيل حركة التنمية والتطور الحضاري بانتشار آفة الفساد والبيروقراطية وإنما – في تكبيل الحياة السياسية وتعطيل العمل الجماهيري المنظم. وحوَّل القوى السياسية المعلنة في أحزاب أو منظمات إلى هياكل فارغة من المحتوى الفكري والجماهيري، ولكنها مستندة إلى قوى مسلحة على شكل ميليشيات رسمية وغير رسمية تحتكم في علاقتها بالسلطة ومع مثيلاتها من القوى ومع الشارع إلى قوة السلاح.

تمثل العودة إلى نبع المبادئ القومية لحل المشكلات التي تعصف بأرجاء الوطني العربي، محفزاً أخلاقياً وقيمياً قوياً، ومبرراً للنهوض فوق ركام الاصطراع المذهبي والطائفي والمناطقي الذي وفر الفرص للتدخل الأجنبي، وفي كل ذلك تحفيز لطاقة المجتمع العربي للتحرر من الارتهان إلى تلك التجاذبات الفرعية التي تنشر التفرقة وتمكن الاستبداد والفساد من الهيمنة على الشعوب وإعادة تدوير مفاهيم الاستعمار القديم بصورة الاستسلام للقوى الخارجية، ولبناء مجتمع قائم على العدالة وتحقيق الحرية والمساواة والتنمية.

الملحق الرقم (1)

بيان صادر عن اللجنة المركزية لحزب أبناء الحرية

لا يخفى على كل وطني مخلص لوطنه، وعربي غيور بأن الوحدة العربية لا تأتي جزافاً، وليست هي منحة أو هبة تعطى لنا من قبل الإنكليز أو من المستعمرين، وقد لوحظ في هذه المهزلة (أي نيل الوحدة العربية على أيدي المستعمرين الذين كانوا ولا يزالون أعداء العروبة والإسلام) أنها خدعة من خدعه المعتادة التي يود إلفات نظر المخلصين إليها.

إن الواجب الوطني يدعونا بأن نذكركم بالأدوار الشائنة والغير مشرفة التي لعبها الإنكليز على مسرح البلاد العربية بمعونة اليهود المجرمين وأذنابهم. كيف يقوم الإنكليز بتحقيق الوحدة العربية وبلادنا المجاهدة ما زالت تئن من هول الاستعمار البغيض!!

إن الواجب الوطني يدعوكم إلى نفض أيديكم من هذه المهزلة (أي مهزلة الاتحاد على أيدي المستعمرين) والتي يسخر الإنكليز من العرب والتي يضيفون بها إلى خدعهم القديمة خدعة لم تمر على بال كل عربي.

إن واجبكم يدعوكم أن تتذكروا دائماً أن الوحدة العربية لن تأتي إلا على أيدي رجال وشباب العرب المخلصين الذين لا يعتمدون على مساعدة المستعمر الغاشم بل على الحق والإيمان (فلتحيا الحرية).

اللجنة المركزية لحزب أبناء الحرية
بغداد، 17/3/1943

 

قد يهمكم أيضاً  لماذا التحامل المستمر على «القوميين العرب»!!

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العراق #القومية #حزب_أبناء_الحرية #النضال_السياسي #الأحزاب_العراقية #النضال_القومي_في_العراق #وجهة_نظر