عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الخميس 21/12/2017، جلسة طارئة بناء على طلب تقدمت به كل من اليمن بوصفها رئيساً للمجموعة العربية؛ وتركيا بوصفها رئيساً لمنظمة التعاون الإسلامي. وجاءت الدعوة لعقد الجلسة الطارئة عقب استخدام الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) الذي أفشل مشروع القرار 1060 حول القدس، والذي تقدمت به مصر أمام مجلس الأمن الدولي يوم الاثنين 18 كانون الأول/ديسمبر 2017‏[1]؛ حيث تبنت الجمعية العامة القرار A/ES-10/L.22 بأغلبية 128 دولة ومعارضة 5 دول وامتناع 35 دولة عن التصويت‏[2].

أولاً: مضمون قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة

1 – عدم جواز اكتساب الأراضي بالقوة؛

2 – التشديد على المكانة الخاصة لمدينة القدس الشريف، وضرورة حماية وصون الأبعاد الروحية والدينية والثقافية الفريدة للمدينة؛

3 – إن وضع مدينة القدس مسألة تتعلق بالوضع النهائي يتعين حلها من طريق المفاوضات والتي تنسجم مع قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة؛

4 – إن أي قرارات وإجراءات ترمي إلى تغيير طابع مدينة القدس الشريف، أو وضعها، أو تكوينها الديمغرافي، ليس لها أي أثر قانوني، وباطلة ولاغية، ويجب إلغاؤها امتثالاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة؛

5 – على الرغم من أن القرار لم يشر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها الدولة التي قررت نقل سفارتها في الكيان الصهيوني إلى القدس، فإن القرار طالب جميع الدول بالامتناع عن إنشاء بعثات دبلوماسية في مدينة القدس الشريف، عمـلاً بقرار مجلس الأمن الرقم 478 لسنة 1980؛

6 – طالب القرار جميع الدول بالامتثال لقرارات مجلس الأمن المتعلقة بمدينة القدس الشريف، وألّا تعترف بأي إجراءات أو تدابير مخالفة لتلك القرارات؛

7 – كرر القرار الدعوة إلى عكس الاتجاهات السلبية على الأرض، التي تهدد الحل القائم على وجود دولتين، وإلى تكثيف وتسريع الجهود والدعم الدوليين والإقليميين بهدف تحقيق سلام شامل وعادل ودائم في الشرق الأوسط من دون إبطاء، على أساس قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ومرجعيات مدريد، بما في ذلك مبدأ الأرض مقابل السلام، ومبادرة السلام العربية، وخريطة الطريق التي وضعتها المجموعة الرباعية، وإنهاء الاحتلال لأراضي عام 1967.

8 – تقرر تأجيل الدورة الاستثنائية الطارئة العاشرة مؤقتاًً والإذن لرئيس الجمعية العامة في آخر دورة لها باستئناف جلستها بناء على طلب من الدول الأعضاء.

ثانياً: القرار ودلالاته القانونية والسياسية

إن قرار الجمعية العامة بما تضمنه من نصوص من جهة والتطورات التي رافقت عملية صناعته والتقدم به إلى الجمعية العامة ومشهد التصويت عليه، من جهة أخرى، يعتبر قراراً مهماً وفريداً، ربما لم تحظ بمثله قرارات كثيرة للجمعية العامة، بالنظر إلى دلالاته السياسية والقانونية وما شكّله قرار الولايات المتحدة الأمريكية من سابقة خطيرة قانونياً وسياسياً وتوقيتاً.

وينطوي القرار على دلالات مثيرة تستحق وقفة تأملية، سواء لجهة ما ورد فيه من نصوص، أم لجهة الآلية التي انعقدت بموجبها جلسة الجمعية العامة، التي نادراً ما التأمت وفقاً لها منذ نشأتها وعلى مدى تاريخها؛ أم لجهة الاختلال الخطير الذي رافق سلوك الإدارة الأمريكية في إدارة موقفها من التصويت على مشروع القرار في علاقتها بدول العالم ومؤسساته الدولية‏[3].

ويمكن التركيز على مجموعة نقاط في محاولة لاستقراء دلالات القرار القانونية والسياسية على النحو الآتي:

1 – أعاد القرار في نصه، ومن خلال الإحالة على قرارات سابقة للجمعية العامة ولمجلس الأمن ولميثاق الأمم المتحدة نفسها، التشديد على ثلاث قضايا أساسية هي:

أ – إعادة تظهير، وتأكيد المركز القانوني لمدينة القدس بوصفها مدينة محتلة، وبأنها جزء من الأراضي المحتلة، وذلك لتأكيد القرار ما ورد في قرارات سابقة للجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي السابقة، ولا سيَّما القرارات: 476 لعام 1980؛ والقرار 478 لعام 1980؛ والقرار 2334 لعام 2016.

ب – أعاد تأكيد القرارات السابقة للمكانة القانونية لمدينة القدس كجزء من الأراضي المحتلة عام 1967، وبالتالي فإن القرار يؤكد انطباق قواعد القانون الدولي ولا سيَّما اتفاقية جنيف الرابعة في شأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب لعام 1949 وأنظمة لاهاي لعام 1907، على مدينة القدس. وبهذا فإن القرار ينزع أي مشروعية قانونية أو سياسية أو أخلاقية عن كل القرارات والإجراءات والتدابير التي اتخذتها دولة الاحتلال على مدى نصف قرن، هو عمر احتلالها حتى تاريخ القرار. كما يؤكد القرار أن الإجراءات، الهادفة إلى تغيير طابع المدينة أو تركيبتها الديمغرافية، غير قانونية وباطلة، ويجب إلغاؤها امتثالاً لقرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة والمشار إليها في القرار.

ج – يؤكد أن قرار الولايات المتحدة بنقل سفارتها في «إسرائيل» إلى مدينة القدس المحتلة غير قانوني – على الرغم من أن القرار لم يُسَمِّ الولايات المتحدة – ومخالف لقرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية. كما يدعو جميع الدول إلى الامتناع عن إنشاء بعثات دبلوماسية في مدينة القدس الشريف، عمـلاً بقرار مجلس الأمن 478 لعام 1980، الذي صدر في إثر قرار إسرائيل إعلان القدس عاصمة لها. إن هذه النقطة ذات أهمية خاصة وتحمل في مبناها تحريضاً ناعماً على رفض أي ضغوط أو إكراه تقوم به إسرائيل أو طرف ثالث على الدول للقيام بذلك من جهة، وتأكيداً لوجوب الوفاء بالواجبات واحترام القواعد القانونية والأخلاقية التي ارتضتها الدول لنفسها طوعاً بوصفها أعضاء في الأمم المتحدة وأطرافاً سامية متعاقدة على اتفاقيات جنيف.

د – صوّتت 128 دولة لمصلحة القرار وعارضته 9 دول وامتنعت 35 دولة، ولم تحضر الجلسة 21 دولة، وهو يمثل نحو 94 بالمئة من الدول التي حضرت الاجتماع ويحق لها التصويت والبالغة 173 دولة، ولتبني القرار لم يكن مطلوباً أكثر من ثلثي الأعضاء الحاضرين أي حوالى 114 دولة وفقاً لميثاق الأمم المتحدة. إن مشهد التصويت ذو دلالة مهمة، على الرغم من أن القرار لم يحظَ بالإجماع، وهو ما كان سيعطي للقرار قيمة سياسية كبيرة حيث لم يصوِّت لمصلحة القرار، امتناعاً أو معارضة، نحو 33 بالمئة من الأعضاء الـ 193 في الأمم المتحدة، وربما عكسَ غياب بعض الدول تخوفاً من اتخاذ إجراءات عقابية بحقها من جهة وعدم رضاها عن القرار الأمريكي من جهة ثانية.

هـ – ويشير التصويت على القرار إلى أن الأمم المتحدة – ومن خلفها دول العالم – ربما تكون أعادت الاعتبار لقيمها ولو بقرار من جمعيتها العامة، وهي نفسها التي ساهمت في مناسبات متعددة في تقويضها وفي الازدواجية الخطيرة التي مارستها والامتناع عن احترام قرارات سابقة لها وإعمالها في ما يتعلق بالحقوق الفلسطينية؛، كما وانتصرت لميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي وللعلاقات المستقرة بين جماعة الأمم المتحضرة. وأظهرت نتيجة التصويت رفضاً دولياً لقرار الولايات المتحدة الأمريكية، وتسبب فعلياً في عزلة موقفها ومعها دولة الاحتلال، وأظهرهما بمظهر الناشز والمخالف للإرادة الدولية، ولا سيَّما أن كثيراً من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين قد صوتوا لمصلحة القرار أو امتنعوا عن التصويت بخلاف رغبتها ورفضاً لموقفها.

و – ما لا شك فيه أن القرار كان استثنائياً، بالنظر إلى حجم الضغوط وحملات الترهيب غير المسبوقة التي شنتها الإدارة الأمريكية، حيث صوتت أغلبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لمصلحة القرار على الرغم من محاولات الإكراه والتهديد غير المسبوق في العلاقات بين الدول الذي مارسته الولايات المتحدة على الدول الأعضاء ذات السيادة. وهنا تجدر الإشارة إلى تهديد طرمب دول العالم بوقف المساعدات المالية عنها (إنهم يأخذون مئات الملايين من الدولارات وربما المليارات ثم يصوتون ضدنا. حسناً، سنراقب هذا التصويت، دعوهم يصوِّتون ضدنا، سنوفر كثيراً ولا نعبأ بذلك)‏[4]. وهو ما كررته أيضاً نيكي هايلي، مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة (دائماً ما يطلب منا في الأمم المتحدة فعل وتقديم المزيد، لذلك فعندما نتخذ قراراً بناء على إرادة الشعب الأمريكي بشأن مكان سفارتنا، فإننا لا نتوقع أن يستهدفنا هؤلاء الذين نساعدهم. ويوم الخميس سيكون هناك تصويت ينتقد خيارنا، وسوف تدوِّن الولايات المتحدة الأسماء)‏[5].

ثالثاً: القرار وعناصر القوة والفرص

عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة جلستها الاستثنائية الطارئة مساء الخميس 21 كانون الأول/ديسمبر 2017 تحت عنوان «متحدون من أجل السلام» وفق قرارها الرقم (377) المؤرخ في 3 تشرين الثاني/نوفمبر لسنة 1950. وهذا حدث مهم في حد ذاته، ولا سيَّما أن الجمعية العامة لم تنعقد سوى عشر مرات منذ نشأتها حتى اليوم بموجب هذا القرار. وينص قرار «متحدون من أجل السلام» على أنه إذا فشل مجلس الأمن، لعدم توافر الإجماع بين أعضائه، في القيام بدوره في حفظ الأمن والسلم الدوليين في أي حالة تبدو تهديداً أو انتهاكاً للسلام أو عمـلاً عدائياً من شأنه أن يهدد الأمن والسلم الدوليين، فإن الجمعية العامة يجب أن تنظر في الأمر فوراً بهدف وضع التوصيات الملائمة للأعضاء للقيام بأعمال جماعية، بما يشمل استخدام القوة إذا كان ذلك ضرورياً في حال انتهاك السلام أو العمل المعادي بهدف الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين أو استعادته‏[6].

إن عقد اجتماع طارئ للجمعية العامة بموجب قرار «متحدون من أجل السلام» يعني، بحد ذاته، أن قرار الولايات المتحدة بنقل سفارتها إلى مدينة القدس بتاريخ 6/12/2017، ومن ثم استخدامها حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الذي أفشل مشروع القرار «1060» الذي تقدمت به مصر أمام مجلس الأمن الدولي يوم الاثنين 18 كانون الأول/ديسمبر، وتعطيل الإجماع بين الأعضاء الدائمين في الأمم المتحدة للتصويت على مشروع القرار، يمثل تهديداً للأمن والسلم الدوليين وفقاً لرأي الدول الأعضاء. وعليه فإن قرارات الجمعية العامة وفقاً لـ «متحدون من أجل السلام» تحتل قيمة قانونية وسياسية وأخلاقية كبيرة، وهي توفر فرصة مهمة للعمل المشترك بين الدول الأعضاء. وجدير بالذكر أن توصيات الجمعية العامة في ما يخص المسائل العامة، التي تشمل التوصيات الخاصة بحفظ الأمن والسلم الدوليين، تتطلب التصويت بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين المشتركين في التصويت، في الوقت الذي تؤخذ فيه باقي القرارات بأغلبية الحاضرين‏[7].

هناك نقطتـان قانـونـيـتـان مهمتان حول جلسة الجمعية العامة: الأولى، أن الجلسة العاشرة بموجب قرار «متحدون من أجل السلام» قد عُقدت في عام 1997 الخاصة بفلسطين، يمكن من الناحية الفنية أن تعود للالتئام في أي وقت، أي بشكل سابق ولاحق على القرار الخاص بالقدس وهو ما حدث مراراً‏[8]؛ والثانية، أن ما كان سبباً في انعقاد الجمعية العامة وفقاً لقرار «متحدون من أجل السلام»، أي فشل مجلس الأمن في توفير الإجماع بين أعضائه، لم يعد السبب الوحيد لعقد الجمعية العامة، بل يمكن للجمعية العامة الانعقاد بالتوازي مع مجلس الأمن عند النظر في قضايا تخص الأمن والسلم الدوليين، وهو ما جاء بوضوح في نص قرار محكمة العدل الدولية في قضية الجدار في عام 2004‏[9]. هنا تجدر الإشارة إلى أن محكمة العدل الدولية أكدت في قرارها أنها «ترى أن هناك توجهاً متعاظماً مع مرور الوقت للنظر من قبل الجمعية العامة ومجلس الأمن وبالتوازي في ما يتعلق بصيانة الأمن والسلم الدوليين… إن المحكمة تعتبر الممارسة المقبولة من الجمعية العامة، كما جرى تطويره، ينسجم والمادة 12 الفقرة 1 من الميثاق»‏[10].

وكان اللافت للنظر في التصويت على القرار هو تصويت دول أوروبا لمصلحته، ولا سيَّما اللاعبين الكبار، كالمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا. وجدير ذكره أن مشروع القرار المصري عندما تم تقديمه إلى مجلس الأمن للتصويت عليه فإن الدول الأعضاء، بما فيها الدول الأوروبية، جميعاً قد صوتت للقرار باستثناء الولايات المتحدة، وقد تزعمت فرنسا رفض القرار الأمريكي بنقل السفارة، مؤكدة أن موافقة الدول الأربع عشرة على القرار ليس أقل من التأكيد على الالتزام الجماعي للمجلس بالقانون الدولي‏[11]. هذا أمر يحمل في طياته دلالات مهمة، ويتطلب إعادة الاعتبار للعلاقة المختلة مع أوروبا وتصحيح الخطيئة السابقة التي ارتكبها الفلسطينيون، عندما وضعوا كل اوراق العملية التفاوضية في يد الولايات المتحدة. ويكتسب الأمر أهمية خاصة في وجود اختلافات وتناقضات جدية بين أوروبا والولايات المتحدة في كثير من علاقاتها البينية، وفي ما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ لذا يجب أن تتاح لأوروبا فرصة جدية لدور مهم في قادم الأيام‏[12]. وما لا شك فيه أن إقصاء أوروبا عن تأدية دورها السياسي، والتعامل معها كدافع أموال فقط لا يخدم الفلسطينيين ولا قضيتهم. كما يحول دون توافر عملية تفاوضية متوازنة، وهو الدور الذي أرادته إسرائيل لأوروبا وحصرته في دفع الأموال لا أكثر. وهنا لا بد من التذكير بالعلاقة القوية التي ربطت الشهيد ياسر عرفات بأوروبا ومثالها علاقته بالرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، والمستشار النمسوي برونو كرايسكي ورئيس الوزراء اليوناني أندرياس باباندريو وآخرين في وقت كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي يتزعمها الرئيس عرفات كمنظمة إرهابية.

1 – المركز القانوني للقدس

بالرغم من أن القرار قد ظهَّرَ المركز القانوني للقدس من جهة وعزل الموقف الأمريكي من جهة ثانية، إلا أن هذا وحده لا يكفي ولن يغيِّر الواقع، ما لم يشكل دافعاً حقيقياً للفلسطينيين للعمل الجدي في البحث والتماس كل السبل الكفيلة بإنهاء الاحتلال. وفي الوقت نفسه العمل على حماية سكان القدس المدنيين المحميين بموجب قواعد القانون الدولي وممتلكاتهم. وهو ما يستوجب، من بين أشياء أخرى، العمل على عقد مؤتمر الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، لدفع المجتمع الدولي للبحث في سبل حماية المدينة المقدسة سكاناً وممتلكات وأماكن مقدسة وهوية. يذكر أن مؤتمر الأطراف السامية قد سبق أن عُقد في مدينة جنيف مرتين: الأولى بتاريخ 15/7/1999؛ والثانية بتاريخ 5/12/2001، للبحث في سبل تطبيق الاتفاقية في الأراضي الفلسطينية‏[13]. وتكمن أهمية اتفاقية جنيف الرابعة، ليس فقط في كونها تؤكد المركز القانوني للأراضي الفلسطينية كأراضٍ محتلة، بل وفي توفير الحماية للسكان المدنيين الذين يرزحون تحت الاحتلال، في ظل المحاولات الإسرائيلية المحمومة للإخلال بهذا المركز. كما أنه يشكل فرصة إضافية للضغط على الدول لتفي بواجباتها القانونية والأخلاقية والبحث في سبل تطبيق الاتفاقية قانونياً على الأراضي المحتلة.

ومن منطلق أن العدالة لا تتحقق بالضربة القاضية بل بمجموع النقاط، وبناء على جهود ونجاحات سابقة حققها الفلسطينيون في صراعهم مع المحتل، فإن قرار الجمعية العامة يحتاج إلى مزيد من التحصين وذلك لضمان عدم تراجع الدول عنه فرادى أو مجتمعة. لذا من المفيد التقدم بطلب جديد ومن خلال الجمعية العام للأمم المتحدة إلى محكمة العدل الدولية للحصول على رأي استشاري جديد منها حول قرار الإدارة الأمريكية، بما يشكل قوة قانونية وأخلاقية أخرى ومهمة حتى لو لم يأخذ طابع الإلزام القانوني.

إن طلب الرأي الاستشاري هو خطوة آمنة إلى حد بعيد، ولا سيَّما أن المحكمة قدمت في عام 2004 رأيها الاستشاري حول جدار الفصل العنصري، الذي تقيمه دولة الاحتلال على الأراضي الفلسطينية، واعتبرته غير قانوني. وقد شكل هذا الرأي وثيقة مهمة جداً أعادت تأكيد المركز القانوني للأراضي الفلسطينية عام 1967 بأنها أراضٍ محتلة، وأكد عدم قانونية الإجراءات الإسرائيلية في ما يتعلق بالاستيطان وإقامة جدار الفصل. إن اللجوء إلى المحكمة من جديد هو خطوة مهمة في سياق تأكيد المركز القانوني للمدينة المقدسة، واعتبار أن ما اتُّخذ من إجراءات منذ عام 1967 حتى تاريخه، بما فيها القرار الأمريكي الأخير، مخالف للقانون الدولي ولا قيمة قانونية له وكأنه لم يكن.

2 – المحكمة الجنائية الدولية

في 22 كانون الثاني/يناير 2009، وبعد العدوان الإسرائيلي الواسع النطاق، أودعت السلطة الفلسطينية إعلاناً بقبول ممارسة المحكمة الجنائية الدولية ولايتها القضائية في شأن الأفعال التي ارتُكبت في الأراضي الفلسطينية، منذ الأول من تموز/يوليو 2000. وهذا الإعلان يكفل ضمنياً مطالبة المدعي العام للمحكمة النظر في الجرائم المرتكبة من قبل إسرائيل في الأراضي المحتلة. وبعد ثلاث سنوات قرر مدعي عام المحكمة، في حينه لويس أوكامبو، أن المحكمة لا يمكنها النظر في الطلب وبدء التحقيق، لعدم وضوح المركز القانوني لدولة فلسطين، فلا الجمعية العامة للأمم المتحدة ولا مجلس الأمن اعترفا بها كدولة، وهو ما اعتبرته شرطاً يحول دون مباشرة النظر في القضية‏[14].

وبحصول فلسطين على صفة الدولة غير العضو في الأمم المتحدة (الدولة المراقب) في عام 2012، لم يعد هناك من عائق أمام المحكمة لمباشرة التحقيق. ولكن بعد مضي ثلاث سنوات على شروع مكتب الادعاء العام في إجراءات الفحص التمهيدي، بناء على طلب دولة فلسطين، وبعد تلقي مكتبه كمّاً هائلاً من المعلومات، من مصادرها المختلفة، حول الجرائم الإسرائيلية فإن المدعية العامة لم تتقدم خطوة نحو الشروع في التحقيق الفعلي في الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية.

وفي هذا السياق فإن قرار نقل السفارة، وما تقوم به إسرائيل هي مخالفات جسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة ولنظام روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، وليس أدل على ذلك من الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في ثلاث حروب شنتها على قطاع غزة في أقل من ست سنوات. وهذه الجرائم وصفها تقرير ريتشارد غولدستون الذي ترأس لجنة أممية أنشأها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لتقصّي الحقائق حول فترة العدوان على غزة في نهاية عام 2008 وبداية عام 2009، بأنها ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. كما وصف تقرير لجنة تقصّي الحقائق، التي شكلها مجلس حقوق الإنسان للتحقيق في الانتهاكات التي وقعت في عام 2014، والمشكَّلة أيضاً من قبل مجلس حقوق الإنسان، بأن ما ارتكبته قوات الاحتلال يرتقي إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية‏[15].

ولا يمكن أن نغفل جرائم الاحتلال المتواصلة منذ عام 1967، ولا سيَّما جريمة الاستيطان المتواصلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وإقامة الجدار الذي اعتبرته محكمة العدل الدولية، في رأيها الاستشاري، غير قانوني، واستمرار الحصار على قطاع غزة والتدابير والإجراءات المنظمة والمتواصلة لتهويد مدينة القدس، وتهجير السكان قسراً والاستيلاء على الأرض بالاستيطان، ومصادرة الأراضي في قلب المدينة المقدسة وتغيير معالمها العربية الإسلامية والمسيحية، وكل هذه الممارسات تشكل انتهاكات جسيمة ومنظمة لقواعد القانون الدولي الإنساني وترقى إلى مستوى جرائم الحرب بل والجرائم ضد الإنسانية.

كما أن هذه الممارسات تُحْدث تغييرات خطيرة في الجغرافيا والديمغرافيا، في ظل احتلال هو الأطول في العصر الحديث.

وعليه، نعتقد أن الوقت قد حان لتحيل دولة فلسطين ملف الجرائم الإسرائيلية، بما فيها تلك التي ارتُكبت ولا تزال في مدينة القدس، للمحكمة الجنائية الدولية، بوصفها طرفاً في اتفاقية روما وعضواً في المحكمة الجنائية، ليباشر الادعاء العام التحقيق والقيام بخطوات عمليه في هذا الشأن.

وقد أثبتت التجربة أن غياب المساءلة والمحاسبة شجَّع إسرائيل – ولم يزل – على المضي قدماً وتصعيد انتهاكاتها المنظمة لقواعد القانون الدولي. وسيبقى الضحايا المدنيون أبعد ما يكونون من الوصول إلى الحد الأدنى من العدالة المغيبة في هذا المكان من العالم. من المؤكد أن المحكمة ليست بذاتها، بل هي فرصة لتعظيم الاشتباك السياسي والقانوني. ومرة أخرى نؤكد أن العدالة لا تتحقق بالضربة القاضية بل بمجموع النقاط، وعلى الضحية أن يحسن استخدام أدوات فعله السياسي والقانوني بما يحقق العدالة والنصفة ويوفر الحماية، ربما، بما قد يشكله هذا الفعل من ردع لدولة الاحتلال لعدم تكرار مشهد الجريمة.

3 – تحصين قرار الجمعية العامة

إن سفور الولايات المتحدة الذي تجلى في الضغوط الكبيرة التي مارستها الإدارة الأمريكية على الدول الأعضاء، وهو ما رضخت له بعض الدول، سواء بالامتناع عن التصويت أو بعدم حضور الجلسة، يشير إلى أن الإدارة الأمريكية سوف تواصل ضغوطها، وربما إجراءاتها العقابية بحق تلك الدول، لأن القرار لن يكون الأخير في مواجهة الإدارة الحالية؛ لذا لا بد من تحصين قرار الجمعية العامة وذلك بتحصين مواقف الدول نفسها في ما يتعلق برفض نقل السفارات إلى القدس واعتبارها مدينة محتلة وجزءاً من الأراضي المحتلة، كما وافقت عليه في قرار الجمعية العامة، وذلك من خلال المؤسسات الإقليمية التي تنتمي إليها، وهي التي تتميز في أغلبها بقوة أكبر من الإلزام القانوني والسياسي لقراراتها ومن بين تلك المؤسسات، جامعة الدول العربية لتحصين مواقف الدول العربية نفسها ولتظهير الموقف الموحد للدول العربية في قضية القدس والرافض لقرار الإدارة الأمريكية الذي يقطع الطريق ربما على أي محاولات للتراجع عن الموقف الموحد.

كما يجب العمل مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي وتكثيف الجهود السياسية والدبلوماسية والشعبية لتأكيد الموقف الأوروبي، الذي لم يزل يرى في القدس مدينة محتلة وإسرائيل قوة احتلال. وكذلك الأمر بالنسبة إلى منظمة الوحدة الأفريقية، وتصحيح الاختلال في العلاقة مع الدول الأفريقية لتحقيق أوسع غطاء من الدول لرفض قرار الإدارة الأمريكية. والأمر نفسه ينخرط على منظمة دول أمريكا اللاتينية وذلك بتبنيها قرارات تؤكد جوهر ما ورد في قرار الجمعية العامة نفسها.

كما أن البرلمانات الوطنية تشكل ساحة مهمة جداً، لتحصين مواقف الدول الفردية، من خلال العمل المنظم لحثها على تبني قرارات تؤكد مواقف بلدانها، كما جرى التعبير عنها في الجمعية العامة، لما للبرلمانات من قيمة قانونية وتشريعية وشعبية كبيرة سوف تسهم حتماً في تعزيز مواقف تلك الدول وتصعِّب أي محاولة للحكومات للتراجع عن تلك المواقف.

رابعاً: العامل الذاتي الفلسطيني عامل حسم

لا شك في أن النظام السياسي الفلسطيني يعاني أزمة عميقة، وأحد أوجه تلك الأزمة هو عدم مغادرته مربع ردود الأفعال، وهو نادراً ما أخذ زمام المبادرة. وما تتعرض له القضية الوطنية وما بدا أنه ثابت ومسلَّم فيه من قواعد سياسية وأخلاقية حكمت الصراع العربي – الإسرائيلي يتعرض بدوره لاختلال كبير، وهو ما يتطلب تجاوز رد الفعل إلى الفعل نفسه. إن عدم القيام بذلك سوف يزيد النظام السياسي انكشافاً وهشاشة، تزيده ضعفاً وتسلبه ممكنات أي فعل حقيقي، وتجعله عرضة للتداعيات السلبية لأي تطور في الإقليم أو في أي مكان في العالم. إن القيام بالفعل المبادر يُعظم من الاشتباك السياسي والدبلوماسي والقانوني مع الاحتلال، ولن يكون ذلك ممكناً إلا باستخدام كل الهوامش والممكنات المتوافرة – وهي كثيرة – وخلق أخرى جديدة، ولا سيَّما بعد أن حصلت فلسطين في عام 2012 على صفة الدولة غير العضو، وليس الانتظار لقرار آخر تتخذه الولايات المتحدة وغيرها، وهو متوقع وممكن، كإنهاء عمل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين وضم المستوطنات في الأراضي الفلسطينية إلى دولة الاحتلال؛ بل إن الأسوأ قادم في ظل الإدارة الأمريكية الحالية التي أصبحت مَلكية أكثر من الملك، حيث ستدفع الفلسطينيين إلى الزاوية وتحدد أولوياتهم وفقاً لما تريد إذا لم يأخذوا هم أنفسهم زمام المبادرة.

إن تراجع بند فلسطين بعد أن كان بنداً متقدماً في كل الاجتماعات الدولية ويحظى باهتمام الفاعلين الدوليين، هو أحد مؤشرات غياب الفعل الذاتي الفلسطيني المنظم. فقلّما كان الفلسطينيون يحتاجون إلى عمل جدي لتوفير الأغلبية لقرار يصدر من مؤسسات الأمم المتحدة. وقد صدرت قرارات دولية بالآلاف وضاقت صدور الكثيرين من تلك القرارات لكثرتها، بينما لم توضع موضع التنفيذ في ظل تواصل مشهد الاعتداءات من استيطان وقتل وحصار وتهويد للمدينة القدس. منذ أن ضرب الإقليم ما سمي الربيع العربي، تراجعت أولويات العالم، موضوعياً، لمصلحة قضايا إقليمية أخرى كسورية واليمن ولأخرى دولية كأوكرانيا والقرم وربما حدود المكسيك. وغني عن القول بأنه منذ أن تولت الإدارة الجديدة للولايات المتحدة مقاليد الحكم وهي تسعى لخلق قواعد جديدة للعبة، وقلب قواعد الشرعية والقانون الدولي رأساً على عقب. إن اليوم الذي يمر على الفلسطينيين من دون الحصول على قرار من الجمعية العامة أو المؤسسات الدولية سوف يُسهم في مواصلة دفع بند فلسطين ليتذيَّل أجندة المجتمع واهتماماته، حيث سيكون تكلفته كبيرة جداً على قضيتهم الوطنية، في ظل المحاولات المستميتة لحسم الصراع والقضايا الكبرى فيه.

ومن المؤكد أنه لن يكون هناك فعل أو مبادرة أو اشتباك سياسي وقانوني حقيقي وفاعل، في ظل حال التشظي والانقسام الفلسطيني الداخلي القائمة، وهو ما يجب أن تُطوى صفحته مرةً وإلى الأبد، ووقف هذا العبث الخطير الذي قسم ظهور الفلسطينيين وأضرّ إلى حدٍ خطير بقضيتهم الوطنية. إن إنهاء الانقسام يجب أن يؤسَّسَ على التوافق السياسي وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني والحقوق الأصيلة غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني.

إن قرار الجمعية العامة مهم جداً، على الرغم من أنه لم يتخذ إجراءات جدية لحماية السكان المدنيين وممتلكاتهم، ووقف مسلسل الانتهاكات المتواصل بحقهم وتهويد مدينة القدس. وهو في حقيقته لم يتضمن إلا تأكيد المؤكد، لأنه أعاد ترتيب أجندة المجتمع الدولي ولو مؤقتاً، حيث فرضت فلسطين والقدس نفسها على أجندة العالم مرة أخرى وأعادت موضعة نفسها في المكان الذي تستحق. إن القرار في نهاية الأمر هو كاشف وليس منشئ للحقوق الفلسطينية؛ لذا وجب عقلنته بما تضمنه وأكَّده، وبما يمكن البناء عليه لأخذ زمام المبادرة ووقف العمل على قاعدة رد الفعل، الذي كلَّف الفلسطينيين كثيراً ولم يجنوا منه إلا انكشافاً وتراجعاً وحصاداً مُراً وآثماً.

 

قد يهمكم أيضاً  موقف الشرعية الدولية (اليونسكو والجمعية العامة) من عروبة القدس 

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #عروبة_القدس #القدس_الشريف #الأمم_المتحدة #القرارات_الدولية #الجمعية_العامة_للأمم_المتحدة #قرارات_الجمعية_العامة_للأمم_المتحدة_حول_القدس